الأحد، سبتمبر 24

الاخبار العاجلة لرفض اطارات مديرية الاشغال العمومية حضور حصة اداعية "اضاءات للصحافية امينة تباني والصحافية تعلن رسميا رفض ضوفها الحضور الاداعي كشكوي للمستمعين ومن محاسسن الصدف ان حصة على وقع الحدث انقدت الحصة الاداعية الضائعة وهكدا اصبح مسيري دشرة قسنطينة يرفضون الحضور الاداعي بسبب التراجع الشعبي لاداعة قسنطينة واغراقها في القضايا المحلية التافهة والاسباب مجهولة


اخر خبر

الاخبار   العاجلة   لرفض اطارات مديرية  الاشغال العمومية   حضور حصة  اداعية   "اضاءات   للصحافية   امينة تباني    والصحافية    تعلن رسميا رفض ضوفها   الحضور الاداعي    كشكوي  للمستمعين  ومن محاسسن  الصدف ان  حصة على وقع الحدث انقدت   الحصة الاداعية الضائعة     وهكدا اصبح  مسيري دشرة قسنطينة يرفضون الحضور الاداعي بسبب  التراجع الشعبي   لاداعة قسنطينة واغراقها  في القضايا  المحلية التافهة والاسباب   مجهولة

)-الوجه الجديد للعالم العربي

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان
كان الجزائريون خلال التسعينيات يعتزّون بكونهم رواد الديمقراطية في العالم العربي لأنهم كانوا أوّل من انتف في سنة1988، وقدّموا خمسمائة من الضّحايا، وتلتْهم بعد ذلك عدة آلاف أخرى. وعندما اندلعت أولى الثورات العربية تساءلْتُ أوّلا عمّا إذا لم نكن مسؤولين عن تأخير انتفاضة تلك الشعوب بعشرين سنةً، ثمّ تساءلْتُ ثانياً عمّا إذا كانت تلك الثورات ستحدث لو انطلقتْ من ليبيا بدلاً مِنْ تونس وبالطريقة التي جرتْ بها. إنّني أعتقد أن الرئيسيْن ابن علي وحسني مبارك كان يمكن أن يبقيا في قصريْهما وأنّ أسعار الزيت لم تكن لتنخفض عندنا. ذلك أنه لا أحد يقبل أن يحدث في بلده ما حدث في ليبيا: انهيار الدولة، وانقسام البلد، والقذافي يقترف أضعاف ما اقتُرِفَ في جرنيكا (Guernica)، إضافة إلى التدخل العسكري الخارجيّ… وحصيلة كلّ هذه الأحداث الأليمة هي عودة هذا البلد إلى العصر الحجري الحديث.
عندما قام الرئيس الشاذلي بن جديد بتأسيس التعددية الحزبية سنة 1989 في الجزائر عارضَهُ الرؤساء ابن علي وحسني مبارك والقذافي وحذّروه من خطر إدخال أحزاب إسلامية في اللعبة السياسية المشروعة. أمّا ملك المغرب فكان يرى أنه من المفيد أن تكون الجزائر ” مخبراً” لهذه التجربة. وعندما اندلعت حرب الإرهاب وارتُكِبتْ مجازر فزع لها العالم، أتيح لهؤلاء الحكام العرب أنْ يُهددوا شعوبهم بما ينتظرهم إذا وسوست لها نفوسها بالمطالبة بالديمقراطية الغربية.
ولم يكن هؤلاء المستبدون على خطإ في رؤيتهم، وهكذا استتبّ لهم الأمر ليتفرّغوا للنهب ولإعداد توريث الحكم لأقاربهم. هذا هو السبب في أنّ خمسمائة بوعزيزي جزائري لم يتمكنوا من تحقيق ما حققه بوعزيزي تونسي واحد: لقد تمكّن البوعزيزي التونسي من استثارة مائة وخمسين مليون عربي، ومن الإطاحة في ظرف أسابيع قليلة بأكبر الديكتاتوريين العرب الذين طال تربُّعهم على عرش الحكم في” جمهورياتهم”، في انتظار البقية، لأنّ الفتيل يشتعل في كلّ الاتّجاهات.
باستطاعتنا أنْ نؤكّد أن تجربتنا الفاشلة كانت، إلى حدّ ما، عاملا مساعدا للمستبدّين العرب كي يُمدّدوا من فترة سيطرتهم على شعوبهم، هذا في الوقت الذي كانت فيه شعوب شرق أوروبا تتحرر من الغطرسة الشيوعية، وشعوب أمريكا اللاتينية تتحرر من الحكم العسكري. لقد أثبتتْ التجربة الجزائرية أنّ الانتخابات الحُرّة في العالم العربي ستُفْضي لا محالة إلى انتصار الإسلاميين المتشدّدين. ويأتي الحكم التيوقراطي في إيران، والمشهد المُرعِب الذي ظهر به طالبان في أفغانستان، والأعمال الإرهابية التي ارتكبتها القاعدة، وكذا تأسيس ” إمارة غزة”، كعناصر إضافية لتزيد من تثبيط العزائم لدى الشعوب العربية وصرفها عن خوض المغامرة الديمقراطية. فالنظام المستبد أحسن من الانفلات المتوحش الذي شوهد في الجزائر وأفغانستان.
وبالموازاة مع ذلك راح التيار الإسلاموي يُرسي قواعده في البلدان الغربية، مُستفيداً من أجواء الحرية المتاحة هناك ليبدأ في العمل بمبدأ ” الحق في الاختلاف”. وهكذا بدأتْ تظهر تجارة ” الحلال”، ومنارات المساجد، وارتداء البرقع بعد الحجاب، إلخ، كمشاهد جديدة في الساحة الاجتماعية بأوروبا. وقد اتّخذت هذه العلامات المظهرية شكل رسائل سياسية مُستفِزّة وانتهى بها الأمر إلى إشعار الأوروبيين بالتضايق، إذ بدأت المشاعر العدائية ضد الإسلام في الظهور لأن هؤلاء الأوروبيين بدؤوا يشعرون بالخوف من أسلمة بلدانهم بالتدريج، وراحوا يدفعون بحكوماتهم إلى التحلّي بالحيطة والحذر إزاء التحوّل الديمقراطي في البلدان العربية لأن ذلك سيفتح المجال واسعا للتيار المتطرف والمتشدد. وكانت تلك الحكومات تجد مصلحة أخرى في هذه المسألة: فالتعامل مع حُكّامٍ ذوي شخصية هشّة وذوي حسابات بنكية معروفة يكون أسهل من التعامل مع برلمانات مرتبطة بسيادة شعوبها.
ومع ذلك فإنّ الجزائر لم تكن نموذجاً سلبياًّ فقط. فالإسلاموية الجزائرية بخطابها الرافض وبانزلاقاتها الإرهابية، ورفض الشعب لها بعد ذلك، كل هذا ممّا دفع بالتنظيمات الإسلاموية في العالم العربي إلى مراجعة نفسها وتكييف طموحاتها مع الواقع الداخلي والخارجي. فلا شك أن المقابلة بين النموذج السلبي المتمثل في الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية وبين النموذج الإيجابي المتمثل في حزب العدالة والتنمية التركي AKP، تلك المقابلة هي التي ساعدت كُلاًّ من حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر على تبنّي موقف أكثر اعتدالا، إذ شرع هذان الحزبان في استعمال مفاهيم ” دولة القانون ” و ” المجتمع المدني ” و”الديمقراطية ” و ” الحريات العامة”، مع الحرص على تفادي كلّ إشارة إلى ” الدولة الإسلامية”. وفي هذا يبدو أن المودودي و سيد قطب لم يعودا بضاعة مطلوبة ورائجة. وهذا ما جعل العديد من الناس يرى أنه إذا كانت هذه هي الإسلاموية فلا مُبرّر للتخوّف منها.
إنّ كل الثورات في بداياتها الملحمية، عندما يحتدم التنافس بين الجماهير على البطولة والحصافة لافتكاك حريتها، تظهر جميلة ومثالية، ويتراءى لنا من خلالها شيء أصيل. ومع ذلك فإننا قد تعلّمنا من التاريخ أن نحذر من غداة كل ثورة. فقد عرفت الثورة الفرنسية بعد مرحلتها الملحمية سنة 1789 فترة كان فيها الحكم الجماعي (le Directoire)، ثمّ الحكم القنصلي(le Consulat)، ثمّ الحكم الإمبراطوري، ولم يتمّ الإعلان النهائي عن قيام الجمهورية إلاّ سنة 1870. ومثلها الثورة الروسية التي استولى عليها حزب أقليات، وهو الحزب البلشفي الذي حوّل تلك الثورة إلى ديكتاتورية ألقت ستارها الأسود على نصف البشرية طيلة ثلاثة أرباع قرن من الزمان لتنتهي إلى انهيار كامل بانهيار جدار برلين.
ولقد خرجت الثورة في تونس ومصر من المرحلة الملحمية لتدخل في المرحلة التقنية، وهي مرحلة وضع أسس المؤسسات الجديدة. وعلى خلاف الثورة الفرنسية التي لم يكن بين يديها نموذج تتبعه ـ باستثناء النموذج الروماني ـ والتي كان عليها أن تأتي بجديد، وكذا الثورة الروسية التي كانت تريد أن تحقق حلماً بالاستناد إلى النموذج الماركسي، فإنّ التغييرات التي أحدثت في كل من تونس ومصر جرتْ في إطار دستوريّ موجود مسبقاً. وعند الحاجة فإنّ التونسيين والمصريين كانت بين أيديهم عدة نماذج للتنظيم الديمقراطي كان يمكن لهم أن يستلهموها. ويبقى مصيرنا نحن مرتبطا بالمخرج الذي ستؤول إليه الثورة في هذين البلدين.
إنّ العالم العربي اليوم صار في بؤرة المشهد الإعلامي الدولي وفي مركز السياسة العالمية. فلأول مرة شاهد سكان الكرة الأرضية العرب يخرجون إلى الشارع بمئات الآلاف لشيء آخر لا علاقة له بالنواح على زعيم أو مُطربة، أو من أجل الحكم بالإعدام على كاتب ” شيطاني”. صار العرب موضوعا لإعجاب الجميع لأنهم التحقوا أخيرا بـ “العالم الحر”.
لكن دوائر السلطة الدولية لا زالت تنتظر بشيء من التّخوّف ما ستتمخّض عنه هذه الثورات بعد أشهر أو بعد سنوات، وهي تتجسس على كل حركات وسكنات أطراف الصراع، وخاصة منها ممثلي التيار الإسلامي. إنّ الغرب الذي يكفيه ما يشغله من أمر إيران وأفغانستان ليس مستعداًّ ليشغل باله بأنظمة من نفس النوع، وهو ينتظر بخوف شديد ما ستتمخض عنه الاستحقاقات المقبلة، لأنه يعرف ما سينجر عنها من آثار على الأنظمة الملكية البترولية وعلى مصالحه في المنطقة، هذا دون الحديث عن إسرائيل.
لقد ترسّخ الاقتناع، منذ التجربة الإيرانية والجزائرية والفلسطينية، بأنّ أكبر خطر يأتي من تبنّي النموذج الديمقراطي في البلدان الإسلامية هو وصول الإسلاموية إلى سدّة الحكم. فالجميع يعرف أن الإسلاموية حاضرة في كل دواليب المجتمع، مختبئة في المساجد أو في أمكنة أكثر سرّيّةً. وكان الإسلامويون من بين المتظاهرين في تونس وفي مصر واليمن ، وفي ليبيا والأردن والبحرين والمغرب وسوريا، حتى ولو كان من المستحيل إحصاء أعدادهم. لكن الغريب أننا لم نسمع من جهتهم أصواتا ضدّ التيار العام، فقد ضموا أصواتهم إلى الجميع ولم تظهر عليهم أية علامة دالة على الانزواء أو التفرقة. وأكثر من ذلك فإنّ الإخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس التزموا بالعمل العلني وفي داخل الدولة ذات الطابع الجمهوري.
وهناك مؤشرات عديدة تدل على أنّ هذا الخطر يمكن أنْ يُستبعد وألاّ يعتبر كخطر رئيسي. ففي الوقت الذي عرفت فيه جماعة الإخوة المسلمين أوج ازدهارها كان المجتمع المصري ريفيا وأمّياًّ في أغلبيته، وكذلك الأمر في باقي أصقاع العالم العربي. كان العالم العربي منقسما بين أنظمة ملكية وأخرى ” ثورية”، وكان غارقا في الحرب الباردة بسبب القضية الفلسطينية، وكانت تتخلله إيديولوجيات أعلنت كلها عن إفلاسها في مواجهة التحدّي الصهيوني. وجاءت أحداث الثورة الإيرانية والجهاد ضدّ الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وضد إسرائيل في فلسطين ولبنان، ثمّ انهيار الاتحاد السوفياتي، كلّها كعوامل إيجابية لصالح أفكار الإسلامويين. فقد صار بإمكان هذه الأفكار أنْ تُقدَّم على أنها البديل الأنسب عن الثنائية القطبية وعن الحكومات ذات السلطة الزمانية. وهكذا ظهر جناحها المسلح متمثلا في ” الجماعات الإسلامية ” في مصر، وفي الـ GIA في الجزائر، وفي” القاعدة “على المستوى الدولي.
وبإزاء الهزائم العسكرية المتتالية التي مني بها العرب في صراعهم مع إسرائيل بدا الإسلاميون في صورة أبطال لأنهم حملوا السلاح ليثوروا على الحكام في سبيل الله، هذا في الوقت الذي كانت فيه الشعوب خاضعة خضوعاً تاماًّ للمستبدّين. لكن، ومنذ دخول الجماهير إلى ساحة الصراع السياسي ، راحت وجوه الإسلاموية تفقد قيمتها فجأة كما تفقد الأسهم قيمتها في البورصة بسبب أزمةٍ ما. فلمْ يعُدْ بن لادن أو الظواهري أو علي بن حاج رموزا للبطولة الإسلامية ، والدليل على ذلك أنّ الثوار لم يهتفوا بأسمائهم ولم يرفعوا صورهم فوق رؤوسهم.  لقد رُمِي بتلك الأسماء في أقبية التاريخ مع أسماء المستبدّين المخلوعين.
إنّ عهد الإسلاموية الصّرفة والمتشددة قد ولّى، وإنّ الشبيبة التي يحدوها الأمل في الارتقاء إلى الحياة الديمقراطية لن تقبل أنْ تُنْهب منها ثورتُها لأنها شبيبة واعية سياسياًّ، مُثقفة ويقظة. وهذا الأفق لمسناه في الطريقة التي فرضت بها الشبيبة ورقة طريقها على السلطات المكلفة بتسيير المرحلة الانتقالية عندما اشترطت عزل كل الحكومات التي خلّفها المستبدّون، وحلّ الحزب الرسميّ، واسترجاع أملاك الشعب من أيدي الطبقة المستبدّة، وحلّ الشرطة السياسية، وانتخاب مجلس تأسيسيّ، ثمّ تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.
إنّ العالم العربي يمرّ بمنعرج خطير من تاريخه. وقد تكون النهضة التي لم تتحقق خلال القرن الماضي آخذة في شق طريقها إلى الواقع تحت قيادة الشعوب. إنّ هذه الشعوب صارت متحكمة في مصائرها ومُحقّقة لوجودها، وذلك بخروجها من صمتها واتباع طريق التعقل في ثورتها، إذ لم تسلك أسلوب الفوضى ولا التحطيم الأعمى، ولا طريق الإسلاموية ولا العشائرية. على عكس ذلك كله، راحت تلك الشعوب تُثبت أنها في درجة عالية من حصافة الرأي والقدرة على التحليل، ولم يصرفها أي شيء عن تحقيق أهدافها، وهي سائرة في طريق تحقيق تلك الأهداف، وستحققها إذا بقيت ناظرة إلى الأمام، مُستلهمة من الماضي دروسه، وإذا تشبّثتْ بقيم الحرية والتطوّر والتسامح.
حان الأوان لفكّ كلّ العُقد، وخاصة منها مواجهة مسألة توظيف الدين. وإنّ مصر وتونس أَحْرَى بالتكفل بذلك وأولى بأداء دور الريادة. فلا بدّ من الفصل بين أمور الدين وأمور السياسة، وهو ما أوصى به علماء مثل عبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق خلال القرن الماضي.
إنّ عدد الأقباط في مصر هو عشرة ملايين نسمة. وإن مشاهد الأُخُوّة بين المسلمين والأقباط في ساحة التحرير خلال المرحلة الملحمية من الثورة هي مشاهد تدلّ على ما يمكن أن تحققه مصر في المستقبل. وإذا كان شيخ الأزهر ورئيس الكنيسة القبطية قد بقيا وفيين لحسني مبارك إلى آخر لحظة، فإنّ أَتْبَاعَ الديانتين قد واجها قوات الأمن جنباً إلى جنبٍ، ولم يُحققوا الانتصار إلاّ مجتمعين، كما شوهد الصليب والهلال على نفس اللافتة، والمسلمون والمسيحيون يؤدون الصلوات جنبا إلى جنب. وكانت صلواتهم متّجهة إلى سماء واحدة، حاملة دعوات واحدة لإنقاذ بلدهم المشترك.
وسيكون على الدستور المصري الجديد والمؤسسات الجديدة أن تعكس هذه المصالحة بين المسيحيين والمسلمين بفضل امتزاج الدماء المراقة على محراب الحُرِّية. فالقبطي يجب أن يتساوى مع أخيه المسلم في كل الحريات وفي كل الحقوق، لأن الديمقراطية سبيل لا نسلكها إلاّ إذا تخلّصنا من بقيا الفكر التيوقراطي وعقلية الدعوة الدينية بواسطة الحرب.
إنّ مسيرة الأفكار بطيئة، لكنها ستصل لا محالة إلى وجهتها. وإذا ما تحقق ذلك صارت تلك الأفكار بمثابة قواعد عامة ونماذج كلّيّة ومصادر للإلهام لدى الشعوب العربية الإسلامية الأخرى التي أتيح لها أن تتعلّم كيف يمكن التّحرّر من الاستبداد. فالجزائريون الذين شاهدوا هاتين الثورتين سينْكَبُّون بالتأكيد على التفكير في أوضاعهم، هذا دون الحديث عن أثر حركة جناحي الفراشة وما يمكن أن ينجرّ عنه من أحداث غير متوقعة في أي حين. وكثيرا ما تخلق هذه الأحداث مفاجآت كبيرة، مثل ذلك ” الحرفي الرّصّاص” (plombier)  الذي أطاح بنيكسون(Nixon)، أو تلك الصفعة التي وجّهتْها شرطية إلى بائع جواّل في إحدى قرى بلاد المغرب والتي أدّت إلى نتائج كان القذافي وابن علي ومبارك على استعداد لدفع أغلى الأثمان من أجل تفاديها.
ومهما يكن من أمر، فإنّ وجه العالم العربي الجديد أخذ في الارتسام مرحلة بعد مرحلة، تبعا لسقوط معاقل الاستبداد. وكل تجربة ناجحة تصير نموذجاً. إنّ هذا الوجه لم يتضح لنا بعدُ، لكننا لا نبالغ إذا قلنا إنّ العالم كلّه متعلق بهذه القصة، قصة البوعزيزي.
لوسوار دالجيري 24 مارس 2011

3)- العرب واليابانيون: مفارقات وصُدَف

بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان
تسارعت أحداث التاريخ في العالم العربي فجأةً. فالأخبار راحت تنهال على رؤوسنا كالأمطار المتواصلة لتُثخننا بأحداث مدهشة رحنا نشاهدها وكأننا أمام شاشة السينما. لكن بينما كُنّا منشغلين بمشاهدة فيلم عربي مُدهش، إذا بالشاشة تنقسم أمام أعيننا إلى قسمين ليُبثّ على القسم الثاني فيلم يابانيّ أشْعَرضنَا بمغص شديد في الأحشاء.
عندما رحت أشاهد صور المجهودات التي تبذلها السلطات اليابانية لتبريد المفاعلات النووية بواسطة خراطيم المياه، خطرتْ ببالي صورة خراطيم المياه التي تستعملها قوات الأمن عندنا لكي تفلّ عزيمة الجماهير المتظاهرة، (ويا ليتها اكتفت باستعمال خراطيم المياه وحدها ). غير أنّ التوافق لم يتوقف عند هذا الحدّ، فقد انتبهتُ إلى أنّ التسونامي(tsunami) الطبيعي الذي ضرب اليابان حدث في نفس الوقت الذي وقع فيه التسونامي السياسي الذي انهال على البلدان العربية.
في كلتا الحالتين يمكن أن نرى شعوبا تُصارع وسط الدمار والموت، في الحالة الأولى صراع ضدّ قوى الطبيعة وفي الحالة الثانية ضدّ قوى الاستبداد. أليست صور الدخان المتصاعد في سماء راس لانوف أو جدابيا، وصور الفارّين من الجحيم الليبي والذين ليس على أكتافهم حتى ما يَقِيهِمْ من البرد، وصور البنايات المحطمة والسيارات المهشمة على جانبي الطرقات، أليست تلك الصور نفسها هي التي تأتينا من مياكو أو ريكوزونتاكاتا اليابانيتين؟ في اليابان كانت الكلمة للجيولوجيا، وفي البلدان العربية كان جنون العظمة هو الذي يسيطر على الوضع. لقد كان موعدا تكلّمت فيه الأرض والتاريخ في آنٍ واحدٍ، وانجرّ عن ذلك أن تحوّل جزء من أمبراطورية مطلع الشمس، وكذا بعض قلاع الاستبداد، إلى قطعة تبن تلعب بها الرياح.
لكن هذا المشهد المزدوج الذي يعرض صور شعب متواضع، عامل ومنضبط، سُلِّط عليه غضب الطبيعة، وصور حُكَّامٍ يتمرّغون منذ عدة عشرات من السنين في ملايير من البترودولارات المهدورة في التفاهات، هذا المشهد ينطوي على شيء غير قليل من الظلم. وأعجبُ من هذا أنّ هؤلاء المستبدّين يبدو أنهم مقتنعون بأنهم لن يغادروا هذا العالم الذي لم يقدّموا فيه أية منفعة للبشرية إلاّ ليدخلوا جنة النعيم التي سيتمرّغون فيها أيضا بصفة أبدية لا لسببٍ إلاّ لأنهم مسلمون، أمّا أولئك الذين لم يقدموا غير الخير للبشرية ولعالم الحيوان والنبات، سيكون مصيرهم النار يصلونها وبئس المصير، لا لسبب إلاّ لأنهم ليسوا مسلمين. إنّ الأمر قد تجاوز الظلم وصار نوعا من الاحتيال الذي لا يُعقَلُ أن يقبل به العدل الإلهيّ.
إنّ رفاهية اليابان آتية من عبقريتها، وبالتالي فهو قادر على استرجاع هذه الرفاهية، أما رفاهية العرب فمصدرها مالٌ عُثِرَ عليه في باطن الأرض، وهي ستضمحلّ بفناء ذلك المال. وعند ذلك، فإنّ هؤلاء الأغنياء الجدد سيرجعون لا محالة إلى فقرهم القديم.
اليابان والعالم العربي ! شريحتان متقابلتان من البشرية، إحداهما في أعلى درجات التحضّر، والأخرى في الحضيض، مساران تاريخيان متعارضان، أحدهما منطلق من القرون الوسطى باتجاه العصر الحديث، والآخر من العصر الحديث باتجاه القرون الوسطى، إنهما محاولتان للنهوض، أولاهما ناجحة وثانيتهما مُجْهَضَة. ولم يكن بين الثقافتين أي تماسٍّ في الماضي، وكانت كلّ واحدة منهما تجهل كل شيء عن الأخرى حتى جاء القرن التاسع عشر.
ورغم هذه المفارقات فإنّ هذين العالمين تجمعهما مصادفات عجيبة. ولننطلق من أحدثها إلى أقدمها:
1)إنّ العالم العربي اليوم يحتل صدارة الإعلام الدولي بفضل تونس ومصر في نفس الوقت مع اليابان. 2)إنّ تونس ومصر هما البلدان العربيان الأولان اللذان اكتشفهما اليابان في القرن التاسع عشر. 3)إن اليابان والعالم العربي قد الِتَفَتَا إلى فكرة النهضة في نفس الوقت، أي في حدود العشرية السابعة من القرن التاسع عشر ، حيث عُرفت الفكرة في اليابان تحت اسم ” ميجي” ( Meiji)، وعُرفت في العالم العربي تحت اسم ” النهضة “. 4) اليابان بلد كاد أن يصير جزءاً من العالم الإسلاميّ في وقتٍ مضى. وبالفعل، فقد نجا اليابان بأعجوبة من أعاجيب التاريخ من إحدى الغزوات التي قام بها الماغول المسلمون خلال القرن 13 م، ولو نجحت تلك الغزوة لصار هذا البلد ” إمارة” من الإمارات أو ” خاناً” (Khanat) .
ففي تلك الفترة كانت الهيمنة الماغولية (pax Mangolica) مسيطرة على أصقاع كثيرة من الأرض، وكانت الصين تحت حكم أسرة  (dynastie) “يوان” التي أسسها كوبيلاي خان(Kubilaï Khan). فبعد أن طلب الخان الكبير (Grand Khan) من اليابان مرّتين أن تنضمّ إلى أمبراطوريته، قرّر أن يغزوها سنة 1273 وتمكّن من الاستيلاء على عدة جزر يابانية. لكن الماغول أوقفوا زحفهم فجأةً ولأسباب غير مفهومة إلى اليوم. وقام الماغول بعملية أخرى سنة 1281 بجيش متكون من مائة ألف جندي على ظهر أسطول بحريّ تمكّن من الرّسوّ في عدة مرافىء من الأرخبيل الياباني. ودامت المعارك شهرين كاملين حتى جاء إعصار هائل فرّق جموع الجيش الماغولي وأنقذ اليابان من خراب أكيد، بل من احتلال حقيقي. وقد أطلق اليابانيون اسم ” كاميكاز” (kamikaze)على ذلك الإعصار، ويعني: ريح إلهية.
وكان اليابان في نهاية القرن 19 مُطالباً بالانفتاح على التجارة الدولية من طرف القوى الغربية. إنّ تأخّر اليابان في هذا المجال، والذي يُعزى إلى انزوائه في مجموعة من الجزر، قد بلغ حداًّ صار فيه البلد مهددا بالاستعمار. كان اليابان من الناحية العسكرية والاقتصادية والتقنية قابلاً لأنْ يُستعمَر، لكنه من الناحية الثقافية والاجتماعية والنفسية لم يكن كذلك، لا في ماضيه ولا في حاضره ولا في مستقبله. أمّا تونس ومصر فكانتا حديثتي عهدٍ بتجربة الاستعمار المُرّة، حيث كانت تونس تحت وطأة الاستعمار الفرنسي ومصر تحت وطأة الانتداب البريطاني. كان هذان البلدان مضطرين للتنازل عن تسيير شؤونهما للقوى الاستعمارية لأنهما كانا يرزحان تحت وطأة مديونية ثقيلة تُجاه تلك القوى. وصارت مصر وتونس ” محميتين” (protectorats) ، بمعنى أنّهما حافظتا عل دولتيهما في الوقت الذي كانت فيه الجزائر، ومنذ نصف قرن، عبارة عن مستعمرة.
عندما تمّ تدشين قناة السويس سنة 1869 كانت ملكيتها مناصفة بين مصر وفرنسا. ونظرا لأنّ بريطانيا كانت تريد السيطرة على هذا المسلك البحري الجديد فقد قامت سنة 1876 بشراء الأسهم التي كان يملكها الخديوي إسماعيل لأنّ هذا الأخير كان تحت وطأة الديون تُجاه البنوك البريطانية. وهكذا صارت بريطانيا وفرنسا هما صاحبتا  ” الشركة العالمية للقناة” وأخذتا مكان الدولة المصرية في عملية جمع الجباية لكي تسترجع أموالها. وبعد مدّة قام البريطانيون بتعيين الخديوي توفيق في مكان أبيه إسماعيل. وفي سنة 1888 قام أحد الضباط المصريين، وهو العقيد أحمد عرابي، بتنظيم ثورة ضدّ الخديوي وضدّ الحماية الأجنبية. وثار معه الشعب المصريّ، لكن القوات البريطانية كانت بالمرصاد، فكان القمع، وكان نفي أحمد عرابي إلى سيلان (Ceylan).
وقد وصلتْ أصداء هذه المقاومة إلى اليابان، حيث كان أحد الوطنيين، وهو شيبا شيرو(Shiba Shiro) الذي زار أحمد عرابي في منفاه، يتابع باهتمام تلك الصراعات بين القوى الأوروبية والشعوب المستعمرة. قام هذا الوطني بنشر رواية تاريخية في اثني عشر جزءاً تحت عنوان ” كاجين نو كيجو “، وقد حققت تلك الرواية نجاحاً باهراً. خصص الكاتب حلقة من هذه السلسلة لملحمة عرابي باشا. ووجد القُرّاء اليابانيون في شخصيات الرواية ما ينطبق على وضعهم لأنها ترسم لهم المسالك التي يأتي منها الاحتلال الاستعماري، وهي: المديونية الخارجية والاتفاقيات غير العادلة. والحال أنّ اليابان كان يرزح تحت وطأة الديون تُجاه البلدان الغربية، كما كان تحت حكم منظومة قانونية مزدوجة، وطنية وأجنبية.
في كتاب آخر عنوانه ” تاريخ مصر الحديث “، وبأسلوب مباشر، راح شيبا شيرو يبيّن كيف أن عملية التّحديث التي بدأ بها محمد علي تمّ إيقافها بعد موته على يد حفيده وخليفته عباس الأول، وذلك ما أودى بمصر إلى هاوية السيطرة الأجنبية. وقد أرسلت الحكومة اليابانية وفوداً من أجل دراسة الوضعية في تونس ومصر. وقد اندهش الموظفون اليابانيون الموفدون عندما رأوا فرنسيين وبريطانيين يشرفون على مصالح عمومية تونسية ومصرية (مثل الجمارك والضرائب). وكان أحد هؤلاء الموظفين اليابانيين وهو ضابط الجمارك نمورا سايجي، يرغب في التعرّف على أحمد عرابي، فزاره في جزيرة سيلان. وقام بعد ذلك بإعداد تقرير حول تلك الزيارة ونشره سنة 1891. وقد قام عدة ديبلوماسيين يابانيين مُعجبين بشخصية أحمد عرابي بزيارته بعد ذلك في منفاه.
عندما صار اليابان قوة على الساحة الدولية بعد الحرب التي خاضها ضدّ روسيا وخرج منها منتصرا سنة 1905، راح يهتمّ بمكانة ودور الإسلام في حياة الشعوب الواقعة تحت السيطرة الروسية، وذلك بنيّة دفعها إلى الثورة ضدّ روسيا القيصرية. وهكذا وجّهت دولة اليابان دعوات لشخصيات إسلامية شهيرة مثل المصري أحمد علي جرجاوي الذي قضى مدّة هناك سنة 1906، وعند عودته ألّف كتابا تحت عنوان “الرحلة اليابانية”، والذي يدعو فيه إلى التحالف بين الأمبراطورية العثمانية واليابان ضدّ روسيا. وبعده قام التتاري عبد الرشيد إبراهيم بزيارة هذا البلد سنة 1909 وطلب مساعدة الأمبراطور الياباني من أجل استقلال إقليمه. ونُسجّل هنا أن أول ترجمة للقرآن إلى اللغة اليابانية كانت سنة 1920.
أمّا المفكّر الجزائري مالك بن نبي فقد اهتمّ باليابان في وقتٍ مبكّرٍ جداًّ، وأعماله تحمل علامات الإعجاب الذي يُكِنُّهُ لهذا البلد. يقول في كتاب ” وجهة العالم الإسلاميّ ” سنة 1954: “ لقد نجح اليابان حيث لم يتمكن العالم الإسلامي من تسجيل أي انتصار حاسم على التّأخّر لأنه ركّز في عمله على مجال الأشياء، والمنتوجات، بدلاً من الانكباب على الوضع الإنسانيّ وعلى الأفكار كما سجل في كتاب ” فكرة كومنويلث إسلامي ” سنة 1960 أنّ: ” اليابان تَعَلّمَ أفكاراً، بينما انشغل المجتمع الإسلامي بشراءأشياء. ما أعظم ما كتبناه من أشعار حول نهضتنا، في الوقت الذي كان فيه اليابان يُكلّل نهضته بانتصارات باهرة عديدة!  ”
ويُجري مالك بن نبي في كتاب ” ميلاد مجتمع، شبكة الروابط الاجتماعية ” 1962) مقارنة بين مسار الحضارة الإسلامية ومسار الحضارة اليابانية منذ يقظتهما في نهاية القرن 19 قائلاً:  لقد عاد اليابان ليلتحق بركب التاريخ العالمي في نفس الوقت مع المجتمع الإسلامي الحالي. لكنّ اليابان حظي منذ بداية القرن العشرين بنخبة من الرجال أمثال أوكاكورا الذي أفاد بلده بفضل الفكر الجديد الذي أتى به بعد أن تابع تعليمه في البلدان الغربية وتشبَّع بثقافة دانتي(Dante) وشكسبير وديكارت، لكنه كان متشبّعا أكثر بتلك العقيدة الروحانية التي هي نتاج قرون من الحياة الدينية في معابد شينتو(Shinto) المقدّسة، في سفح فوجي ياما، تلك العقيدة التي أتاح لها أوكاكورا بسرعة أن تنكشف للعالم من خلال تقاليد الساموراي والفروسية. وسينضمّ إلى هذه النخبة اليابانية بعد ذلك علماء أسهموا في تطوير المعرفة الإنسانية، من أمثال عالم الفيزياء ناجاوكا الذي وضع منذ أكثر من ثلاثين سنة صيغة إلكترونية، وهي تحمل اسمه، ما زال المختصون في العالم كله يعملون بها. وفي أيامنا نجد من بين أعلام النخبة اليابانية فريقا من العلماء يحتلون مكان الصدارة في الدراسات الرياضية والنووية… إنّ هذه النخبة التي بقيت وفية للنماذج الكبرى الموروثة قد عرفت كذلك كيف تكون وفيّة للنماذج الغربية الكبرى. فدُخُولُهَا إلى الجامعة الغربية كان دخولا إلى معبد، حيث الإحساس بنوع من القداسة التي تفرض التواضع على كل داخل، وتُذكّر العقل بالشعور بالواجب. وقد أتيح للنخبة العربية أن تحتك بالغرب، لكنها دخلته كمن يدخل إلى بازار ليقتني أشياء تزيد من ترفه وملذّاته وعنجهيته. وكان الفرق شاسعاً “.
وها هو أستاذ جامعيّ أمريكي، وهو آلان كريستلاو(Allan Christellow)، الذي قضى طفولته في اليابان، يوازي بين رواية يابانية عنوانها ” بوتشان ” وكاتبها ناتسوم سوسيكي، والتي تمّ تحويلها إلى فيلم سينمائي، وبين كتاب  ” مذكرات شاهد على القرن” لمالك بن نبي. لقد أتيح للأستاذ كريستلاو أن يكتشف بن نبي سنة 1972 من خلال الاطلاع على مجلّة كُنْتُأنشر فيها نصوصا للمفكر الجزائري بصفة منتظمة وهو على قيد الحياة. لقد تحوّل هذا الباحث الأمريكي الذي سأتعرّف عليه فيما بعد، إلى متخصص في فكر مالك بن نبي، حيث خصص له عدة دراسات نُشرتْ في منشورات دولية. وقد شرّفني بتحرير مقدمة لكتابي ” الإسلام بدون إسلاموية ” الذي صدر سنة 2006 عن دار النشر سمر في الجزائر العاصمة.
هكذا، فإنّ العرب والمسلمين، واليابانيين، والهنديين، والصينيين، والإسرائيليين، لم ينتبهوا إلى ضرورة الاستيقاظ وإعادة بناء الحضارة إلاّ في نهاية القرن 19. فإلى أين وصل المسلمون قرنا بعد ذلك، قياسا بالآخرين؟ إذا كانت الحضارات الكبرى، حسب رأي أحد فلاسفة التاريخ   هي القادرة على الانبعاث “، فإنه ينبغي الاعتراف بأن الحضارة العربية الإسلامية هي الحضارة القديمة الوحيدة التي لم تتمكن من الانبعاث من جديد.
إن الديانات الكبرى اليوم (اليهودية، الهندوسية، والمسيحية) تتربّع على قوى اقتصادية وعسكرية تُمثلها بدون منازع كل من إسرائيل والهند والبلدان الغربية. وفي الوقت الذي علا فيه صوت جمال الدين الأفغاني داعيا إلى الإصلاح، كانت اليابان منهمكة في إجراء إصلاحات عميقة بسرعة فائقة، وكانت الصين بصدد إرسال أولى بعثاتها العلمية إلى الولايات المتّحدة. وهكذا نجحت البلدان الآسيوية التابعة للديانة الكونفوشيوسية في انبعاثها الاقتصادي والاجتماعي، لكن الآسيويين المسلمين أخفقوا في ذلك، وهذا رغم الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها أراضيهم. والواقع أنّ الذي حدث ليس هو انبعاث الحضارتين اليابانية والصينية، بل هو ظهور اليابانيين والصينيين بوجه جديد وتمكّنهم من التّكيّف مع أنظمة التسيير التي كانوا يجهلونها قبل ذلك.
وإذا كانت النهضة الأوروبية استلهاماً للعصور القديمة وتطلّعا إلى أنوار العقلانية اليونانية اللاتينية قبل أن تتحول إلى ثورة فكرية تجسدت في الفتوح التقنية العجيبة التي حققتها، فإنّ نهضة العالم العربي الإسلامي كانت عودة إلى علوم الدين وإلى الحكم التيوقراطي. لم يكن مِن بين أهدافها تحرير الفكر، ولم تتفتح على أنظمة الفكرالأخرى، ولم تنكب على دراسة فلسفاتها، كما أنها لم تدرس النهضة الغربية واليهودية والصينية واليابانية أو الهندية. نهضتنا لم تهتم بما استجدّ في مختلف العلوم، كالفيزياء الفلكية والبيولوجيا والهندسة الجينية وتكنولوجيات الإعلام الحديثة… إنها تكتفي بالنظر إلى كل هذا من بعيد لأنها لا تجد أي شعور بأنها معنية بتلك الفتوح والانتصارات العلمية. إضافة إلى هذا فإنّ العرب المسلمين لا يستفيدون من نكساتهم وانهزاماتهم وأزماتهم السابقة أو الحاضرة، بل ينتظرون استتباب الوضع وزوال آثار الأزمة دون أن يحاولوا إحداث أي تغيير في تصوّراتهم للأشياء. إنهم يُعوّلون على النسيان للتخفيف من أثر الأزمة، لكنهم سرعان ما يجدون أنفسهم وجها لوجه مع انتكاسة جديدة.
(لوسوار دالجيري 26 مارس 2011)

3)- العرب واليابانيون: مفارقات وصُدَف

بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان
تسارعت أحداث التاريخ في العالم العربي فجأةً. فالأخبار راحت تنهال على رؤوسنا كالأمطار المتواصلة لتُثخننا بأحداث مدهشة رحنا نشاهدها وكأننا أمام شاشة السينما. لكن بينما كُنّا منشغلين بمشاهدة فيلم عربي مُدهش، إذا بالشاشة تنقسم أمام أعيننا إلى قسمين ليُبثّ على القسم الثاني فيلم يابانيّ أشْعَرضنَا بمغص شديد في الأحشاء.
عندما رحت أشاهد صور المجهودات التي تبذلها السلطات اليابانية لتبريد المفاعلات النووية بواسطة خراطيم المياه، خطرتْ ببالي صورة خراطيم المياه التي تستعملها قوات الأمن عندنا لكي تفلّ عزيمة الجماهير المتظاهرة، (ويا ليتها اكتفت باستعمال خراطيم المياه وحدها ). غير أنّ التوافق لم يتوقف عند هذا الحدّ، فقد انتبهتُ إلى أنّ التسونامي(tsunami) الطبيعي الذي ضرب اليابان حدث في نفس الوقت الذي وقع فيه التسونامي السياسي الذي انهال على البلدان العربية.
في كلتا الحالتين يمكن أن نرى شعوبا تُصارع وسط الدمار والموت، في الحالة الأولى صراع ضدّ قوى الطبيعة وفي الحالة الثانية ضدّ قوى الاستبداد. أليست صور الدخان المتصاعد في سماء راس لانوف أو جدابيا، وصور الفارّين من الجحيم الليبي والذين ليس على أكتافهم حتى ما يَقِيهِمْ من البرد، وصور البنايات المحطمة والسيارات المهشمة على جانبي الطرقات، أليست تلك الصور نفسها هي التي تأتينا من مياكو أو ريكوزونتاكاتا اليابانيتين؟ في اليابان كانت الكلمة للجيولوجيا، وفي البلدان العربية كان جنون العظمة هو الذي يسيطر على الوضع. لقد كان موعدا تكلّمت فيه الأرض والتاريخ في آنٍ واحدٍ، وانجرّ عن ذلك أن تحوّل جزء من أمبراطورية مطلع الشمس، وكذا بعض قلاع الاستبداد، إلى قطعة تبن تلعب بها الرياح.
لكن هذا المشهد المزدوج الذي يعرض صور شعب متواضع، عامل ومنضبط، سُلِّط عليه غضب الطبيعة، وصور حُكَّامٍ يتمرّغون منذ عدة عشرات من السنين في ملايير من البترودولارات المهدورة في التفاهات، هذا المشهد ينطوي على شيء غير قليل من الظلم. وأعجبُ من هذا أنّ هؤلاء المستبدّين يبدو أنهم مقتنعون بأنهم لن يغادروا هذا العالم الذي لم يقدّموا فيه أية منفعة للبشرية إلاّ ليدخلوا جنة النعيم التي سيتمرّغون فيها أيضا بصفة أبدية لا لسببٍ إلاّ لأنهم مسلمون، أمّا أولئك الذين لم يقدموا غير الخير للبشرية ولعالم الحيوان والنبات، سيكون مصيرهم النار يصلونها وبئس المصير، لا لسبب إلاّ لأنهم ليسوا مسلمين. إنّ الأمر قد تجاوز الظلم وصار نوعا من الاحتيال الذي لا يُعقَلُ أن يقبل به العدل الإلهيّ.
إنّ رفاهية اليابان آتية من عبقريتها، وبالتالي فهو قادر على استرجاع هذه الرفاهية، أما رفاهية العرب فمصدرها مالٌ عُثِرَ عليه في باطن الأرض، وهي ستضمحلّ بفناء ذلك المال. وعند ذلك، فإنّ هؤلاء الأغنياء الجدد سيرجعون لا محالة إلى فقرهم القديم.
اليابان والعالم العربي ! شريحتان متقابلتان من البشرية، إحداهما في أعلى درجات التحضّر، والأخرى في الحضيض، مساران تاريخيان متعارضان، أحدهما منطلق من القرون الوسطى باتجاه العصر الحديث، والآخر من العصر الحديث باتجاه القرون الوسطى، إنهما محاولتان للنهوض، أولاهما ناجحة وثانيتهما مُجْهَضَة. ولم يكن بين الثقافتين أي تماسٍّ في الماضي، وكانت كلّ واحدة منهما تجهل كل شيء عن الأخرى حتى جاء القرن التاسع عشر.
ورغم هذه المفارقات فإنّ هذين العالمين تجمعهما مصادفات عجيبة. ولننطلق من أحدثها إلى أقدمها:
1)إنّ العالم العربي اليوم يحتل صدارة الإعلام الدولي بفضل تونس ومصر في نفس الوقت مع اليابان. 2)إنّ تونس ومصر هما البلدان العربيان الأولان اللذان اكتشفهما اليابان في القرن التاسع عشر. 3)إن اليابان والعالم العربي قد الِتَفَتَا إلى فكرة النهضة في نفس الوقت، أي في حدود العشرية السابعة من القرن التاسع عشر ، حيث عُرفت الفكرة في اليابان تحت اسم ” ميجي” ( Meiji)، وعُرفت في العالم العربي تحت اسم ” النهضة “. 4) اليابان بلد كاد أن يصير جزءاً من العالم الإسلاميّ في وقتٍ مضى. وبالفعل، فقد نجا اليابان بأعجوبة من أعاجيب التاريخ من إحدى الغزوات التي قام بها الماغول المسلمون خلال القرن 13 م، ولو نجحت تلك الغزوة لصار هذا البلد ” إمارة” من الإمارات أو ” خاناً” (Khanat) .
ففي تلك الفترة كانت الهيمنة الماغولية (pax Mangolica) مسيطرة على أصقاع كثيرة من الأرض، وكانت الصين تحت حكم أسرة  (dynastie) “يوان” التي أسسها كوبيلاي خان(Kubilaï Khan). فبعد أن طلب الخان الكبير (Grand Khan) من اليابان مرّتين أن تنضمّ إلى أمبراطوريته، قرّر أن يغزوها سنة 1273 وتمكّن من الاستيلاء على عدة جزر يابانية. لكن الماغول أوقفوا زحفهم فجأةً ولأسباب غير مفهومة إلى اليوم. وقام الماغول بعملية أخرى سنة 1281 بجيش متكون من مائة ألف جندي على ظهر أسطول بحريّ تمكّن من الرّسوّ في عدة مرافىء من الأرخبيل الياباني. ودامت المعارك شهرين كاملين حتى جاء إعصار هائل فرّق جموع الجيش الماغولي وأنقذ اليابان من خراب أكيد، بل من احتلال حقيقي. وقد أطلق اليابانيون اسم ” كاميكاز” (kamikaze)على ذلك الإعصار، ويعني: ريح إلهية.
وكان اليابان في نهاية القرن 19 مُطالباً بالانفتاح على التجارة الدولية من طرف القوى الغربية. إنّ تأخّر اليابان في هذا المجال، والذي يُعزى إلى انزوائه في مجموعة من الجزر، قد بلغ حداًّ صار فيه البلد مهددا بالاستعمار. كان اليابان من الناحية العسكرية والاقتصادية والتقنية قابلاً لأنْ يُستعمَر، لكنه من الناحية الثقافية والاجتماعية والنفسية لم يكن كذلك، لا في ماضيه ولا في حاضره ولا في مستقبله. أمّا تونس ومصر فكانتا حديثتي عهدٍ بتجربة الاستعمار المُرّة، حيث كانت تونس تحت وطأة الاستعمار الفرنسي ومصر تحت وطأة الانتداب البريطاني. كان هذان البلدان مضطرين للتنازل عن تسيير شؤونهما للقوى الاستعمارية لأنهما كانا يرزحان تحت وطأة مديونية ثقيلة تُجاه تلك القوى. وصارت مصر وتونس ” محميتين” (protectorats) ، بمعنى أنّهما حافظتا عل دولتيهما في الوقت الذي كانت فيه الجزائر، ومنذ نصف قرن، عبارة عن مستعمرة.
عندما تمّ تدشين قناة السويس سنة 1869 كانت ملكيتها مناصفة بين مصر وفرنسا. ونظرا لأنّ بريطانيا كانت تريد السيطرة على هذا المسلك البحري الجديد فقد قامت سنة 1876 بشراء الأسهم التي كان يملكها الخديوي إسماعيل لأنّ هذا الأخير كان تحت وطأة الديون تُجاه البنوك البريطانية. وهكذا صارت بريطانيا وفرنسا هما صاحبتا  ” الشركة العالمية للقناة” وأخذتا مكان الدولة المصرية في عملية جمع الجباية لكي تسترجع أموالها. وبعد مدّة قام البريطانيون بتعيين الخديوي توفيق في مكان أبيه إسماعيل. وفي سنة 1888 قام أحد الضباط المصريين، وهو العقيد أحمد عرابي، بتنظيم ثورة ضدّ الخديوي وضدّ الحماية الأجنبية. وثار معه الشعب المصريّ، لكن القوات البريطانية كانت بالمرصاد، فكان القمع، وكان نفي أحمد عرابي إلى سيلان (Ceylan).
وقد وصلتْ أصداء هذه المقاومة إلى اليابان، حيث كان أحد الوطنيين، وهو شيبا شيرو(Shiba Shiro) الذي زار أحمد عرابي في منفاه، يتابع باهتمام تلك الصراعات بين القوى الأوروبية والشعوب المستعمرة. قام هذا الوطني بنشر رواية تاريخية في اثني عشر جزءاً تحت عنوان ” كاجين نو كيجو “، وقد حققت تلك الرواية نجاحاً باهراً. خصص الكاتب حلقة من هذه السلسلة لملحمة عرابي باشا. ووجد القُرّاء اليابانيون في شخصيات الرواية ما ينطبق على وضعهم لأنها ترسم لهم المسالك التي يأتي منها الاحتلال الاستعماري، وهي: المديونية الخارجية والاتفاقيات غير العادلة. والحال أنّ اليابان كان يرزح تحت وطأة الديون تُجاه البلدان الغربية، كما كان تحت حكم منظومة قانونية مزدوجة، وطنية وأجنبية.
في كتاب آخر عنوانه ” تاريخ مصر الحديث “، وبأسلوب مباشر، راح شيبا شيرو يبيّن كيف أن عملية التّحديث التي بدأ بها محمد علي تمّ إيقافها بعد موته على يد حفيده وخليفته عباس الأول، وذلك ما أودى بمصر إلى هاوية السيطرة الأجنبية. وقد أرسلت الحكومة اليابانية وفوداً من أجل دراسة الوضعية في تونس ومصر. وقد اندهش الموظفون اليابانيون الموفدون عندما رأوا فرنسيين وبريطانيين يشرفون على مصالح عمومية تونسية ومصرية (مثل الجمارك والضرائب). وكان أحد هؤلاء الموظفين اليابانيين وهو ضابط الجمارك نمورا سايجي، يرغب في التعرّف على أحمد عرابي، فزاره في جزيرة سيلان. وقام بعد ذلك بإعداد تقرير حول تلك الزيارة ونشره سنة 1891. وقد قام عدة ديبلوماسيين يابانيين مُعجبين بشخصية أحمد عرابي بزيارته بعد ذلك في منفاه.
عندما صار اليابان قوة على الساحة الدولية بعد الحرب التي خاضها ضدّ روسيا وخرج منها منتصرا سنة 1905، راح يهتمّ بمكانة ودور الإسلام في حياة الشعوب الواقعة تحت السيطرة الروسية، وذلك بنيّة دفعها إلى الثورة ضدّ روسيا القيصرية. وهكذا وجّهت دولة اليابان دعوات لشخصيات إسلامية شهيرة مثل المصري أحمد علي جرجاوي الذي قضى مدّة هناك سنة 1906، وعند عودته ألّف كتابا تحت عنوان “الرحلة اليابانية”، والذي يدعو فيه إلى التحالف بين الأمبراطورية العثمانية واليابان ضدّ روسيا. وبعده قام التتاري عبد الرشيد إبراهيم بزيارة هذا البلد سنة 1909 وطلب مساعدة الأمبراطور الياباني من أجل استقلال إقليمه. ونُسجّل هنا أن أول ترجمة للقرآن إلى اللغة اليابانية كانت سنة 1920.
أمّا المفكّر الجزائري مالك بن نبي فقد اهتمّ باليابان في وقتٍ مبكّرٍ جداًّ، وأعماله تحمل علامات الإعجاب الذي يُكِنُّهُ لهذا البلد. يقول في كتاب ” وجهة العالم الإسلاميّ ” سنة 1954: “ لقد نجح اليابان حيث لم يتمكن العالم الإسلامي من تسجيل أي انتصار حاسم على التّأخّر لأنه ركّز في عمله على مجال الأشياء، والمنتوجات، بدلاً من الانكباب على الوضع الإنسانيّ وعلى الأفكار كما سجل في كتاب ” فكرة كومنويلث إسلامي ” سنة 1960 أنّ: ” اليابان تَعَلّمَ أفكاراً، بينما انشغل المجتمع الإسلامي بشراءأشياء. ما أعظم ما كتبناه من أشعار حول نهضتنا، في الوقت الذي كان فيه اليابان يُكلّل نهضته بانتصارات باهرة عديدة!  ”
ويُجري مالك بن نبي في كتاب ” ميلاد مجتمع، شبكة الروابط الاجتماعية ” 1962) مقارنة بين مسار الحضارة الإسلامية ومسار الحضارة اليابانية منذ يقظتهما في نهاية القرن 19 قائلاً:  لقد عاد اليابان ليلتحق بركب التاريخ العالمي في نفس الوقت مع المجتمع الإسلامي الحالي. لكنّ اليابان حظي منذ بداية القرن العشرين بنخبة من الرجال أمثال أوكاكورا الذي أفاد بلده بفضل الفكر الجديد الذي أتى به بعد أن تابع تعليمه في البلدان الغربية وتشبَّع بثقافة دانتي(Dante) وشكسبير وديكارت، لكنه كان متشبّعا أكثر بتلك العقيدة الروحانية التي هي نتاج قرون من الحياة الدينية في معابد شينتو(Shinto) المقدّسة، في سفح فوجي ياما، تلك العقيدة التي أتاح لها أوكاكورا بسرعة أن تنكشف للعالم من خلال تقاليد الساموراي والفروسية. وسينضمّ إلى هذه النخبة اليابانية بعد ذلك علماء أسهموا في تطوير المعرفة الإنسانية، من أمثال عالم الفيزياء ناجاوكا الذي وضع منذ أكثر من ثلاثين سنة صيغة إلكترونية، وهي تحمل اسمه، ما زال المختصون في العالم كله يعملون بها. وفي أيامنا نجد من بين أعلام النخبة اليابانية فريقا من العلماء يحتلون مكان الصدارة في الدراسات الرياضية والنووية… إنّ هذه النخبة التي بقيت وفية للنماذج الكبرى الموروثة قد عرفت كذلك كيف تكون وفيّة للنماذج الغربية الكبرى. فدُخُولُهَا إلى الجامعة الغربية كان دخولا إلى معبد، حيث الإحساس بنوع من القداسة التي تفرض التواضع على كل داخل، وتُذكّر العقل بالشعور بالواجب. وقد أتيح للنخبة العربية أن تحتك بالغرب، لكنها دخلته كمن يدخل إلى بازار ليقتني أشياء تزيد من ترفه وملذّاته وعنجهيته. وكان الفرق شاسعاً “.
وها هو أستاذ جامعيّ أمريكي، وهو آلان كريستلاو(Allan Christellow)، الذي قضى طفولته في اليابان، يوازي بين رواية يابانية عنوانها ” بوتشان ” وكاتبها ناتسوم سوسيكي، والتي تمّ تحويلها إلى فيلم سينمائي، وبين كتاب  ” مذكرات شاهد على القرن” لمالك بن نبي. لقد أتيح للأستاذ كريستلاو أن يكتشف بن نبي سنة 1972 من خلال الاطلاع على مجلّة كُنْتُأنشر فيها نصوصا للمفكر الجزائري بصفة منتظمة وهو على قيد الحياة. لقد تحوّل هذا الباحث الأمريكي الذي سأتعرّف عليه فيما بعد، إلى متخصص في فكر مالك بن نبي، حيث خصص له عدة دراسات نُشرتْ في منشورات دولية. وقد شرّفني بتحرير مقدمة لكتابي ” الإسلام بدون إسلاموية ” الذي صدر سنة 2006 عن دار النشر سمر في الجزائر العاصمة.
هكذا، فإنّ العرب والمسلمين، واليابانيين، والهنديين، والصينيين، والإسرائيليين، لم ينتبهوا إلى ضرورة الاستيقاظ وإعادة بناء الحضارة إلاّ في نهاية القرن 19. فإلى أين وصل المسلمون قرنا بعد ذلك، قياسا بالآخرين؟ إذا كانت الحضارات الكبرى، حسب رأي أحد فلاسفة التاريخ   هي القادرة على الانبعاث “، فإنه ينبغي الاعتراف بأن الحضارة العربية الإسلامية هي الحضارة القديمة الوحيدة التي لم تتمكن من الانبعاث من جديد.
إن الديانات الكبرى اليوم (اليهودية، الهندوسية، والمسيحية) تتربّع على قوى اقتصادية وعسكرية تُمثلها بدون منازع كل من إسرائيل والهند والبلدان الغربية. وفي الوقت الذي علا فيه صوت جمال الدين الأفغاني داعيا إلى الإصلاح، كانت اليابان منهمكة في إجراء إصلاحات عميقة بسرعة فائقة، وكانت الصين بصدد إرسال أولى بعثاتها العلمية إلى الولايات المتّحدة. وهكذا نجحت البلدان الآسيوية التابعة للديانة الكونفوشيوسية في انبعاثها الاقتصادي والاجتماعي، لكن الآسيويين المسلمين أخفقوا في ذلك، وهذا رغم الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها أراضيهم. والواقع أنّ الذي حدث ليس هو انبعاث الحضارتين اليابانية والصينية، بل هو ظهور اليابانيين والصينيين بوجه جديد وتمكّنهم من التّكيّف مع أنظمة التسيير التي كانوا يجهلونها قبل ذلك.
وإذا كانت النهضة الأوروبية استلهاماً للعصور القديمة وتطلّعا إلى أنوار العقلانية اليونانية اللاتينية قبل أن تتحول إلى ثورة فكرية تجسدت في الفتوح التقنية العجيبة التي حققتها، فإنّ نهضة العالم العربي الإسلامي كانت عودة إلى علوم الدين وإلى الحكم التيوقراطي. لم يكن مِن بين أهدافها تحرير الفكر، ولم تتفتح على أنظمة الفكرالأخرى، ولم تنكب على دراسة فلسفاتها، كما أنها لم تدرس النهضة الغربية واليهودية والصينية واليابانية أو الهندية. نهضتنا لم تهتم بما استجدّ في مختلف العلوم، كالفيزياء الفلكية والبيولوجيا والهندسة الجينية وتكنولوجيات الإعلام الحديثة… إنها تكتفي بالنظر إلى كل هذا من بعيد لأنها لا تجد أي شعور بأنها معنية بتلك الفتوح والانتصارات العلمية. إضافة إلى هذا فإنّ العرب المسلمين لا يستفيدون من نكساتهم وانهزاماتهم وأزماتهم السابقة أو الحاضرة، بل ينتظرون استتباب الوضع وزوال آثار الأزمة دون أن يحاولوا إحداث أي تغيير في تصوّراتهم للأشياء. إنهم يُعوّلون على النسيان للتخفيف من أثر الأزمة، لكنهم سرعان ما يجدون أنفسهم وجها لوجه مع انتكاسة جديدة.
(لوسوار دالجيري 26 مارس 2011)

آخر المستبدّين

بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان
اقترح مالك بن نبي في كتاب” مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلامي “، نظرية مفادها أنّ المجتمعات في نموّها، مثلها مثل الأطفال، تمرّ بثلاثة أعمار متتالية هي: “سنّ الأشياء”، و “سنّ الأشخاص “، و” سنّ الأفكار “. وإذْ ذاك كانت المجتمعات الإسلامية تبدو له من حيث تطورها النفسي الاجتماعي في مرحلة الأشياء بالنظر إلى السياسات الاقتصادية التي كانت تنتهجها والمتمثلة في النزعة الاقتصادية الصرفة (économisme)، وهي في سن الأشخاص بالنظر إلى أنظمة الحكم الأحادية التي تحكمها.
وكان العالم lhgmالعربي الإسلامي آنذاك يظنّ أنّ مشكلته الكبرى تكمن في التأخر الماديّ وأنّ تأخره عن الغرب سيتمّ استدراكه في بعض العشرات من السنين بفضل البترول ومخططات التنمية التي بدأ تنفيذها. كانوا يظنون أن تلك المخططات ستُوفر للعالم العربي ” أشياء ” الحضارة الغربية دون أن تُلزِمه بتبنّي أفكاره. فالمجتمع الإسلامي كان يظن أنه مزوّد بقيم أحسن من القيم الغربية. أما في المجال السياسي فقد أوكل أمره لزعماء ورؤساء ومُحرِّرين وقادة وملوك أتقياء لم تأت شرعية سلطتهم من سيادة شعوبهم، بل من السّنة الدينية بالنسبة للأنظمة الملكية والإمارات، أو من المشاركة في الحرب التحريرية ضد الاستعمار، أو بواسطة انقلاب في الأنظمة الجمهورية.  وهكذا كان العرب يحيون، حسب تعبير بن نبي: ” تحت وطأة مزدوجة: وطأة الأشياء ووطأة الأشخاص “.
وكثيرا ما تكون مرحلة ” الأشياء” في عمر المجتمع مصطبغة بكون المظاهرات بعيدة عن المطالب السياسية. وهذا ما عرفته كل من الجزائر وتونس ومصر في فترات متقطّعة. ولا بدّ من التّأمل في دلالة الاستجابة السريعة من الحكام لمثل هذه المظاهرات، وذلك بـ تخفيض الأسعار، السكن، القروض… وذلك من أجل إيقافها أو خنقها داخل البيضة، وكأنّ البطون وحدها هي القادرة على الانتفاضة في هذه البلدان للمطالبة بلقمة العيش التي كان الأجدر أنْ تُوفّر منذ البدء. أما في مرحلة ” الأشخاص “، فكثيرا ما يحدث انقلاب من أجل تحرير ” المستضعفين في الأرض “. و الواقع أنّ التغييرات التي حدثت في سدة الحكم عند العرب منذ الأزل إمّا أن تكون آتية من الخارج، أو عن طريق التوريث، أو عن طريق الانقلابات العسكرية التي ظهرت في العصر الحديث.
وهناك عرب جرى لهم ما جرى لأهل الكهف الذين استيقظوا بعد نوم دام عدة قرون ليجدوا كل شيء كما تركوه قبل النوم، وظنوا أنهم لم يناموا إلاّ ليلة واحدة. والواقع أن نمط الحكم الذي يتحكم في شؤون العرب اليوم هو نفس النمط الذي كان يتحكم فيهم منذ عشرة قرون. فهم آخر من تحرر على وجه الكرة الأرضية، إذْ أن العبيد أنفسهم قد سبقوهم إلى التحرّر. وكلّ ما قاموا به في العصور الحديثة عبارة عن تحيينٍ لمظاهر استعبادهم.
ولم يستيقظ العرب من سباتهم، ولم يشرعوا في الارتقاء إلى عالم ” الأفكار ” إلاّ بعد دفع ثمن باهظ. فقد تتابعت هزائمهم في مواجهة إسرائيل، وشاهدوا بأم أعينهم كيف انهار جدار برلين، وكيف تفتت الاتحاد السوفياتي، وكانوا شهودا على إفلاس التيار البعثي وإيديولوجيات العالم الثالث. شاهدوا كذلك كل الثورات الديمقراطية التي حدثت في أوروبا الشرقية، وشاهدوا قصّة مانديلا(Mandela)، وراحوا يرمقون تطوّر الشبكات الفضائية، وظهور جيل الأنترنيت وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي.
هذا بالإضافة إلى تجربة الإسلاموية التي أثبتت أنها عبارة عن مأزق بسبب المجازر التي ارتكبتها في الجزائر ومصر وفي باقي أصقاع العالم. ثمّ إنّ انتخاب رجل أسود على رأس الولايات المتحدة، مرفوقا بشعار “yes we can” كان حدثا يحمل رسالة إلى الشعوب المضطهدة. لم تنفتح عيون العرب إذاً إلاّ وقد بلغ الاستبداد حداً غير معقول، وصار الفساد في وضح النهار، وصارت الجمهوريات وراثية. لم يكن ينقص في هذا المشهد إلاّ بروز صورة الله في الأفق لدعوة العرب للتحرر. وإذا تأملنا كل هذه الأحداث وهذه العلامات أصبح من السهل علينا أن نفهم لماذا كانت الثورات الأخيرة مفاجئة.
ليس الاستبداد إلاّ تمثّلاً للسيادة الشعبية والدولة في شخص واحد. إذا اتفقنا على هذا التعريف أصبح لزاما علينا أن نلاحظ أن الثقافة الإسلامية والاستبداد متلازمان تلازما تاماًّ في المخيّلة العربية. وقد عمل العلماء والفقهاء على تقديم هذا النمط من الحكم على أنه عادي وطبيعي وشرعي. فألقاب: الخليفة، الإمام، الأمير، السلطان، الملك، الزعيم، الرئيس، القائد، كلّها تحيل على فكرة الحكم الانفراديّ دون وجود أي حق لمراقبته أو نقده أو معارضته بالكلمة أو بمجرد التفكير. وأقصى ما يمكن قبوله هو تقديم نصيحة له، هذا مع العلم بأن هذه النصيحة لا تصدر إلاّ من شخص مُرخّص له ذلك، أي من فقيه. فالدائرة كانت إذن مُحكمة الغلق.
إنّ لفظ ” السلطة ” في اللغة العربية، وكذا ” السلطان “، مع أنهما يحيلان على معنى الرئاسة والقيادة، فإنهما يوحيان بالحكم المُطلق والقوة القصوى، وحق اتخاذ كل القرارات، دون تقديم حسابٍ لأيٍّ كان، وبعيدا عن أية محاسبة أو متابعة. فالسلطان يفعل ما يريد، يتصرف في أموال بلده التي تقدّر بالملايير وبالجبال ويودعها في بنوك العالم باسمه. قد يكون في فهم هذه الكلمة عامل مساعد على فهم نفسية ابن علي والقذافي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح والأسد وغيرهم ممّن هيمن على شعبه كما فعل هارون الرشيد أو أي خليفة مستبد. إنّ الملوك في العالم كله فقدوا السلطة منذ زمن بعيد، وما وجودهم إلا تعبير عن احترام لتاريخ البلد، والملوك رموز لذلك التاريخ. أما الحكومات فهي تُنتخب لمدة محددة ومن أجل تطبيق برنامج عمل محدد، ويقوم البرلمان بمراقبة تلك الحكومات مراقبة يومية، كما يلعب الإعلام والرأي العام والعدالة دورا في إعادة الحكومة إلى جادة الحق إذا تجاوزت حدود ما يتيحه لها الدستور.
إنّ عبد الرحمن الكواكبي من المفكرين الاستشرافيين الذين أنجبتهم سوريا في نهاية القرن 19 لأنّ أفكاره تنطبق تماماً على وضعنا الحالي. كان الكواكبي يرى في رجال الدين نوعا من الكهنوت الذي يُغطّي تجاوزات السلطة المستبدة بالدعوة إلى طاعة المستبدين طاعة عمياء، وهذا في مقابل الحصول على سلطة معنوية ذات نفوذ قضائي يشبه نفوذ محاكم التفتيش على المجتمع.
وعندما أصدر أهمَّ وأشهرَ كتبه، وهو كتاب ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ” كان العالم العربي تحت السلطة العثمانية. وهو في هذا الكتاب يحاول أن يرسم نمط الحكم الذي يجب أن يتبنّاه المسلمون بعد التحرر من الخلافة العثمانية، وفيه يقول: ” إنّ (هذا الحكم) يجب أن يعكس التمثيل السياسي للأمة، وليس مجرد هيمنة شخص مع حاشيته. والحاكم يجب ألاّ يتصرف حسب هواه في حقوق الأمة المادية والمعنوية، ويجب ألاّ تكون له السيطرة التامّة على أفعال المواطنين وأفكارهم. ويجب أن تُحدَّد مهامه بواسطة الدستور. إن السلطة ليست في يد الحكومة، لكنها متعلّقة بالأمة. وليس على الأمة طاعة الحكومة طاعةً عمياء. الأمة هي التي تقرر المصاريف اللازمة وتحدد مقادير الجباية والموارد. للأمة الحق في مراقبة الحكومة. العدالة يجب أن تكون طبقاً لما يراه القضاة وليس طبقا لما تراه الحكومة. وليس لهذه الأخيرة أن تتدخل في شؤون الدين طالما لم يتمّ المساس بحرمته. ويجب تحديد صلاحيات الموظفين بنصوص واضحة. وتحرير نصوص القوانين يجب أن يكون من مهام جمعية منتخبة من طرف الأمة... ”
وستتّخذ الأحداث مجرى آخر بعد التحرر من ربقة الخلافة العثمانية. يقول الكواكبي في المقارنة بين نظام الحكم في الدول الإسلامية وأنظمة الحكم المتبناة في البلدان الغربية: ” إنّ أحسن ما حققه التطوّر الإنساني هو تلك التنظيمات التي تؤلف دساتير الدول المُنظمة تنظيماً محكماً. فهم لا يرون أن هناك قوة أكبر من قوة القانون. وهم يُسنِدون السلطة التشريعية للأمة التي لا يمكن أن تتفق على ضلالة. كما أنهم يُمكّنون المحاكم من مقاضاة الملك والفقير على قدم المساواة، ويضعون مسؤولي الحكومة المُخوّل لهم تسيير شؤون الأمة في وضعية لا تسمح لهم بتجاوز الحقوق المرتبطة بوظائفهم. وأخيرا فإنهم يمنحون الأمة الحق في حراسة ومراقبة أسلوب تسيير الحكومة “. ولهذا فإن الكواكبي يُحبّذ في ما نشره في الصحافة أن يتمّ الفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي، وأن يتساوى الناس بغضّ النظر عن مُعتقدهم، وأن تسود المساواة في الحصول على وظائف عمومية، وأن يتساوى المسلمون وغير المسلمين أمام النظام الجبائي، وأن تستفيد البنات من التعليم، وأن يتمّ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية… ”
والكواكبي يرى أن مشاكل العالم الإسلامي كلها تعود إلى سبب واحد هو غياب الحرية. ففي كتاب ” أم القرى ” يقول: ” إن مصدر الشرّ كله في نقص الحرية عندنا. وتعني الحرية أن يكون الإنسان مختاراً فيما يفعل وفيما يقول. كما تشمل أيضا حرية التعليم، وإلقاء المحاضرات، والطباعة، والانكباب على البحوث العلمية. وتتولد عن الحرية عدالة شاملة حتى لا يخشى الإنسان طاغية ولا حاكما قاهرا. والحرية تُولّدُ الشعور بالأمن في ممارسة العبادة وتولّد أمنا في النفوس، كما تحمي الكرامة والشرف وتُحافظ على العلم ومنافعه… إن الحرية هي أغلى نعمة عند الإنسان بعد الحياة “.
مات هذا المفكر السوري مقتولا من طرف خديوي مصر بتحريض من السلطان العثماني عبد الحميد. لكن أفكاره التي تبقى سابقة لعصرنا ستُلْهِمُ مُصلحا آخر، وهو مصري اسمه علي عبد الرازق الذي كتب في ظرف حاسم يشبه الظرف الذينعيشه اليوم كتابا صغيرا كان له صدى واسع، كان ذلك سنة 1925، وعنوانه  ” الإسلام و أصول الحكم “.
صارت مصر سنة 1923 مملكة دستورية بعد أن كانت تحت الحماية البريطانية لمدة تقارب نصف قرن. وفي سنة 1924 تمّ إلغاء الخلافة في تركيا، وكان لهذا الحدث أثر عميق في النقاش الحاد الذي ساد النخب في العالم الإسلاميّ. وممّن عارض هذا الإلغاء رئيس ” النهضة ” رشيد رضا، أما علي عبد الرازق فقد باركها محتجاًّ بأنّ ” الخلافة كانت دوما ولا تزال وبالاً على الإسلام والمسلمين، وكانت مصدرا دائما للشر والفساد… فقد عجز كلّ الفقهاء الذين ادّعوا بأن أقوال الإمام أو الخليفة هي بمثابة واجب ديني أن يأتوا بآية قرآنية واحدة ليدعموا بها طرحهم. والحقيقة أنه لو وُجِد في القرآن نصّ واحد في هذا الاتجاه لما تردد الفقهاء في إبرازه وتحليل”.
ولم يكن لجرأة هذا المصلح المصري في معالجة مسألة الخلافة والدولة الإسلامية أيّ نظير. يقول في نفس السياق: ” إننا نرى إذاً أنّ لقب الخليفة وما أحاط بتطبيقه من ظروف كان مِن بين أسباب الخطإ الذي استشرى بين صفوف المسلمين وراحوا يعتقدون أن الخلافة وظيفة دينية ويُسنِدون لمن يتولى الخلافة سلطة ومقاما مساويا لمقام الرسول نفسه. وكان من مصلحة الملوك أن ينشروا مثل هذا الوهم في صفوف الشعب بهدف استعمال الدين كوسيلة للدفاع عن عروشهم ولاضطهاد معارضيهم. وقد اجتهدوا بدون هوادة في هذا الاتجاه إلى درجة أنهم كانوا يُعلّمون الناس أنّ طاعة الحُكّام من طاعة الله وأنّ الثورة ضدّهم هي ثورة ضدّ الله. ولم يكتفوا بهذه النتيجة، بل جعلوا من الملك ممثّلاً لله على الأرض، وهو ظِلُّه على مخلوقاته. وبعد ذلك أُلْحِق نظام الخلافة بالدراسات الدينية ووُضع في نفس المقام مع قواعد الإيمان، ودُرِس عند المسلمين في إطار دراستهم لسلطة الله، ثُمّ دُرِّس في نفس الوقت مع قواعد الإيمان في الإسلام. ذلك هو الجرم الذي ارتكبه الملوك وتلك هي نتيجة هيمنتهم الاستبدادية: فقد أضلّوا المسلمين باسم الدين، وحجبوا الحقيقة عن أعينهم، ومنعوا عنهم نور المعرفة. وباسم الدين كذلك ملكوا المسلمين، وأذلّوهم ومنعوهم من التفكير في مسائل السياسة. أضلّوهم باسم الدين وخلقوا مختلف أنواع العراقيل في طريق النشاط الفكريّ، إلى درجة أنهم منعوا عليهم اكتساب أية مرجعية أخرى خارج الدين، حتى في المسائل ذات الطابع الإداريّ الصّرف. كل ذلك أدى إلى قتل القوى الحيّة في البحث والنشاط الفكريّ في صفوف المسلمين”.
وهكذا تمكّن  ذلك العالم المصري بفضل وعيه وشجاعته من تبيين الأسباب الحقيقية في تأخر المسلمين. وكان هو نفسه فقيها وقاضيا في إحدى المحاكم الشرعية بالقاهرة، ومع ذلك فقد استطاع، وبطرق لا نعلمها، من الانسلاخ عن الثقافة التي تلقّاها في الأزهر وأن يرتفع بعقله إلى مستوى الحلول التي لا يزال العرب لم يحسموا أمرهم في الأخذ بها. وبشجاعته التي تجاوزتْ كلّ تصوُّرٍ ختم علي عبد الرازق كتابه بهذه الدعوة المُلِحّة: ” لا وجود لأي أصلٍ من أصول الدين يمنع المسلمين من منافسة الأمم الأخرى في شتى العلوم الاجتماعية والسياسية. ولا شيء يمنعهم من تحطيم هذا النظام البالي الذي أذلّهم وأنامهم تحت قبضته. لا شيء يمنعهم من بناء دولتهم ونظامهم الحكومي على أساسِ آخِرِ إبداعات العقل الإنسانيّ وعلى أساس الأنظمة التي ثبتت صحتها والتي أجمعت الأمم على أنها هي أحسن الأنظمة “.
تمّت مُتابعة علي عبد الرازق في إحدى المحاكم وحُكِم عليه بتجريده من كل شهاداته ومهامه الجامعية، ثُمّ أُعيد له الاعتبار بعد ربع قرنٍ وعُيِّن وزيرا للأوقاف. لكنه لم يتراجع عن أفكاره أبدا، ولم يندم على ذلك الكتاب الصغير الذي ألّفه والذي يُلخِّصُ مأساة المسلمين في الماضي والحاضر، ويُعد هذا المُصلح، بعد الكواكبي، ممن وقف بجرأة في وجه الاستبداد وندّد به. وقد كتب رسالة لابنه في أواخر حياته، يقول له فيها: ” لا أعتقد أنه يوجد في هذه الحياة رابط أقوى وأدْوم بين الناس كهذا الرابط الذي يظهر بمناسبة التنديد بالاستبداد والإيمان بالله “.
وكان كتابه وراء الحراك الذي أدى إلى ظهور حركة الإخوة المسلمين عامان بعد صدوره، تلك الحركة التي أتت لتمحو ما حققه علي عبد الرازق والكواكبي من تقدّمٍ فكريّ. فلقد توقف التفكير في تحقيق نهضة حديثة باتمّ معنى الحداثة، وصارت المثل العليا الديمقراطية من بين الأفكارالغريبة عن قِيَمِنا”، وبدلا من ذلك ظهرت الدعوة إلى “إخضاع الحداثة للإسلام “. نتمنى أن تكون أفكار هذين المُصْلِحَيْن الرائديْن مصدرا لإلهام الشبيبة التي تتطلّع إلى تحقيق مصالحة بين الإسلام والعالم العربي من جهة وبين المُثُل العليا الديمقراطية من جهة أخرى.
وكان المُسْتبِدّون يجدون في ضعف الرعية وقبولها مصدراً لقوّتهم. كانوا مصابين بجنون العظمة في الوقت الذي كانت فيه الرعية رازحة تحت عقدة النقص. وليس الخوف وحده هو الذي يجعل الرعية خاضعة، بل إن ثقافة الاستبداد المتجذّرة فيها هي السبب الرئيسي في ذلك. كانت الرعية متشبثة بتلك الثقافة تشبّثها بمبدإ من مبادىء العقيدة، ومثال ذلك اعتقادها بأن الخليفة هو ظلّ الله على الأرض، وإيمانها بأمير المؤمنين، وإيمانها بخادم الحرميْن الشريفين، وكذا الرئيس الثوريّ والقائد المُجدِّد…
إنّ الذي ساعد على بقاء الاستبداد كأسلوب حكم مدة طويلة هو كونه وضعاً يؤمن به كلّ من المستبدّ الذي يمارسه والرعية التي ترزح تحت نيره. لكن يبدو أن هذه (الرسالة الجينية) في طريقها إلى الزوال من الميراث الجيني العربيّ الإسلاميّ: فبعد أشهر أو بعد سنوات سيُطوى ذكرها نهائياًّ. والحقيقة أنّ المُستبدّين قد قدّموا خدمة لرعاياهم بالكشف عن قساوتهم وعن تشبثهم بالسّلطة وعن فسادهم، تماماً مثل أنّ الإرهاب قد قدّم خدمة للمسلمين بتنفيرهم من الإسلاموية.
إنّ نموذج الحكم الذي صنّفه مونتيسكيو(Montesquieu) في كتابه (روح القوانين) تحت اسم : ” استبداد المشرق despotisme oriental” هو في طريقه إلى الزوال ومعه بعض الوجوه التي مثّلته أحسن تمثيل. لقد مات هذا النموذج بالفعل في العقل العربي. هذا ما يجب أن يفهمه المستبدون الذين لا يزالون في الحكم كي يُجنِّبوا بلدانَهم دمارا ونارا ودماء مهدورة… إلاّ إذا كانوا عازمين على أن يتركوها وراءهم هباءً منثورا.
سيذكر الناس عندنا في المستقبل آخر المستبدّين كما كان الأمريكان فيما مضى يتحدثون عن ” آخرفرد من قبيلة الموهيكان”Le dernier des Mohicans “. لكنْ، لماذا بدأ المستبدون يتساقطون فجأة الواحد تلو الآخر؟ إنّ السبب هو الاحتباس الحراري: فالأشجار التي كانوا عالقين بها قد تهرّأتْ، والعرب الذين كانوا يحملونها قد نضجوا. وإنّ نهاية الاستبداد في العالم العربي ستكتسي نفس الأهمّيّة وسيكون لها نفس الصدى الذي كان لنهاية الرّق في العالم.
(لوسوار دالجيري 27 مارس 2011)

لم نعد دولة، بل…

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
“السن بالسن والعين بالعين و… الشتم بالشتم”. في بعض الأحيان، يتوجب علينا الرد بالمثل لكي يتحقق العدل والإنصاف. فالصور والفيديوهات التي شاهدنا فيها السعيد بوتفليقة وعلي حداد وسيدي السعيد يتشدقون ضحكا وبدون حياء والمقام مهيب حيث كان الجمع في مقبرة العالية خلال جنازة السيد رضا مالك صدمتنا وجرحت أحاسيسنا كلنا إلى درجة ربما لن يدركوها مهما فسرنا لهم الثلاثة أن وجوههم المنتفخة كانت مشهدا مريعا، وأن ضحكاتهم قصفت كالرعد في مكان آمن ومهيب ومقدس، وذكرتنا بالصوت الشنيع الذي يميز الضباع أمام جثة هامدة، وهم يظهرون للملأ في نفس المشهد المقرف قلة حياء وأسنان متهرئة.
ماذا يا ترى كان وراء ذلك الضحك واللمز الفاحش في ذلك المكان وذلك الوقت، رافعا الستار على حقيقة هؤلاء الأشخاص والتي كانوا يحجبونها نوعا ما بالاختباء في “الظل” إلى يومنا هذا؟ وحقيقتهم أنهم أشخاص ينتهكون المقابر والذاكرة الوطنية، وأنهم صعاليك لا يعرفون كيف يتحكمون في أنفسهم أو على الأقل الإيهام بذلك، ويدسون بأقدامهم الآخرين والتقاليد والأعراف التي تلزمنا احترام الموتى والمقابر.
وذكرتني إحدى الصور على الخصوص بالفيلم الفكاهي الفرنسي المشهور« Les Corniauds » ، أي البلهاء، الذي لعب فيه لويس دي فوناسوبورفيل (Louis de Funes et Bourvil) مع الفرق الكبير أن هؤلاء يمدون الفرحة لمواطنيهم بالفكاهة منذ عشرات السنين، لكنهما كانا يفعلان ذلك في أفلام فكاهية وليس في المقبرة التي يرقد فيها أبطال أمتهم. فكان وجها الرجلين يتسمان بالسماحة والفرحة حتى عندما يقومان بالمقالب للآخرين ولبعضهما.
أما ضحكات بلهائنا، فإنها لم تحمل زهوة الحياة بل تنم عن أرواحهم الدنيئة والعديمة التحضر. وكانت تبين رغبة شريرة في القتل وإلحاق الأذى. بتلك الضحكات، بعث الثلاثة رسالة للأمة التي تنتظر بشغف كيف سينتهي العراك المفتوح بين السيد تبون وحداد حيث يفهم الجميع أنه تم غلق الملف وأن الذئاب ستقطع من “خولت له نفسه” أن يهاجم “رجل الأعمال”. لكن أظن أن ذلك ليس هو السبب الوحيد الذي يفسر تلك القهقهات المشينة والمسترسلة في وجه البلاد كلها.
الأحرى أنهم كانوا يضحكون سخرية وهم يتذكرون كل من هم في مقابرهم واللذين “دفنهم” بوتفليقة، وكلهم وجوها صنعوا الثورة واحتفظوا بماء وجه الاستقلال من بعد ذلك. الأحرى أنهم كانوا يستهزؤون منا وهم يعلمون السهولة التي استحوذوا بها على خيرات الجزائر التي لا تعد كونها بالنسبة لهم بقرة حلوبا. والأحرى أنهم كانوا يستهزؤون بالوزير الأول الذي جاؤوا لدفنه وهو من أبرز وجوه اتفاقيات إيفيان، دافنين بضحكتهم واستهزائهم تلك الصفحة التي كرست نضال الشعب وأصبحت الجزائر دولة مستقلة سيدة بعد أن كانت كومة من “الأشياء المستعمرة”. والأحرى أيضا أنهم كانوا يضحكون من الوزير الأول الحي والذي سيأتي دوره لكي يدفن لأن “نفسه الأمارة بالسوء” خولت له أن يهاجمهم. ماذا دهاه؟ واش أداه؟ واش “حاسبات لو؟”
كان السيد تبون واقفا على بضعة أمتار منهم، والسعيد بوتفليقة يتوسط علي حداد وسيدي السعيد (وبالزيادة، لازم نقولو لو “سيدي” !) وعلى وجهه علامات الأسى حزنا على السيد رضا مالك و حزنا على نفسه لأنه يدري أن “وفاته” هو أيضا قريبة.
و من الممكن أيضا أنهم كانوا يتضاحكون من كل السذج المساكين الذين آمنوا أنه ظهر تحت سماء الجزائر “زورو” سيقضي على الفساد بكلمة واحدة وأنه “سيفصل المال القذر عن السياسة” بقرار بروتوكولي، وبأنه يستطيعالفصل بين “السعيدين” و “البويغ الجزائري” (Le Bouygues algérien) وبأنه سينقذ أخيرا الصالح من يد الطالح في بلادنا. يا لها من أوهام وشعوذة وسذاجة …. لا يؤمن بمثل هذه الخرافة سوى من لا يعرفوا النظام الجزائري، من لا يعرفوا أن الوزير الأوللا يمكنه أن يكون “زورو” لا يمكنهتحريك حجرة ولو صغيرة من بنيان اللعبة السياسية، كما لا يمكنه معاقبة موظف سامي أو ترقيته، دون أن توافق الرئاسة. إن كل من قال “يحيا تبون” بعد أن سمعها آل بوتفليقة، يعني “الموت لتبون !”.
والحقيقة أنهم كانوا يتضاحكون منا جميعا، حيث أصبحنا في أعينهم “كومة سافلة من الأشياء المستعمرة”، نقبل بكل شيء وننتظر الخلاص من الله بأن يرسل لنا مهديا أو “زورو” اسمه بوضياف أو تبون. حمل الضحك التهكمي الذي صعقنا يوم الأحد الماضي تحديا للعقل والأخلاق في المقبرة التي دفن فيها الأمير عبد القادر وبن مهيدي والرؤساء الذين حكموا الجزائر… هناك، في مقبرة العالية، تحدتنا السفالة وقالت لنا كلنا : “دزوا معاهم”.
إنه الدليل، لمن ما زال يحتاج إلى أدلة، أنه في المستقبل سيكون من الأسهل على من يريد أن يفصل الدولة عن الدين، وأن يفصل بلاد القبائل عن الجزائر، وأن يفصل الجزائريين عن الجزائر ويدفع بهم إلى الهجرة برا أو بحرا، في قارب أو عوما، شرعيا أم لا… سيكون كل ذلك أسهل من أن نفصل المال القذر من السياسة، لأن عائلة بوتفليقة جعلت منهما، أي السياسة والمال القذر، كيانا واحدا وملتحما، ضاحكا ومتهكما.
إنها الرسالة التي أرادنا السعيد بوتفليقة أن نتلقفها منه رسميا وعلنا. ولم يأتي إلى جنازة رضا مالك في موكب رسمي وفي سيارة رئاسة مدرعة، وتحت رعاية مدير بروتوكول الرئاسة وكل حراسة الرئيس سوى من أجل أن نفهم الرسالة بكل وضوح. إنه ولي العهد الذي يظهر لأول مرة أمام الشعب في رداء الرئاسة وأشرك في ذلك المظهر علي حداد وكأنهما في حفل زفاف ملكي.
لقد خرج بهذه “الخرجة” لأننا نعيش المرحلة الأخيرة قبل “انتخاب” 2019، ومن الضروري أنyaبتحقق من صلابة الأرض تحت أقدامه كي لا تزل وهي الأرض التي عملوا على اكتسابها منذ عشرين سنة. وأراد أن يتأكد مما إذا كانت هناك مقاومة ما ومناهضة ما لفكرة عهدة خامسة أو حكم وراثي بين الأخوين، لأنه بالنسبة للنظام، ممنوع التفكير حتى في سيناريو آخر.
وبالفعل، كانت تصريحات تبون ستسمح بشيء لم يتوقعوه وستخلط الحسابات بما أن بعض أعضاء النقابة الوطنية سارعوا للقول باستعدادهم عن التخلي عن سيدي السعيد وبعض أعضاء منظمة منتدى أرباب العمل من جهتهم استعدوا للإعلان عن الموت السياسي المفاجئ لحداد. فكان من الواجب أن تكون ردة الفعل سريعة وقوية توقف الهيجان الذي كاد أن يحصل وبأن يقبض من جديد بزمام الأمور بيد من حديد. وفي الحقيقة، فإن كل من كانوا يستعدون “لدفن” سيدي السعيد وحداد هم من سمح لهما ولآخرين “بالركوب على رؤوسنا” لأنهم هم القطيع الرحالة الذين جعلوا من الخيانة و الخضوع مهنة العمر، يسارعون في الإجهاز على من يرونه ساقطا أرضا ويسرعون في التبجيل بأي حمار يؤمرون بعبادته.
إن عبد المجيد تبون من أقدم المسايرين لحكم بوتفليقة من الداخل، ويعرف أتم معرفة حكايات “ألف ليلة وليلة” الجزائرية وحكايات جحا وقصص عائلة بوتفليقة أكثر من غيره. ومن هنا، يسمح لنا أن نفهم أنه لم يرتكب خطا ولم يفهم غلطا ولم يرد الانتحار. لم يقدم وحده بدافع فروسي انتابه فجأة في آخر عمره بأن يقرر الهجوم علنا على عالم “ليزافير” في الجزائر الذي ولج عالم السياسة منذ عقود وهرب ملايير الدولارات إلى الخارج.
لا يمكننا تصور الرجل يتعدى الحدود التي رسمت له كما لسابقيه، ولن يتجرأ على القيام بشيء لم يسمعه جيدا من طرف رئيس أو حتى تأويل تعليماته أكثر مما يلزم. إنه يعلم حق المعرفة أن منصب الوزير الأول لا يعني شيئا، خارج بعض المزايا المرتبطة به، ويعلم أيضا أنه لا يملك القرار والتحكيم، وأنه فقط مظهر من مظاهر الشكليات والبروتوكول الذي يواجه به النظام الرأي العام، بل ويعلم جيدا أنه قد يبقى سنوات عديدة في منصبه دون أنyouبمارس أي سلطة أو يلعب أي دور. إنه في الحقيقة منصب تشريفي كما هو الحال لرئيس مجلس النواب ومجلس الأمة وكل الهيئات المدنية في البلاد.
ونستنتج أن الرئيس قد أمره فعلا وبوضوح تام أو شبه تام في هذا الاتجاه، وإلا ما كان ليقدم على فتح “حرب الستة أيام” التي يعلم أنه سيخسرها مسبقا. لن يكون أبدا السيد تبون ليأمر لرئيس البروتوكول بمنع رئيس رجال الأعمال من الحضور في نشاط قد دعي إليه، لكنه إذ فعل، إنما لأنه كان من المستعجل أن يمد بدلائل على أنه يطبق توجيهات الرئيس سريعا، كما صرح أيضا مساعديه المقربين fiقي الوزارة الأولى.
ماذا حدث إذن بين الإعلان عن التغيير في سياسة منح المال العمومي لرجال الأعمال الذين “لا يحترمون القوانين ويسربونه إلى الخارج” ويوم الأحد حيث أصبح الأمر يعلق عليه على أنه “زوبعة في كأس؟”
هل وقع السيد تبون في فخ خلال أيام معدودة؟ هل يعتبر تعيينه غلطة مثلما حدث الأمر مع مسعود بن عقون المسكين، الذي توزر السياحة كمن يذهب في يوم عطلة نهاية الأسبوع في سياحة خفيفة؟ هل دخل تبون بين الظفر واللحم؟ هل لحداد “أكتاف” بهذه القوة والعرض مع أننا رأيناه كيف كان يبكي ويشكي مدة أسبوع إلى أن أعاد له السعيد بوتفليقة “الروح” من جديد من مقبرة، كما كان يفعل المسيح عليه السلام عندما يحي الموتى أمام الجموع المذهولة؟ أم أن بوتفليقة عبد العزيز وبوتفليقة السعيد اتفقا في مخطط طبقاه على ظهر تبون؟
بالفعل، بعد أن أقام الدنيا ولم يقعدها بتصريحاته الجريئة، تراجع السيد تبون وارتجل لقاء عمل بحجة تنظيم “الثلاثية” المقبلة. لكن، على ما يبدو، لم يكف ذلك لكي يرتاح “الثلاثي الشيطاني” حيث لم يتأكدوا بأن الجميع قد فهم من تراجع تبون نهاية القضية، وأنه ليس “زورو”(Zorro) بل “صفرا” (Zero)لا قوة له ولا حول، وأنهم هم من يعلون وينزلون من شاءوا وكيفما شاءوا.
خافوا أن يفهم القطيع السياسي الذي يحوم حولهم أن الأمر جادا، وخافوا أن تواصل وسائل الإعلام في الحديث عن الموضوع، وخافوا أن يلاحظ “الملاحظون” ويأمل الشعب في هواء نقي يستنشقه بدل الهواء الذي يحبس أنفاسه اليوم. وما من مكان أفضل من مقبرة لكي يدفن تبون معنويا، ويذل ويقزم أمام الملأ؟
لم يكن لديهم الخيار حيث لو تركوا الأمر لبضعة أيام، لتفاقم الوضع وتزعزعت صورة السعيد بوتفليقة في أذهان الشعب حول قوته ونفوذه داخل السلطة.الأن يعرف العالم بأسره وليس فقط الجزائريون أنه في “المرادية” منبعين للسلطة على الأقل، وأن سلطة السعيد أقوى من سلطة أخيه الذي لم نعد نعلم عنه شيء. كما أثبتنا لأنفسنا مرة أخرى أننا لسنا شعبا لكن جمهورا يصفق لكل “البوسعدية” و”ديوان الصالحين” والموبيتشو(Muppets show) الذين يضحكون منا بدل أن نضحك منهم.
إننا لم نعد دولة، بل كومة من الأشياء. كلنا ! أمازيغ وعرب. سنيين وإباظيين. مسيحيين وملحدين. معربين و مفرنسين و متحدثين بالأمازيغية. تقدميين و إسلامويين. مجاهدين مغشوشين وحركة حقيقيين. صغار وكبار…
إننا كلنا منشفات تمسح علينا أرجل قذرة. حينا تمسح علينا “بلغات” الإسلامويين وتارة “قبقاب” الوصوليين الذين استطاعوا بروحهم الشيطانية الركوب على رؤوسنا بتواطؤ القادة العسكريين والمخابرات الذين جعلوا منهم مسؤولين سياسيين واقتصاديين ونقابيين، “شئنا أم أبينا”، “دراع ولا ملاحة” !
وهذا سيدوم إلى أن تنتهي فترة “الجزائر المستقلة” التي سقطت بين أيدي قراصنة العصر الحديث، وستليها فترة استعمار جديد، وستنهض مجموعة “22” أخرى… لكن لا ندري متى سيحدث هذا الأمر في التقويم البربري الذي نعيش منه سنة 2967. الأكيد أنه سيحدث خلال الألفية الرابعة من تاريخنا البربري الطويل والطويل جدا…
أما بالنسبة لي شخصيا، فلن أنافقكم بأن أقول “حشاكم”، ولن استعمل الديبلوماسية بأن أقول “حاشا ألي ما يستاهلش”، إننا اليوم “كوما” راضيا بكل شيء بدل أن نكون قوما حقيقيا. لن أقول لكم كما قلت في شهر مارس 1990 بأننا “لسنا مجتمعا بل غاشي”. كانت سذاجة مني بأن ظننت أننا سنشكل قوما ومجتمعا ودولة.
لقد قبلنا بكل الانتهاكات وبكل الاستهزاءات وهدرت قيمتنا بين الشعوب يوما بعد يوم وفقدنا 200 % منها كما هو حال الدينار امام اليورو. إننا نتجه مباشرة إلى باب الخروج من التاريخ الذي أخذ، مع الشعوب الأخرى، طريقه نحو الأمام، نحو التقدم، نحو الحرية والحضارة. ولن ينظر إلينا التاريخ والشعوب إلينا بعدها بنظرة استهزاء فقط، بل بازدراء واحتقار!
كانت المرة الوحيدة التي التقيت فيها السعيد بوتفليقة عندما كنت عضوا في الحكومة سنة 2001، خلال تنقل لعبد العزيز بوتفليقة إلى مدينة البليدة. وبينما كان هذا الأخير يتقدم الموكب ويصافح كعادته الجمهورالمحتشد على حافتي الطريق، كان الوفد الوزاري يمشي وراءه وأنا بينه. وبينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع عبد الحميد تمار، تفاجأت بسماعي جمعا من المواطنين يهتفون باسمي. وأمام دهشة تمار، قلت له بشيء من الإحراج أن الناس يعرفونني بسبب تواجدي في الحياة السياسية منذ مدة. ونحن كذلك، رأينا السعيد بوتفليقة يقترب مني قائلا : “عندك شعبية يا سي نورالدين” فأجبته نفس الجواب : “لا، هذا فقط لأنهم يعرفونني…” و من ذلك اليوم، لم يدعني الرئيس بوتفليقة للمشاركة في زيارة ميدانية معه عندما يبرمج لقاء مباشرا مع الجماهير.



شغب على رأس الدولة

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
يعلمنا المختصون في استراتيجيات الاتصال العصري أن من يملك المعلومة، يملك سلطة التأثير على الرأي العام وتوجيه أفكار الناس ومعتقداتهم. وهي المهمة التي أوكلت منذ الاستقلال للوكالة الوطنية للأنباء APS و للتلفزيون العموميENTV .
خلال السنتين الماضيتين، لاحظنا أن هذه المهمة الدقيقة قد تم تحويلها تدريجيا إلى قناة “النهار” التي يعرف الجميع أنها قناة أجنبية معتمدة بالجزائر حسب القانون العبثي الذي أرادته الدولة فيما يخص قنوات التلفزيون الخاصة، وبالتالي لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تأخذ مكان الإعلام الرسمي في البلاد لإعلام الرأي العام، وبأكثر حدة لا يمكنها أن تكون قناة رسمية للرئاسة.
لكن هذه هي المنزلة التي وصلت إليها قناة النهار، وإن لم يكن ذلك من باب القانون، فإنه من باب الواقع الذي نعيشه ونراه. وهكذا، أصبحت النهار هي من توجهآراء الناس وأفكارهم ومعتقداتهم إلا أنها لا تعمل على تنظيمها بل على تشتيتها في كل الاتجاهات حتى تاه الجزائريون وهاموا ولم يعودوا يعرفوا ماذا يفكرون وما يؤمنون وما يصدقون.
لقد أصبحت قناة النهار أم المنابع لأن كل ما تتحدث عنه منذ سنتين و كل ما “تتنبأ”به غالبا ما يحدث ويتأكد. قبل قناة النهار، كان عمار سعداني هو وكالة الأنباء الرسمية الذي يعلن عما سيحدث رسميا في البلاد، إن عاجلا أم آجلا، لكن نزع منه الاعتماد بغتة وأغلقت قناته فجأة وكأنه لم يكن يوما ما فوق سطح الأرض، وغبر عن الأنظار والذاكرة.
إذن، لماذا أخذت هذه القناة مكان وكالة الأنباء الرسمية والقناة العمومية؟ إنه أحد غرائب العهدة الرابعة. لماذا أوكلت رئاسة الجمهورية مهمة الإعلام الرسمي و”الأخبار المسربة” و الحديث عن “دنيا الطرائف” لهذه القناة؟ إن الأمر لا يعنينا ربما.
إذن بما أعلمنا هذا المنبع المرخص له في الآونة الأخيرة ؟ إنها تعلمنا أنه حدث شغب كبير على رأس دولتنا دون أن يمكن اللجوء إلى الشرطة المضادة للعنف والشغب لاستتباب النظام والهدوء لأن، حسب المعلومات التي أبلغتنا بها النهار والتي لا يمكننا التحقق منها، هي أن قائد أعمال الشغب هذه هو رئيس الدولة نفسه !
بالفعل، وإذا تأكدت المعلومات التي “سربتها” القناة، سيعيش الجزائريون حدثا لم يعيشونه أبدا منذ استقلالهم وهو أن رئيس الجمهورية يشتكي أمام الملأ من وزيره الأول ويحرض أعضاء الحكومة على مناهضة أوامر وزيرهم الأول والعمل على مخالفة التوجيهات التي تم إعطاؤهم إياها حسب مخطط اعتمده مجلس الوزراء والبرلمان.
إذن، وحسب قناة النهار، هذا ما قام به رئيس الجمهورية، بأن بعث رسالة للحكومة في غياب الوزير الأول (لا ندري هل هو في عطلة أم في “حرقة” في فرنسا؟) يطلب منهم أن يطبقوا “أوامر عاجلة لوضع حد للفوضى التي تسببت فيها آخر التعليمات المتعلقة بالاستيراد”.
لكن، في الواقع، كيف يمكن وضع حد لهذه الفوضى التي يكون قد تسبب فيها الوزير الأول بدون أن يكون هناك منسق بين مختلف الوزارات؟ هل تم تعيين وزير أول مؤقت، أم أن كل وزير يرتجل كل في دائرته؟
كان من الأصوب أن يستدعي رئيس الجمهورية الوزير الأول أو التحدث معه هاتفيا في انتظار أن ينهي مهامه إذا استوجب الأمر دون أن يتم تهويل الكون ومن فيه، بدل أن يتحدث عنه وكأنه مجرما سيتم القبض عليه قريبا. ودائما حسب النهار، فإن رئيس الجمهورية يكون قد أشعره “باحترام نصوص القانون” و “وقف التشهير ضد رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب”؟
وإذ نحن نعيش أحد أعجب الأحداث التي تخللت العهدة الرابعة، نشعر وكأننا قد اخترقنا “جدار الصوت”. من قبل، لم نكن نسمع “البانغ” المصمم للآذان عندما يخلف وزير أول جديد وزيرا أولا سابقا. كان كل شيء يتم في هدوء لا “حس ولا خبر” عما حدث قبل التغيير أو ما سيحدث بعد التغيير. السرعة كانت تخت الصوت أو فوق الصوت، فلا نسمع خريرا ولا أنينا… لكن هذه المرة، كان الحدث مثل “البيغ بانغ”، والتشتت والتسيب العام وربما عن قريب “الهربة تسلك”.
إن كل هذه الأفعال والأقوال، سواء جاءت من عند الرئيس أو أخيه أو من أويحي(حسب منبع آخر)، ليست أفعالا عاقلة ولا منسجمة ولا منطقية. وكما ترك الملاحظون أنفاسهم في قضية مسعود بن عقون، وغلطة “الكاستينغ” التي برزت سريعا، فإنهم أمام ما يحدث مع تبون ينبئهم، يدركون، مع دهشتهم، أن مشكلة خطيرة قد ظهرت للعيان وهي متعلقة مباشرة بممارسة سلطات رئيس الجمهورية.
إن تبون من بين أقدم أصدقاء رئيس الجمهورية، ليس لديه روح المغامرة وليس مشاكسا ويدري ما الغلطات التي يتفاداها حيث هو متواجد في دواليب السلطة منذ زمن طويل و لا يلعب بالوقت المتبقي لديه فيها. كما نذكر أنه تم تعيينه لوسام الاستحقاق الوطني.
وخلاصة القول أنع إذا كانت هذه الأحداث التي نسبت لرئيس الجمهورية قد أتت من عنده حقا، فهدا يعني أننا لم نعد أمام رجل منتقص جسديا فقط، بل نحن أمام رجل عاجز ذهنيا مما يستلزم تنحيته حتما لما في أفعاله وأقواله من خلط وفقدان البصيرة، وهو الأمر الذي قد يجعل البلاد أمام خطر داهم”.
وإذا كانت الأفعال والأقوال ليست منه، فإنها من أخيه، كما يقول لافونتين ((Jean de FontaineLa ، وهذا ما سيعقد الأمور أكثر لأن معناه أن الرئيس الحقيقي غائبا تماما وأن منصب الرئاسة شاغر وبأنه حدث استحواذ واغتصاب للسلطة.
إن المعلومات التي ترد إلي في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال تتحدث عن”إمكانية” أخر, عن “سيناريو” و “كاستينغ” آخر وهو أن أويحي هو من سارع إلى إنقاذ أصدقاءه “أرباب العمل”، وهو ما من شأنه أن يؤكد أكثر غياب الرئيس وفي نفس الوقت يفتح المجال أمام تساؤلا آخر حول تشابك غير متوقع بين مصالح أويحي ومصالح شقيق الرئيس، بينما المنطق يقول أنهما يتنافران ويلغي أحدهما الآخر، بدل تكاملهما.
ولكن، إذا كان رئيس الجمهورية يتمتع بكل قواه العقلية والذهنية، لماذا ترك أخاه يتخذ لنفسه ثوب الرئيس ومظاهره في “العالية” و لماذا ترك رئيس ديوانه يتهجم على تبون باسمه؟ و مهما كانت الزاوية التي نقلب فيها الموضوع، فإننا نسقط في هاوية العبث، العبث الذي تولد من رحم العهدة الرابعة، فما هي درجة العبث التي تنتظرنا في حالة عهدة خامسة؟

قضية تبون: حصلة… لن نخرج منها

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
عندما صرح تبون أنه “ما زال وفيا كل الوفاء للرئيس” رأى الكثير في ذلك نوعا من الجبن والانبطاح ولكن ربما كان ذلك نوعا من الشجاعة لكي يقول في لغة الإشارات أنه يعلم أن الرئيس ليس من نحاه من منصبه بل السعيد بوتفليقة وعلي حداد. وربما أيضا كان ذلك طريقته الخاصة لحمد الله وشكر لمن عتقوه فتنحى من منصبه وكفى ولم يتنحى على طريقة بوضياف… من يعلم؟ نحن نحاول أن نقرأ ما هو موضوع أمام أعيننا…
نزل الستار على الأزمة التي انفجرت على رأس هرم الدولة وانتهت بشكل غير مسبوق في تاريخ الجزائر المستقلة وهي النهاية التي فتحت هوة سوداء تحت أقدامها، وزجت بها كباخرة بدون قبطان في “الثلث الخالي” في جزر برمودا الذي لم يرجع أبدا منه أحد.
هكذا إذن، تم القبض على الرجل الذي جعلت منه المخيلة الوطنية ذلك الفارس البوليفاري، زوروZorro، الذي “يخرج” فجأة من حيث لا ندري، من إحدى “شوكات” الديكور الجزائري، لابسا السومبريروsombreroوممتطيا جواده الأسود، لكي يدافع عن الفقراء ضد الأغنياء، لقد تقبض عليه علي حداد وهو يجري على حصانه مثل ما نشاهد في أفلام الويسترن ورماه أرضا، وأشبعه ترابا وغبارا !
لا وألف لا! لقد قرر “فوق” أنه لا تفاهم ولا مصالحة مع من ذكر اسمه ليتبوأ منصب الرئيس في 2019. و أنه لا يجوز التفكير في تفريق الشمل بين السياسة والمال، وتجفيف منابعه عبر عملية الاستيراد- استيراد import-import !لكن، من حقيقة، “الفوق”، أخذ هذا القرار وحسم الأمر؟ لو كان لدينا شك، فقد رفع في مقبرة “العالية”.
وليسمح لي القراء أن أخرج قليلا عن الموضوع لكي أتحدث عن ظلم يطولني منذ زمن : عندما تذكر كلمة “الغاشي”، لا ينسى أحدهم إشراك اسمي لها مع أنني لست من اخترعها، لكن، عندما يتحدثون عن “الاستيراد-استيراد” (import-import) لا أحد يذكر اسمي مع أنني صاحبها وأول من استعملها. وإذا أرادت السلطات المعنية بحقوق المؤلف أن تتحرى الأمر، أعلمها أن ذلك كان بمناسبة ما سمي “بقضية بتشين” في جوان 1998. وأعلمها أيضا أنها ليست هي العبارة الوحيدة التي تصرف فيها العديد من النشالين في السياسة وفي الصحافة بل كثير هي العبارات والتحاليل التي يستعملونها وينسبونها لأنفسهم. أدري أن “قوت العيش” صعب، لكن لا يمنع ذلك شيئا من الصراحة والنزاهة في التعامل مع الغير…
سارعت الجماهير المؤمنة بالخرافات في تنصيب تبون رئيسا للجمهورية سنة 2019 وفتحت صفحات الفيسبوك حاملة صوره وتجمع في إمضاءات لصالحه بينما لم يطلب الرجل المسكين بكل هذا، وهو الذي ابيض شعره وهو يكدح داخل “النظام”، وشد على رأسه بيديه، محاولا استعمال كامل طاقاته الفكرية لفهم ما يجري له و من أين أتى سوء التفاهم هذا، ولما يهتف الشعب باسمه ويصر على مساندته (وهو ليس لديه قضية تحتاج المساندة) وبالتالي وضع رأسه فداء غضب الرئيس، أو أناه الآخر، والذي لا يقبل أن يسمع باسم رجل آخر على رأس الجزائر غير اسمه…
وبدورها دخلت الأحزاب السياسية في “المعترك” وقد انتابتها حرارة المشاعر الملتهبة ورأت فيما يحدث إرهاصات ثورة أكتوبر 1988 أو حتى ثورة السيركونسيليون (Circoncellions) ضد الاستعمار الروماني، فأرسلوا بكل جرأة ببعض البيانات إلى الصحافة ، وهم بذلك ذهبوا أكثر من تهديدات كيم جونغ الثاني، رئيس جمهورية كوريا الشمالية الذي يهدد بقصف جزيرة غوام l’île de Guam الأمريكية بصواريخه النووية. لكنهم لم يصيبوا هدفهم، فسقطت بياناتهم على رأس تبون وقطعتها على الفور.
لكن اليوم، يعلم الجميع ماذا حدث : تبون لم يمس حداد ولم يتحدث عنه، يا “دوب” وقال “كليمة”عنه وعن ملاييره. لكن، حداد قرر معاقبته وأن يبيته في “ظليمة”، فكلم السعيد بوتفليقة، الذي ثارت ثائرته مما سمع، وراح يكلم عبد العزيز بوتفليقة الذي غضب مما سمعه من أخيه المستشاره وأناه الآخر، وبدوره كلم الرئيس أويحي الذي كلم “النهار” وها هو، بقدرة القادر العزيز وزيرا أولا من جديد.و أنا بدوري أحدثكم لأن كل هذه “الخزعبلات” “قاستني”.
اليوم، يرى الجميع بوضوح سلم الأوامر : حداد “حاكم” السعيد لأنه في السياسة لا مكان للصداقة، بل فقط للمصالح، والسعيد “حاكم” أخاه لأنه الوحيد الذي يقابله وهو من يوصل له أخبار العالم ويبلع العالم أخبار الرئيس، وأويحي، الحاضر المستعد أبدا دائما للقيام بما يطلب منه القيام به بصفته “رجل الدولة” الكامل… وهي “رايحة”…. إلى 2019 حيث تنتظرنا العهدة الخامسة، لنغرق أكثر مما نحن غارقين الآن.
اليوم، أتي الوقت لنفهم معنى التعديلات الدستورية التي قام بها بوتفليقة الواحدة تلو الأخرى وعواقبها على الأرض : أن يكون الوحيد الذي يحكم ويقرر، حتى عندما يغيب ولا يظهر وحتى وهو مريض وفي حالة وفاة إكلينيكية، وذلك بعد أن أفرغ كل المؤسسات من محتواها ومعناها، يضع من يحب وينحي من يريد وكما يريد، وكي يستعمل كيفما شاء موارد البلاد و المال العام وتحضير خلافته كما يشاء أيضا ويترك الجزائر لمن اختار هو. لا يمكن لأي وزير أول، تبون أو غيره، أن يلجأ للدستور للدفاع عن صلاحياته النحيلة وكل المواطنين والأحزاب السياسية التي طلبت منه “المقاومة” لا تعرف شيئا عن العمل الحكومي ولا الدستور.
إن البلاد اليوم واقعة في مخالب الفساد وقوى المال، وخادميهم الذين يسخرون حياتهم لكنس ما يتركوه لهم وراءهم هؤلاء لكي لا يرى المواطنين ما تركوه من قذرات. وسيكون الأمر أشد مما نعيش في الوقت القريب. لم يكن أبدا في الجزائر “شعبا سيدا” و”دولة قانون” و”مؤسسات ديمقؤاطية” و”برلمان يمثل إرادة الشعب” و “انتخابات” و”معارضة”، في الجزائر لدينا نظام مسخر لحماية شخص الرئيس، ومواليه ورغباته. لسنا في نظام دستوري، لكن في فوضى صارت مؤسسة بحد ذاتها.
اليوم لا نعرف تبعات مرض الرئيس بالضبط ولا إلى أي درجة هو مريض، لكن الجزائر أصبحت مريضة من جراءه، من مرضه الجسدي ومرض السلطة فيه. إن هذا الرجل أصبح يعرقل تكوين دولة القانون والدفع بسياسة صحيحة نبني بها جزائر قوية. وما عشناه هذه الأيام ما هو سوى دليل آخر على كون الجزائر محكومة بأهواء من يحكمنا بعد أن دفع بالوزراء إلى التمرد على وزيرهم الأول وترك الاقتصاد فريسة رجال إعمال مزيفين ومغشوشين… هو أو أخوه، لا يهم. ما نعرفه أن الاستيراد – استيراد import-import سيعود بقوة رغم الأزمة، فقط لكي يجد الشعب ما يأكل ولا يثور، هذا كل ما يهم في الأمر، وإذا استلزم الأمر، أي عندما ستفرغ الخزينة العمومية من صرفها الاحتياطي، سيتوجهون إلى المديونية الخارجية…
أما نحن الجزائريين، فقد برهننا مرة أخرى مدى بدائية ميولنا لغرائزنا ومشاعرنا وانفعالنا. تحكم فينا مشاعرنا مثلما تتحكم حركة القمر في المد والجزر. لا نقي أنفسنا من الشر الذي نراه آتي بل ننتظر أن تحدث الكارثة وبعدها “نتهول” للخلاص منه. لا نمنح أنفسنا وقت التفكير، بل “نترتقوا” وتصيبنا الحمى، ونشتعل كالكبريت قبل أن ننطفأ “كالنوالات”.
نحن قوم قد نقتل من أجل لا شيء وبعدها نبكي ندما أو ننسى ما حدث. نتقبل كل الخدوش التي جرحت حياتنا الوطنية وابتلعناها وامتصصناها كالإسفنج، وبعد أن يتم عصرنا جيدا، نتقبل ضربات أخرى، ونحن مسجونين في هذا النظام العقلي منذ آلاف السنين مثل الهندوس الذين يؤمنون بالتقمص الدوري منذ ظهور الفيدا Védas لديهم.
وكأننا خلقنا على منوال الظواهر الطبيعبة التي تنفجر أحيانا من دون سابق إنذار، وتتحول في بعض الأحيان إلى كوارث. ومن جهة أخرى، نخمد كلية ونسمي أنفسنا “حشيشة طالبة معيشة” كما كتبته في “عبقرية الشعوب” سنة 1979.
لا نأخذ الدروس مما حدث لنا من قبل، لا نحاول أن نرى أو نحتسب لما سيأتي به المستقبل، لا نعتزم على أمور مصيرية ونطبقها، لا نحضر عملا جماعيا على المدى الطويل، لكننا نحب أن نتخبط في كأس ماء، أن ننفجر مثل عاصفة صيفية، قوية لكن قصيرة، ونقوم بأعمال الشغب هنا وهناك.. نرفع دائما أصواتنا في “دواس” بين الجيران أو بين الأحزاب السياسيىة، وحتى في بعض الأحيان نرقع صوتنا، علنا نخيف السلطة، لكن كل هذا ينتهي ب “جابها الشيطان”، وعناق وينسى الجميع أسباب العراك وندفن القضايا تحت حجاب ديني نسميه “الرحمة” و”المصالحة الوطنية”.
بدأت أحداث أكتوبر يوم 05 وانتهت يوم 08 بخطاب الشاذلي بن جديد وهو يبكي. لنتصور أن بوتفليقة، أو أخيه أو حداد أو أويحي يأتي إلى التلفزيون ويقول بعض الكلمات قبل أن يجهش بالبكاء… سنخرج كلنا ونبكي ونترك لهم ملكية البلاد أمام الموثق ونمنحهم القميص الذي نرتديه…. هكذا كان يفعل جحا من قبل ليعيش غشا على حساب المجتمع وهكذا سيفعل كل “الجحات” الذين يحكموننا اليوم في الوقت المناسب لهم…
هل أحببتم تبون؟ ستعشقون أويحي! طردتم بورجو (Borgeaud)؟ ها كم حداد! كنتم في “القابلية للاستعمار »؟ ها أنتم غارقون في “روح الرعاع”! وطبعا، من الآن أراكم تنعتونني بأقبح الأسماء، أقلها أنني أعيد الجريمة نفسها وبأنني أريد إسقاط بوتفليقة بعد أن فعلتها مع بتشين سنة 1998، وبأنني أنا المجرم وهو الضحية إلى الأبد مع أنه أنا من قبض علي من طرف البوليس بأمر من بتشين وأنا هو “النظام” وليس حداد وليس بوتفليقة. هم وأنتم الذين ستنعتوني بأشنع الأوصاف، أنتم الملائكة.
بل هو وحداد وأنتم الذين ستنعتوني بأشنع الأسماء، أنتم وهم ملائكة…. وأنا أقوله لكم : ما أوصلنا إلى المشي على رؤوسنا هي رؤوسنا، وما جعلنا معوجين هو نحن، ولذا كل ما نحن فيه”نستاهلوه”.

وماذا عنّا نحن ؟

بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان
في فيفري 1979 كان لي الحظ أن أمتطي أول طائرة مُقْلِعة من باريس باتجاه طهران بعد هبوط تلك التي أقلت آية الله الخميني من فرنسا يوما من قبل. كنتُ أريد أن أزور إيران لكي يتاح لي أن أعيش الثورة الإيرانية من الدّاخل وأسجل شهادتي على ما رأيتُهُ وعشته. وذلك ما قمتُ به عندما نشرتُ تحقيقا طويلاً تحت عنوان ( رحلة داخل الثورة الإيرانية) في جريدة المجاهد، بداية جوان 1979.
لم تكن القنوات الفضائية قد ظهرتْ آنذاك، فكان لا بدّ من التنقّل والتعرّض للأخطار من أجل الاطلاع على مجريات تلك الثورة. أمّا اليوم فقد أصبح بالإمكان متابعة الأحداث من البيت أو من أي مقهى عمومي، وبتفاصيل أكثر من المعاينة الميدانية الشخصية.
وفي هذا الشأن أتيح لنا منذ أيام أن نعيش لحظات نادرة في حياة الإنسانية: إنها مجريات عدة ثورات في آنٍ واحد. لقد ملأتْنا تلك الصور دهشةً وسعادةً، ومنها ما كان مُرعباً لأن المُشاهد عندما يراها يتساءل: وماذا لو حدث ذلك عندنا؟ إنني أقصد خاصة تلك الصور التي كانت تأتينا من ليبيا وتُقدّم على المباشر. بلدا ينفجر من الداخل ودولة تضمحل وجيشا يتفكك ومواطنين يتعرضون لقصف طائرات بلدهم، وقوات أجنبية تُحطم كلّ البنى التحتية بالطيران أو بالسلاح البحري، وكل ذلك كان يجري بسبب رجل واحد. من كان يعتقد أن الليبيين سيصلون إلى هذه الحالة؟ ولو حدث ذلك عندنا يوما، لا قدّر الله، فسيكون هناك من يقول كما قلنا: مَنْ كان يظن، أو من كان يعتقد…؟
وكانت كلٌّ مِنْ أفغانستان والصومال واليمن قد عرفت نفس المصير، لكن لأسبابٍ أخرى. وعلى نقيض ذلك يمكن لنا أن نلاحظ أنّ بلجيكا مثلاً تعيش بدون حكومة منذ سنة، وأنّ المجتمع منقسمٌ إلى شطرين، لكن البلد ما زال يسير وكأنّ شيئاً لم يحدُثْ. إذا كانت بلجيكا تبدو وكأنها تسير بواسطة التحكّم الآلي، فالعلّة في ذلك أنّ المُواطن البلجيكي والفلاماني(Flamand) والفالوني (Wallon) قد قاموا بثورتهم الديمقراطية منذ قرنين من الزمان. وكلُّ ما في الأمر أنّ إحدى هذه الجماعات تصبو إلى الانفصال. لم تُطلقْ رصاصة واحدة، ولم تُسجّلْ أيّة خسارة بشرية أو مادّيّة لها علاقة بالعنف.
وماذا عن بلدنا في خضمّ الثورات العربيّة؟ يقول عبد الرحمن الكواكبي الذي تنطبق أفكاره على الإشكالية المطروحة اليوم في البلدان العربية، والتي تعود أصولها إلى سنة 1866، يقول في كتاب (” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد “):  إنّ الأمّة التي لا تشعر كلّها أو في أغلبيتها بآلام الاستبداد هي أمّة لا تستحقّ الحريّة… وقبل محاربة الاستبداد لا بدّ من إعداد النظام الذي يخلُفُه… فالاستبداد الغربي لو كُتِب له أن يختفي فإنه سيُعوّضُ بحكومة تقوم بتأسيس المؤسسات التي تتيحها الظروف، أمّا الاستبداد في مشرقنا لو امّحى فإنه سيُعوّضُ باستبدادٍ أكثر قساوةً. إنّ الأمر سيكون كذلك لأنَّ المشارقة لم يتعوّدوا أبداً على الانشغال بالمستقبل القريب، لأنّ أكبر همّهم مُتعلِّق بما سيحدثُ في العالم الآخر “.
أحْرى بنا، قبل التساؤل عمّا إذا كانت موجة الثورات العربية ستمتدّ إلى بلدنا، أنْ نتواضع وأنْ نطرح التساؤلات التي يقترحها النصّ الذي أوردناه، أي: هل هناك وضعية استبداد في الجزائر؟ وهل نحن مُتّفقون على إدانة هذا الاستبداد حتى ” نستحقّ الحُرِّيّة “؟ وهل أعددنا الطريق للنظام الذي سيخلُفُه؟ ألمْ نكدْ نستبدلْ الاستبداد باستبداد آخر أكثر قساوة سنة 1991؟ وفي كلمة واحدة، أو في مائة كلمة، هل نحن ناضجون بما يكفي للقيام بثورة ديمقراطية؟
بإمكاني أنْ أصوغ في الحين جوابا سريعا عن السؤال الأخير الذي لا يُمثلُ إلاّ شخصي: نعمْ، بالنسبة للثورة، وفي أية لحظة، لكن بالنسبة للديمقراطية فالأمر ليس مؤكّداً. صحيح أنه من الخطإ الاعتقاد بأنه بمجرّد أن تشتعل النار في منزل واحد تشتعل في المنازل الأخرى، لكنها إنْ كانت مصنوعة من نفس المواد فإنّ الاشتعال أمر حتميّ. والحال أنّ منزلنا مصنوع من قشٍّ. يجب أن نسارع ببناء منزل جديد ما دامت الإمكانيات متوفرة، وإنْ لم نفعل فإنّ النيران ستلتهمه.
إنّ المسؤولين الرسميين قد أكّدوا أنّ بلدنا لنْ يُصاب بأذى لأسبابٍ يمكن تلخيصها فيما يأتي: إنّ الجزائر قد قامت بثورتها الديمقراطية سنة 1988، وإنّ الدولة تملك إمكانيات مالية كافية لامتصاص الضغوط الاجتماعية، وإنّ قوات الأمن عندنا قد تمّ تدعيمها وتقويتها، وإنّ السلطة تحظى بقاعدة اجتماعية واسعة.
وكلّ هذه الحُجج واهية. فلو كُنّا قد قمنا فعلاً بثورتنا الديمقراطية سنة 1988، فأين هي نتائجها، وما السبب في بقاء السخط على السلطة؟ وهل تغيّر النظام؟ وهل جرى التداول على السلطة؟ أولمْ يتم تزوير الانتخابات بانتظام؟ ألم يتمّ تعديل الدستور تعديلا غير معقول؟ أمّا بالنسبة للحجّة الثانية، يكفي التذكير بأن ليبيا التي لا يتعدى عدد سكانها سدس عدد سكاننا ومداخيلها من العملة الصعبة هي ضعف مداخيلنا، ومع ذلك لم تبق في منأى عن الاشتعال. أما الحجة الثالثة فهي واهية لأنّ مصر كانت عندها قوات القمع تقدر بمليوني فرد، أي ضعف قواتنا، ومع ذلك لم تتمكن من تحرير ” ميدان التحرير ” ومِن إنقاذ حسني مبارك. فمهما كان عدد قوات الأمن ومهما كانت كفاءتها وسلاحها فإنها تبقى عاجزة عن إخماد الإرادة الشعبية عندما تتحرك بالفعل. لا يمكن القضاء على ملايين الناس والعالم بأسره يتفرّج، والمتابعات القضائية الدولية تُراقب القائمين بالمجازر. أما الحجة الرابعة فيجب التذكير بأن ملايين المناضلين الإداريين التابعين لحزب ابن علي وحزب حسني مبارك كان بإمكانهم أن يَغْشَوْا شوارع تونس والقاهرة وأن يغمروا المتظاهرين، هذا لو كان هؤلاء المناضلون موجودين حقيقةً. والحال أنّ كلّ ما شاهدناه هو عبارة عن شطحات بلطاجية سرعان ما اندحرت أمام الحشد الشعبي.
ومع ذلك فهناك أسبابا أخرى تدفعنا إلى التشكيك في إمكانية امتداد موجة الثورة إلى بلدنا. لقد حدثت عملية انتحار بالاحتراق في سيدي بوزيد، ومنذ ذلك الحين اشتعلت النار في عشرة بلدان. وبالمقابل جرت نفس الحادثة عندنا عشرين مرّة دون أن يحدث أي شيء حتى في نفس الشارع الذي جرت فيه الحادثة. ولهذا يمكن لي أن أجازف بالقول إنه لن تحدث أية ثورة عندنا على المدى القريب. وأكثر من ذلك يمكن أن نذهب إلى أنها ليست ذات فائدة لأنّ الشعوب لا تلجأ إليها إلاّ إذا دفعهم إليها الحكام بسوء التسيير وبتجاوزاتهم وانغلاقهم على أنفسهم. فالثورة ليست هدفا في حدّ ذاته، وهي لا تكتسب شرعيتها إلاّ بالأهداف الإيجابية التي تُحقّقها. ومعنى ذلك أنه إذا كانت هناك إمكانية لتحقيق الأهداف بالطرق السلمية، فهذا أحسن لأنّ ذلك يؤدي إلى إعفاء البلد من الخسائر المادّيّة والبشرية. وهذا بالذات ما يحاول أن يقوم به جيراننا في المغرب.
ومع ذلك يجب التريث وعدم التسرع في التفاؤل. ذلك أنه لو بقيت الأشياء على حالها، فبدلا من الثورة يمكن أن تستفحل ظاهرة الإضرابات والمناوشات والصدامات والانتفاضات المحلّيّة، والتشنّجات الجهوية، والصراعات القبلية، والمواجهات بين الأحياء والأماكن التي يغيب فيها القانون، والتي ألفناها في بلدنا، كلّ ذلك يمكن أن يتفاقم حتى تتلاشى الدولة. وعند ذلك ستكفي أتفه الأسباب لتتحول الصراعات المحلية إلى لهيب شامل.
إنّ المظاهرات وأعمال الشغب تمثّل المرحلة البدائية في عمر السياسة. ومن الأقوال الشائعة بين هؤلاء المتظاهرين: “إننا نريد أن نُلقّن درسا للسلطة” و “أن نُبيّن له أنّ…”، هذا دون الرغبة في ذهاب تلك السلطة بالضرورة، ليس حُباًّ فيها، ولكن بسبب شيوع فكرة هدامة في العقليات، إذ يُقال: ” إنّ الذي سيأتي لن يكون أحسن من الذي يذهب. فلماذا التغيير إذاً؟”. إن الثورة هي العنف، هذا صحيح، لكنها تأتي لخدمة فكرة: فكرة حول ما نريد أن نؤسسه بدلاً من الذي نريد أن نهدمه. إنّ الثورة هي فكرة مستقبلية في حياة الأمّة والدولة والمجتمع، وهي فكرة تؤمن بها أغلبية من المواطنين. والحال أنه إذا كان هناك إجماع على رفض النظام لمختلف الاعتبارات، فإنّ الإجماع على البديل لم يحدث مطلقاً. لا زلنا في مرحلة ” الأشياء ” أو “لقمة العيش ” وفي مرحلة الأشخاص (المهدي المنتظر، الزعيم، الشيخ…). لا زلنا لم نرقَ إلى مرحلة الأفكار: مرحلة الإجماع على مشروع مجتمع سائر في اتّجاه الديناميكية التاريخية، مشروع يضمن لقمة العيش للجميع ودون حاجة إلى استبداد شخص أو جماعة أو حزب.
إنّ انتفاضة أكتوبر 1988 لم تحمل بين طياتها إلاّ رفضا عنيفا للسلطة. لم نُشاهد، قبل أن تبادر جبهة الإنقاذ(FIS) بالاستيلاء على الانتفاضة، أية لافتة ولا لوحة ولا شعار. دامت هذه الانتفاضة ثلاثة أيام أعقبها خطاب باكي من الرئيس الشاذلي بن جديد، وكان الخطاب وحده كافيا لإقناع المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم وأغلبهم تسيل أعينهم بالدموع هم كذلك. أما انتفاضة جانفي 2011 فلم تدم أكثر من ذلك ولم تحمل هي كذلك أية رسالة سياسية. فقد اتفق الجميع على الاكتفاء بخفض أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، وهذا ما تحقق بسرعة.
كانت صور الجماهير الحاملة للاّفتات والشعارات وأقوال المتظاهرين في تونس ومصر تُبثّ تباعاً على قناتي الجزيرة والعربية وقنوات أخرى. لنتأمّلّ تلك الصور ولنتساءل عما إذا كانت تشبه أحداث أكتوبر 1988 أو جانفي 2011؟ لنقارن بين تشكيلة الجماهير، ولنستمع إلى تصريحات الشباب والصغار والنساء والمثقفين ورجال الشارع… أهي شبيهة بتصريحات شبابنا؟ هل سمعنا التونسيين والمصريين يهتفون “الشعب يريد الفيزا “؟ ولنتفحّص الشعارات التي ترددت في مظاهراتنا كثيرا: ” سلطة مجرمة” pouvoir assassin!)) “أولاش سماح أولاش”، ” وان تو ثري فيفا لالجيري “.. أين هي الرؤية السياسية للمستقبل في كلّ هذا؟ أين هي الأفكار؟
لقد شهدت بلادنا العنف على المدى الواسع مرتين على الأقلّ لأن التظاهرات المتقطعة كانت يومية تقريبا، لكننا لم نشاهد الأفكار تبنّتْها أغلبية إلاّ مرّة واحدة: إنها الأفكار التي رفعتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1990 والتي مفادها أنّ: الديمقراطية كفر، لا للميثاق ولا للدستور، لكن القرآن وحده يكفي، الدعوة إلى تغيير العادات والتقاليد المتعلقة بالملبس والمأكل عند الجزائريين، رفض الاختلاط في المدارس، تحبيذ المحاكم الشعبية للجنرالات، وإلغاء الضرائب…
كُنّا قرأنا قول الكواكبي منذ حين: ” إنّ المشارقة لم يتعوّدوا أبداً على الانشغال بالمستقبل القريب، لأنّ أكبر همّهم مُتعلِّق بما سيحدثُ في الآخرة. فما كانت جبهة الإنقاذ تَعِدُ به من ينتخب لصالحها هو بالضبط” الفوز بالجنّة “. وقد اتّضح أنّ جزءا كبيرا من الوعاء الانتخابي قد انجذب إلى هذا الإغراء، فأبواب جهنم ستُفتح لجميع الناس إنْ لم ينتخبوا. لكن، في النهاية، منِ الأولى بالتوبيخ: أهي جبهة الإنقاذ أم الناخبون، أي الشعب؟ إنّ ظهور معتوه أو معتوهين ليَعِدَ الناس بأي شيء أمرٌ ممكن. فأيّهما أكثر عَتَهاً ، أهُمُ الواعدون أم التابعون؟
وهناك مثال: لقد ظهر في تونس حزب مكافىء لجبهة الإنقاذ، وهو  ” الجبهة الإسلامية للتحرير “. وقد أعلن قادته أنهم أعدّوا أرضية من أجل الجمعية التأسيسيّة القادمة. وماذا كانوا يُحبِّذون في تلك الوثيقة؟ إعادة تأسيس الخلافة ومنع الديمقراطية والتعددية الحزبية إذا وصل حزبهم إلى السلطة. هكذا، بكل بساطة، وبابتسامة عريضة. وبعدُ، أين يكمن المشكل، وأهمّ من ذلك مَنْ بيده الحلّ؟ أهو في أيدي هؤلاء المعتوهين الذين لم يمنعهم عتههم من الإعلان عن برنامجهم على الأقل؟ أم هو بين أيدي الناخبين يوم الاقتراع؟
قد ينتابنا الخوف على التونسيين فنعمد إلى تقديم نصيحة لهم بألاّ يغامروا بقبول هذا الحزب، مثلما نَصَحَنَا ابن علي ومبارك والقذافي. لكن ذلك سيكون إخلالا بالاحترام تُجاههم لأنّ الأمر يعني ضمنياًّ أنّ نصف التونسيين مرشح للجنون. إذا كان الناخبون الذين سيُدلُون بأصواتهم بعد أشهر هم هؤلاء التونسيون والتونسيات الذين رأيناهم في التلفزة أيام ثورتهم، فلا خوف عليهم. فالشعب التونسي قد ارتقى إلى درجة مجتمع منذ زمن بعيد، ولم يبق له إلاّ أنْ يبدأ بتنظيف الإصطبلات لأنّ العسكريين والنخبة لم يقوموا بذلك.
إنّ المشكلة التي كانت مطروحة على الجزائريين في أكتوبر 1988 هي نفسها التي تُطرَح اليوم وبنفس الصيغة، والمشكلة هي: كيف يمكن إرساء قواعد الديمقراطية بدون رأي عام مؤمن بأفكارها؟ كانت أفكار الديمقراطية آنذاك تمثل أقلية، وهي عاجزة عن القيادة لأنّ تلك الأغلبية الصامتة التي كان يؤمّل أن تكون مع الديمقراطية قد امتنعتْ عن التصويت في أغلب الحالات. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ تلك الأفكار الديمقراطية كانت تتعارض فيما بينها أكثر مما تُعارض النظام الذي تدّعي محاربته. فالمعارضة الجزائرية لم يحدُثْ أبدا أنّ اتفقت على رأي واحد بخصوص البديل الذي يجب إعداده ليخلف النظام الحالي، بمعنى أنه لم يكن هناك أي إجماع على برنامج التداول على السلطة بصيغة قابلة للتطبيق. وكأنّ الغاية من العمل السياسي هي أشبه شيء بالتحقيق القضائي في قضية السلطة، ثمّ نشر بيانات، أو التوقيع على لوائح مطالب جماعية، أو في أحسن الأحوال الإدلاء بتصريح أمام ميكروفون قناة أجنبية. وبعد كل هذا يعود الناس إلى بيوتهم يرافقهم الإحساس بأنهم قاموا بالواجب على أحسن وجه والاقتناع بأن الثورة سائرة في طريقها.
وفي كل مرة تظهر محاولة للتّجمّع يتمّ إغراقها ونسفها في الحين. كل حزب يُشكك في الأحزاب الأخرى، وكلّ زعيم يحذر من الآخرين، وجميع الناس مهووسون بفكرة المخابرات. وللتذكير فإنّ الأحزاب في مصر وتونس قد تبنّتْ لغةً واحدةً أثناء أحداث الثورة، وأخذت مكانها وراء الشباب، ولم يتجرّأْ زعيم واحد على البروز ليوجّه الأحداث وجهة تناسبه. لكن أولئك الشباب كانوا يعرفون إلى أين بتّجهون، وقد كانوا في الاتجاه الصحيح بالفعل.
ينبغي أنْ نعترف بأنّ شعبنا لا تهمّه في الوقت الراهن إلاّ يومياته الصعبة: إنه لا يريد أية حكايات، فلا فائدة عنده من ” هذه الديمقراطية التي تمخضت عن مئات الآلاف من الضحايا”. يُريدُ أنْ يعيش ولو عيشة نباتية. وليس وراء هذا الموقف نقص في الشجاعة، فهو شجاع إلى درجة غياب الوعي، وليس وراءه خوف من الموت، فهو يراه ويواجهه يومياًّ. إنه ببساطة لمْ يَعُدْ يؤمن بأي شيء وبأيّ شخص. لو اتصلنا بالجزائريين فرادى لوجدناهم يتمنون التغيير جميعا، لكن شرط أن يأتي هذا التغيير من الغير وأنْ يتحملوا بالتالي تبعاته، وهم في هذا يُعبّرون عن وفائهم لتعاليم جحا التي يعرفها الجميع عن ظهر قلب. وإذا كان الجزائريون يتمتعون بالاستعداد للتضحية، فإنّ الذي كان ينقصهم دوماً هو الحسّ الاجتماعي والجماعيّ.
لقد تكلّمتُ، بزمن طويل قبل مجيء التعددية الحزبية، عن العصبيات، وهي “تجمّعات إيديولوجية حول الدفاع عن رموز ثورة التحرير والإسلام والبعد البربري”، تلك العصبيات التي تنخر عظام مجتمعنا. وهي لا تزال قائمة إلى يومنا، لم يتغيّر منها شيء، متّخذة شكل أحزابٍ سياسية. وكنتُ خصّصتُ سنة 1997 كتابا تحت عنوان  ” الجزائر بين السيء والأسوإ ” لتحليل هذه الإشكالية. ونحن لا نزال نتراوح في نفس الإشكالية.
أما في تونس فلم تظهر عصبيات ضد الدّفع العام لتحاول إجهاضه. ولو ظهرت العصبية لتدخّل الجيش لفرض حلٍّ ما، مهما بلغ هذا الحل من البُعد عن الواقعية. كان يمكن أن تُستغلّ العشرون سنة الماضية في إرساء قواعد حياة سياسية عقلانية وإعداد البديل، لكن النظام عمد إلى منعه، بينما كانت الأحزاب مُصِرّة على عصبياتها كي لا يضيع منها رأسمالها.
وبهدف التصدّي لعاصفة الأزمة الاقتصادية بدأت السلطة الجزائرية تتراجع عن التدابير المتّخذة في السنوات الأخيرة والتي كانت تهدف إلى الحدّ من رقعة الاقتصاد الموازي، وراحت تُزيلُ معظم العراقيل البيروقراطية التي كانت تقف في وجه الشباب الراغبين في القيام بمشاريع استثمارية. فهي ترى أنّ الرضوخ أحسن من الانكسار، وأنّ الاستجابة للمطالب الاجتماعية الاقتصادية أحسن من مواجهة الثورة. وهكذا صرنا نلاحظ أنّ مخالفة قانون المرور لم يعد يُعرّض صاحبه لأية عقوبة، وأنّ رجال الشرطة والدرك تلقّوا تعليمات بتفادي استفزاز المواطنين، وأنّ مصالح الجباية تلقت أوامر بالتخفيف من الأعباء الجبائية، وأنّ شركات الكهرباء والغاز والماء أصبحت مدعوة إلى تفادي قطع التموين بالماء والغاز والكهرباء عن المواطنين الذين لا يدفعون مستحقاتهم… وكلّ هذا قريب مما كان القذافي يقترحه على الليبيين في بداية الثورة: ” خذوا أموال البترول واقتسموها بينكم “! . وهكذا اقتُطِعَتْ مائة مليار دولار من المخزون وقُسّمتْ على 35 مليون جزائري، وحاصل العملية 2857 دولار لكل فرد، أي حوالى 280.000 دج في السوق الموازية. وهذا كله تجسيد لمقولة شعبية مأثورة: ” من لحيته بخّر له “. وقد وجدتِ السلطة عدة أحزاب وأقلام تدعم هذه ” السياسة الاقتصادية الجديدة “.
إنّ مثل هذه السياسة غير مسؤولة، وهي سياسة ديماغوجية وشعبوية لأنها لا تندرج ضمن الحرص على بناء اقتصاد مرشح للدوام، ولا هي نوع من التعاطف المفاجىء مع الشعب، بل هي هروب إلى الأمام. إنها ليست سياسة، بل عبارة عن “بوليتيك” أو لعبة الأغبياء، وهي كرّ وفرّ بين شعب مستعدّ لمهادنة السلطة إذا تركته لشأنه، يفعل ما يشاء كما يشاء، وبين سلطة مستعدة لتقديم كل التنازلات شرط ألاّ تتعرّض لخطر الانقلاب.
إنّ القاعدة الذهبية هي أنّ السلطة إذا فقدت شرعيتها يجب أنْ تُراجع نفسها أو أن تنصرف، وأنّ الشعب عليه أنْ يحترم قوانين وتشريعات بلده، ومن بينها الالتزام بالتشريعات الخاصة بالعمليات التجارية والمالية، ودفع المستحقات الجبائية، واحترام المحيط العمراني وقواعد التعمير. إنّ واجب الدولة أنْ تُكوِّنَ مواطنين واعين، مُتشبّثين بحقوقهم وواجباتهم، وواجب الشعب أنْ يوجِدَ لنفسه مؤسسات شرعية سيكون عليه أن يحترم قوانينها ويقبل بأعمالها. والحال أنه يكفي أنْ نتأمّل في حياتنا الوطنية لكي نُدْرِك أنّ هذين الشرطيْن غير متوفّريْن. وإذا كانت السلطة تسمح باختراق القوانين أو التهرّب منها كي لا يثور الشعب، وإذا كان الشعب يقبل بسلطة غير شرعية لأنها لا تحاسبه على أفعاله، فإنّ في ذلك إيذاناً بنهايةٍ مبرمَجةٍ لكلٍّ من السلطة والشعب. وتلك هي أحسن وسيلة لقتل الاقتصاد والقيم الأخلاقية، والوطن والدولة. وعند ذلك لن يبقى إلاّ دفنهما في مقبرة جماعية واحدة.
إنّ نقطة الضعف في الجزائر كانت تتمثل دوما في السياسات الاقتصادية المنتهجة. وهذه السياسات ـ وهي سياسة واحدة في الحقيقة، أي: هيمنة الدولة على كل شيء ـ تشترك كلّها في أنّها قائمة على هاوية، وعلى مداخيل ظرفية، وعلى التوازن البنكي. وكلُّ ما أُنجِز في إطار هذه السياسات سرعان ما تحلّل واضمحل وانطفأ مثله مثل أي شيء يُربط بخيوط رهيفة أو باللعاب. وبالفعل فإنّ الجزائر عاشت منذ الاستقلال من مداخيل البترول والغاز. فهي تشتري من الخارج بالعملة الصعبة التي تأتيها من البترول والغاز لكي تُغذي وتستجيب لحاجيات الرعاية الطبية والتجهيز والتربية والتسليح والعمل، وكذا تلهية البلد وأهله. إنّ كل هذا يُكلّف الجزائر اليوم حوالى 40 مليار دولار سنوياًّ (خارج المصاريف العسكرية).
لنتصوّرْ مثلاً لو توقف الغاز والبترول، إنه لن يبقى في الخزينة إلاّ أقل من مليار دولار بينما حاجياتنا من الواردات هي أربعون مليار دولار. أنا أعرف أنّ ذلك لن يحدث بعد أسبوع، لكن الجميع يعرف أن الأمر حادث لا محالة في ظرف 15 إلى 20 سنة في أحسن الأحوال، وفي أسوئها قد يحدث هذا في أقل من هذه المدة لو انهارت أسعار المحروقات. والسؤال المطروح هو: هل بإمكاننا أن نفعل في عشرين سنة ما لم نفعله في خمسين؟ هذا بالإضافة إلى أنّ حاجياتنا الاستهلاكية ستتزايد بتزايد عدد السكان، وفي المقابل فإنّ إمكانياتنا المالية لتغطية تلك الحاجيات مرشحة للتناقص حتى التلاشي. وقد يقول قائل: في انتظار ذلك فإنّ صُنّاع هذه “البوليتيك” لن يكونوا حاضرين لكي يُحاسبوا.
سيبلغ عدد سكان الجزائر خمسين مليون نسمة على الأقل بعد عشرين سنة، وستكون بحاجة إلى ثمانين مليار دولار من المصاريف للحفاظ على المستوى الحالي للمعيشة، ذلك أنه يجب أنْ نُدخِل في الحساب مداخيل البترول والغاز اللّذين سنكون قد توقّفنا عن إنتاجهما. فمن أين نأتي بهذه المبالغ المالية؟ وهل سنتمكن في انتظار ذلك من بناء اقتصادٍ قادر على تصدير ما قيمتُه ثمانين مليار دولار؟
إنّ ثلثي الميزانية المخصصين لدفع أجور الموظّفين والمعلّمين ومِنح الطلبة والعسكريين ورجال الدرك والشرطة والجمارك ورجال الإطفاء والأطباء وشبه الطبيين، والأئمة، ومنح المجاهدين وذوي الحقوق، والمتقاعدين، والبعثات الديبلوماسية في الخارج وغيرها من المصالح العمومية وخُدّام الدولة، هذان الثلثان آتيان من الجباية البترولية. بماذا سنُعوِّض كلّ ذلك؟ لنتصور ماذا سيحدث لو أن الدولة أصبحت عاجزة عن دعم أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، وعن تمويل قطاع الصحة والتعليم وبرامج التجهيز والسكن؟ ماذا سيحدث عندما يضطر القطاعان العام والخاص إلى غلق وحداتهما الإنتاجية بسبب نقص المواد الأولية والتجهيز الصناعي المستورد، وما ينتج عن ذلك من إحالة ملايين العمال على البطالة؟
ذلك هو اليوم الذي ستحدث فيه ثورة في غياب الديمقراطية، والذي ستظهر فيه الطامة الكبرى، أو ” الهول” الذي تساوي قوته الزلزال المرفوق بالتسونامي الذي ضرب اليابان. ذلك هو اليوم الذي ستنتفض الجزائر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. سيغادر الموظفون الذين لم تُدفع أجورهم مناصبهم، وسيكون القتال العام على طريقة ” زنقة زنقة ” من أجل رغيف خبز أو قطعة نقود أو علبة دواء أو ثوب… ستُنهب الدكاكين، وستنهال الموجات البشرية على مراكز الشرطة والدرك من أجل الاستيلاء على الأسلحة، وستغيب الدولة ولن يوجد أي إنسان يسعى إلى السلطة… وعندما ستتحول الحياة في المدن إلى جحيم مثلما نشاهد في أفلام الرعب، سيعود كلٌّ إلى قريته الأصلية، وسترجع العروش والدواوير والمشاتي كما كانت نظاما لبنيتنا الاجتماعية، وسنعود إلى حياة الرعي والبداوة، ونضطر إلى استعمال الحمير والبغال والخيل والبعير في النقل لأن حظيرة السيارات ستُشلّ بسبب نقص قطع الغيار والوقود. ومع ذلك فإننا في كل هذا سنربح شيئا مُريحا، بل مُميِّزاً، وهو أننا سنكون أكثر الشعوب حفاظا على البيئة في المعمورة !
لم يمر على استقلانا أكثر من نصف قرن وها نحن أولاء على شفا حفرة من الإفلاس العام. لن يكون دخولنا إلى التاريخ إلاّ لرمشة عين، وفي هذه المدة القصيرة نكون قد عرفنا طرفا من الحياة الوطنية والعصرية. وعلى أية حال فإننا خلال العشرين قرنا الماضية عشنا تحت الاحتلال الأجنبي أكثر مما عشنا أحراراً . ولقد تحدث ابن نبي فيما مضى عن القابلية للاستعمار وعن ” البوليتيك”. و الأحداث الحالية بيّنت لنا أن الإنسان لا يكون مُستبَداًّ به إلاّ إذا كانت فيه القابلية لذلك. لكن الرسول (ص) قال قبل أيٍّ كان:” كيفما تكونوا يُوَلّ عليكم “.
إن التحوّلات والتطورات التي يعرفها العالم العربي تبيّنُ أننا سنكون مُجدّداً في آخر الرتل، كما هي حالنا اليوم في عدة مجالات. و السبب في هذا أن السلطة لا تستشرف المستقبل والشعب لا يريد أن يجعل لحياته نظاماً. فمتى سيعود لنا الوعي يا تُرى؟ متى سنستيقظ لننظر في الحقيقة ونرى الوقائع؟ ومتى سنشرع في العمل على كل الجبهات وفي كل المستويات؟ ومتى سنعمل على تفادي هذا المصير المشؤوم الذي ينتظرنا؟
عندما كنت طفلاً سمعتُ والدتي المحترمة أكثر من مرة تذكر إحدى النبوءات التي سمعتْها هي بدورها وهي طفلة من والديها خلال الأربعينيات. والنبوءة تقول إن فرنسا ستغادر الجزائر قبل نهاية القرن، لكن جنسا أصفر سيُسلّط على بلدنا. ورغم نعومة أظافري فإنّ هذه الكلمات كان لها بالغ الأثر في نفسي، ولأجل ذلك لم أنسها أبداً. وفي أيامنا، عندما استفحل أمر الصين على صعيد الاقتصاد العالمي، وأمام تكاثر عدد الصينيين في بلدنا، رحتُ أتساءل عما إذا كان مضمون تلك النبوءة ينطبق على ما نراه من غزو للمنتوجات واليد العاملة الصينية لساحتنا الاقتصادية، أم أنه ينطبق على شيء آخر يختفي وراء الستار الذي يلُفُّ المستقبل.
في العشرين سنة المقبلة ستبقى تونس قادرة على تغطية تكاليف وارداتها بما تدرّه عليها صادراتها وسياحتها وإسهامات مُغتربيها بالعملة الصعبة. ستبقى تونس قادرة على تغطية أجور مستخدميها بمداخيل الجباية. فلماذا تُصدّر تونس عشر مرات أكثر ممّا نُصدّرُ نحن ـ خارج المحروقات ـ ؟ لماذا يُرسِلُ مُغتربوها أموالهم عن طريق القنوات البنكية ولا يفعل مغتربونا نحن ذلك؟ ما السّرّ في موت سياحتنا؟ ما السبب في أن تجارنا وأرباب الصناعة عندنا لا يُصرّحون إلاّ بثلث رقم أعمالهم أو أقل (هذا إن صرّحوا أصلاً)؟ ما هو الشيء الذي قمنا به منذ خمسين سنة ممّا يصدق وصفه بالصحيح والحقيقي؟ هل قمنا ببناء الإنسان، هذا المورد الرئيسي وهذا المكسب الغالي بالنسبة لأيّ وطن؟ بماذا يمكن أن نعتزّ: بتجارتنا السوداء؟ ببناياتنا غير الشرعية؟ بغياب الحس المدني عندنا؟ بميلنا إلى التّهرّب أو إلى العمل الرديء أو إلى العنف؟ بالحرّاقة ؟(وقد دخلت هذه الكلمة إلى معجم لاروس كشهادة على إسهامنا في اللغات الحديثة). أمْ بالفضائح المتعلقة بالفساد والتي يظهر ابن علي إزاءهاكسارق صغير؟
وقد سبق لي أن طرحتُ هذه التساؤلات في مقال نُشِر في أكتوبر 1979 في جريدة ” المجاهد ” تحت عنوان:” عبقرية الشعوب “، حيث كتبْتُ قائلاً:  إنّ عبقرية الشعب هي علامتُهُ الخصوصية التي تُعطيه لمعانا يُميِّزه، وطريقته الإيجابية والخلاّقة في أخذ نصيبه من التاريخ، وهي انتصاراته على الطبيعة وعلى نفسه، وإنجازاته التقنية والروحية، واكتشافاته العلمية والاجتماعية، وإسهاماته في إطار الحياة البشرية، ونظرته الشعرية إلى الحياة، ومهاراته في المعمار… فعبقرية الشعوب إذاً ليست خيالاً أو صفة واهية وغير مُحدّدة، أو مُجرّد بهرجٍ في اللغة السياسية، بل هي واقعٌ، وحقيقة ساطعة مُثبتة ومُعترف بها لدى الجميع. صحيح أنّ ساعات الديماغوجيا والجهل قد تُحوّل عبقرية الشعب إلى مُجرّد شعار أو إطراءٍ أو وهم، وقد حدث ذلك بالفعل، لكن مثل هذا الشعار والإطراء والوهم لا يدوم في الغالب، ولا يقف في وجه النقد… ففيمَ تتمثل عبقريتنا؟ وما الذي يُميِّزُنا عن الغير؟ وكيف يرانا غيرنا؟ وماذا يُقال عنّا في التقارير الديبلوماسية؟ وفيمَ تتمثّل هذه العبقرية التي أرهقوا بها أسماعنا؟… إننا نعيش بسلوك يدلّ على اعتقادنا بأنّ الحياة ستنتهي بموتنا. فنحن لا نهتمّ إلاّ بما يمسّ بمصالحنا. فما أكثر المُخالفات والجرائم المتنوعة التي تُقترف أمام أعيننا، وأحيانا برضا تام منّا، أو على الأقل بسكوتنا المشبوه… “حشيشة طالبة معيشة” ، “هف تعيش” وغيرها من العبارات التي تعطي سلوكنا تبريرا”فلسفياًّ”… فقد خرج الجزائريّ من مرحلة ما قبل الاقتصاد ليقع في مرحلة النزعة المادية المُسِفّة (Economisme). وقد أذلتنا تلك النزعة وجعلت منّا أوغادا وشوّهتْ طبيعتنا، وحشرتنا في نزعة فردية منقطعة النظير، وحوّلتنا إلى مستهلكين حقيرين أو إلى أجهزة هضمية “. كان ذلك منذ اثنتين وثلاثين سنة !
لوسوار دالجيري 28 مارس 2011


ماذا لو استمع لي بوتفليقة

بعد أن أعلن المجلس الدستوري عن النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية سنة 1999، أبلغت رسالة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عن طريق المرحوم العربي بلخير مباشرة. ثماني عشر سنة بعد هذه الرسالة، يبدو لي أن الكلمات التي كتبتها له ما زالت تدوي في ضميره وضميرنا وكأنها الأدلة القاطعة على أنه كان يملك في يده أن يصنع الخير بالبلاد أو يلحق به الأذى كما حذرته. لكن، للأسف، اختار الطريق الثاني.
إلى السيد رئيس الجمهورية،
أردت، عشية تقلدكم منصبكم الجديد، وما لم تأخذكم واجبات الرئاسة كلية، أردت أن أقدم لكم تهاني الخالصة وتمنياتي بالنجاح في كل ما ستقومون به من أجل الوطن، وفي نفس الوقت أدلي لكم ببعض الأفكار التي أخصها للرجل أكثر منها للرئيس.
فمهما كانت مواقفي وتحفظاتي من ترشحكم، أنتم اليوم رئيس كل الجزائريين وبالتالي رئيسي أيضا. لقد أصبح ذلك معطى تاريخيا أنظر إليه بنظرة إيجابية وحسن نية. ومن هذا القبيل، أسمح لنفسي بحق إمدادكم هذه “النصيحة” بالمعنى الإسلامي السامي.
أدري أن كل ما ستقرؤونه فيما يلي ليس بالغريب عن ثقافتكم ومعرفتكم للعالم والحياة، لكن بالرغم من ذلك أردت أن أكتبه لكم، على الأقل لإرضاء حدسي الذي ألهمني هذه المبادرة.
في زمن ولى، عرفتم رونق الحياة العمومية ثم لدغتكم بسمومها، ذقتم زهو الحياة والتشريفات قبل أن تذوقوا علقم الحرمان منها، عرفتم صخب النجاح ثم وحدة الملعون. رفعكم العالم إلى فوق فكدتم تلمسون الثريا، ثم رماكم في الوحل.
أنتم إذن تعرفون حق المعرفة رهافة الأشياء وتقلب الرجال. لكن ها أنتم اليوم من جديد محمولون على الأكتاف كما في عز أيامكم. لا الأشياء ولا الرجال تغيروا، لكن، هل أنتم تغيرتم؟
كنتم في السلطة وأبعدتم عنها وها أنتم عائدون إليها لوقت غير معلوم.
وستتركونها مرة أخرى بالتأكيد، لكن هذه المرة بصفة نهائية، ولن تجدوا أمامكم الوحدة والصحراء، لن تجدوا المنتخبين والرأي العام العالمي لمحاسبتكم، بل ستمثلون أمام محكمة الدهر والتاريخ والله.
إن مساركم، بما يحمل من أحزان البارحة ومعاناة اليوم أمام ضربات منافسيكم ومستواكم الثقافي وتجربتكم وحس الدولة لديكم وعمركم، كل هذا لا يسمح لكم بتقديم عهدة خامدة جامدة مسطحة لا تضاريس فيها ولا ذوق، وتقبلون فيها تواطؤ الدم مع روح الرعاع المعمم. لن يكون ذلك بالأمر الحكيم.
عندما رجع ديغول de Gaulleإلى سدة الحكم سنة 1958 وسط أزمة مثل التي نعيشها اليوم، قال هذه الكلمات : “إن الجميع يناديني في هذه المرحلة إلى اتباع الرداءة، لكنني سأعمل على البقاء في العلا”. كان متقدما في السن، وحيدا وغارقا في بحر من المعاداة. لكنه كان قد عاد وفي ذاته مشروع كبير، هو مشروع إعادة الوفاق بين أفراد شعبه، وإخراج بلده من حرب الجزائر، وإصلاح عميق لمؤسسات الدولة الفرنسية حسب مخطط كان قد أعلنه في مدينة “بايو”Bayeux 12 سنة من قبل. كان رجلا يحمل رؤية ويؤمن بمهمته وقام بواجبه كاملا دون هوادة. ففاز بمكانة سامية في ذاكرة شعبه المعترفة له بحق الجميل إلى الأبد.
هناك أفعال ومواقف تبصم الضمير الإنساني وترسخ فيه قيما جديدة وتؤسس معالم دائمة للأجيال التالية. فلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وهو الذي قال يومين قبل وفاته في مسجد المدينة وقد نال منه التعب والمرض “يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلا إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ مَالا فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ ..أَلا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللَّهَ وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ”.
وأما صلاح الدين الأيوبي، فبعث عشية وفاته ببراح يجول في شوارع دمشق حاملا كفنه ويقول بين الناس“إن صلاح الدين الذي فاز بالمغرب والمشرق، لا يأخذ من ثروته سوى هذا الكفن”.
وفي المقابل، نجد في سجل الإنسانية من طغى على أنفسهم الكبر مثل نابليون Napoléon الذي صرخ مفتخرا بعد عودته من منفاه بجزيرة الإلب“ : l’île d’Elbeستنقضي آلاف القرون قبل أن تجتمع نفس الظروف التي اجتمعت فوق رأسي على رأس شخص آخر وتعيد نفس المشهد تريه للإنسانية. أما أنا سيظل اسمي ما ظل الله في السماء”. كما كان هتلر Hitler متأكدا أن امبراطورية الرايخ الثالثةIIIe Reich ستدوم “ألف سنة”.
كنتم في السابق، حسبما يقوله الجميع، وزيرا لامعا، لكن في المستقبل، عليكم أن تكسبوا مزيتين اثنتين أخريين يمتلكهما الذهب: القيمة والصفاء. وأنا أتابع حملتكم الانتخابية في التلفزة، حاولت أن أقرأ فكركم العميق وراء أفعالكم وأقوالكم، وفي بعض الأحيان كان يخيل إلى أنني أستمع إلى القذافي أو كاسترو Castro أو صدام حسين، فينتابني الخوف على مستقبل بلادي.
وعلى العكس لم يصدمني حكمكم المرير على بلادنا وعتابكم لمواطنينا. كنت أشعر أحيانا أنكم تضعون نفسكم في كفة والوطن في الكفة الأخرى. لكن، لم آخذ هذا على أنه غرور لامتناهٍ. فبينما كان منافسوكم يتسابقون فيمن يكون أكثر شعبوية وسطحية، كنتم تتميزون بجهدكم لتفهموا مواطنينا أن قسطهم في الأزمة ليس بالهين.
يقول فيكتور هيجوVictor Hugo “الكلمات مخلوقات حية”. في وقته، لم يتوصل العلم بعد إلى إثبات الدور الفيزيائي والكيماوي للأفكار، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، وتأثيرها على الجهاز العصبي والذهني. نعم، قد تقتل الكلمة وقد تحيي. ونعم فإن شعبنا يكره “الحقرة” ما دامت مسلطة عليه، لكن كل شخص جزائري بمفرده “حقار” مبيت، وقد يمارسها يوميا دون أن يشعر حتى. فمن المفيد أن يعلم هذه الحقيقة لكي يتحسن.
إن الكلمات والخطابات تحمل أفكارا وتوجه العمل الإنساني، إذ هي تستند إلى أنظمة قيمية ومثالية، وتكون بالتالي وسائل جد ناجعة في التأثير على أذهان الناس وشعورهم. وبهذا المنظور، ومع مرور الوقت، تصبح الأيديولوجيات طباعا ونفسيات. ونحن نقول إن مشكل الجزائر الأساسي هو بالذات مشكل نفسي وهو الذي تنجر عنه كل المشاكل الأخرى. وفي الحقيقة فإن الأشكال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأزمة التي نعيشها ما هي إلا آثار سبب نفساني تكون على مدى ثلاثين سنة من الخطاب العام.
عرف بلدنا من تقلبات التاريخ ما جعله لم يعرف بعد طريقه إلى وحدة نفسية صلبة، ولم يتحول شعبنا بعد، على شجاعته وصفاء نيته، إلى مجتمع منسجم وفعال. لم نقم بما فيه الكفاية مع بعضنا عبر الزمان، ولم نختزن بعد ما يكفينا من الميكانيزمات وعادات التعايش لكي نصل إلى مرحلة الوطن بصفة ذاتية. ولو كان الأمر كذلك لما مزقتنا أول ضربات الأيديولوجية الإسلاموية أو تسييس القضية الأمازيغية.
إن القوة ليست هي الوسيلة التي تقي على الدوام من دواعي فقر اللحمة الاجتماعية والغياب شبه الكلي للروح المدنية. كما لا ينفع السخاء الاقتصادي. صحيح يمكن أن نفوز بنوع من الخنوع والاستقرار بإغراق البلد ذهبا وإملاء بطون سكانها، لكن هذا لا يجعل منهم كائنات متمدنة منسجمة. إن مثل هذه السياسة تحمل اسما هو “شراء السلم الاجتماعي”، وفي نظري فإنها أخطر من ذلك، أسميها “إفشاء روح الرعاع”. وهذا معناه أنه بمجرد توقف الهبات، كما حدث في 1988، تتفسخ اللوحة الظاهرية وينصرف كل صف إلى أول ما يجده أمامه من مشعوذين وشعبويين وعدميين، ويُرمى بالبلاد في الفوضى والحرب الأهلية.
في الستينات والسبعينات، كان العقد الاجتماعي الذي شكلته ثورة التحرير قويا بما يكفي لأنه كان ما زال يؤثر بقوة على الأذهان، وشعر الشعب الجزائري أنه في توافق مع نفسه وتاريخه. وكان واثقا من أن السلطة تسعى إلى إرساء دولة دائمة واقتصاد تنموي. وكان الوضع الدولي مناسبا أيضا، حيث كانت الحرب الباردة بين الشرق والغرب وتصاعد الوطنيات والرومانسية الثورية تضفي جوا من الرفاهية والتقدم. لكن ذلك الزمان قد ولى.
في سبتمبر 1972، وفي قمة بلدان عدم الانحياز، ندد المرحوم بومدين صادقا بالوضع الدولي “نحن نمثل أربعة أخماس سكان المعمورة، ونمتلك ثلاثة أخماس ثروات الأرض ومع ذلك فنحن لا شيء. هذا هو الذي يجب أن يتغير”. وفي الحقيقة، وبعد ثلاثين سنة، قد تغير الأمر كثيرا لكن نحو الأسوأ. لقد اندثرت إحدى القوتين اللتين بسببهما وجدت حركة عدم الانحياز، ولم يعد العالم الثالث كوحدة مميزة.
وفي كتابه الأخير “لعبة الشطرنج: أمريكا وباقي العالم”، قال برزنسكيBrezinski إن القارة الأورازية Eurasie هي الرهان الجيوسياسي خلال العقود الآتية، وتحدث عنها تقريبا كما وصف بومدين العالم الثالث “إنها أكبر قارة في العالم، فيها 75% من سكان المعمورة، و60% من المنتوج الخام العالمي وثلاثة أرباع ثرواتها الطاقوية المعروفة”.
إن النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه جورج بوش في بداية التسعينات ليس هو ذلك الذي كنتم تسعون إليه نفسكم في بداية السبعينات بكل إيمان وعزيمة. ففي هذا النظام الجديد لا تعد إفريقيا أن تكون سوى زائدة خامدة للقارة الأورازية. وحتى بريطانيا العظمى هي “فاعل استراتيجي في التقاعد” في نظره.
وفي هذا الخضم وعلى ضوء الوضع الجديد وبالنظر لموقعه الموضوعي، لا يمكن لبلادنا أن تطمح على المدى المتوسط لأكثر من أن تكون “محورا جيوسياسيا” (أي دولة تنبع قوتها من موقعها الجغرافي الحساس أكثر مما تنبع من قوتها الذاتية)، مثلها مثل تركيا، إيران، أذربيجان، أو كوريا الجنوبية.
كانت السياسة الدولية في الستينات والسبعينات تتم بالكلمات والتجمعات، بينما تتم اليوم بالصواريخ الموجهة بالليزر. لذا فإن امتلاك أسطول نووي لا ينفع صاحبه ما لم يملك القوة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية. ويبقى الإيمان بالله آخر مفر للمساكين في العراق وصربيا، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول “إن الله يبعث ضوء شمسه على الصالحين والأشرار، ويمطر السماء على العادلين والظالمين”.
لكن الله أوقف رسالاته بعد أن ختمها برسالة نبينا الكريم ولم يعد يتدخل في شؤون البشرية مباشرة، لذا فعلى الناس أن يأخذوا بأوطانهم إلى بر الأمان، وفي حالتنا نحن، فإن هذا الواجب يقع على عاتقكم أنتم سيدي الرئيس. لقد عانت بلادنا طويلا من جهل حكامها الذين استعملوا قواهم الذهنية والفكرية الهزيلة لاكتساب موقع واه ثم الحفاظ عليه، بدل أن يلعبوا دورهم لأنهم لم يعرفوه أصلا ولم يكونوا ولدوا له.
أما اليوم وقد اختاركم الدهر للوقوف على مصير بلادنا في بداية الألفية الثالثة، عليكم أنتم أن تضعوا كل قواكم في خدمة هذه المهمة وتستنفروا ضميركم، وتسخروا تجربتكم ومعرفتكم من أجلها: علموا الشعب، أيقظوه، أصلحوا دولته ومدرسته وجامعته، أثروا على مخيلته وذهنه، ادفعوا به للسمو الروحي، وأحيوا فيه روح الواجب وحب العمل والتفاني والإخلاص والاستحقاق، نظفوا العدالة والإدارة، شجعوا الثقافة (الحقيقية)، وأبعدوا “البراغيث والرداءة”.
إن المواطنين في كل البلدان عادة ما ينتظرون المثل من أعلى مسؤول في البلاد ويتبعون الطريق الذي يشير إليه. إن الشعوب تنتظر لا شعوريا أن تكون أفعاله تحمل رمزية، وأن يبدي دلائل قدراته وصدقه. لقد تحدثتم عن “روح الفروسية”، إذن أظهروا للشعب أنكم فارس بحق وحقيقة، وبأنكم حليم دون ضعف وقوي دون شراسة.
يمكنكم أن تحققوا “المصالحة” بشرط ألا تبدو انهزاما أمام العنف وإلا سيستعمله كل من أراد أن يمرر آراءه بنفس الطريقة، وإن فعلتم فإنكم بمجرد أن تمضوا السلم مع طرف حتى ينهض طرف آخر ويصعد إلى الجبل للمطالبة بعدها بـ “الرحمة والمصالحة”. إن بلدنا سيندثر لو عاش حربا أهلية أخرى ولا أحد سيمنع حينها الأجنبي من التدخل لمساعدتنا على “حل” مشاكلنا.
كتب نيكسون Nixon في مذكراته وهو يستعيد مساره السياسي “إن العدو هو صديق لم ألتق به”. إن هذه المقولة تنطبق عليكم، إن بالسلب أو الإيجاب، إن غالبية الجزائريين اليوم لا يعرفونكم، لم يلتقوا بكم ولا يعرفون عنكم سوى ما يشاهدونه أو يقرؤونه. أنتم اليوم أمامهم، وهي الفرصة لكي يتعرفوا عليكم وعلى حقيقة ما تحملون، وفي الأخير، سيصبحون أصدقاء لكم أو أعداء.
إن رجل الدولة الذي ينظر إلى فوق وليس إلى تحت، ويتثقب أفق التاريخ بدل كواليس السلطة، ولا يعمل للمدى القصير فقط، ولا يغازل الجهل والمساوئ في مواطنيه لكي يحبوه، سيفوز برضاهم ومحبتهم لامحالة، ويفوز في نفس الوقت باحترام الخارج، لأن ما نسميه بلغة اليوم “الشرعية بالعمل”، كان الصينيون القدامى يسمونه “حكم السماء”. أنتم الآن في هذا الموضع بالذات. أعانكم الله ووفقكم في تأدية مهمتكم النبيلة السامية.

  • نورالدين بوكروح 
الجزائر 20أفريل 1999

ماذا يريد الشعب؟

بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان
هل يُعتبر الشعب واقعا عددياًّ مثل الوعاء الانتخابي في المجتمع الديمقراطي، أم هو وجود تجريديّ كما هي الحال في الأنظمة الاستبدادية التي تشمل فيها هذه الكلمة كل الناس ولا تشمل أي أحد في آن واحد، والتي يُحتجّ بها على كلّ مَنْ أراد أنْ يخرج عن الصّفّ ؟ وماذا يريد الشعب الجزائري في زمن التحوّلات في العالم العربي؟ أيُريد الإبقاء على السلطة الحالية مع بعض التحسينات الاجتماعية، أم يريد الثورة؟ وإذا كان لا مفرّ من الثورة، فهل ستؤول إلى نظام أكثر ديمقراطية أم إلى دولة يُدّعى أنها إسلامية ؟ الانتخابات النزيهة وحدها هي التي بإمكانها أن تكشف عن نتيجة الثورة. لكن إذا كانت هذه الانتخابت ستكشف لنا أنّ الشعب الجزائريّ لا يزال متشبّثا بفكرة الدولة الإسلامية، فما العمل عند ذلك؟
أين يوجد الشعب؟ هل نحن متأكدون أنه في الأحزاب، بما في ذلك أحزاب الائتلاف الرئاسي ومنظمات المجتمع المدني؟ إنني أطرح هذا التساؤل لأن الشعب الذي قام بالثورة في تونس وفي مصر لم يأت من الأحزاب ومن منظمات المجتمع المدني، وهذا باعتراف صريح من الأحزاب والمنظمات. فهناك إجماع فيما قيل في هذين البلدين وفيما يقوله المُحلِّلون على أن الثورة كانت ثورة الشباب، ثورة جيل الأنترنيت التي انضمّتْ إليها الأحزاب لتتشرف بها، وانضمّتْ إليها الشخصيات الوطنية والمجتمع المدني. وعلى أية حال فلو أن الشعب الذي قام بالثورة في تونس ومصر كان منتمياً إلى تلك الأحزاب والمنظمات، فإن التمرّد على ابن علي ومبارك لم يكن ليتأخر إلى اليوم.
ومَنْ هو الشعب؟ في اليمن، رغم المجهود الذي بذله علي عبد الله صالح لإقناعنا بأنّ عدد المتظاهرين المؤيدين له يساوي عدد المعارضين، فإنّ التاريخ سيُسجّل أن أولئك المؤيدين لم يكونوا إلاّ ” بلطجية “، أما المعارضون فَهُمُ الشعب.وفي ليبيا، أين كان يتمثّل الشعب، أهو في صفّ القذافي أم في صفّ الثوّار؟ فـ ” الشعب ” إذاً ليس هو الحصيلة الحسابية للسكّان. المسألة ليست مسألة عدد، لكنها مسألة قضيّة مُتَبَنَّاة. إنّ التونسيين الذين أسقطوا النظام البائد لم يتجاوز عددهم بعض المئات من الآلاف من أصل عشرة ملايين تونسي. وإنّ المصريين الذين أطاحوا بنظام مبارك لم يتجاوز عددهم بضعة ملايين من أصل خمسة وثمانين مليون مصري.
كانت القضية المركزية في البلدان الأربعة التي ذكرناها هي قضية الحرية والتحرر من الاستبداد، بغضّ النظر عن عدد الأشخاص الذين تبنّوْها. إنّ القضايا إذاً هي التي توجِدُ الشعوب، وليس العكس. والشعب لا ينزع بفطرته إلى التحطيم ولا يتحوّل إلى جندي في المعركة، إنه لا يفعل ذلك إلاّ لتذكير المستبد الذي ينسى أنّ الشعب هو مصدر السلطة والشرعية. إذا ما كان الشعب عارفاً بما يريده، وإذا ما اجتمعت له شحنة نقدية كافية لتحقيق هدفٍ ما فهو يكتسب صفة السيادة ويصير هو صاحب القرار الأوحد، ولن يستطيع أحد أن يُنازعه صلاحياته. كانت ثورة نوفمبر 1954 من فعل اثنين وعشرين شخصاً من أصل تسعة ملايين جزائري، وبعضهم لا يزال على قيد الحياة (يعني ذلك أنهم كانوا شباباً). وكان جزء كبير من الشعب الجزائري آنذاك منضوياً تحت لواء تشكيلات سياسية لم تقم بتفجير الثورة المسلّحة، لكنّها انضمت إلى الثورة بعد ذلك. وحصيلة كلّ هذا أنْ الشعب يتجسّد دوما في أقلّيّة ولا يتجسّد أبداً في إجماع.
لا وجود في بلادنا لمعاهد متخصصة في سبر الآراء من أجل الاطّلاع على إرادة الشعب ومعرفة رأيه في مختلف القضايا. ومع ذلك فهناك وسائل تُمكّننا من أخذ فكرة عن توجّهه العام، مثل: ما يُنشر في الصحافة، وتصريحات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والحراك الاجتماعي، والمسيرات، والمناقشات في المقاهي، وتقارير الشرطة، والجوّ العام… فما رأي الشعب الجزائري في موجة الثورات العربية؟ وما هي التغييرات التي يتطلّع إليها من أجل ترك بلدنا في منأى من ثورة مُدمّرة؟ لا أحدَ يستطيع أنْ يُجيب عن ذلك، لكنّ هناك وسيلة للاطّلاع على الواقع.
لنتصوّر أن السلطة الجزائرية، وعلى ضوء الأحداث التي يمرّ بها العالم العربي، قررت الشروع في إحداث تغييرات، ولمزيد من إثبات حسن نيتها، بادرت بمنح الشعب حرية التعبير عن تطلّعاته. ولتنفيذ كل ذلك لنفرض أن السلطة قامت بفتح أبواب وسائل الإعلام العمومية للأحزاب، والجمعيات، والنقابات المهنية، وللمثقفين والشخصيات الحرّة، وللجزائريين المقيمين في الخارج، إلخ، تماما كما فعل بومدين سنة 1976 قبل أن يمنح للبلاد دستورا سوفياتياًّ. فماذا سيتمخّض عن حرية التعبير هذه؟ سيتمخض عنها بالتأكيد كمٌّ هائل من الاقتراحات التي يمكن أن نُصنّفها جملةً في صنفين: المسائل الاجتماعية الاقتصادية، والمسائل السياسيّة.
إنّ المطالب الاجتماعية الاقتصادية ستأتي من كل البلديات، وستنصبّ حول التشغيل، والرواتب، وأسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، والسكن، والمصالح العمومية، والبُنى التحتية، والبيروقراطية، والقطاع الخاص، بل وحتى حول تأشيرة السفر إلى الخارج. أمّا المطالب السياسية فستأتي من المجتمع المدني، وأحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية. لنُحاول أنْ نُعيد صياغة تلك المطالب كما عُبّر عنها منذ عدة سنين آملين ألاّ ننسى أي مطلب يكتسي أهمية ما: المطالبة بتأسيس نظام ديمقراطي أو دولة إسلامية، انفتاح الإعلام العمومي على الحياة السياسية، حريّة إنشاء أحزاب، وجرائد، ونقابات حرّة وجمعيات، تعيين حكومة انتقالية، إبعاد الجيش عن الحياة السياسية، حلّ المجالس المنتخبة الحالية، انتخاب مجلس وطني تأسيسي أو مراجعة الدستور، مراجعة قانون الانتخابات من أجل منع التزوير، نبذ مركزية القرار وإعطاء التسيير طابعا محليا، ترسيم اللغة الأمازيغية، فتح ملفّات الفساد، منع استغلال رمز جبهة التحرير الذي هو ملك للوطن كلّه…
ولا شيء يضمن لنا أنّ المطالب الاجتماعية الاقتصادية والمطالب السياسية ستتبلور بهذا الوضوح. فالمشكلة كلّها تكمن في موقف الشعب إزاءها. فماذا لو كانت من الشعب الاستقالة من كل هذا؟ ماذا لو كان جلّ اهتمامه منصباًّ على الأسعار، والرواتب، والتشغيل والسكن، مع إهمال طبيعة النظام وهويّة الأحزاب والأشخاص الذين سيضمنونها له؟ إنّ السلطة الحالية في هذه الحالة بإمكانها أنْ تطمئنّ إلى أنها قد يُعاد تعيينها بواسطة انتخابات ” نظيفة ونزيهة ” حقاًّ. لكن، لنواصل حبل هذا التفكير بافتراض أن السلطة نفسها مهتمّة فعلاً بإجراء إصلاحات سياسية حقيقية. ما هي الجهة التي يُخوَّلُ لها أمر إحصاء هذه المطالب السياسية ومناقشتها مع السلطة؟ المنطق يفرض أنهم هؤلاء الفاعلون الذين ذكرناهم شرط أن يكونوا متفقين مسبقا على حيّزٍ من التشاور وآلية للتمثيل الجماعي. وهذا ما لم نره إلى حدّ الآن، لكنهم قد يحققون ذلك بالنظر إلى أهمية القضايا المطروحة. ومع ذلك فإنني أشكك في ذلك.
لقد أُجْبِر المستبدّ في مصر وتونس على التخلّي عن الحكم، أما البرلمان والحزب الحاكم والشرطة السياسيةفقد تمّ حلّها في هذا الخضمّ. وسيتمّ انتخاب مجلس تأسيسي في تونس شهر جويلية القادم، أما في مصر فإنّ مراجعة الدستور قد أُسْنِدَتْ إلى لجنة خبراء، وقد تمّت المصادقة على الديباجة الجديدة من طرف أغلبية الشعب المصريّ. وكان ذلك أول اقتراع نزيه منذ عهد توتنخامون (Toutankamon).
أمّا الجزائر فلمْ تَحْظَ أبداً بدستورٍ ناجمٍ عن إرادة ممثلي الشعب. فكلّ الدساتير صيغتْ على يد السلطة، وكان كل رئيس يستعمله كما يشاء. صحيح أنه قد تمّ انتخاب مجلس تأسيسي سنة.1963 لأداء هذه المهمّة، لكن رئيس الجمهورية آنذاك، وهو بن بلّة، قرّر بغير سابق إشعار أن يتفادى المجلس التأسيسي وأن يُسنِد مهمة صياغة الدستور لجبهة التحرير الوطني. وأدى ذلك إلى استقالة فرحات عباس من رئاسة المجلس التأسيسي في أوت 1963 بعد أن كتب قائلاً:  إنّ تجميع السلطات بين نفس الأيدي ضربٌ من الهذيان… فلم تبق أية ديمقراطية، إذ الشعب غائب ومُمثِّلوه لم يعودوا سوى دُمى… إنّ رئيس الدولة الذي هو في نفس الوقت رئيس الحكومة لا يمكن له أن يقوم بكلّ شيء… وإنّ مثل هذا النظام سينتهي به الأمر إلى إيجاد أنشطة معارِضة وانقلابات ودسائس… استقلْتُ من رئاسة المجلس لأني لا أريد أن أخرج من النظام الاستعماريّ كي أقع تحت رحمة الديكتاتورية وأرزح تحت نير إرادة نزوات شخصٍ ذي تقدير ضعيف بقدر انعدام وعيه بعواقب أفعاله“. وبعد أقلّ من عامين جرى الانقلاب ضد بن بلّة وتمّ تعليق الدستور حتى سنة 1976. أمّا فرحات عباس فسيتعرّض للسجن والإقامة الجبريّة ومُصادرة جواز سفره وصيدليته وحساباته البنكيّة، إضافة إلى شتائم مستمرّة ومنتظمة بسبب مقال كتبه سنة 1936.
ويعني المجلس التأسيسي انتخاب نواب تستمرّ عهدتُهُم حتى تتمّ صياغة الدستور. وهذا يقتضي أنْ يُسبق ذلك بحلّ البرلمان السابق بغرفتيْه. لكن ماهي السندات القانونية التي سيُعتمد عليها في الانتخاب؟ أهي قانون الانتخاب الحالي؟ ما الذي يضمن أنّ الإدارة لن تُزوِّرَ النتائج حسب رغبات السلطة كما كان يجري في السابق. فلا مكان للثقة. وستتطلب عملية انتخاب هؤلاء النواب عدة أشهرٍ، ثُمّ إعداد قانون داخليّ، وتحرير مشروع والمصادقة عليه في جلسة علنية ثمّ طرحه للاستفتاء العام. لكن، هل يعتبر المجلس التأسيسي من بين مطالب الشعب؟ إنّ الشعب كما يعرف الجميع منقسم على عدة مواقف وأفكار. والعصبيات ما تزال سيدة الموقف في صفوفه، والمؤكد أنّ النواب الذين سينتخبهم سيكونون صورة طبق الأصل عن الانقسامات الإيديولوجية والثقافية الموجودة في الواقع. اللّهُمّ إلاّ إذا كان من نتائج استيقاظ الشعوب العربية ما دفعنا إلى الاستيقاظ نحن كذلك وقادنا بغير علمٍ منّا إلى عالم الألفية الثالثة.
إنّ اهتمام المجلس التأسيسي سينصبّ كلّه على موضوعين رئيسيين: النظام السياسي والمسائل ” الحسّاسة “. وقد تستمر الأشغال مدة طويلة دون الوصول إلى إجماع. وبالفعل، فإنّ نواب التيار الإسلاميّ (لأننا في إطار  فرضية انتخابات غير مُزوّرة) يريدون تقوية مكان الدين في الدولة وتمكينه من زمام الأمور في المجتمع، بينما يميل نواب التيار الحداثي إلى تخفيف قبضة الدين من أجل ضمان حرية المعتقد والمساواة بين الرجال والنساء في كل المجالات. ثمّ تأتي مسألة إعادة هيكلة الجماعات المحلّية في شكل نواحي تتمتع باللامركزية، ومسألة ترسيم اللغة الأزيغية كموضوعين آخرين قد يكون حولهما الخلاف حاداًّ.
وقد يتنازل أصحاب هذا الاختيار الأول عن موقفهم مخافة تعقيد الأمور، ويضمّون صوتهم إلى الأصوات المنادية بمراجعة الدستور الحالي بدلاً من استبداله. ورئيس الجمهورية هو الذي سيتكفل بهذه المهمّة بالتنسيق مع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والمختصين في القانون الدستوريّ. وفي آخر المسار ستتمّ إحالة الدستور الجديد على الاستفتاء العام. إنّ المراجعة ستتوقف عند حدود المواد المتعلقة بالنظام السياسي (البرلماني، نصف الرئاسي كما هي الحال في فرنسا، أو رئاسي كما هي الحال في الولايات المتحدة)، وكذا توزيع السلطات بين التنفيذية والتشريعية. ويُتوقّع أن تلقى العودة إلى تحديد عدد العهدات الرئاسية تأييدا من طرف أغلبية النواب. أما مسألة الحُرّيّات العمومية فالمتوقع ألاّ تطرح أي مشكل خاص لأن معظم تلك الحريات مذكورة في الدستور الحالي. إ
إن السلطة هي التي جمّدت العمل بتلك التدابير بمنع أحزاب المعارضة من التعبير في وسائل الإعلام العمومية ورفض منح الاعتماد لبعض الأحزاب التي تستجيب ملفاتها للقانون، وليس هذا فقط، لكننا نكتفي بذكر هذين المثالين. لكن، كيف يمكن تفسير هذه السلوكات من الإدارة التابعة للسلطة؟ يمكن افتراض أنّ السبب وراء ذلك ليس مضايقة الشخصيات الممثلة لتلك الأحزاب، بل سدّ الطريق في وجه قدماء جبهة الإنقاذ وجيش الإنقاذ والجيا الذين صرحوا أكثر من مرّة أنّ وعودا قُدِّمَتْ لهم في هذا الاتجاه. غير أنّ هذه الحجة لا تبرر أخطاء السلطة، لأن هذا الأسلوب في التعامل مع القوانين غير مقبول. فالقوانين إمّا أن نُطبّقها وإمّا أن نُعدّلها وإمّا أنْ نُلْغيَها، لكن لا يجوز الإبقاء عليها كما هي مع اختراقها. ففي ذلك تكريس لأسلوب المافيا.
إنّ الثورات تساوي في عنفها وقدرتها التدميرية أعنف الزلازل. والمعروف أن إثر كل زلزال تأتي عملية إعادة البناء بطراز أحسن من السابق. فقد رأينا أن اليابان تعرّض لزلزال في درجة نادرة من القوة، وتلاه تسونامي أكثر تدميراً، لكن اليابان ستُعيد بناء ما تهدّم بمعايير أكثر وثوقا من المعايير السابقة. إنه شعب تكمن قوته في ثقافته وأفكاره وتربيته وانضباطه وحسه الجماعي. إن شعبا كهذا لا يُدمَّر. وقد أثبت ذلك خلال الحرب العالمية الثانية التي لم يتراجع فيها عن موقفه حتى لجأت الولايات المتّحدة الأمريكية إلى استعمال القنبلتين النوويتين الوحيدتين اللتيْن كانت تملكهما.
وكانت بلادنا قد تعرّضتْ سنة 1991 لأزمة سياسية كان عدد ضحاياها أعلى بكثير من عدد ضحايا الزلزال والتسونامي اللذين خرّبا اليابان جزئيا. على الجزائريين أن يُعيدوا بناء نظامهم السياسي على قواعد جديدة واعتمادا على معايير مُضادة للزلازل. ولأجل ذلك يجب ألاّ يستعينوا بكفاءة صانعي الأكواخ والبنايات المؤقتة، ولا بتجربة بعض المقاولات في الغش والتدليس. إننا بحاجة في المرحلة القادمة إلى مهندسين أكفاء، وبنَّائين مهرة ومواد صلبة. إن ” أجيال الأنترنيت ” التي لم تندمج في المشهد السياسي الحالي يجب أن تعتمد على نفسها كما فعل الشباب في تونس ومصر، وأن تعطي إشارة الانطلاق لأساليب وأطر التنظيم الخاصة بها. ولو أنها أسست حراكها على معطيات وطنية وحديثة، فإنها ستتمكن إنْ آجلا أم عاجلا أن تفرض نفسها كبديل ذي مصداقية عن الاستبداد الذي خرّب البلاد وعن العصبيات التي أفسدت مسار التناوب. إنّ الجزائري بطبعه شعبٌ يكون أسوأ ممن يعامله بالسوء، ويكون أحسن ممن يُعامله بالحسنى.

لوسوار دالجيري 29 مارس 2011

الجيش الجزائري : صامت ولا يريد السماع

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
كنت، سنة 1991، أول جزائري ترفع ضده وزارة الدفاع الوطني دعوى قضائية أمام العدالة بتهمة “المساس بمؤسسة دولة نظامية”، وذلك بعد أن أعلنت، وأنا في حرارة النقاش والمجادلة مع مواطنين في لقاء بالبليدة، حيث سألني أحد الحاضرين عن “شهرية” الجنرالات، فأجبته أن “الجنرالات ليست لديهم أجور، بل هم يأخذون ما يحلو لهم من الأموال”.
أعترف اليوم أنني لم أزن ثقل ما قلته آنذاك، لكن أمام رئيس محكمة بئر مراد رايس، تحملت كلامي ولم أتراجع عنه، وعندما سألني عن الأدلة التي أرتكز عليها  للتفوه بمثل تلك التهم، أجبته أنني أعتزم تزجيه نداء للمواطنين من أجل الإدلاء بشهاداتهم. وهو  نفس الجواب  الذي اضطرتني الظروف على الرد به مرة ثانية لضباط الشرطة القضائية في المحافظة المركزية سنة 1998 عندما قاضاني الجنرال بتشين الذي كان آنذاك مستشارا خاصا لدى الرئيس ليامين زروال.
وفي الأخير تكفل الجيش، “الصامت” بأن أتى بنفسه بالشهود حيث لم تمر بضعة أسابيع على قضيتي حتى نشر حوالي 15 جنرالا كانوا في مناصبهم “التقرير” المشهور الذي اتهموا قائد أركان سابق في الجيش بأنه “يغمس” بشراهة في خزينة الجيش (قضية بلوسيف). هل هي حقيقة أم تدبير لتصفية حسابات؟ ليس لدي أي وسيلة لمعرفة حقيقة ما جرى.
وفي تلك القضية الأولى دائما، اختارت وزارة الدفاع محاميا معروفا وكفآ لتمثيلها. ففكرت من جهتي أيضا في محامي مشهور يحسبه الجميع إلى اليوم أكثر ديمقراطية من بريكليسPériclèsنفسه (وهو رجل الدولة، أب الديمقراطية اليونانية ومخترعها)، وكم كانت دهشتي وأنا أسمعه يقول لي في سر جدران مكتبي : ” لا أستطيع، سي نورالدين، سامحني…” فاتخذت محاميا لا يعرفه الجمهور وتولى بمهمته على أتم وجه.
ومن دهشة إلى أخرى، علمت عشية المثول أمام العدالة أن وزارة الدفاع قد سحبت الدعوى، وتأكد الأمر في الجلسة العامة التي جمعتنا، لكن المحكمة، بما أنها سجلت القضية كانت مجبرة على المواصلة و النطق … بالبراءة ! أما في قضيتي مع بتشين، أو بالأحرى في قضيته معي، جعلت مني الشائعات الموجهة، في قلب للموازين والمفاهيم والمعقول نادر من نوعه، جعلت مني المدبر لإسقاط بتشين وزروال بينما كنت أنا الضحية الذي استدعي من قبل الشرطة…؟؟
أروي لكم هذا فقط للولوج في موضوعي اليوم لأنه قد يؤدي بي إلى نفس التهمة وقد ترفع وزارة الدفاع الوطني قضية أخرى ضدي لأنني هنا سأقول بعض الحقائق حول الجيش، أو لكي أكون أكثر وضوحا حول العسكريين الذين يميلون إلى الخلط والمزج بين أشخاصهم ومصالحهم الخاصة ومصالح الجيش الوطني “سليل جيش التحرير الوطني”.
ومن المهم هنا أن أدقق معنى كلامي حيث عندما أتحدث عن هذه المؤسسة العزيزة على قلوب كل الجزائريين وهو ملكهم وإرثهم المشترك، بما فيهم أنا الذي خدمته بكل فخر واعتزاز مدة 27 شهرا في إطار الخدمة الوطنية، فإنني أقصد قياداتها العليا وليس مجمل قواتها الأرضية والجوية والبحرية بجنودها وضباطها وهياكلها وعتادها وفرق المخابرات التابعة لها. لكن وكما يقول مثل فرنسي قديم “من الأحسن أن نقول الأشياء كلها، حتى تلك التي تبدو واضحة وضوح الشمس”، وأضيف خاصة تلك التي قد تستعمل ضدك.
إذن، أين بيت القصيد؟ هل صحيح أن الجيش الجزائري، ككل الجيوش في البلدان الديمقراطية الحقيقية هو “الصامت الكبير” أم أنه “زي الأطرش في الزفة” كما يقول المثل المصري، لا يسمع الضجيج من حوله، ويا ليته كان عرسا، بل الأصوات والصراخ المتصاعد حوله اليوم هو صوت المنبهات التي بدأت تشغلها كل الأوساط في البلاد وخاصة منذ أن ضرب السيد تبون إلى عنقه وتم الحكم لصالح “أعمدة العقد الاجتماعي- الاقتصادي” الذي قد يتحول إلى تحالف شيطاني.
لكن لا يمكننا القول بأن جيشنا صامت بما أنه يعبر عن رأيه بانتظام عبر افتتاحيات مجلته الرسمية “الجيش”، أو شفويا عندما يتحدث قائد الأركان باسمه في مناسبة أو أخرى، وهو يمثله رسميا، كما فعل مؤخرا اللواء قايد صالح من قسنطينة  للتذكير بأن  الجيش الجزائري “جيش جمهوري”. لكن “هْنا يختلفوا العلماء” جنرال !
عما نتحدث؟ عن الجمهورية؟ تعني هذه الكلمة باللاتينية “شيء الشعب” وعبر العالم توجد جمهوريات شريفة وحقيقية وعريقة، لكن يوجد أيضا جمهوريات ديكتاتورية، جمهوريات وراثية، وجمهوريات مزيفة وجمهوريات تحكمها عصابات (مثل جمهورية بوكاساBokassa و باتيستاBattistaو”بابادوك”« Papadoc » ، لنبقى في أمثلة الماضي فقط). توجد أيضا جمهوريات من غير دولة (ليبيا)، ودول من غير جمهورية (داعش)، وبلدان من غير دولة ولا جمهورية، ودول مارقة، أي خارجة عن القانون…  وأين الاستحقاق في الإدعاء باحترام “الجمهورية” لمن لا خيار له سوى أن يكون كذلك قانونا ولا يمكنه القول بأنه “ملكي” أو “إمبراطوري”؟
لكن، في واقع الأمر، لقد تحول الجيش الجزائري بقيادة اللواء قايد صالح إلى جيش الرئيس ووزير الدفاع الذي غير الدستور عدة مرات خلال عهداته الأربع ليخيطه على مقاسه بل وليلتصق بجلده كما بعض ملابس الرياضيين والفنانين.
لقد أغلق علينا “فكره” السياسي ونزواته كمن يغلق لعبة الدومينو في المقاهي الشعبية، باستعمال حيل قوم “السيو” (وهم قبيلة هنود حمر معروفين بخدعاتهم في الحرب وغير الحرب) ويضرب بالمربعات بقوة على الطاولة يكاد يشطرها شطرين… نعم، نحن أربعين مليون مكعبات الدومينو أغلق علينا في الجزائر التي آلت إلى “دوار كبير” تحت حكمه. نحن في طريق مسدود ومأزق لا يسهل النفوذ منه لأنه أصبح عاجزا على الحكم بالمقاييس المعروفة ونحن مقيدين، ولا يمكننا فعل شيء لحماية بلادنا من الأزمة الاقتصادية المتربصة بنا ومن اقتناصه من قبل النسور التي تريده أن يحتضر لتفتك بجيفته.
ما معنى أن نقر بالولاء للجمهورية حين نعلم أن هذه “البيعة” ليست “للشعب السيد” بل لرجل مخفي، لا ينطق ولا يتحدث ونعلم أنه مريض مقعد، منقوص القدرات الجسدية والفكرية. عندما تحولت أركان الجيش بين الفينة والأخرى، بعد سلسلة من القرارات، الساعد المسلح والمهدِدِ الذي يحتمي وراءه نظام محتضر يحكم البلاد، بل ضيع البلاد بأن أفرغ الدولة من محتواها ودورها، وجعل منها كيانا لا يسير شؤون البلاد ولا يضمن سلامة الشعب والتراب. والكل يرى بأم عينيه أنها دولة هائمة على وجهها في القفار.
وفي هذه الظروف، لا يسعنا إلا الوصول إلى نتيجة وهي أن الجيش الجزائري لم يعد جيشا صامتا فحسب، بل ولا يريد أن يسمع أيضا، أو أطرشا يقول كلاما لا معنى له، والنتيجة نفسها. والشائع أن أكثر الناس طرشا ذاك الذي لا يريد السماع والاستماع لصوت الحق البين والرشاد، وأن أكثر الناس عميا ذاك الذي لا يريد أن يرى الحقيقة في وضح النهار ويدير وجهه تفاديا لرؤية ما يحدث تحت عينيه.
إلى غاية العام الماضي، كان يمكن للعسكريين اللذين شغلوا مناصب عالية في القيادة وتقاعدوا أن يمدوا برأيهم في مشاكل البلاد وأن يضيئوا بعض المراحل من الماضي والحاضر من زاويتهم. لكن هذا الحق انتزع منهم أيضا عندما تقرر قانونا أن يلتزموا الصمت وإلا تمت متابعتهم ومعاقبتهم. ومنذ ذلك الحين، هجروا الساحة العامة للحفاظ على راحة بالهم وأموالهم، وتركوا الجزائر تواجه مصيرها المدمي للعين مع أنهم هم المسؤولين على المأزق الذي نحن فيه اليوم على الأقل منذ 1988.
وأنا أراهن أن ذلك القانون في قرارة أنفسهم قد حرر ضميرهم من كل مسؤولية تجاه الوطن الذي يقولون أنهم ساهموا في تحريره، ولكنهم، في تناقض مريب ورهيب، وفي آخر مطاف، سلموه لجهلة وناهبين، بعد أن كونوا هم أيضا ثرواتهم ومساراتهم المهنية خلال عقود من الحيل وسيلان دم الجزائريين.
أنتم الجبناء، أيها السادة اللذين كنت من قبل كذا وكذا ! أنتم الجبناء وليس المواطنين اللذين جعلتم منهم أناسا “مسلمين مكتفين”، وتأملون منهم اليوم أن يثوروا لينتقموا لكم لسقوطكم، وما أسقطتكم حرب بل سقطتم لأنكم وجدتم جحا أمكر منكم.
عندما نهض الشعب في أكتوبر 1988 وفي بلاد القبائل في 2001، أطلق عليهم النار وصرعوا كحيوانات الغاب الشرسة التي لا نكن لها رحمة. أين الشرف الذي يتحلى به العسكري، وأين شجاعة الجندي ووفاؤكم للوطن؟ أين ضميركم الوطني؟ كلها كلمات كنتم تتشدقون بها كذبا منذ الاستقلال وإلى اليوم والبلاد على شفى حفرة من الهاوية والإعصار الذي سيقصف بها على الأبواب ليعيدها إلى حرمانها الذي تكبدته قبل الاستقلال، إلى عهد الباشاغا والقايد و”الشمبيط” الذين سيتمتعون بأن يسخروه مرة أخرى وأن يستغلوه و”يكددوه” إلى آخر عظم فيه؟
مثلي من الناس لديهم الحق المعنوي بأن ينهروا الشعب ويستنكروا فيه ركونه إلى الرداءة وعدم الطموح للعلا وعدم الامتثال لما سيجعل منهم قوما أفضل لأن هذا ما لم أتأخر في فعله منذ سنوات السبعينيات في كتاباتي. لكنني لو كنت مكانكم، لما اكتفيت بالقول، بل لكنت فعلت. لكن آنذاك، لم أكن سوى مراهقا كان يحلم بتحريك ضمير شعبه بالقول والأفكار، بينما كنتم أنتم تبذلون الجهد الكبير لإبقائه على حاله، حال “الغاشي”. وأما اليوم، فهو حبيس هذيان رجل أتيتم به وفرضتموه وطلبتم من بعض الرجال، ذوي النية الحسنة والرغبة في خدمة بلادهم مثلي بأن “يساعدوه في إعادة بناء الوطن”.
أنتم، أيها السادة الذين فررتم من جيش فرنسا وجعلت منكم الجزائر المستقلة جنرالات، لا تفروا من هذا البلد الذي أمدكم بأكثر مما أعطيتموه. كونوا شجعان وأخرجوا إلى العلن وقولوا كلمتكم، وإذا لزم الحال، ألا تقبلون بالتضحية من أجل الجيش الشعبي الوطني الذي صنعتموه وصقلتموه، لكي لا يكون بعدها وسيلة قمع الشعب بأمر من مستبد أو جهة، أو حتى بأمر مباشر من المافيا والعصابات غدا؟
أطلقتم الرصاص على الشعب يوم الاستقلال وبعده وخلال الانقلاب العسكري في 1965 وفي أكتوبر 1988 وفي2001…! بركات!
إن الجيش فقد آلاف “الجنود” في المعركة ضد الإرهاب و قتل عشرات الآلاف من الجزائريين الذين أخذوا طريق الإرهاب. إلى متى سيواصل الجيش الجزائري في حربه ضد الجزائريين الأبرياء أو “الضالين” ونحن نعرف أن حتى هذا “الضلال” هو نتيجة خياراتكم وعميكم ورداءتكم. إن جيش التحرير الوطني الذي تدعون الانتماء له لم يقم بما فعلتموه، بل حارب مستعمرا غاشما شرسا فأخرجه من أراضينا وأعاده من حيث جاء.
أعلن مؤخرا قائد الأركان وهو يبدي علامات رضا بالنفس ذكرتني بصدام حسين بأن جيشنا من بين أقوى الجيوش في العالم. هنا أيضا “يخْتلفوا العلماء” جنرال!
وأنا أستند في قولي عما يقول به العلم الحربي العالمي، واستند على تجارب آخر الحروب في العالم لكي أقول أن جيشا لا يستند إلى اقتصاد وتكنولوجيا مستقلة وفعالة، ولا ينتج العتاد العصري المستعمل اليوم، بل يشتريه من غيره، وبأن جيشا لا يملك صناعة قادرة على صنع الأسلحة التقليدية والاستراتيجية على غرار الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، دون الحديث عن بلدان الغرب واليابان، إن جيشا كهذا لا ولن يصلح سوى أن يضرب شعبا ضعيفا ومستضعفا لكي ينقسم ظهره أمام مستبد صغير لا يعدو يتجاوز استبداده ساحة دوار صغير أو سمالة ، ولا يمكنه التحدي سوى لإرهاب محلي أو مجابهة أحد جيرانه الأضعف منه سلاحا. وها هو جيشنا إلى اليوم، قد قضى ما يزيد عن ربع قرن يحارب الإرهاب ليلا ونهارا على كامل التراب الوطني ولم يتمكن من القضاء عليه.
إن الجيش القوي هو ذلك الجيش الذي ينبع من صفوف شعب حر، ذكي، مبتكر و منتج، وفخور بمؤسساته الديمقراطية، وليس مجرد هيكل عسكري يسارع في إطلاق النار على شعبه عندما يسعى هذا الأخير أن يكون كل هذا، أي حرا وذكيا ومبتكرا ومنتجا وديمقراطيا وقادرا على خلق صناعة عسكرية يمتلكها وحده دون غيره يحميه حقا.
تم إرساء وتقنين الفوضى والاستبداد عن طريق الدستور وعبر مؤسسات الدولة واحتمى الظلم “بالشرعية” و” الجيش الجمهوري” لمنع الشعب من ممارسة سيادته واكتساب مواطنته. هذه هي المعادلة التي ما زالت تعيش فيها الجزائر منذ 05 جويلية 1962 وما زالت لم تحلها.
كما قلت من قبل، أفضل أن أكرر وأعيد لكي تكون الأمور واضحة لدى الجميع، فأنا لا أطالب بانقلاب عسكري لكنني أؤكد بكل مسؤولية أن تعفن الأوضاع الحالية المفروضة علينا لا يمكن أن يخرج منها خير، بل ستؤدي بنا إلى تحطيم معنويات الأمة وهدم سلطة الدولة واضطرابات اجتماعية، وبأن أمام هذه الأخطار ليس الحل الوحيد هو الانقلاب العسكري.
إن سبيل الحوار لن يكلف البلاد دما وهدرا لوقت شعب فات عليه آلاف السنين من العذاب وينتظر العدل والإنصاف من المسؤولين عليه وباسمه. إن الحوار الذي يحبذه المسؤولين في خطاباتهم الرسمية وأحد أعمدة الدبلوماسية الجزائرية هو ما سيسمح لهم بالسماع إلى صوت الحق والحكمة وتفتح نفوسهم لتدب فيها الروح الوطنية من جديد. إن البلاد تحتاج إلى أصوات قوية ووطنية تطلع “من جبالنا ومن صدورنا” وتنادي بالعدل والأمل في مستقبل يجمعنا ولا يفرقنا، في مستقبل نصنعه بأيدينا وأفئدتنا وعبقريتنا.


رد السيد نور الدين بوكروح على وزارة الدفاع الوطني: شعوب و جيوش

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
noureddineboukrouh@yahoo.fr
noureddineboukrouh.facebook
“سأقود شعبي وسآخذه بيده إلى أن يعرف الطريق جيدا ويتمكن من السير وحده بخطى واثقة. حينها، سيكون قادرا على اختيار حكامه بكل حرية ويحكم نفسه بنفسه. عندما يأتي ذلك الوقت، سأعتبر مهمتي منتهية وأتخلى عن الحكم. لكن ليس قبل أن أنال هذا المراد”. (مصطفى كمال أتاتورك، خطاب 08 أغسطس 1926، أمام البرلمان). 
الأسبوع الماضي، غربت الشمس عبوسة وحزينة على الغرب وطلعت مشرقة على الشرق. ونحن نتتبع حدثين على المباشر، الأول بقلوب منقبضة والثاني بقلوب انشرحت بتطور الحدث. كنا نشاهد حركة التاريخ وهي تتجلى أمام أعيننا، محملة بشر البشر في الحدث الأول ومفعمة بخيرهم في الثاني.
تمنح لنا اليوم تكنولوجيات الإعلام فرصة تتبع الأحداث العالمية التي تصقل توجهات عصرنا ونعيشها وكأننا في قلب الحدث وفي عين المكان.  نعيشها حية ونشاهد فاعليها يتخبطون في شبكتها ويموتون أحيانا أمام العالم المشدوه. ويمكننا حتى مشاهدتها وتفسيرها كما نريد حسب القناة التلفزيونية التي نختارها واللغة المستعملة.
كانت الأحداث إذن قاسية وعنيفة من جهة وسخية من جهة أخرى، مانحة إيانا مشهدين ينمان عن أقصى مكنون الشر والخير لدى الإنسان. فكانت مجزرة مدينة نيس الفرنسية من أعنف وأكثر العمليات الإرهابية وحشية، بينما حمل الحدث الثاني من اسطنبول دقائق فشل محاولة الانقلاب العسكري، وهو ربما آخر انقلاب عسكري سيعرفه التاريخ التركي. وبينما شلنا الأول وغم قلوبنا بسبب عنفه وحيوانيته، أعادنا الحدث الثاني إلى نطاق الإنسانية التي تمشي إلى الأمام على درب مسطر ومعبد.
وبالنسبة لي، سريعا ما بدت لي النقطة الجامعة بين الجدثين على تنافرهما واختلاف المشاعر التي خلفاها في أنفسنا وهي الإسلاموية.  نعم، لقد رأيت مشهدين للإسلاموية، القناص الغادر في نيس و “المتطبع” في الثاني. ففي اسطنبول، رفض كل من الجيش في غالبيته وخاصة المعارضة العلمانية أن تقتنص “الفرصة” للقضاء على حزب التنمية والعدالة بالعنف للعودة إلى السلطة، وفضلا المنافسة الديمقراطية النزيهة.
بعد أن شاهدت في الشاشة ما حدث في نيس، قضيت ليلتي أنتظر مقبوض القلب، راجيا ألا يكون ذلك المجرم جزائريا، مع أنني أدرك أن الأمر لا يهم كثيرا : فبمجرد أن يظهر اسم “محمد”، ندفع الثمن كلية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، على التو أو بالتقسيط.
أما في الحالة الثانية، فقد أعجبني رد فعل الرئيس إردوغان الذكي، وأكثر ما أعجبني موقف الشعب التركي السريع في الخروج إلى الميادين والساحات العامة ومحاصرة الدبابات والعساكر الانقلابيين، مبرزين بذلك أنه أكثر حرصا على الديمقراطية مما هو خائف على حياته.
ونحن الجزائريون نجمع في ذاتنا وتاريخنا الكثير مما يجعل الفرنسيين خاصة يتحسسون كثيرا تجاهنا : أولا بسبب الحرب التحريرية التي ما زال جرحها يوجعهم، وبسبب الإرهاب الوحشي الذي تخصصنا فيه قبل غيرنا في سنوات التسعينات، وبصفة عامة الكل ينظر إلينا بعين الريبة والشك والظن بسبب تأخرنا وتمادينا في “احتلال” مؤخرة الأمم في كل الترتيبات، مهما كان الميدان العلمي والصناعي والثقافي. وأخيرا، لأننا نملك “مزية” أخرى هي كوننا ببساطة مسلمين يمكننا أن نسقط في أي وقت وبدون سابق إنذار في التطرف، مسرعين  في التمتع  “بملذات” الجنة الموعودة. ولا يهم المسلم المتطرف سبب تطرفه، إذ هي كثيرة ومتنوعة الآن، وكأنه في سوق يختار منها ما يليق به للتذرع للقتل، فلا يهم إذن أن يكون الأمر متعلقا بالولاء لـ”دعش” أو الثأر للفلسطينيين أو السوريين أو الليبيين أو المهاجرين أو حتى للهنود الحمر أو”كونتا كينتي”، العبد الزنجي المشهور.
وإذا ما عدنا إلى الأتراك، وجدنا أنهم كانوا يمرون كشعب وكأمة بمرحلة صعبة بسبب الغلطات التي تخللت بكثرة سياسات إردوغان في التعامل مع “دعش” وسوريا وروسيا والأكراد والمهاجرين غير الشرعيين والاتحاد الأوربي، والتي تسببت في انتكاس اقتصادي للبلاد وموجة من العمليات الإرهابية الواسعة النطاق. وفي الوقت الذي هم فيه إردوغان تصليح ما فات وتغيير اتجاه سفينته بأن أمضى اتفاقا مع الاتحاد الأوربي حول مسألة الهجرة و أن قدم اعتذارات علنية للرئيس الروسي بوتين لكي يعيدا دفع التعاون الاقتصادي الذي تأثر بخلافاتهما، حتى أنه أعاد العلاقات مع إسرائيل ببركات حماس، طرأت محاولة الانقلاب من طرف عسكريين أرادوا الاستفادة من ثغراته للتخلص منه، وهو الذي يحسبونه خليفة عثماني جديد.
لكن، ورغم الغلطات الكثيرة التي قام بها إردوغان في سياسته الداخلية والخارجية، إلا أن الشعب لم يقبل أن ينحى بانقلاب. لم يكن المدافع عن الرئيس التركي مجموعته الحزبية فقط، بل كل الشعب الذي برهن أنه الحكم الوحيد في اختيار من يحكمه بوسائل ديمقراطية ولا يعود ذلك للجيش، وبالأخص لمجموعة منه. وحتى منافسي حزب التنمية والعدالة الذين كان بإمكانهم الاستفادة من هذا الانقلاب وخلط الأوراق من جديد رفضوا أن يساندوا الجيش في مسعاه، ونددوا بدون أي تردد الانقلاب وخرجوا هم أيضا إلى الشارع للدفاع عن الديمقراطية لأنهم يؤمنون بها ومستعدون للدفاع عنها، والابتعاد عن استعمال العنف والسلاح ومع أن العسكريين المنقلبين برروا فعلهم برغبة الحفاظ على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعلمانية، وباشرت بتأسيس “مجلس” لتسيير شؤون البلاد. لكن هذه المرة، رفض الشعب مبدئيا فعل القوة ذلك واحتشدوا في الأماكن التي سيطر عليها الجيش والتفوا حول دباباته، صارخين في وجهه بالذهاب والعودة إلى ثكناته، وبأنه لا حاجة له.
وإن لا نرى في بعض الأحداث سوى الجانب الإعلامي، ولا نتعداه إلى تحليل ما قد يحمله من تقدم للإنسانية أو تفكير فيما قد ينفعنا نحن أيضا ويغير وجهة تاريخنا، فلا نتعدى أن نكون سوى أبقارا منبطحة في الحقل تجتر علفها وهي تشاهد القطار يمر أمام أعينها، لا يهز المشهد فيها شعرة ولا يثير شعورا فيها. لكن، إذا كنا نحمل ضميرا وروح المسؤولية، فإن أحداث نيس واسطنبول بالتأكيد ستجعلنا نفكر في حالتنا نحن وقد عشنا منذ الاستقلال ملجمين ومسجونين.
لقد وضحت لنا أحداث البارحة أنه حين يتواجد شعب حقيقي، لا مكان للجيش في ميدان السياسة، ولا هو من يدافع عن الدستور وحقوق الإنسان، لأن ذلك الشعب هو من يقوم بالمهمة كفاية. لكن، الشعوب تختلف وكذا الجيوش.   وكل بلد يملك الشعب الذي يستحق والجيش الذي يستحق.
هل من الضروري أن تكون المعادلة أن يفوز الجيش بخسارة الشعب أو العكس؟ إنها معادلة تطبق فقط في البلدان المتخلفة في كل الميادين، ونحن أحد هذه البلدان. فلا نعرف مثالا عن بلد طوره الجيش ولدينا العديد من المحاولات في العالم خلال القرن الماضي. وعلى العكس، نعرف يقينا أن أكثر الجيوش صلابة وقوة هي تلك التي تتطور في ظل أنظمة ديمقراطية وحقوق الإنسان.
لم يتعدى الشعب التركي على جيشه للنيل منه نهائيا ولم يحيله على التقاعد، بل ذكره فقط بدوره الطبيعي وبمهامه الأساسية، تماما كما فعل الشعب البوركينابي قبل سنة في ظروف مشابهة. وللعلم، فإن على رأس مهام أي جيش في العالم هي حماية التراب الوطني من التهديدات الخارجية، وهي مهمة سيقوم بها على أحسن وجه إذا ما ركز جهده على مهنيته وتطوير قدراته الأساسية بدل التحايل المستمر للإبقاء الشغب تحت سيطرته بوسائل الخوف والتجهيل عبر أحزاب مزيفة وتزوير الانتخابات.
لم يعد بلاد في العالم يمشي على رأسه ويحمل عقلية الدوار عدا الجزائر، وفيه يظن الجميع أن لا حياة للبلاد بدون الجيش. ولو كان الأمر صحيح، فعلينا بالاندثار والزوال من وجه الأرض لأننا لن نكون بعده لا شعبا ولا مجتمعا ولا وطنا، بل قطيع بشر و”حشيشة طالبة معيشة” كما يحلو لنا تكراره مرارا ومرارا، ونقبل أن نعيش في كل الظروف مقابل “لقمة العيش” والتكاثر من غير سبب ولا هدف.
هناك عقيدة “وطنية” منغرسة لدى الشعب الجزائري وأحزابه السياسية تقضي منذ الأزل أن الجيش الشعبي الوطني هو حامي الدستور والسيادة الوطنية ووحدة الشعب والوطن. وهي عقيدة خطأ عالميا لأنها غير واقعية ومضرة بصحتنا العقلية والفكرية والمعنوية. وإذا لا بد من الدليل الألف، فها هي تركيا تمنحه إيانا قبل أيام فقط في بضعة سويعات.
إن حماية الدستور ووحدة الوطن والشعب والديمقراطية هي من مسؤولية المجموعة كلها وليس من مهمات إحدى المؤسسات. فالكل معني بها من جيش ورئاسة ورجال الأعمال والنقابات والمعارضة…. فمهمة الحفاظ على الدستور منوطة بالقوات الحية للبلاد وللسيادة الشعبية كما هو منصوص عليه في ذات الدستور، وإن كنا نعرف أن ذلك من باب التمويه وليس الجد في حالتنا نحن، بينما برهن لنا الشعب التركي أنه حقيقة معاشة لديه.
لا نعرف في التاريخ  عبر العالم مثالا عن شعب يمس دستوره وشرعية مؤسساته السياسية عندما تكون شرعية وعادلة وفاعلة، لكن الأمر يأتي دائما من أشخاص يدفعهم حب السلطة والثروات، ومن المصابين بهلوسة العظمة والمتحايلين. فهؤلاء يستعملون القدرات العسكرية التي منحتهم إياهم المجموعة الوطنية من أجل حمايتها من التهديد الخارجي، ضد المجموعة ذاتها من أجل إشباع نزواتهم الشخصية ومصالح قبيلتهم وأناهم المنتفخ كما هو الحال لدينا منذ البداية.
قمن انتهك الدستور في الجزائر من غير بن بلة وبومدين وبوتفليقة، ليس في صالح الشعب بل لصالحهم الشخصي الوحيد؟ متى تم استشارة الشعب الجزائري أو إشراكه عندما حان وقت التعديلات الدستورية؟ فمتى ستأتي ساعة الفرج والتخلص من الاستبداد والانتهاك المتواصل بإبقائه عنوة في ثقافة الدوار بتهديد “شنابيط” لا تعرف جشاعتهم حدودا؟
في سنة 1979 ذهبت إلى إيران لأعيش الثورة الإيرانية من الداخل وعندما رجعت إلى الجزائر، نشرت تحقيقا في الموضوع لأشارك الجزائريين انطباعاتي من تفاعلي مع الفاعلين في تلك الثورة والواقع المعاش هناك. وفي السنة التي تلتها، جدث انقلاب في تركيا ولمست الواقع أيضا، لكنني لم أكتب شيئا لأنه لم يكن فيه ثمة شيء أفوله عن بلاد أكله الحرمان وأسكته الرعب وفيه المساجد فارغة من الناس تسكنها فقط الأرواح بسبب سياسة أتاتورك.
لقد مرت عشرون سنة بين آخر الانقلابات الناجحة في تركيا (1997) وبين هذا الذي عشناه قبل أيام والذي فشل أمام أعين العالم. وخلال تلك السنوات، تطورت تجربة ديمقراطية وحيدة من نوعها أكدت نجاعتها. وهو الوقت الذي سمح أيضا ببروز وتكوين مجتمع مدني  ومجتمع سياسي وشعب مواطن ويحب العمل، كما كان يتمناه مؤسس تركيا الحديثة، كما أبرزناه في بداية مقالنا. من هو الحاكم الجزائري الذي نطق بنفس الكلمات تجاه مواطنيه؟ ولا أحد، لأن كل واحد من بينهم كان يرى نفسه على أنه هو شخصيا خليفة الله في الأرض وهم لا يحملون أدنى ثقافة عن أي شيء كان.
تعود إلى تركيا لنقول أنه أول انقلاب يتم إحباطه في تاريخها، وهو بالأرجح آخر انقلاب في هذا البلد لأن الفكرة القديمة التي تدعي أن الجيش هو “حامي” المصالح العليا للوطن قد تراجعت شيئا فشيئا حتى داخل الجيش نفسه، ومن كان لديه بعض “الطمع” في ذلك، فإنه رأى على المباشر أنه لم يعد لها مجال وبأن الأجيال الجديدة في الجيش لو تعد تحمل نفس الذهنية بل هي تحترم الديمقراطية روحا وقالبا.  وفي المستقبل، فإن الجيش التركي هو من سيكون في خدمة الشعب السيد الذي لا يملك سوى صناديق الاقتراع للإدلاء برأيه و اختياره، ولكنها وسيلة قوية ويحميها وبعض عليها بالنواجذ. ويمكننا أن نعتبر في آخر المطاف أن ما حدث في الأيام الأخيرة سوى حدث عارض في طريق تركيا السريع نحو التقدم كما سطره أتاتورك، بعد أن تضمد جراحها وتدفن موتاها الذين ضحوا من أجل مواصلة الطريق.
وها نحن مجبرون كل الجبر على الاعتراف بحقيقة مرة وهي أننا البلد الوحيد الذين بقينا متعلقين بذكرى الجيش الإنكشاري الذين كانوا ينصبون الخلفاء في اسطنبول والدايات في أيالة الجزائر التابعة للإمبراطورية العثمانية آنذاك والتي كان يحكم في زمام أمورها بضعة آلاف الإنكشاريين، والذين لم يصمدوا أكثر من ثلاثة أسابيع أمام الجيش الفرنسي في جويلية 1830.
إن الانقلاب في الجزائر تم ضد الشعب الذي أقصي وتبهدل وقمع عدة مرات، ومنع من التنفس قبل أن يستنشق هواء الاستقلال حتى، فكل ما هم بالتنفس، أغلق فاه. وإن كنا نبني ك نبني كلامنا للمجهول، إلا أننا نقصد به “النظام” الذي قرر أن الشعب الجزائري لن يختار أبدا من سيسير أموره ولن يعرف شيئا عن كيف تسير ولن يعرف أبدا نتائج انتخاباته ولن يعرف أبدا مصير أمواله العمومية.
لم يسقط الجيش الشعبي الوطني من السماء لتخليص الشعب الجزائري، بل تكون من أبناء هذا الشعب الذي دفع القليل المادي الذي كان لديه والكثير من قواه المعنوية التي كانت تجعله يؤمن بجزائر العدالة والكرامة والكفاءة والديمقراطية والقيم الاجتماعية كما هو مدون في تصريح أول نوفمبر 1954. وعندما تحول هذا الجيش المحارب من أجل الحرية إلى جيش قوي وتنظيم عسكري، فإن الشعب هو أيضا من احتضنه وموله ومده بالمعلومات و حماه من تمشيط الجيش العدو.
إن الفرق بيننا والشعب التركي بدا واضحا كل الوضوح إلى درجة التحرج من ذلك الوضوح. ففي الجزائر، سيمكن في 2019 أو حتى قبلها، أن يوضع على رؤوسنا سارقا اختلس مئات الملايين من الدولارات والدينارات، أو جاهلا يتصبب جبيننا عرقا لمجرد رؤيته، أو مختلا عقليا غير واع بإعاقته ويحسب نفسه نابغة زمانه، أو خادما جبله الله على الخدمة المتفانية لأسياده أو شبحا لم يعد له وجود جسدي. وإن كان أحد هذه السيناريوهات ممكنة، فالسبب راجع إلى كون لا أحد سيحرك ساكنا إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها….

* المقال صدر في 18 جويلية 2016 في ” الجزائر اليوم ” و لوسوار دالجيري.



جواب السيد نورالدين بوكروح على اللواء علي غديري

سيادة اللواء،
لقد قرأت بفرح وسرور أفسدهما عليّ القليل من الأسف، جوابك على مقالي الذي أَردتُ لهُ أن يلفت انتباه المسئولين السامين الحاليين والسابقين في الجيش الوطني الشعبي، بعد ما عشناه خلال الشهر المنصرم من أحداث بالغة الخطورة. لم أكن لأجد ما أضيفه زيادة على ما كتبته أنت بذلك الأسلوب الجميل رفيع المستوى لو لم تستوقفني سوى بعض النقاط التي أود اقتراحها حتى يتسنى لك تصحيح النظرة التي ألقيتها على ما أردت أنا الوصول إليه في مقالي.
نبرة الأسف التي أتحدث عنها تملكتني منذ السطور الأولى لمقالك، حيث اكتشفت أن رسالتي وصلت إلى عنوان خاطئ، وأن مقالك الجميل بأكمله قد بني على سوء تفاهم. إذ أنك حينما كتبت بأنك تجيبني ” بصفتك واحدا من هذا وذاك المسئولين السابقين”، قد وضعت نفسك ضمن المجموعة التي كنت أقصدها، بينما في الواقع يعلم العام والخاص أنك لست واحدا منهم. اطمأن إذا يا سيادة اللواء فأنت بريء ممن قصدتهم براءة الذئب من دم يعقوب، وابتهج فشرفك مصان لا غبار عليه، كما لا يمكن لأحد أن يدعي محاسبتك.
أنا لم أقصد في مقالي متقاعدي الجيش الوطني الشعبي، وذلك مهما كانت رتبهم، بل قصدت الحفنة الصغيرة من مسؤولي الجيش السامين السابقين التي أتت بالرئيس الحالي، والذي لم يعد يريد الذهاب مهما كلف بقائه للبلاد من أزمات. هذا وقد كتبت أيضا أنك تعتبر بأن ” عليك الإجابة على بعض النقاط التي تخصك برسم الصفة التي تحملها”، لكنك لم توضح لنا ما هي هذه الصفة، ولا ما هو جوابك حقيقةً على تلك النقاط.
وأسهبت أيضا بعد بضعة سطور كاتبا ما أجده معاكسا لما قلته من قبل: ” أما في ما يخص الجيش فكنت أحبذ ألا أتكلم عنه، فيوجد في الجيش من يمارس الوصاية عليه “، وهذا ما أعتبره اعترافا صريحا منك بأنك لست واحدا من أولئك “الوصاة” على الجيش. ثم تابعت بعد ذلك في ما أعتبره نوعا من “تغيير الوقائع”، الذي حتما ارتكبته عن غير قصد، بقولك ” للجيش من يمارس الوصاية عليه، و هؤلاء تفاديت جيدا أن تقسو عليهم مفضلا الهجوم على “السابقين””.
بكل بساطة كان يكفي يا سيادة اللواء أن تتابع قراءة مقالي لتجد أن ما كتبته هو عكس ذلك تماما. فقد ذكرت بالاسم نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش حين أعبت عليه عدم ملائمة التصريحات التي أدلى بها في الأيام الأخيرة. هل يوجد من هو أعلى منه في الجيش يا سيادة اللواء؟ رئيس الجمهورية ؟ لقد أخذ هو أيضا أكثر من نصيبه في هذا المقال وفي آخرين قبله. وهاهي الفقرات التي لا أدري كيف تغاضيت عنها:
” حيث عندما أتحدث عن هذه المؤسسة العزيزة على قلوب كل الجزائريين وهو ملكهم وإرثهم المشترك، بما فيهم أنا الذي خدمته بكل فخر واعتزاز مدة 27 شهرا في إطار الخدمة الوطنية، فإنني أقصد قياداتها العليا وليس مجمل قواتها الأرضية والجوية والبحرية بجنودها وضباطها وهياكلها وعتادها وفرق المخابرات التابعة. لا يمكننا القول بأن جيشنا صامت بما أنه يعبر عن رأيه بانتظام عبر افتتاحيات مجلته الرسمية “الجيش”، أو شفويا عندما يتحدث قائد الأركان باسمه في مناسبة أو أخرى، وهو يمثله رسميا، كما فعل مؤخرا اللواء قايد صالح من قسنطينة للتذكير بأن الجيش الجزائري “جيش جمهوري”. لكن “هْنا يختلفوا العلماء” جنرال!
لكن في واقع الأمر، لقد تحول الجيش الجزائري بقيادة اللواء قايد صالح إلى جيش الرئيس ووزير الدفاع الذي غير الدستور عدة مرات خلال عهداته الأربع ليخيطه على مقاسه بل وليلتصق بجلده كما بعض ملابس الرياضيين والفنانين.
ما معنى أن نقر بالولاء للجمهورية حين نعلم أن هذه “البيعة” ليست “للشعب السيد” بل لرجل مخفي، لا ينطق ولا يتحدث ونعلم أنه مريض مقعد، منقوص القدرات الجسدية والفكرية. عندما تحولت أركان الجيش بين الفينة والأخرى، بعد سلسلة من القرارات، الساعد المسلح والمهدِدِ الذي يحتمي وراءه نظام محتضر يحكم البلاد، بل ضيع البلاد بأن أفرغ الدولة من محتواها ودورها، وجعل منها كيانا لا يسير شؤون البلاد ولا يضمن سلامة الشعب والتراب. والكل يرى بأم عينيه أنها دولة هائمة على وجهها في القفار؟
أعلن مؤخرا قائد الأركان وهو يبدي علامات رضا بالنفس ذكرتني بصدام حسين بأن جيشنا من بين أقوى الجيوش في العالم. هنا أيضا “يخْتلفوا العلماء” جنرال!
وأنا أستند في قولي عما يقول به العلم الحربي العالمي، واستند على تجارب آخر الحروب في العالم لكي أقول أن جيشا لا يستند إلى اقتصاد وتكنولوجيا مستقلة وفعالة، ولا ينتج العتاد العصري المستعمل اليوم، بل يشتريه من غيره، وبأن جيشا لا يملك صناعة قادرة على صنع الأسلحة التقليدية والاستراتيجية على غرار الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، دون الحديث عن بلدان الغرب واليابان، إن جيشا كهذا لا ولن يصلح سوى أن يضرب شعبا ضعيفا ومستضعفا لكي ينقسم ظهره أمام مستبد صغير لا يعدو يتجاوز استبداده ساحة دوار صغير أو سمالة”
يبدو واضحا إذا أنك لم تكن على صواب حين كتبت عني: ” إن الهجوم بشراسة على “السابقين” أسهل من مهاجمة “أسياد الوقت الحالي”. أين الشرف و أين الشجاعة في ذلك إذا، وأنت تحاسب “السابقين على فقدانهم إليهما؟ “. لم أفهم كذلك كيف غاب عنك أيضا ما كتبته في نفس المقال عن المحاكمة التي جرتني إليها وزارة الدفاع الوطني في 1991. ألم يكن أولئك “أسياد ذلك الوقت”؟
هل تعرف الكثير ممن بلغت بهم “الجرأة” أن يقولوا ما قلته أنا كتابيا و ليس بالهمس في الآذان فقط ؟ وأنت بنفسك، هل جربت فعل ذلك؟ أتريد المزيد من الأدلة على ما قلته عن “أسياد الوقت الحالي” في إطار ظروف أخرى؟ ستجدها في العديد من المقالات الأخرى، لا سيما ذاك الذي صدر في جريدة ” Le Soir d’Algérie » بتاريخ 10 جوان 2015 تحت عنوان (و يا للصدفة) ” ألم نعد سوى جبناء؟ “:
” لو كان قايد صالح مجرد “شومبيط” مكلف باستتباب هدوء القيلولة في دواره، لما اكترث أحد برسالة المبايعة التي أرسلها مؤخرا إلى عمار سعداني الذي يعتبر آخر “بنادم” في الجزائر يستحق أن يوضع على رأس الآفالان، حتى و هو كما هو اليوم ملطخ و راكع تحت سنوات من الخنوع، لأن هذه الحروف الثلاثة لا تزال تمثل الرمز الذي استشهد من أجله مليون و نصف من الشهداء. لكن المشكلة أن ذاتَ القايد صالح يحمل رتبة فريق، و يمارس وظيفة قائد أركان الجيش الشعبي الوطني، و يتبوأ منصب نائب وزير الدفاع الوطني. و بسبب هذه الصفات الثلاث، لم يكن من حقه أن يوجه رسالة كالتي وجهها إلى من فُرضَ بالقوة على رأس الأفالان، و لا إلى أي كان في حزب آخر. و بما أن “الحق” ليس في صفه، فلم يبق له إلّا “الدوس على الحق”، كمبرر لهذه المبادرة التي لم يسبق لها مثيل منذ 1989، سنة انسحاب الجيش رسميا من الحياة السياسية.
فلمن يمكننا إذا أن نشكو هذا التعدي الصارخ على الأخلاق العامة والحق و الديمقراطية و مصلحة البلاد معا؟ إلى الله؟ يجب علينا أن ننتظر يوم القيامة لنعرف ما سيقرره. إلى الجيش ؟ لكن قايد صالح هو الجيش، و هذا الأخير “في غاية الانضباط” على حد قوله. إلى “القاضي الأول في البلاد” إذا؟ لكن هذا الأخير هو المهندس الأول لكل المؤامرات التي تحاك ضد الأخلاق العامة، الحق، الديمقراطية و مصلحة البلاد، ناهيك أن المشتكى منه هو في نفس الوقت مساعده المكلف ب “العصا”.
بما أنه لا يمكننا انتظار شيء من الله في الوقت الحالي، وأن الجيش سيبقى صامتا أمام التعدي على الأخلاق العامة والحق و الديمقراطية و مصلحة البلاد، و أن “القاضي الأول” ليس ملاذا بل المصدر الأساسي للمشاكل، لا يبقى لنا إلا حل وحيد و ملاذ أخير هو نحن، الشعب، الذي كما ينص عليه الدستور الحالي، هو “صاحب السيادة الوطنية”…”
هل يكفيك هذا كدليل على الشجاعة؟ إن لم يكف يمكنني أن أعود وإياك إلى1998 و قضية “بتشين” التي كلفتني الاعتقال والاستجواب طيلة يومين في المحافظة المركزية للشرطة. أنت كنت آنذاك في منصب يجعلك تعرف جيدا أن بتشين كان في أوج قوته حينها. هذا وأود أن أضيف هنا أنه، و بالرغم مما حصل في الواقع، إلا أن التاريخ سجل بأني أنا الذي كنت السبب، و هو ما استغربه و أعترض عليه، في “سقوطه” لمجرد أني كتبت بعض المقالات في الصحف
يمكن أن أعود بك كذلك إلى سنوات الثمانينيات حين كتبت في مقال “اشتراكية البقرة الحلوب” الصادر ب “الجزائر الأحداث Algerie-Actualité” لـ 10 أكتوبر 1985:
مما لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه، في الخارج و إلى وقت قريب، لا يتحدثون عن “جزائر جبهة التحرير” بل عن “جزائر الكولونال”.هو أكيد أسلوب لاستفزاز الجزائريين، و تشبيههم بالعديد من الدول الإفريقية حبيسةُ قدر الانقلابات. لكن من جهة أخرى لان حزب جبهة التحرير لم يظهر إلا كإطار نظري، كظل شبح، و كأنه “وزارة الكلام الفارغ” التي تُكلف بمهام غير حقيقية كقيادة حملة التشجير أو المشاركة المناسباتية كديكور في حملة انتخابات بلدية.
و كتبت في مقالك أيضا، دائما في سياق رغبتك بإلصاق صورة الجبن أو الإنتهازية بي: ” كلنا مسئولون أمام التاريخ لأننا قبلنا، من باب أن السكوت علامة القبول”. لا يا سيادة اللواء، أنا لم أقبل و قلت لا، أو بالأحرى كتبت ” لاااااا ” . قلتها منذ 1971، و كتاباتي التي تشهد على هذا منشورة على صفحتي بالفايسبوك. يمكنك الاطلاع عليها هناك و ستفاجأ بما ستجده داخلها.
إليك إذا بعض من “البراهين” التي أتمنى أنها ستطلعك على حقيقتي أكثر مما يمكن أن تفعل الشائعات و أنصاف المعلومات:
( 1في جريدة المجاهد ليوم 15 أفريل 1981، نشرت مقال” الجزائري ووجهة العالم” ، أين شجبت الأنظمة المستبدة بهذه الكلمات:
” إنّ الشعوب المنعتقة من الاستعمار، وبعد مرور فرحة سنوات الاستقلال الأولى واصطدامها بواقع يزداد تعقيدا في كل عام، هذه الشعوب لم تعُدْ تتحمل هذا (الحق الإلهي ) الذي يحظى به حكامهم والذي يسمح لهم بسوء التسيير، فقد انتبهت الشعوب إلى أنّ الأشخاص لا قيمة لهم، وأنه من الضروري إيجاد مؤسسات لا تفنى بفناء الأحداث أو الرجال… وبما أنّ هذه الشعوب قد اكتوتْ بنار تجربة عبادة الأشخاص، والمهدي المنتظر، والرئاسة مدى الحياة، وليقينها الآن بأن الرئيس يمكن أن يكون مجرّد شيطان أو حرامي حقير، ولاقتناعها بأن قيمة الشعب تقلّ كُلّما عُظِّمَ الشخص الواحد، لذلك كله انبرت بالقضاء على هؤلاء القادة المزيّفين الواحد تلو الآخر: بدءاً بالشاه ومروراً بـ سموزا، وانتهاءً بـ بوكاسا”
ربما يذكرك هذا الكلام بشيء من واقعنا اليوم؟ هذا أكيد، رغم أن هذا المقال يعود إلى 36 سنة مضت
2) في “الجزائر الأحداث” ليوم 04 أكتوبر 1984، نشرت مقال “مثلث برمودا الجزائري” الذي جاء فيه:
” سيأتي يوم لن يبقى لنا فيه ما نقوله، لن نجد وصفا مناسبا لما نحسه من توجّس وخيبة، ولن يجد أيّ منّا ما يُعاتب به غيره، وستكون الكلمة الأخيرة لقوة الكُمون التي ستأتي على آخر طاقاتنا… ولقد مرّت بلادنا على مرحلة هذيان كان لها بالغ التأثير في تصوّراتنا الذهنية للأشياء.
ولا زالت بعض تلك الآثار إلى يومنا. فلقد كنا نتخيّل في تلك الفترة أننا صرنا بروسيا في حوض البحر المتوسط، وكنا نعتقد أنّ الرفاهية ستتحقق في نهاية المخطط الخماسي الثاني ببعض البراميل من البترول. أما الاستقلال الوطني فكان لكل واحد منّا استقلاله.
وهكذا رحنا ننفخ عباءاتنا ونقنع أنفسنا بالأوهام حتى انزلقنا في هاوية جنون العظمة. وبهذا انتهى بنا الأمر إلى إقحام أنفسنا (لا شعوريا؟ )في دروب الفساد، ونشأ نوع من العقد الضمني بين الميول الأبيقورية الشائعة لدى بعض كبار المسؤولين وبين الزيغ الفرويدي الشائع عند كثير من المحكومين، وبمقتضى ذلك العقد يتمّ تقاسم الثروة الوطنية حسب أسلوب الاستحواذ الذي يتبنّاه كل طرف. وكان ذلك أشبه شيء بالنهب المُنسّق. لكنْ، حذارِ ! مهلاً ! فنحن كثيرا ما نميل إلى ربط الفساد بالمال وإلى حصر نظرتنا في (الكبار).
وفي هذا خطأ لأنّنا نتجاهل أو ننسى أنّ أخطر أنواع الفساد هو فساد العقل، ذلك الفساد الذي يُذيبُ الشأن العام، ويقضي على روح التمدّن، وعلى الضمير الوطني. فالضمير الوطني يبقى ويستمر رغم أنّ المال لا يطرح أي مشكل. وبالإضافة إلى هذا فإنّ فساد المواطن البسيط ليس أقلّ ضرراً، بل بالعكس، لأن فساد المواطن البسيط يتغلغل في كلّ مكان ويمسّ كلّ شيء، ويُشوّه أبسط العلاقات الاجتماعية في كلّ المجالات.
ذلك أنه إذا كان هؤلاء الكبار قد استغلوا مواقعهم ضمن تسيير الشؤون الكبرى في جمع الثروة، فإنّ كثيرا من (الصّغار) لم يترددوا في الاستيلاء على كلّ ما وصلتْ إليه أيديهم: فهذه فوائد غير مُستَحقّة، وتلك رواتب فوق التأهيل والمردود، أوعمليات مالية احتيالية، أو تزوير بكلّ الأصناف…
وهكذا حُوّل رأسمال كثير من المؤسسات إلى البطون، بل إنّ الأثاث نفسه كاد أنْ يُلتهم. ولهذا فإنّه ليس من الحكمة أن ننحاز إلى طرف على حساب طرفٍ آخر، والمسؤولية يتقاسمها الكبار والصغار على قدم المساواة. ومِنْ جهةٍ أخرى فإنّ تحميل المسؤولية للطرفين بهذا الشكل قد يؤدي إلى الوقوع في شباك لغة الخشب.
ويعني ذلك أنّ تحديد الطرف المُدان لا يكون بالاختيار بين النظام ورجاله من جهة ـ هذا إذا جاز أن نُفرّق بينهما ـ وبين المظاهر الخارجية من جهة أخرى  « إنّ تأثير الأشخاص كان بالغاً في شؤون وطننا على كل الأصعدة.
وإنّ أفدح خطإٍ ارتُكِبَ في هذا البلد من الناحية العملية هو تجاهل مُسلّمةٍ أساسية في حياة الأمم، وهي: أنّ المبادىء أقدس من حياة شخصٍ أو مجموعة من الأشخاص. فإذا أعطيت الأحروية لشخصية الأفراد وحدها، وهي في الأصل لا تُعطى إلاّ للمبادىء والقيم والأفكار والقوانين، فلا شيء يمنع من أن يصطبغ النظام كلّه بطابع أولئك الأشخاص، بما يرتكبونه من أخطاء..
. وما يُشيّدُ على مثل هذه الالتباسات هو أسرع شيء للانهيار. أما الأمم التي تُسْنِدُ مصائرها للمبادىء والقوانين فهي أمم باقية وخالدة ”
3) في 01 نوفمبر 1984، احتفلت الجزائر ببذخ ربما يمكنك أن تتذكره بالذكرى الثلاثين لاندلاع الثورة. في هذا اليوم أيضا صدر عني مقال عنوانه “الشعب و التاريخ” على صفحات “الجزائر الأحداث”، حاولت فيه أن أخفف بعضا من الحماس المفرط الذي انتابنا آنذاك، و اقترحت عليك و على الجزائريين أن نضرب موعدا في جزائر… 2014. فقد كتبت حينها:
ماذا سيكون حال الجزائر خلال ثلاثين سنة؟ سنة 2014 من الألفية الثالثة؟ من المؤكد أن لا أحد يمكنه الإجابة على سؤال كهذا، لكن لو عرفنا القواعد الصلبة و نظريات الحياة النشطة في التاريخ، يمككنا المجازفة قليلا و التصريح على الأقل بما هو أساسي…
هل سنستحق التضحيات النبيلة لشهدائنا و مجاهدينا، أم سنظهر في تلكم اللحظات من بين الملعونين في الأرض أو المحرومين من فضاء ما بين المجرات”
هاهي المفاجأة الربانية الموعودة بين عينيك اليوم يا سيادة اللواء: العهدة الرابعة و نتائجها.
4) في مقال “واجب الأحياء” الصادر في 06 ديسمبر 1984 على “الجزائر الأحداث” أيضا، عدت إلى موضوع الاستبداد:
”  ما أكثر الملايين من الأرواح البشرية التي أزهقت وضُحّي بها على معبد الخطأ بأيدي قادة أخطؤوا في فن الحكم أو قيادة الثورات الاجتماعية، فراحوا يُثخنون شعوبهم ضربا بالسيوف. وللأسف فإن عهد (الزعماء) و(القادة) و (آباء الأوطان) لم ينته بعدُ على هذه الأرض التي لا زلنا نرى فيها أشخاصا مغرورين وهم يستعدون لإقحام شعوبهم في مغامرات كالتي عرفها الشعب المصري أو الغيني أو الشيلي .”
سيادة اللواء، إن النظرة التي تحملها عني خاطئة وآمل أن تصححها، ليس لأني أحتاج لذلك، فأنا معتاد على مثل هذا، و لكن لتتمكن، إن قررت أن توجه لي إجابات أخرى في المستقبل، أن توثق جيدا هذه الأخيرة. فأنا شخصيا “ضربت المثل”، كما أوصت بذلك مقولة ألبير كاميAlbert Camusالتي ختمت بها مقالك، و إنما لم يكن في بلادي أحد آنذاك ليفهمني، ناهيك أن يحذو أحدهم حذوي أو يمشي على خطاي. و هذا الكلام يبقى صحيحا حتى في وقتنا هذا
أما الفقرة التي بدأتها ب: “نحن مسئولون جميعا أمام التاريخ…” فلم أستطع مواصلة قرائتها قبل أن أود مقاطعتك حالا لأبرهن لك أنك في هذا أيضا مخطأ، لكن هذه المرة فيما يخص شخصي أنا. فأنت تعترف أنك “قبلت”، و هذا اعتراف يشرفك، لكن من فضلك لا تقحمني مع هذا ال “جميعا”، لأن مكاني ليس داخله. مشكلة التعميم هذه وجدتها في كامل مقالك يا سيادة اللواء، فأنت تضع نفسك في موقع لم يضعك فيه أحد، و تضع الآخرين في مواقع ليسو فيها.
الآن يمكن أن أكمل فقرتك: “… مسئولون أمام التاريخ لقبولنا أن استحواذ أقلية على هويتنا الوطنية، و جماعة من الأصوليين المتوحشين على ديننا، و لجيل واحد على تاريخنا…” هل تريد أن أريك أمثلة عن مئات المرات التي تكلمت فيها و كتبت عما أسميته “العصبيات”، و التي عرّفتها على وجه التحديد بالاستحواذ و…الخ، و ذلك منذ 1989؟ إذا كان يوجد في الجزائر من يزعم أنه وصفها كما وصفتها أنا، و أنت أولهم، فليتقدم و يجهر بذلك.
بقي موضوع آخر فتحته في مقالك و لكنني لن أتطرق إليه اليوم، و هو مشاركتي في “الحكومة”، و التي أتمنى أنك تعرف جيدا بأنها تختلف عن “السلطة”. هذا لأن هذا الموضوع سيتطلب مني أن أملأ صفحات و صفحات من هذه الجريدة. لقد سبق لي و تحدثت عن نبذات منه على صفحتي في الفايسبوك منذ 2011، أو مجيبا على الأسئلة التي يطرحها علي أصدقاء ذات الصفحة الذين وعدتهم بأني سأتكلم في ذلك يوما ما. أضن الآن أن هذا اليوم قد اقترب.
الذين توجهت إليهم في مقالي الأخير يا سيادة اللواء هم القادة العسكريون “أصحاب القرار السياسي” و ليس كل الجنرالات، و أنت تعرف أن هؤلاء يعدون على أصابع اليد الواحدة. أنا شخصيا عرفت واحدا منهم فقط، كان أهم واحد فيهم و هو مذكور في ذات المقال. هو أيضا قرأ ما قرأته أنت، وليكن في علمك أيضا أنه سمع مني شخصيا أكثر مما قرأته. فماذا نفعل الآن؟
مع فائق احترامي

رد السيد نور الدين بوكروح على مجلة “الجيش”: أنا أرفض تهديداتكم وتخويفكم

نشرت منذ أيام على صفحتي بالفايسبوك رأيا حمل عنوان “الجيش الجزائري: صامت لا يريد السماع”، و قد عقّب عليه بعد أيام “مصدر موثوق” مقرب من نائب وزير الدفاع قائد أركان الجيش الوطني الشعبي من خلال تصريح نشرته جريدة ناطقة بالعربية. و كوني رأيت في هذا “حقا للرد”، فقد قمت بنشره على صفحتي ثم عقبت عليه عبر إعادة نشر مقال كتبته سنة 2015 عنوانه ” الشعوب و الجيوش”.
بعد ذلك قام لواء متقاعد من الجيش بكتابة مقال يرد عليّ فيه كاتبا بأنه متفق معي في موضوع المقال، لكنه يعيب علي كوني قسوت على مسئولي الجيش السابقين أكثر مما فعلت مع الحاليين. أيضا اعتبرت رأيه هذا كحق في الرد و قمت بنشره على صفحتي، ثم أجبت عليه بمقال آخر. لا أعلم ماذا سيفعل هذا اللواء الآن لكني أود أن أعرف.
أما عندما سمعت البارحة عن الافتتاحية التي جاءت على صفحات مجلة “الجيش”، فقد وجدت نفسي حائرا أمام ثلاثة أسئلة : كيف أجيب ؟ على من أجيب ؟ و على ماذا أجيب؟
1)  كيف أجيب؟ : لأن الأعراف و القواعد الصحفية تنص بأنه عندما تتعرض وسيلة إعلامية في كتاباتها لإنسان ما، ذاكرة إياه بالاسم أو واصفة إياه بطريقة تسمح بالتعرف عليه، فإنه يمكن لهذا الأخير أن يمارس حقه بالرد، خاصة عندما يعتبر بأن ما كتب عنه يطعن في شرفه. هل “الجيش” مستعدة لمنحي هذا الحق؟ و إن رفضت ذلك فهل توجد وسيلة لإرغامها على احترام حق المواطنين، بما أنه يفترض بأننا نعيش في دولة قانون و ليس في “باركينغ” فوضوي؟
2) على من أجيب ؟ : لأن هذا المقال لم تكتبه مؤسسة لا جسد لها، لكن كتبه بشر مثلنا. و بما أن ملكية “الجيش” تعود إلى وزارة الدفاع الوطني التي يعتبر رئيس الجمهورية مسئولها الأول، فإلى من أوجه حقي في الرد؟ و من يمكنني أن أقاضي بتهمة القذف إذا ما أردت ذلك؟ الرئيس؟ قائد الأركان ؟ رئيس التحرير؟ كاتب المقال ؟ الدولة ؟ و في أي قضاء يمكنني أن أفعل ذلك، المدني أم العسكري؟
3)  على ماذا أجيب؟ على شتائم وصفتني ب “المرتزق الذي باع روحه للشيطان، واضعا قلمه في خدمة مصالح انتقامية”، جملة بالية من لغة خشب تعود إلى القرون الوسطى، في عهد السحرة و العفاريت؟ لو كنت حقيقة قد بعت روحي للشيطان و وضعت قلمي في خدمة “مصالح انتقامية”، فلماذا لا تعتقلون الأول و تهجمون على الشياطين بما أنكم تمكنتم من تحديد مواقعهم؟ هذا الكلام ليس عسكريا البتة !
لا توجد وزارة دفاع واحدة في العالم قامت بكتابة مقال افتتاحي يحمل تهديدات تكاد تكون صريحة ضد أحد المواطنين، تزامنت مع حملة صحافية بفبركة “قضايا”. هذه أساليب تعرف بها عادة العصابات والمافيا، و ليس دول القانون.
إعلم يا سيدي كاتب “الجيش” بأني أكتب في صحافة بلادي متطوعا و بالمجان منذ نصف قرن، بينما ارتكبت أنت مقالك لأن أحدا أعطاك الأمر بذلك، و قد طبقت هذا الأمر لتتمكن من الاستمرار في “أكل الخبز”، و هذا ما يجعلك أنت أقرب مني إلى تعريف مصطلح “المرتزق”. قلمي يا سيدي كان محبوبا جدا عند رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، و قد كتب له عددا كبيرا من الخطابات الرسمية التي ألقاها بفخر و تحت التصفيقات، داخل و خارج الوطن.
هذا القلم محبوب أيضا، و إن لم يعجبك ذلك، عند عدد كبير من الجزائريين منذ عشرات السنين و ستجد من بين هؤلاء بعضا من أقربائك. و هو محبوب و معترف به عند أبرز المثقفين في الجزائر و خارجها منذ السبعينيات و الثمانينيات. أنا متيقن بأنك إذا ما حدث و التقينا في يوم ما فإنك ستقول لي: “على بالي يا سي نور الدين، بصح راك تعرف حالة العسكري”.
يبدو لي بأنك  تعيس (و أرجو أن يكون شخصك فقط وليس وليس كامل الجيش)  لكوني ” أتطرق إلى كل المواضيع و الاختصاصات من الشريعة إلى التاريخ مرورا بالاقتصاد و علم الفلك و شتى العلوم و المعارف الأخرى” كما تقول في مقالك. طبعا، فهذا هو ما نتعرف به على المثقف و رجل السياسة الحقيقيين، و هذا ما يفرقهم يا سيدي عن المثرثرين المتخلفين رواد لغة الخشب.
لست أدري ما هي رتبتك لكن، كوني كنت محافظا سياسيا خلال تأديتي للخدمة العسكرية منذ أربعين سنة، لا أتصورك في مخيلتي أكثر من “جودان”. مع أن معرفتي للواقع الجزائري تجعلني لن أفاجأ إذا كنت قد وصلت في الواقع حتى إلى رتبة جنرال، بينما كان يجب أن تسرح من “الجيش” للنقص في قدرات التحليل و لانتهاء تاريخ صلاحية الأفكار.
أتخيلك في صورة أقرب إلى الحقيقة و أنت منهمك خلف مدفع تضبطه لتقصفني به، فأنت و بعض من يفكر مثلك، لا زلتم تعتقدون بأن حرية التفكير و التعبير هي “انتهاك لوحدة الجيش” أو “خيانة عظمى”
أنت و الذي أمرك بشتمي باسم الجيش الوطني الشعبي، لستما الجيش بل أنتما موظفان فيه. هذه المؤسسة ليست ملكا لكم بل هي ملك للأمة التي لم تضع بين أيديكم القوة لكي تستعملوها ضدها، ضد مواطنين ينددون بالشر و التعدي على مصلحة البلاد.
لا الدولة و لا الجزائر ملككم، فحصصنا في ملكية هذا البلد متساوية و قيمتها متعادلة. نحن أربعون مليون مالك بالتساوي للجزائر. فوق الجيش الوطني الشعبي، فوق رئيس الجمهورية، و فوق الدستور الذي يمكن أن نضع فيه ما نشاء و الذي في السنوات الأخيرة “تمرمد” كثيرا؛ وفي المرتبة الثانية مباشرة بعد الله، يوجد “الشعب السيد” الذي ليس دائما مفهوما مجردا بل قد يكون حيا في بعض المرات و يجهر بصوته من خلال واحد أو آخر من أبنائه. وعدد هؤلاء سيرتفع في المستقبل القريب…
أنا لم أهاجم الجيش، ولم أقل له الاحترام ولم أدعه إلى الانقلاب كما تزعمون، ولن أجرأ على ارتكاب مثل هذا أبدا، ليس خوفا من تهديداتكم لكن لقناعتي العميقة بعدم جدوى ذلك. و كوني تعرضت في الماضي إلى بعض المشاكل مع الجيش، فالسبب أنني هاجمت بعض الجنرالات الذين لطخوه. وبدل أن يسلم لي وسام استحقاق وطني، جرني الجيش أمام العدالة.
كل ما فعلته هذه المرة هو أني طلبت من المسئولين العسكريين الحاليين و السابقين الذين قبلوا بالعهدة الرابعة، أو يستعدون للقبول بخامسة أو بسيناريو مشابه لذلك أن يحتكموا إلى العقل قبل 2019، لكي لا يرهنوا مصير البلد مرة أخرى فالجزائريين لن يقبلوا بذلك. هذه المرة سيبلغ السيل الزبى.
لم أفعل هذا كوني أعتقد بأني مركز الكون، لكن لأن هؤلاء استقبلوني في عدد لا يحصى من المرات خلال سنوات التسعينيات، بطلب منهم  و داخل مقر وزارة الدفاع الوطني، ليستشيروني و يطلبوا رأيي في أوضاع البلاد؛ كما كانوا يفعلون ذلك مع باقي نساء و رجال السياسة في البلاد. و هذا ليس جرما من هذا الطرف أو من ذاك.
في كل الأحوال، و بصفتي مواطنا جزائريا، سوف أعترض على عهدة خامسة أو سيناريو مشابه لذلك بكل ما أملك من قوى معنوية و فكرية. اللهم الا إذا نزل من السماء في الوقت المناسب “بومعرافي” آخر ليرمي برصاصه في ظهري.
كل ما زاد عن هذا يا سيدي كاتب “الجيش”، ليس إلا محاكمة للنوايا و تصرف حراس “باركينغ” فوضوي. نقطة إلى السطر.

ترجمة بوكروح وليد

حوار السيد نورالدين بوكروح مع جريدة “الوطن”« El Watan »  

حوار: علي بوخلاف 
منذ 2011، و بعد غياب طويل، عدتم إلى الكتابة للتعبير عن المشاكل التي تخص الجزائر والمنطقة بصفة عامة. ماذا فعلتم بين 2005 و 2011؟
فعلا لم أنشر شيئا في الصحافة الوطنية بين 1999 و2011، سنة انطلاق الثورات العربية التي تابعتها بالتعليق والكتابة في سلسلة من حوالي 50 مقالا. و بين ديسمبر 1999 و أفريل 2005 لم يكن بإمكاني أن أتحدث عن السياسة الوطنية أو الأحداث الدولية  بسبب المهام الرسمية التي كنت أشغلها في تلك الفترة.
كنت منشغلا ليس فقط بمهامي بل أيضا بمهام أخرى جانبية محيطة بها، فقد كنت أحيانا أمثل الرئيس في بعض المحافل الدولية، وأحيانا أخرى أكتب له بعضا من الخطابات التي كان يلقيها داخل الوطن وخارجه. أظنّ أن عددها قارب العشرين خطابا طلبها مني لأنه كان يحب أسلوبي في الكتابة.
بعد خروجي من الحكومة في 2005، سافرت إلى الولايات المتحدة لأستَلم من عائلة مالك بن نبي مجموعة من الوثائق والمخطوطات التي لم تفتح منذ وفاته، و التي استعملتها لإنهاء عمل كبير عن الرجل و فكره: (“الإسلام دون الإسلاموية: حياة و فكر مالك بن نبي” في 2006)، و الذي أمضى مقدمته ابنة مالك بن نبي، و ديباجته أستاذٌ جامعي أمريكي.
هذه الوثائق مكنتني أيضا من إهداء الجزائريين كامل مذكراته تحت عنوان “مذكرات شاهد على القرن: الطفل، الطالب، الكاتب، الدفاتر” 2007. بينما لم يكن يعرف من هذه المذكرات قبل عملي هذا إلا الجزء الأول منها “الطفل” بالفرنسية، والثاني “الطالب” بالعربية، كما لم تكن تُعرف إلاّ من قبل جزء محدود من الجمهور لأن الجزء الأول لم يعد نشره منذ 1965، والثاني صدر في دمشق عام 1970.
بعد ذلك التفتت إلى كتاباتي أنا من 1970 إلى 2012 حيث جمعتها في كتابين، الأول متعلق بالإسلام (“ماذا نفعل بالاسلام؟”) و الثاني يتعلق بالجزائر والثورات العربية: (” صلاح الشعب و السلطة”). كما قمت أيضا بالسفر إلى كوريا الجنوبية و إلى دول أخرى عربية و أوربية.
عندما اندلعت الثورات العربية تصرفت إزائها مثلما فعلت في 1979 عندما سافرت إلى إيران لأعيش الثورة من الداخل، و إلى تركيا بعد انقلاب 1980. لكن في 2011 لم يكن ملزما علىّ التنقل لأعيشها لأن الثورات اندلعت في عدة بلدان في وقت واحد، وكانت تنقلها إلينا على المباشرالقنوات الإعلامية.
كل ما كان يجب فعله هو تحليلها بشكل صحيح، وهو ما دفعني إلى إعادة إحياء بعض الأفكار التي كانت تتبلور في تفكيري منذ سنوات السبعينيات، حول إشكالية تجديد التصور الإسلامي للعالم نظرا لارتباطها الوثيق وتشعّبها بالسياسة في البلدان الإسلامية. فلن يمكن إدخال الحداثة على المسلمين، و بالخاصة منهم العرب و الأمازيغ، إذا لم نتمكن من إدخالها أولا على التصور الإسلامي.
هذه الأفكار كانت خلال السبعينيات سابقة لأوانها، إذ كان يجب أن تتطور الظروف و إن تبلغ مع الوقت نقطة التحول التي نتأكد فيها بأن العرب و الأمازيغ سيبقون في المراتب الأخيرة في العالم ما لم يُقبلوا على  إصلاح فكري و بسيكولوجي لم يُعرف له مثيل في الماضي. و نشرت حينها على سبيل التجربة سلسلة من 18 مقالا في هذا الموضوع في الصحف الوطنية باللغتين العربية والفرنسية ، و قد كان لهذه المقالات أثر و ضجة كبيرين في الأوساط الإسلامية.
جمعت هذه المقالات في كتاب “حتمية تجديد الإسلام” الذي صدر باللغتين خلال العام الماضي. كذلك نشرت العام الماضي كتابا بالعربية في جزأين: “جوهر فكر مالك بن نبي”، وبهذا الكتاب أعتبر بأني انتهيت من وضع فكر مالك بن نبي في متناول الجمهور.
2)منذ 2014، تركزت كتاباتكم على الوضع السياسي في الجزائر و تهاجمون بصفة مباشرة نظام بوتفليقة. ما الذي يدفعكم لهذا؟
قبل أن تصل 2014، كانت هناك سنة 2013، السنة التي نشرت خلالها مقالا في شهر جوان حول مرض الرئيس الذي كان لا يزال يعالج في المستشفى العسكري فال دو غراس. في الجزائر كانت حملة كبيرة تدعو إلى خلعه من منصبه، كان من أبرز روادها واحد من كبار المحللين السياسيين: شفيق مصباح، الذي لفت الانتباه العام بتنظيره لسيناريو فترة انتقالية في عدة مراحل عملية، تمر بعزل الرئيس عن منصبه ؛ وهي الفكرة التي كنت أجدها غير قانونية ولا سديدة.
فقمت بكتابة مقال بعنوان “لماذا نعقد الأمور عندما يمكن أن نبسطها؟”، كان يمثّل ردا منّي على هذه النظرية حيث قمت بتفكيك حججها واقتراح طريقة مختلفة، مستندا في ذلك إلى كوننا في ذاك الوقت على بُعد عشرة أشهر فقط من نهاية العهدة الثالثة، وكون الرئيس كان قد شكّل قبل مرضه لجنة كانت تنشغل بورشة تغيير الدستور. كان هذا المقال هو الوحيد الذي كتبته في 2013.
أقول هذا لأبرهن لكم بأنه لم يكن بيني و بينه شيء، و أني لست أكنّ له حقدا أو أتحرك بأغراض انتقامية تجاهه، و أني حتى دافعت عنه في هذا المقال و أيضا في حصتين على قناة النهار خلال تلك الظروف.
كوني كنت عضوا في حكومته لخمس سنوات، كانت لدي الكثير من الفرص لأعرفه و ألاحظه و أحلله وأدرسه و حتى لأتعامل معه، و لهذا كنت أعرف مدى تعلقه بالسلطة، لكني لم أكن أتصور أنه بإمكانه أن يضع نفسه على كفة من الميزان و الجزائر بأكملها على الكفة الأخرى. فعندما أعلن في مارس 2014 عن نيته في الترشح لعهدة رابعة و هو في الحالة الصحية التي كان عليها، لم يعد بالنسبة لي رجلا مريضا في جسده فقط بل أصبح مريضا في عقله أيضا. و منذ اليوم الذي أعلن فيه ترشحه إلى اليوم، كتبت ما يقارب الخمسين مقالا عنه وعن عهدته الرابعة.
ما الذي يدفعني إلى الكتابة؟ أضن أنني برهنت لكم بأنه ليس حقدا أكنّه للرجل،أو رغبة منّي في أخذ مكانه كما يأمل آخرون لأنفسهم، بل هو الاشمئزاز من الصورة التي صار هذا الرجل يعكسها للجزائريين الواعين و للعالم الذي يتفرج علينا: التشبث بالسلطة مثلما يتشبث مريض عقلي بشيء لن يتركه إلا ميتا.
إنّه لم يعد يملك كافة قدراتها الذهنية، فهو اليوم يكرس كل ما بقي له من حياة جسدية ونشاط عقلي في الارتياب و “التوسويس”، و الاشتباه في الجميع، والحراسة على يمينه و يساره و ورائه و أمامه و فوقه وتحته، خشية أن يأتي شيء أو إنسان ليخلع عنه صولجان الحكم، ختم الرئاسة، و الصفة و الوظيفة الرئاسيتين. لا يثق سوى بأخيه و ببضعة أشخاص آخرين قام بوضعهم على رأس مؤسسات مهمة بالنسبة إليه. لا يهمّه شيء آخر كمصيرنا أو مستقبلنا أو مكانتنا بين الدول الأخرى.
البعض في السلطة يتهمونكم بمحاولة إعادة سيناريو صيف 1998. هل أنتم في نفس الحالة النفسية التي كنتم عليها منذ 19 سنة؟
حالتي النفسية لم تتغير فهي نفسها منذ أن كنت مراهقا، منذ أن بدأت في انتقاد النظام السياسي الجزائري في 1971. أما هؤلاء الذين تلمّحون إليهم فهم مرتزقة يذكرونني بعصابة الإخوة دالتونles Dalton. لو كان لديهم ذرة من الذكاء أو العقل، و لو كانوا يعرفون أقل شيء عن طبيعة النظام الجزائري و عن الصحافة المستقلة، لفهموا بأنهم يرددون تفاهات أصبحت لكثرة ما كرروها تكتسي مظاهر الحقيقة في عقولهم الغبية.لا يمكن لأحد أن يسقط السلطة بمجرد كتابة بضعة مقالات و حوارات صحفية. منذ 20 سنة و أنا في كل مرة أجيب عن هذه الإشاعة دون جدوى، فنفس القصة تعود رغم ذلك دائما و تكرارا: “كلما كبرت الكذبة، كلما تقبلها الناس” كما كانيقول محقّا غوبلز Goebbels. لا أحد يفكّر في مدى واقعية هذه الإشاعة التي تحولت مع مضي الوقت إلى أسطورة، ثم إلى حدث مسلّم به في التاريخ الجزائر الحديث. المشكلة أن الجميع يتهمني بلعب دور في ذهاب بتشين و زروال إلّا … بتشين و زروال نفسهما ! إذا كان هذا ممكنا و هما لا يزالان على قيد الحياة فماذا سيكون الأمر بعد وفاتهما؟
أنا أسألكم أنتم كممثلين للصحافة الحرة، إذا كنت فعلا قد لعبت مثل هذا الدور، فهذا يعني أني كنت أتصرف كما أريد في الصحف المستقلة التي كانت تنشر مقالاتي في ذلك الوقت. من أين سيكون لي مثل هذا النفوذ؟ و ما هي مصلحة الصحافة لتدعني أستعملها لإسقاط رئيس الجمهورية؟ إلا إذا كانت هي أيضا شريكتي في هذا، أو كانت هي التي “تحركني” للقيام بذلك… كذلك يقال بأني كنت محميا من الجنرالين توفيق و العماري… و ماذا عن اليوم؟
4)هناك أصوات في السلطة بدأت تعلو،و حكايات تخصكم بدأت تتداول في بعض وسائل الإعلام. ألستم خائفين؟
من ماذا أخاف؟ ممّن؟ أي حكايات؟ لماذا تخرج هذه الحكايات اليوم و ليس في وقت حدوثها؟ لمساومتي؟ لإسكاتي؟ لإلهائي عن العمل السياسي الذي أقوم به؟لإخافتي؟ لا يوجد إلا عصابات الأشرار و المافيا لتفكر و تتصرف هكذا،و لتستعمل مثل هذه الأساليب الجبانة و الدنيئة.
أعرف أن بإمكانهم اختراع ما يشاءون لأنهم خائفون من الحركية التي تتكون حاليا في البلاد بفضل عدة عوامل من بينها ما أكتبه من مقالات. أعرف أن بإمكانهم أن يستعملوا حتى أقصى الوسائل لكني لن أجيب على أي استفزاز،و سأواصل التفكير و الكتابة و النشر و العمل، لمواجهة المافيا التي استحوذت على السلطة و تستعمل وسائل الدولة ضد كل من يقف في طريقها، طريق العهدة الخامسة أو الانتقال الوراثي.
5)العديد من الجزائريين من بينهم سياسيون و شخصيات وطنية ينادون بتنظيم انتخابات رئاسية مسبقة. هل يمثل هذا حلا بالنسبة لكم؟
وجهات النظر حول الحل متعددة و مختلفة، لهذا السبب لم تتمكن أي واحدة منها من التحقق منذ الاستقلال إلى اليوم. و لا واحدة منها قادرة على التكفل بكافة جوانب الموضوع الذي تريد أن تعالجه دون استثناء. يجب ألّا تكون إلّا وجهة نظر واحدة فقط: تقييم واحد فقط للوضع، يؤدي إلى حل واحد دون سواه، و ينفذ من طرف الجميع في حركة جماعية. فنحن نواجه حالة مدرسية، تمرين تطبيقي نستطيع القول فيه بأن التاريخ اليوم يعيد نفسه.
فنحن نوجد في نفس الوضع الذي كان عليه الجزائريون في 1953، عشية تشكّل اللجنة الثورية للوحدة و العملCRUA) ). فأحزاب الحركة الوطنية و الشخصيات السياسية متنافسون أو حتى أعداء بين بعضهم أكثر من منافستهم و عدائهم للسلطة. و هذا الانسداد هو الذي أدى إلى بروز فكرة اللجنة(CRUA)، ثم بعدها بسنة إلى نشأة “جبهة” متعددة الأحزاب من أجل الوصول إلى هدف واحد فقط: هو استرجاع السيادة الوطنية.
يجب علينا اليوم أن نستوحي من تاريخنا و نتفادى ارتكاب نفس الأخطاء التي وقع فيها آبائنا: فالانقسامات لن تؤدي بنا إلى نتيجة طالما جميعنا يعاني من نفس الإشكالية. البارحة كان الاستعمار، و اليوم هو استبداد عصابة استولت على السلطة و تختبئ في ظل رجل مريض.قضية تبون أثبتت للعالم بأن المرض الذهني لم يعد مجرد فرضية لأن رئيسا في كامل قدراته لا يتصرف كما فعل خلال الشهر الماضي. بالنسبة لي هذا هو المنعرج الكبير.
6)مقالكم الذي أثار الضجة الأكبر هو ذلك الذي وصفتم فيه الجيش بأنه “وضع في خدمة شخص واحد”. في رأيكم ما الذي يجب أن نطلبه من الجيش اليوم؟
قلت في هذا المقال بأن القوة ليست الحل الوحيد لإنهاء أزمة. بل يمكن، عملا بتقاليدنا التاريخية (على طريقة “ثاجماعت” مثلا)، و بخصال الحوار التي ترتكز عليها دبلوماسيتنا؛ أن تبادر بعض الأصوات لتُحكّم الرئيس إلى العقل، و تحرره من النفوذ الذي تمارسه عليه مجموعة من الأشخاص التي رأينا أفعالها خلال الشهر الماضي في مسلسل المواجهة بين حداد و تبون و الفضيحة التي انتهى بها. إذا كان ممكنا لهذا أن يحدث فيمكن في المستقبل أن ننتظر حدوث أي شيء، بما في ذلك الأمر بإطلاق النار على الشعب في حالة حدوث اضطرابات اجتماعية.
7) هل توجد مبادرات لترجمة الأفكار التي تطورونها على أرض الواقع؟
لست أدري لكني لا أرى أية واحدة منها. في ما يخصني لقد أعلنت في سياق تفاعلي مع أصدقاء صفحتي في فايسبوك على تأسيس مبادرة و أنا أعمل على ذلك. نحن اليوم أمام تحدي استرجاع سيادتنا الشعبية والمواطنة، وهذه القضية تتطلب منا أوسع إطار ممكن من التجنيد و المشاركة، لأن مجتمعنا في أغلبه لا يزال لا سياسيا و مستسلما للحتمية. لا يجب دعوة الشعب إلى الانتفاضة، لكن يجب عليه أن يستفيق، أن يفتح عينيه و ينتبه إلى الأخطار التي تعرضه إليها مجموعة من الأشخاص اللامسئولين.
أيجب علينا أن ننتظر حتى تقع الفأس في الرأس لنبحث عن “رد فعل”، أم يجب علينا استباق الأذى و “فعل” شيء قبل حدوث المكروه؟ “الفعل” يستوجب منا التحضير، بينما لا يمكن ل “رد الفعل” إلا أن يكون مرتجلا، لكن نتائج الأول و الثاني تختلفان تماما، و يمكنها في الحالة الثانية أن تذهب عكس ما نتمناه. نتائج انتفاضة أكتوبر 1988 لا تزال حاضرة أمام أعيننا اليوم: فعندما حلّ”رد فعل” الانتفاضة محلّ “فعل” مُحضّر و منظّم(و هو ما لم تكن الظروف جاهزة له على أي حال)، أدى ذلك بنا إلى دوامة خرجت عن كل سيطرة و قادتنا حتى الأوضاع التي نعيشها اليوم.
الجزائر توجد اليوم في حالة معنوية و اقتصادية و اجتماعية أسوأ من تلك التي كانت عليها عشية أكتوبر 1988. معنويا لأنها تقف متفرجة على تفكك الدولة كما لم يسبق لذلك مثيل دون أن يمكنها فعل شيء، برئيس ممركز لكافة السلطات بينما هو مريض و غائب و ربما حتى،على خلفية الأحداث الأخيرة،فاقد لقدراته الذهنية.
اقتصاديا لأن الثروة الوطنية أصبحت تختلس لحساب مضاربين لا يتوانون في استفزاز الأمة، تمكنوا من التغلغل في دواليب صناعة القرار في البرلمان و الرئاسة.
اجتماعيا لأن تقلص الموارد النفطية لم يعد يسمح بشراء السلم الاجتماعي،و سوف نضطر عاجلا أم آجلا إلى اتخاذ قرارات قاسية سترفع الأسعار إلى أعلى المستويات و تقضي على قيمة الدينار، ستفقر جميع الجزائريين باستثناء فئة قليلة تتشكل من رجال السلطة الذين لا يزالون في المنصب و رجال المال المفترسين الذين سيفرون إلى الخارج أين وضعوا ما يمكّنهم من العيش هم و عائلاتهم طيلة ألف سنة. أما في الخارج فحدودنا مهددة، و “داعش” الآن موجودة داخل جدراننا كما رأينا هذه الأيام في قسنطينة وتيارت.
ما العمل أمام هذه الوضعية التي تستمر منذ 2013، و التي ترغب جهات في السلطة في استمرارها ليتسنى لها أن تحظر للعهدة الرئاسية القادمة؟ إذا بقي الرئيس حيا فسيكون هو، و إلّا فسيكون واحدا منهم يتّفق عليه تحالف المال الوسخ و السياسة الذي وضعوه.
الأمل مثل القمح، لن ينبُتَ إلا إذا زرعناه. فيجب علينا أن نخلقه ونصنعه ونوزعه، وننقلهُ من مرحلة التمني والرغبة والحلم، إلى مرحلة الفعل والعمل والحقيقة الملموسة والتغيير الشامل.
كان ينقص هذه الأمة معركة واحدة لم تخضها طيلة تاريخها هي معركة مشروع المجتمع، و نمط التعايش بين أبنائها. هذه المعركة لا تواجه بالسلاح بل بالذكاء، بالعقل، بضوء الفكر، بالتضامن، بتضافر الجهود و بالكفاءة.

ترجمة وليد بوكروح

نورالدين بوكروح يطلق “نداء الى الجزائريين والجزائريات من اجل ثورة مواطنية وسلمية”

وليد أشرف
أطلق السياسي والمفكر نور الدين بوكروح، السبت 16 سبتمبر، مبادرة سياسية جديدة تحت عنوان “نداء إلى الجزائريين والجزائريات من اجل ثورة مواطنية وسلمية”.
وقال نورالدين بوكروح، في النداء الذي تنشره “الجزائر اليوم”، “إن الجزائر أمام منعرج صعب، إما أن يؤدي بنا إلى الخلاص أو عكس ذلك إلى المجهول”. وعليه يدعو صاحب المبادرة الوزير الأسبق والمرشح لرئاسيات 1995، الجزائريين والجزائريات “للنهوض لا للانتفاضة”.
وأكد بوكروح، أن مبادرته تهدف إلى وقوف الجزائريين سلميا وقول ” لا لطبع الأوراق النقدية من أجل دفع الأجور ولا للعهدة الخامسة ولا للخلافة المتفق عليها في الأعلى ولا لاستغلال الجيش والجماعات المحلية ومصالح الأمن والعدالة لإبقاء نظام أصبح غير شرعي ومضر بالمصلحة الوطنية”.
وأشار بوكروح في النداء إلى أن موعد 2019 يمكن تقديمه عن موعده لأي لسبب وهو ما يمكن أن يكون “فرصة تاريخية لنتخلص نهائيا من هذا النظام”.
يذكر أن النداء أصدراه بوكروح باللغات الأربع العربية والامازيغية والفرنسية والانجليزية.


مبادرة سياسية للسيد نور الدين بوكروح: “نداء إلى الجزائريين والجزائريات من أجل ثورة سلمية و مواطنة” 

تتجه الجزائر بخطى بطيئة لكنها ثابتة نحو منعرج حساس من تاريخها يمكن أن يصل بها إمّا إلى الخلاص أو إلى الانزلاق نحو المجهول. كلى الخيارين مفتوحان أمامها اليوم و حظوظ كل واحد منهما في فرض نفسه متكافئة و متساوية؛ إلا إذا فصلت بينهما قبل الوصول إلى ذلك إرادة شعبية قوية تعلنُ بحزم أن مآلنا: “سوف يكون الخلاص”

حالة الوطن

بعد نصف قرن من استرجاع السيادة الوطنية بفضل ثورة أول نوفمبر 1954 التي فجرها 22 شابا جزائريا، يحق اليوم للشعب الجزائري الذي تجدد بفضل بلوغ أجيال جديدة مرحلة النضج، بأن يطالب بممارسة صفته السيدة كمنبع لكامل السلطات، كما آن له استرجاع الحق المؤسّس الذي كفلته له جميع الدساتير الجزائية منذ 1962، دون أن يتمكن أبدا من ممارسته فعليا.

فاسترجاع سيادتنا الوطنية تبعته سلسلة طويلة ومضطربة من التجارب و الأخطاء التي أدت إلى الطريق المسدود الذي نتواجد فيه اليوم سياسيا و اقتصاديا. فقد تمكنت الجزائر من الحصول على الاستقلال لكن دون أن تعرف ما ستفعله به، و دون أن تتمكن من الإجابة على إشكاليات أساسية مثل الهوية، و دون أن تتمكن من إشراك الشعب في آليات اتخاذ القرار من خلال مؤسسات ديمقراطية حقيقية و فعّالة. فقد أُخضعت البلاد طيلة هذه المدة، لسلسلة من التجارب والأخطاء التي أوصلتنا إلى المأزق السياسي والاقتصادي الحالي.

إذ تم وضعها في حالة التبعية التامّة للمحروقات التي هي ثروة غير قابلة للتجديد. و ستكون الشهور و السنوات القادمة صعبة جدا عليها بينما لم يعد حكم البلاد مرتكزا على العقلانية و المصلحة العامة، بل على تعلق مرضي بالبقاء في السلطة مهما كلف الأمر و بمصالح فردية.

إنه من واجبنا أن نتصرف في إطار الشرعية القانونية، تجاه الانحراف البطيء الذي يسير بنا رويدا رويدا نحو الكارثة؛ أوفياء في ذلك للمثل العليا التي ضحى من أجلها شهدائنا الأبرار. فقد حان الوقت لأن نعطي لهذه القيم حياة عمليةو فعلية، وذلك في شكل دولة قانون “ديمقراطية و اجتماعية”، طبقا لما جاء في بيان أول نوفمبر 1954.

إلى من يتوجه هذا النداء؟

يتوجه هذا النداء إلى الضمير الجزائري، إلى جميع الشركاء في ملكيةالبيت الجزائري، سواء وجدوا داخل تراب الوطن أو في أي مكان في العالم خارجه، إلى جميع الأجيال من الرجال و النساء، منخرطين كانوا في النشاط السياسي أو الاجتماعي أم لا، عاملين في جميع المؤسسات أو على التقاعد، لكل الفئات الاجتماعية، في كافة الأرجاء و المناطق، لكلّ اللغات و الأديان.

ماهي الثورة المواطنة؟

الثورة المعنوية هي استفاقة للوعي و الضمير، عندما يسير كل شيء عكس ما يجب، عندما نشعر بأننا محاصرون بالأخطار و أننا نسلك الطريق الخطأ، و نتيقن بأنه يجب علينا تغيير اتجاهنا و طريقة رأيتنا للأشياء. أنها استفاقة متزامنة للوعي الجماعي، تُشعرنا حين يحدث ذلك بالحاجة لأن نذهب إلى ما هو أفضل، بأن نبني نموذج حياة يختلف عن ذلك الذي كلّل بالفشل.

الثورة المواطنة هي طريقة العمل و التصرف التي نتبناها لتغيير الأشياء التي نرغب في تغييرها في وضعنا الحالي، بطريقة سلمية. و هذا التناسق في شعور مشترك و موحد، ترافقه حقيقةٌ بديهيةٌ بأن لا أحد يستطيع أن يحدث التغيير بمفرده، و أن هذا الأخير سيكون حتما من صنع أكبر عدد ممكن، و يهدف إلى خير الجميع.

الاستيقاظ و ليس الانتفاض

التحدي الذي يجب أن نرفعه هو أن نعمل على تفادي تعرّض البلاد إلى خطر مأساة جديدة بينما لا تزال ملامح تلك التي عرفناها خلال التسعينيات ظاهرة أمام أعيننا. يجب علينا أن نفتح أعيننا على الواجب الذي ندين به لوطننا، عوض أن ننتظر حتى تصل الكارثة إلى عقر دارنا لننتفض في جو الفوضى و تخريب المرافق العمومية والتعدي على قوى الأمن أو الممتلكات العمومية والخاصة.

يجب على كل واحد منا أن يشرع في العمل انطلاقا من المكان الذي يوجد فيه حاليا، فإنه توجد اليوم وسائل وطرق عمل لا تحتاج إلى اللجوء إلى العنف والإخلال بالنظام العام و المظاهرات في الشوارع و العصيان المدني؛ هذه الوسائل السلمية تتاح لنا اليوم عبر التكنولوجيات الرقمية الحديثة للاتصال: شبكات التواصل الاجتماعي، وسائل الإعلام الرقمية، الفيديو، الرسائل الالكترونية، الهواتف الذكية…إلخ. سوف يمكّننا استعمال هذه الوسائل من أن نعمل معا حتى دون أن نلتقي، دون أن نتعارف و دون أن نجتمع؛ باستعمال طرق شرعية قانونية و ديمقراطية فقط. فعالم اليوم يتيح لنا هذه التقنيات المختلفة لممارسة حقنا في التعبير،و هي أشد فعالية من السلاح أو السرّية أو المنشورات التحريضية ليتسنّى لنا التّعريف بقضيتنا، و ليمكننا إقناع الآخرين بأهميتها و صناعة الحوار و إثارة النقاش حولها.

نستيقظ لفعل ماذا؟

يجب علينا أن نسير معا نحو هدف مشترك و واحد هو أن نقول “لا” للوضعية الحالية، في انتظار أن يحين الوقت الذي نعبر فيه عن ذلك عبر صناديق الاقتراع. الانتخابات الرئاسية المقررة في 2019، أو أن حلت قبل موعدها لسبب أو لآخر، إنما تتيح لنا فرصة تاريخية لأن ننتهي من “النظام” الحالي.و ما تبقى من الوقتليفصلنا عنها هو بالكاد يكفي لإعطاء هذه الثورة السلمية المواطنةحظوظا كافية للنجاح، فما تتطلبه هذه المبادرة ليس أقل مناستبدال نمط تفكير كامل بآخر، حتى يتسنى لنا تغيير “النظام” الحالي بالنهاية إلى دولة القانون.

يجب على كل جزائري و جزائرية أن يتوقف للتفكير مع نفسه، ليُجري امتحانا لضميره و يقول لنفسه: “يجب أن أتوقف عن التفكير كما كنت أفكر في السابق، يجب عليّ أن أفعل شيئا من أجل بلادي و إخوتي… سوف يتبع خطاي و يحذوا حذوي آخرون. سأفعل شيئا لأن الآخر كذلك سيفعل، و سيعود عليّ هذا بالفائدة”

شعور الاستقالة الذي كان يشلّنا حتى الآن، و روح اللامبالاة و السلبية التي تقوقعنا داخلها عندما تبنّينا المقولة الشعبية: “تخطي راسي”، يجب أن تواجهَها و تحلّ محلّها بقوة مقولة شعبية أخرى هي: “راسي و راسك في شاشية واحدة”.

يجب أن نتغلب على قوة الجمود التي تشلّنا لأنها هي المشكلة، و هي العدو، و هي الحاجز أمام تحررنا الذهني والروحي. يجب تحرير الإرادة الجزائرية و تخليصها من الحتمية و روح الاستسلام اللتان تجرهما الشعوذة وعقلية الدوار. يجب على كل واحد منا أن يقوم بعمل تحسيسي جواري في محيطه: داخل عائلته، في حيه، في مكان عمله أو دراسته، في شبكات التواصل الاجتماعي؛ حتى يتعمم الاستيقاظ و العزم على العمل سلميّا لكن فعليا لتغيير أحوالنا و دولتنا.

بماذا نبدأ؟

ميلاد الأمّة التاريخي يحدث في اللحظة التي يلتحم فيها أفرادها و يتحركون نحو هدف مشترك و واحد. فلنركّز في مرحلة أولى على أربعة مبادئ يجب على كل واحد فينا أن ينشرها و يعطي لها أكبر صدى ممكن، بكل ما أتيح له من الوسائل:

– لا للجوء إلى طباعة العملة من أجل دفع الرواتب

– لا لعهدة خامسة !

– لا لخلافة مُرتّبة من فوق !

– لا لاستعمال الجيش الوطني الشعبي، الجماعات المحلية، قوى الأمن و العدالة من أجل إطالة عمر سلطة أصبحت فاقدة للشرعية و مضرّة بمصالح الوطن !

يجب على الجزائريين و الجزائريات الذين يريدون بناء جزائر جديدة أن يعلنوا بأن العهد الذي كان يُختار فيه مرشح تتّفق عليه قوى مجهولة و خفية، ثم “تُصادق عليه” بتزوير الانتخابات قد ولّى. فنحن لن نقبل بذلك مستقبلا لأننا بلغنا من النضج ما يمكننا من الاختيار بأنفسنا، من أجل أنفسنا و من أجل أبنائنا.

كلنا مع بعض، و بالاستعانة بكافة الخبرات التي سيتوجب علينا أن نحيط بها أنفسنا عندما يحين الوقت لذلك، سوف نعمل على إيجاد هيكل نظامي يهدف إلى ضمان الشفافية التامة و الصدق الكامل لنتائج الاقتراع .

يجب أن نُشهدَ العالم بأسره على أنه قد بدأ في الجزائر كفاح سلمي من أجل الحرية و الديمقراطية و حرية ممارسة سيادة الشعب، و أنه لن يتوقف قبل أن يصل إلى الأهداف المسطرة له: استرجاع مواطنتنا و كرامتنا.

حماية هذه المبادرة

أفضل طريقة لحماية سرّ، هو أن لا يكون لنا أيّ أسرار. إنّ هذه المبادرة علنية، أهدافها واضحة، و وسائلها و طرقها سلمية و قانونية، و هدفها هو مصلحة الجزائر والجزائريين. إن أردنا حمايتها يجب علينا أن ننشر ما جاء فيها على آلاف الصفحات و المواقع الالكترونية الأخرى.

ما الذي سيتبعها؟

هذا النداء يشكل في حد ذاته مكانا للتجمع. يجب أن نوفر له أكبر و أوسع صدى ممكن و ننشره قدر المستطاع. و هو يعدّ أيضا فضاء للتفكير، لإثراء النقاش و لاقتراح ما يمكن تحضيره من العمل ابتداء من الآن لتحقيق توافق شعبي يمكننا من بناء جزائر جديدة بروح و بمؤسسات متجددة. سوف تتبع هذه المبادرة في المستقبل خطوات أخرى ستحددها تطورات الأحداث في الساحة الوطنية.




نورالدين بوكروح لـ”CAP ALGERIE “:  ما الذي بقي من صورة الجزائر في العالم بعد العهدات الأربعة؟

1)البعض يعتقد بأن خرجاتكم المتكررة هي مقدمة للترشح في 2019. أسألكم مباشرة السؤال الساخن: هل هذا صحيح؟

أولا يجب إعادة الأمور إلى نصابها. كتاباتي ليست “خرجات متكررة”، كما لو كنت محرك سيارة زادت حرارته عن اللزوم.

لقد نشرت خلال الأسابيع الأخيرة في صفحتي بالفايسبوك ثلاثة مقالات نددت فيها بالوضعية التي تتواجد فيها بلادنا و دولتنا رغما عنهما، حيث و منذ عدة سنوات، لم نعرف من الذي صار يسير هذه الأخيرة، خاصة بعد حادثة العالية التي رأينا فيها صاحب مؤسسة خاصة يتغلب على رئيس حكومة، بمساعدة متغطرسة و مستفزة لسعيد بوتفليقة. الغرض من كتاباتي لم يكن الدفاع عن تبون بل عن فكرة الدولة و الوطن، و بالتالي عن بلادي التي سقطت بين أيدي أشخاص لا ينبغي أن يوجدوا في الأماكن التي يوجدون فيها

و أدت هذه المقالات الثلاثة إلى ثلاثة أنواع من ردود الفعل: واحد جاء من لواء متقاعد من الجيش، و آخر من وزارة الدفاع، و ثالث جاء، بصفة مقنّعة، من رئاسة الجمهورية على شكل حملة صحفية قذرة و تهديدات بالمتابعة القضائية. أصبحت إذا مضطرا لأردّ حتى أدافع عن نفسي ضد الهجمات و الشتائم و التهديدات.



ليست هذه أول مرة أنشر فيها كتابات تندد بلامبالاة السلطة، فقد فعلت ذلك باستمرار خلال سنوات السبعينيات و الثمانينيات و التسعينات، كما سبق و كلفتني كتاباتي اعتقالات الشرطة (الأولى في 1972) و متابعات قضائية من وزارة الدفاع في 1991، و أخرى بأمر من الجنرال بتشين مستشار الرئيس زروال في 1998

أما اليوم فإن سعيد بوتفليقة، مستعينا في ذلك برئيس الأرندي الوزير الأول الذي يعتبر من أقدم “ثوابت الأمة”، هم من يكمن وراء الحملة الصحفية الشرسة التي اندلعت ضدي منذ أسابيع. و لأنهم ليسوا قادرين على مواجهتي كتابيا بالفكرة ضد الفكرة، و الحجة ضد الحجة، فقد لجئوا إذا إلى ما كبروا و ترعرعوا فيه: القذارة. لا أدري إن كان ذلك يتم بأمر مباشر من الرئيس أو باسمه فقط، لكن الشائعات تتردد باستمرار في وسائل الإعلام بأنهم الآن يدرسون حيثيات إيداع شكوى ضدي في العدالة.

أنا من يحق له في الواقع أن يقاضيهم، لكن كيف يجب أن أفعل لكي أقاضي رئاسة الجمهورية و الوزارة الأولى و وزارة الدفاع و عصبة من وسائل الإعلام الجائعة المتعطشة للمال، كلهم في آن واحد؟ يجب أن أستعين بنقابة المحامين بأكملها “و يا ربي”

من بين ما جاء في مقالاتي هذه هو أني توجهت إلى المسئولين العسكريين الحالين و السابقين لأحسسهم بمسئوليتهم الضالعة في هذه الوضعية، و كوني خاطبت هؤلاء (من بين آخرين)، فهذا لأني أعرف، كما نعرف كلنا، طريقة سير “النظام” في الجزائر. لكن الرّد لم يأتي منهم بل أتى أولا من لواء متقاعد لا علاقة له بالموضوع، حاول بطريقته صرف النظر عن الموضوع الحقيقي عبر مقاله الذي جاء في شبه محاكمة لشخصي و راح يعطيني دروسا في “الشجاعة”. بعد ذلك جاء دور المجلة الرسمية للجيش لتنشر مقالا افتتاحيا تصفني فيه “بالمرتزق”، بينما يعرف الجميع بأني أكتب منذ أن كانت الجزائر لا تجاوز الثامنة من العمر، و منذ أن كانت تحت قبضة بومدين

هول ما يحصل اليوم أكثر من الملحمة الإنجيلية داوود ضد جالوت: صفحة فايسبوك متواضعة لمواطن بسيط لا سلاح له غير القلم، ضد رئاسة الجمهورية، الوزير الأول، وزارة الدفاع الوطني، سرب من وسائل الإعلام التي قد تمزق أمّها لتتكالب على عظم، لواء متقاعد تغريه العودة، رئيس مجلس شعبي وطني خارج من غرفة حفظ الموتى، حزبان سياسيان في الحكم عن طريق التزوير، و جيش من “البلطجية” الذين يغيرون يوميا على صفحتي

رغم كل هذا فإن كل ما يقلق “البعض” الذي تشيرون إليه في سؤالكم، هو إن كنت انوي الترشح في 2019 ! هل هذا معقول؟! بينما الأرمادة تبحث في القضاء “غير التقليدي” عن وسيلة للزّج بي في السجن أو ربما حتى لاغتيالي…



2) لو تأكد بأنكم ستحاكمون فعلا، هل ستجعلون من قضيتكم محاكمة سياسية ذي صدى وطني؟

لن تكون محاكمة كهذه سوى سياسية ! ماذا فعلت لهم من غير السياسة؟ غير أن أقول لهم بأن ليس من حقهم اللعب بمصير و مستقبل و كرامة أربعين مليون جزائري ! و أن قيمة حياة بوتفليقة أو أخيه لا تساوي أكثر من قيمة أي جزائري قوي كان أو “زوالي”، من الشرق أو من الغرب، من السلطة أو من الشارع… في حالة المحاكمة لست أنا من سيعطيها الصدى الكبير بل هم الذين سيفعلون ذلك أولا، ثم الصحافة بعدهم. على أية حال أنا لا أنوي الاستسلام أو الخضوع لهم.

كنت في سلام أنشر على صفحتي مقالات فكرية أكتبها للأجيال الجديدة، عندما دخل علي فجأة عن طريق الإعلام، العرض القذر الذي تقدمه يوميا هذه الحثالة… كيف يمكن أن لا أرد على هذه الحملة الجهنمية التي فرضت علي عنوة؟ قد يخرج للشهداء من قبورهم أمام صمت القبول و المشاركة الذي يلزمه الأحياء



3) هل ستشهدون المنظمات الدولية على ما يجري؟

العالم أصبح اليوم قرية صغيرة يمكن فيها للجار أن يسمع أصغر ضجة تحدث عند جاره. أنا لست من دعاة اللجوء إلى الخارج في كل الظروف أو لأتفه الأسباب، لكني لن أستطيع أن أمنع وسائل الإعلام الدولية من الحديث عن القضية إن شاءت ذلك. على أية حال لن تطلب هذه الأخيرة موافقة مني لتتكلم

و بالمناسبة فقد أجريت اليوم حوارا مع وسيلة إعلام أمريكية تدعى « American Herald Tribune » و التي يعمل فيها أخ جزائري هو السيد محسن عبد المؤمن، كما نشرت ذات الجريدة أيضا النص الكامل للمبادرة السياسية التي أطلقتها مؤخرا. كذلك تتابع عدة مواقع و صحف عربية أيضا تفاصيل هذه المغامرات التي تلحق أيّما ضرر بصورة الجزائر الدولية… لكن، كما يمكن أن تجيبني، ما الذي بقي من صورة الجزائر في العالم بعد العهدات الأربعة؟




فرضيات التغيير في العالم العربي

بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة :عبد الحميد بن حسان

إنّ الثورات العربية من أجل الديمقراطية جاءت متتابعة ومتشابهة في بداياتها، لكنها سرعان ما اختلفت في نهاياتها. وبالمثال يتّضح المقال، فلو نظرنا إلى البلدان التي لم تنفجر فيها الثورة كالجزائر والسودان ومملكات الخليج نجد أنّ حكام هذه البلدان قد تابعوا أحداث الثورات مثل جميع الناس ولاحظوا أن الاضطهاد والقهر لن يزيد الطين إلاّ بلّةً. هل يعني ذلك أنهم أخذوا الدروس من هذه الأحداث التي ستقع عندهم بكل تأكيد إنْ آجلاً أو عاجلاً؟ هل بادر هؤلاء الحكام بالبحث عما يجب القيام به بغية حماية بلدانهم من مثل هذه المآسي؟ هل هم بصدد توظيف ذكائهم الخارق في سرية تامة داخل دهاليز قصورهم من أجل تفادي الثورات، أم أنهم يكتفون بترديد عبارة “الله يستر” مُهمهمين والتسبيحة في أيديهم، وهم مستعدّون بتكرار ما قام به قبلهم ابن علي ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح.

كان الأول من هؤلاء أصمّ، والثاني أعمى، والثالث هستيريا، والرابع مُصابا بالتّوحّد. إنهم إلى حد الآن يتمتعون بالسمع والرؤية والعقل والصحة الجسدية الكافية. وما أتيح لنا أن نلاحظه إلى حدّ الآن أن هذه الأنظمة التي تعالت ضدها الأصوات المناوئة تتصرّف وكأنها محكوم عليها بالمرور بنفس المراحل: مظاهرات، قمع، خطاب خارج زمانه… وهذا ما رأيناه في سوريا: عندما تجاوز عدد الضحايا المائة تنازلت السلطة برفع حالة الطوارىء، وقبول التعددية الحزبية وحرية الصحافة ورفع الأجور… لكن، لماذا لم تقُمْ بكل ذلك قبل أن تسيل الدّماء؟

إنّ السيناريو الذي حدث في تونس هو نفسه الذي حدث في مصرمع بعض الاختلافات الطفيفة. ذلك أنّ وجود دولة قوية وجيش منظم في هذين البلدين هو الذي ساعد على تفادي انزلاقات وخسائر بشرية أكثر فداحة. فالقوات المسلحة، على عكس الشرطة، لم تُطلق النار على المتظاهرين وقادتهم، بل إنها نزلت إلى الشارع كي تتكلم معهم، وهذا شيء غير مسبوق. إنّ القوات المسلحة قد وقفت إلى جانب الشعب، أما انتشارها فيُبرره حرصُها على أمن المواطنين. بقيت تلك القوات متحدة تحت قيادة واحدة، وهناك عدة أطراف تعتقد أنها لعبت دورا في إقناع المستبدّين بالرحيل تفاديا للمآسي الكبرى التي تهدد البلد. بل إن ذلك هو عين الصواب: فمن السهل حمل شخصٍ أو عدة أشخاص على الرحيل، لكن من الصعب ترحيل شعبٍ عقد العزم على التغيير. والحقيقة أنّ الدبابات لم يكن لها وقع على النفوس، والدليل على ذلك أن المتظاهرين كانوا يكتبون بواسطة رذاذ الصبغ (spray) شعارات على تلك الآليات العسكرية، وكانوا يصعدون فوقها لإبراز تآخيهم مع أطقم الدبابات، بل إنهم كانوا يتمددون تحتها لمنعها من التّحرّك. وفي بنغازي شوهد ثُوّار يلعبون في الشارع مع الدبابات كما يلعب الصبيان بالسيارات الصغيرة في حظائر التسلية.
أمّا السيناريو الثاني فهو ذلك الذي كان اليمن وليبيا ساحة له. ففي ليبيا التي لم تكن فيها دولة مُهيكلة وجيش كلاسيكي لم نُشاهد وحدات لقوات مُكافحة الشغب، ولا قنابل مسيلة للدموع، ولا عِصِيّ، لكنها كانت دبابات وقاذفات RPG7 وقصف جويّ منذ الوهلة الأولى. فتطوّرت المُظاهرات بسرعة إلى مُواجهات مُسلّحة، تَلاها انسحاب شبه جماعي من الفريق الحكوميّ ومن الهيئة الديبلوماسية. وبعد ذلك كانت الحرب، و تأسيس المجلس الوطني الانتقالي، وتقسيم البلد، وأخيرا جاء التّدخّل الأجنبي. ولم يستفد القذافي من تجربة ابن علي وحسني مبارك التي كانت حديثة العهد، بل قدّر أنّ تجربة صدام حسين أكثر قربا من البطولة، أي: البقاء في الحكم إلى النهاية، إلى أن يتحطّم البلد، وإلى أنْ يُلقى عليه القبض في حفرة، ويُجرى عليه الفحص الطبي السريع، ثمّ يُشنق.
أما في اليمن فإنّ القمع لم يتخذ مجرى كارثيا حتى جاء اليوم المشؤوم، الجمعة 18 مارس، حيث تمّ إعدام ستين متظاهراً دفعةً واحدة، ممّا أدّى إلى موجة من الاستقالات الوزارية، واستقالة ضباط سامين في الجيش، وديبلوماسيين، ونواب وشيوخ قبائل، موجة أكثر قوة من التي شهدتها ليبيا. أمّا علي عبد الله صالح الذي أفلتت الأمور من يده، وفقدت دولته ركائزها، وصار حزبه خاليا من المناضلين، فقد راح يُردد عبارات الوعيد التي سُمِعت من فم القذافي وابنه: إنّ الشعب مُسلّح، والمجتمع قبليّ، فالحرب الأهلية أمر حتميّ، وسيتحلل البلد… كان المستبد الطاغي يفكر في كل الاحتمالات وراح يفكر في كل الكوابيس، لكنه لم يفكر في أحسن مخرج له، وأقل الحلول ضرراً، وأقلها تكلفة للجميع، ذلك الحل هو أن يتخلى عن الحكم ويرحل. أما الاقتراح الذي قدّمه بتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في آخر السنة، فلمْ يلْق قبولاً.
صحيح أنّ اليمن مجتمع قَبَليّ، لكنّ ما كان يُطالب به المتظاهرون بإلحاح منذ البداية هو الوحدة الوطنية والديمقراطية. إنّ الثورة لم تولدْ في القبائل، بل ظهرت في ساحةٍ عمومية. إنّ القبائل هي التي أقبلتْ على الثورة، والأشخاص هم الذين اعتنقوا الفكرة وانضووا تحت لوائها. وتلك الفكرة هي الديمقراطية، والجمهورية، وحكم المؤسسات، والحريات. لقد تظاهر شيوخ القبائل في ” ساحة التغيير ” لكي يُساندوا مطالب الشباب ويُعبّروا عن التفافهم حول مبادىء الوحدة ومبادىء الديمقراطية التي نادت بها الثورة. أعلن شيوخ القبائل انضمامهم إلى شباب لا يملكون قيادة أركان ولا أية وسائل. وموعد الشعب في ظروف الثورة هو الشارع. ففي العراء يُقيم، وتحت نجوم السماء أو تحت الخيام ينام. إنه يستقبل المباركات والتهليل ووسائل الإعلام في الشارع. أما المستبد الطاغي فهو لا يزال مُقيما في قصره الذي راحت أروقته تخلو من أهلها باستمرار.
إنّ السلطة في كلّ من ليبيا واليمن قد شجّعتْ النظام القبَليّ لأنّها لم تكن تتصوّر لنفسها من دور غير فرض نفسها كَحَكَمٍ بين الرعاع، وكحارسة للمعبد، وكضامنٍ للاتّساق والاستقلال الوطنييْن. والحالُ أنّ القبائل، وقادة الحرب، والأئمة والجنرالات قد انضمّوا جميعاً إلى المطالبة الشعبية. إنّ القاعدة الذهبية التي يعرفها المستبدّون العرب كلّهم، والتي تلفّظوا بها آلاف المرّات في خُطبهم هي ” فرّقْ تسُدْ “. وعمدوا إلى إقناع شعوبهم بأن البلد بدونهم سينغمس في الفوضى والحرب الأهلية ثُمّ يتعرّض للغزو الأجنبي الذي سينهب ثرواته. كان ذلك هو أقوى سلاح في أيديهم، وحجتهم الرئيسية لمنع ظهور أية حياة سياسية ديمقراطية. أمّا مبدأ ” عدم التّدخل في الشؤون الداخلية ” الذي كانوا يتشبّثون به فهو الستار الذي يتسترون به عن الفظائع التي يرتكبونها والنّهب الذي تعوّدوا عليه وركونهم إلى توريث الحكم لسلالاتهم. وقد طال تَشدُّقهم بـ  ” تقرير الشعوب لمصائرها “، لكنْ عندما أرادت تلك الشعوب أنْ تُقرر مصيرها بنفسها، وأنْ تسترجع سيادتها، وتختار حُكّامها، لم يكن منهم إلاّ القمع بالرصاص الحيّ والقصف الجوّيّ.
وإنها أول مرّة في تاريخ الثورات نشاهد فيها القيادات العسكرية في بلدٍ ثائر تنشق عن السلطة وتنضمّ إلى المتظاهرين. ففي مصر وتونس انضمت القوات المسلحة بكاملها، وفي اليمن وليبيا في معظمها، إلى صف المتظاهرين واعترفت بأنهم يمثلون الشرعية الشعبية. ولم تلجأ تلك القوات المسلحة إلى المناورة من أجل الاستحواذ على ثمرة بطولة الشعب وتضحياته، كما لم تتقدم كبديل عن المستبد المخلوع. اندمجت تلك القوات في الجماهير التي هي خارجة منها، والتي كانت في الأصل خادمة لها رسميا، لكن ليس واقعيا.أمّا الآن فقد صارت خادمة لها بالفعل، وهي مستعدّة لتصفية حساباتها مع المستبدّ ومع الذين بقوا أوفياء له. وعن قريب سيكون بإمكاننا أن نقول، وبدون تهكّم، إنّ الجيش مِلْكٌ للشعب، أما في الماضي فكان العكس هو الصحيح. فقد كان للجيش بلد، وعَلَم، وكان يمارس سلطته على السكان دون أن يراعي تطلُّعاتهم وحقوقهم السياسية. وإنّ الانتصارات الوحيدة التي يُشْهَدُ بها للجيوش العربية هي تلك التي حققتها نهضة شعوبها. كانت الانقلابات تقع باسم ” الثورة ” وتنقلب كليّةً ضدّ الشعوب بتحوّلها إلى ديكتاتوريات. وهذه الصفحة قد شُرِعَ في قلبها.
إنّ ما قلناه في المقالات السابقة عن الشعوب العربية في إطار شرح تحوّلها ينطبق على الجيشين التونسي والمصريّ، وإلى حدٍّ ما على الجيشين الليبيّ واليمنيّ. لقد حدث تجديد كُليّ في عقليات تلك الشعوب بمجيء أجيال من الحُكّام الذين أتيح لهم النظر والاستماع والاندماج مع ما يحدث في العالم. وأمَلُنا أن يحدث نفس الشيء في سوريا التي لم يُطلق جيشها رصاصة واحدة ضد إسرائيل، التي استولت على الجولان وتقوم بقصف بطاريات الصواريخ والمنشآت الذريّة المدنية السورية باستمرار، وهذا منذ أربعين سنة.
وبديهيّ أنّ هذا ما نتمنّاه لبلدنا عندما سينتفض الشعب، لأن انتفاضته آتية لا محالة للأسباب التي حدّدناها آنفاً والتي سنعود إليها مجدّداً. وفي هذا المنظور فإنّ المسؤولين عن التهيئة العمرانية ينبغي أن يفكروا في إعداد ” ساحات كبيرة للحرية ” في المدن التي يتجاوز عدد سكانها المائة ألف بدءاً بالجزائر العاصمة حيث ” ساحة 1ماي ” و ” ساحة الشهداء ” لا تتسعان لأكثر من بعض المئات من المُتظاهرين حسبما تدلّ عليه تقديرات دقيقة وجديدة صادرة عن وزارة الداخلية. ونظرا للطابع الاستعجاليّ للمسألة، فإنّ المهمّة يمكن أن يُتَكفَّلَ بها في بضعة أسابيع، لكن ينبغي ألاّ يُطلَبَ من سكان العاصمة أنْ يتظاهروا في بوقزول. وبما أنّ العبادة لا يُشترط أن تكون في المساجد وحدها، فإنّ الميزانية الضخمة المُخصَّصة لمسجد الجزائر الكبير، والذي لم يَعدْ من الأولويات في الظرف الراهن، يمكن أنْ تُحوّل لتمويل تلك المشاريع، أمّا الأرضية التي اختيرت للمسجد في المحمدية فيمكن تحويلها إلى ” ميدان التحرير ” العاصمي.
فأيّ الفرضيتين السابقتين أكثر احتمالا عندنا؟ أهو التغيير بأقل كلفة ممكنة كما حدث في تونس ومصر، أم هو المأزق المأساوي الذي وقعت فيه ليبيا واليمن؟ لنحاول أن نتصوّر كيف ستكون الفرضية الأولى: فبعد عدة محاولات فاشلة يتمكّن “جيل الفيسبوك ” من تعبئة حركة احتجاجية واسعة النطاق عبر المدن الرئيسية سرعان ما تتعرّض لقمع عنيف من قوات الأمن. وبعد سقوط مئات الضحايا والتنديد على الساحة العالمية يتجه مناضلو وزعماء منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية إلى ” ساحة الحرية ” بسرعة لكي يدعموا حركة الشباب بما يتمتعون به من شهرة وشرعية قانونية. أما الشباب فلم ينقص نشاطهم رغم استفزازات ” بلطجية ” أحزاب الإدارة، وواصلوا المطالبة برحيل النظام وحل أحزاب التحالف التي تدعمه، وتفكيك الشرطة السياسية، وإعداد دستور جديد والبدء بمسيرة جديدة للجزائر الحديثة. وأمام انسداد الوضع وتفاقم العنف وخطر الإدانة من طرف هيئة الأمم، يتّجه أحد كبار ضباط الجيش إلى المحمدية لكي يعبّر عن دعمه للشباب، وبعدها يُستقبل وفد عن الشباب عند صاحب أعلى رتبة عسكرية بحضور وسائل الإعلام المختلفة، ويتم التحاور بين الطرفيْن حول كيفية إخراج البلاد من الأزمة. بعدها تتمّ تلبية كل المطالب وتعود المياه إلى مجراها الطبيعي تحت لواء الجمهورية الجديدة.
أمّا الفرضية الثانية: أكثر من مليون متظاهر معتصمون في ” ساحة الحرّيّة ” منذ أزْيَد من خمسة عشر يوما، وكذا بعض المئات من الألوف في كل من قسنطينة ووهران وتيزي وزو وعنابة وبشار… والجميع يُطالبون برحيل النظام كلّه. البلد في حالة شلل، والجزائريون المُقيمون في الخارج راحوا ينشطون لدى وسائل الإعلام ، والهيئات الرسمية في الدول، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الدولية. أما رئيس الجمهورية فقد بادر بإلقاء خطاب يؤكد فيه أنه لن يترشح لعهدة رابعة وينفي أن يكون بصدد إعداد توريث الرئاسة لأخيه، وأنه سيسهر على القيام بإصلاحات حقيقية بدلاً من الإصلاحات المُعلن عنها سابقا. ويزداد تشبث المتظاهرين بمطالبهم الأولى. وقد بلغ عدد القتلى 874 قتيلا، إضافة إلى 3964 جريحا في مختلف عمليات القمع التي تعرض لها المتظاهرون منذ بداية المواجهات، وهذا ما جعل القنوات الفضائية تعمد إلى تغطية الأحداث بدون انقطاع. كل أنظار الرأي العام الدولي مُوجّهة إلى الجزائر، والرئيسان ساركوزي وأوباما يقضيان لياليهما في قراءة التقارير المُفْزِعة حول الإسلاميين الذين عادوا بقوة وهم يحاولون الإحاطة بالشبيبة الثورية. وهناك وحدات من الأسطول السادس تتهيّأ للتّدخّل على الشواطىء الجزائرية، ومجلس الأمن بصدد دراسة مشروع لائحة. لقد انقطع الاتّصال بين السلطة والثّوّار. وهنا تُبثّ على قناة ” الجزيرة ” صور قائدين من قادة النواحي العسكرية، ومعهم حوالى ثلاثين ضابطا ساميا (جنرالات وكولونيلات) من مختلف الوحدات، جاؤوا مدفوعين بالخوف على انهيار بلدهم ليعبّروا بلغة عربية في أعلى درجات الفصاحة، عن انضمامهم إلى مطالب الشعب… وليس بإمكاني أن أقول لكم كيف ستجري الأحداث بعد ذلك.
هناك فرضية ثالثة ممكنة للتغيير في البلدان التي لم يحدث فيها أي شيء لحدّ الآن: إذا فهم المستبدّ أنّ ساعة التغيير قد حانت، فسيُفضّل استباق الأحداث، ويدعو إلى تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية قد يُشارك فيها من أجل الوقوف على مشاعر الشعب تُجاهه. هذا عن الجمهوريات. أما في الأنظمة الملكية فالمشكلة تتخذ صورة أخرى. فالمطالب منصبّة حول تأسيس نظام ملكي دستوري. وإذا لقي هذا المطلب قبولا فإنّ الاحتجاج سيتوقف ويبدأ الحوار. أما إذا قوبل بالرفض ” جملةً وتفصيلا “، وهي العبارة التي يميل إليها الحكام العرب كثيرا، فإنّ الخلاف ينشأ بين الطرفين ويتفاقم في خضم العنف والعنف المُضادّ، وتتجه المطالب إلى التزايد: فالمُتظاهرون صاروا يُطالبون بالانتقال إلى النظام الجمهوري.
تُرى، لمن تعود ملكية أي بلد؟ هل تعود إلى سكانه أم إلى حُكّامه؟ ما دام السكان لم يطرحوا هذا السؤال، وما داموا لم يُطالبوا بملكيتهم، فإنّ الملوك والأمراء كانوا يتصرفون في البلد وكأنه ملكية عائلية وراثية، أما الرؤساء مدى الحياة فيعتبرون البلد غنيمة حرب انتُزِعَتْ من المستعمِر. أما الآن وقد شرعت الشعوب في المطالبة باسترجاع ملكيتها لبلادها، فهل يمكن للمستبدّين ان يحتجوا بعقد ملكية مُتبنّى من محكمة لاهايLa Haye؟ فما يحدث الآن ما هو إلاّ معركة توريث. ففي ليبيا ومصر واليمن كانت الرئاسة مدى الحياة تمهيدا لتوريث الحكم بعد انتخابات شكلية (أو حتى بدونها، كما كاد أن يحدث في ليبيا)، وتلك كانت القطرة التي أفاضت الكأس.
بلغت كلفة الثورة حوالى 400 قتيلاً في تونس من أصل 10 ملايين نسمة، وبلغت ضعف هذا العدد في مصر من أصل 85 مليون نسمة. فكلفة الثورة المصرية كانت أقل من كلفة الثورة التونسية بأربع مرات. أما في اليمن فإنّ عدد الضحايا لم يبلغ المائة لحظة كتابتي لهذا المقال، من أصل 25 مليون نسمة. هذا في الوقت الذي تجاوز عدد الضحايا في ليبيا 8000 قتيل دون حساب الضحايا الذين سقطوا إثر التّدخّل الأجنبي. إنّ الثورات القادمة يُفترض أن تكون كلفتها أقلّ، لكننا لا يمكن أن نطمئنّ إلى ذلك. سننتظر ما سيتمخض عنه الحراك الثوري في كل من المغرب والسودان والجزائر والأردن وسوريا. ففي سوريا وحدها سقط مائة قتيل دفعة واحدة وفي مدينة واحدة (درعة)، وتبعهم قتلى آخرون في الأيام التي تلت. لكن هذا ليس بالشيء الجديد في تاريخ العرب المعاصر. فقد قتل حافظ الأسد دفعة واحدة عدة آلاف من الإخوة المسلمين في الثمانينيات ودمّر مدينة حماه تدميرا كاملا. وفي بلدان الخليج لم تظهر أية مطالب بهذا الشأن باستثناء ما رأيناه من حراك في البحرين وعمان.
لوسوار دالجيري 30 مارس 2011


احتضارُنا الطويـــــل

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

” ولَتَجِدَنَّهُمُ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، وَمِنَ الَّذِيَن أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ “(البقرة، 96).

لو كانت الجزائر مِلْكاً لرئيسها كما كانت مصر مِلْكاً للفراعنة لأَقْررْنا بأنه لا يحقّ لنا أنْ ننبس بكلمة واحدة حول ما يحدث في بلادنا. أمّا وهي مِلْكُنا المشترك، كلّ مواطنٍ صاحبُ أسهُمٍ فيها، وهي شركة باسمٍ جماعيّ، لا شركة بدون أي اسم، ففي هذه الحالة يصبح من حق، بل من واجب كلّ واحدٍ منّا أنْ يقول كلمته ليُندّد بالوضعية الخطيرة والمُذِلّة التي فُرِضَتْ علينا.

إنّ الجزائر لا يرأسها رجل مريض، بل إنّ مريضاً أصبح رئيساً لها.

إنه رئيس يُشرِفُ على نزرٍ قليلٍ من الأنشطة التي لا نطّلع منها إلاّ على بعض الرّسائل التي يتلوها الإعلاميون في نشرات الأخبار، أو تهاني بمناسبة أعياد الميلاد مُوجّهة إلى الخارج، مع بعض الصّوَرِ جيّدة التلفيق عن تلك الاستقبالات النادرة والمُقتضبة.

ومِنْ حين إلى حينٍ نُشاهد رجالاً « نزهاء » يتدخلون ليُقسِموا بآلهتهم أنّه في حالة جيّدة، وأنّ الأمور تسير على ما يُرام، وهي طريقة غير مباشرة لتوجيه هذه العبارة إلينا: ” هذا الأمر لا يعنيكم “.

إنّنا بلد يتربع على عرش السلطة فيه رجلٌ مريض منذ 2005، غير أنه كان آنذاك يتمتع بالقدرة على الكلام والسير على قدميْه. وعندما قام بخرق الدستور سنة 2008 كي يتمكن من الترشّح سنة 2009 بدون أيّ حقٍّ، لمْ يكُنْ لذلك بالغ الأثر في معظم النّاس لِعِلْمِهمْ بأنّ الرجل متشبّث بالسلطة، فكان السّكوت.

بل إنّ بعض الشخصيات باركته بسذاجةٍ على أملِ أن تُعطى له فرصة تأسيس دولة القانون، ويُسجّلَ ذلك في التاريخ. والحقيقة أنّ كُلّ همّه كان في نقطة واحدة هي البقاء في السلطة مهما كان الثمن، ومهما كانت حالته.

وهكذا تمكّن من ولوج باب العهدة الثالثة التي كانت إصابته خلالها (في أفريل2013) بالجلطة الدّماغية نقطة حاسمة. وبينما ارتفعتْ أصواتٌ تُطالب بتطبيق المادة الدستورية الخاصة بالعجز عن أداء مهامه، كان معظم المُواطنين متشبّثين بالأمل في أن يسترجع صحته ليتمكّن من الوصول إلى آخر عهدته التي تنتهي سنة 2014. وقليلون هم الذين لم تكن تُحرّكهم الأطماع، والذين كانوا يتصوّرون أنه سيترشّح إلى عهدة رابعة رغم تقدّمه في السّنّ ورغم حالته الصّحّيّة.

لم يكُن لهذا الرّجل أيّ حق معنويّ للترشّح لمهام الرئاسة الجسيمة. والذين صوّتوا لصالحه لم يكن لهم الحق المعنوي بمنح أصواتهم لرجل في هذه الدرجة من الإعاقة. والذين ساندوه في تلك المُغامرة الخطيرة لم يكن لهم الحق المعنوي في اللعب بمصير البلاد كما يُلْعب بحجر النّرد.

ولا شكّ أن وراء تلك المساندة مصالح ما. تلك هي الظروف التي أحاطت باعتلاء عرش السلطة في الجزائر من طرف رجل مريض. لقد تمّ طرد الرئيس من منصبه في ظرف يومين في بوركينا فاسو لسبب واحد هو أنه حاول المساس بالدستور بغية التمكّن من التّرشّح لعهدة ثانية. وكان هذا الرئيس في الثالثة والسّتّين، ولم يكن يشكو من أية إعاقة.

كيف يخفى على العقل الراجح والنفوس البريئة من الخبث أنّ هذا الرجل الهرم لن يسترجع شبابه مهما كانت حشود الأطباء الأخصائيين، ومهما كانت الوسائل التكنولوجية، في أحسن المستشفيات تجهيزاً، ومهما كانت أكاذيب المحيطين به باستمرار؟ كان عاجزاً عن تقديم أبسط خدمة لبلده. وكلّ ما كان باستطاعته أن يُقدمه ـ خيراً كان أم شراًّ ـ كان بإمكانه أن يُقدّمه منذ سنة 1957. إنّ زمن المعجزات قد ولّى منذ عهد المسيح، أي منذ ألفيْ سنة. قد يعود هذا العهد في العشريات القادمة، لكن بفضل تطوّر العلوم.

لمْ أدّخرأيّ جهدٍ في المقالات العشرين التي نشرتُها هنا حول العهدة الرابعة كي أؤكّد أنّ هذه العهدة ستكون بمثابة احتضار طويل لنا. إنّ هذا الرجل لا يتوقف عن التصريح، عن طريق وُسطائه، بأنّه في تحسّنٍ مُستمِرٍّ بفضل رعاية الله له، لكنّه من جهته لا يبدو عليه أيّ شوق للالتحاق بخالقه والدخول إلى جنة الرّضوان. فالإنسان إذا تقدّمتْ به السّنّ، وكان مؤمناً، يُفترض ألاّ يرجو ” إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى “(الليل 20)، ونفسُهُ لا تهتزّ إلاّ لهذه الوجهة، وتتلهّف إلى دخول الجنّة، وتركن إلى الرّاحة الأبديّة.

يُفترض أنّ الإنسان إذا كان في سنّ مثل هذا الرجل المريض لا تخطر بباله فكرة تعريض بلده للخطر، ولا يرضى أنْ يكون سببا في إضعاف النشاط الذي يتعلّق به المِلْك العموميّ، أو أنْ يتآمر من أجل ضمان تأثيره في مستقبل بلده حتى بعد موته. يُفترض على عكس ذلك أن يجتهد في الصوم التطوّعي، وصلاة النافلة في النهار وفي جوف الليل، وزيارة البقاع المُقدّسة للتكفير عن الذنوب استعدادا ليوم الحساب. هذا ما يتعلّمُه الإنسان العادي منذ طفولته في محيطنا الاجتماعي.

يجب علينا أن نتفادى النزعة العاطفية والأخلاقية الرخيصة عندما يتعلّق الأمر بمصير أمّة أو شعب أو دولة، وأن نتبنّى التحليل الصّلْد والموضوعيّ والعقلاني، بل ويجب أحيانا أن نفسح المجال للغضب والثورة إذا كان هناك ما يبرر ذلك. وعندما نكون في محيط تغلب عليه نزعة التّديّن يصير من الأنسب أن نقول ” لا حياء في الدّين “. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، يحقّ لنا أن نقول إنّ بلدنا يعيش حالة رجلٍ ” عاجز ” بالمعنى القانوني، تمّ تنصيبه على رأس جماعة بشرية يُفترض أن يحتلّ فيها موقع المَحْمِي، لا موقع الحامي المُرسّم.

ويُفترض أنّ المرض هو وضعية تقتضي الاحترام والتعاطف شرط أن يُكِنَّ هذا المريض نفس الاحترام ونفس التعاطف تُجاه عشرات الملايين من الأصحّاء الذين هم على وعيٍ بأنّه من غير المنطقيّ ومن الخطورة بمكانٍ أنْ يقودهم رجلٌ صحته في حالة ” قاب قوسين أو أدنى “.

ويُفترضُ أنّ صاحب الإعاقة الشديدة لا يتشبثُ بالحياة العامة ولا يميل إلى تفاهات الحياة الدنيا، ويبتعد عن خطيئة الكِبَر، بل يَلْزَمُ بيته ليُعالج سُقمه، ويتأمّل، ويكتب مُذكّراته، ويستعدّ للحياة الأخرى في عفّةٍ تامّة وفي تحفّظٍ وبكرامة. ولا يُعْقَلُ في مثل هذه الحالة أنْ يتسبب في تعليق مصير أمّة أو في رهن مستقبل دولة، وأن يؤدي إلى تعطيل عمل مؤسسات بلده واقتصاده أو يُغْرِق شعبه في العار بإقدامه على العلاج في بلد المستعمر الذي قضى حياته كلّها مُعتزاًّ بأنه ممّن حاربوه.

لا يسلمُ أيّ إنسانٍ من المرض والموت، لكنّ الدولة يجب ألاّ تُصاب بالمرض أو تموت لأنّ الإنسان والدولة من طبيعتين مُختلفتين، ومتوسط عمرهما لا يُقاسُ بنفس السُّلّم. فهو عند الإنسان يُقاس بالعشريات، لكنه في أعمار الدّول يُقاس بآلاف السّنين.

عندما يُصاب رئيس دولة بمرض، فإنّ الدولة ليست مُلْزمةً باتّباعه في أُفوله لأنّه إذا كان الإنسان لا يعيش إلاّ لنفسه، فإنّ الدولة لا تخضع لقيد الزمن، وهي التي تتكفّل بمصالح الموتى والأحياء ومصالح الأجيال التي لمْ تولَدْ بعد. وبعبارة أخرى فإنّ العجز الوظيفي الجسدي والعصبي عند الإنسان يجب ألاّ ينجرّ عنه عجز في وظائف الدولة. ويعني ذلك أنه يجب فصل الإنسان، مهما كان، عن الدولة. فلا يحقّ للإنسان أن يتسبب في شلل الدولة لأنه إذا كان بالإمكان نقله هو إلى الخارج من أجل العلاج، فذلك لا يصدق على الدولة.

عندما أصيب الرسول (ص) بالمرض في آخر سنة من عهدته أو رسالته ودّع أمته في خطبته المشهورة بـ ” خطبة الوداع “، ثُمّ عاد إلى منزله وامتنع عن التّدّل في كلّ ما يخصّ الشأن العامّ. فحتى الصلاة لم يَعُدْ يؤمّها بل كلّف أبا بكر الصّديق بذلك. كما أنّه لم يتدخّل في مسألة خلافته رغم كثرة المساعي. لم يُقِم الدنيا ولمْ يُقْعِدْها من أجل البقاء في الحياة، ولم يدْعُ أطبّاء زمانه إلى فراشه، كما أنه لم ينتقل إلى بلاد ” الكُفّار ” كي يُعيدوا له صحته، بل بقي مُمدّدا على فراشه، ينتظر ساعة الرحيل بهدوء، وهو مَنْ هو، إنّه ” خير خلق الله “.

ممّا جاء عن آخر ما قاله الرسول (ص) قبل وفاته أنّ سيدنا جبريل دخل على النبي وقال:
” يا رسول الله، ملك الموت بالباب، يستأذن أن يدخل عندك، وما استأذن على أحدٍ مِنْ قبلك “. فقال النبي: ” ائذن له يا جبريل “. فدخل ملك الموت على النبي وقال: ” السلام عليك يا رسول الله، أرسَلَني الله أُخيِّرُك بين البقاء في الدنيا وبين أن تلحق بالله “. فقال النبيّ:” بل الرّفيق الأعلى، بل الرّفيق الأعلى …”.

توفي الرسول (ص) في الثالثة والسّتّين ودُفِن في مكان بسيط من المنزل الذي كان مسجدا في المدينة، والذي كان يقطن فيه. وسرعان ما بدأ التنافس على الخلافة، وانتهى الأمر باختيار أبي بكر الصّدّيق الذي عُرِفَ بمقولته الشهيرة: ” من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لايموت، وليمض كلٌّ إلى شأنه ” أو كما قال.

ورغم ما كان مِنْ الحُكّام الجزائريين من مواقف تتنافى مع الأخلاق فإنّ الشعب الجزائري لمْ يفقد أهمّ قيمه الأخلاقية، مثل “الحياء” و”الحشمة” و”النيف” الذي يعني أنه لا يليق بالإنسان أنْ يحضر في مكان وهو يعرف أنه ليس مرغوباً فيه، كما لا يليق به أنْ يفرض نفسه في شأن لم يُدْعَ إليه، ولا يليق أن يتشبث بالحياة على حساب الكرامة، ولا يُتيح فرصة للأعداء كي يقدحوا فيه، خاصة إذا لم يكن هذا الإنسان من عامة الشعب، بل هو إقليده.

حقّ للفرنسيين لأهل الحنين إلى عهد ” الجزائر الفرنسية ” من الفرنسيين اليوم أن يسخروا من هذا الرئيس منذ 2005، فرغم الثروات الهائلة التي تتمتع بها بلاده فهي لا تملك مستشفى يستحقّ هذا الاسم لكي يعالج فيه. وهُمْ يُعبّرون في شبكات التواصل الاجتماعي أو بواسطة بعض زعمائهم السياسيين عن تضايقهم من هذه الجسارة، ومن حضور الرئيس الجزائري المتكرر في بلادهم.

أمّا باقي الفرنسيين فهم يعتقدون خطأً أنّه يأتي ليعالج عندهم مجاناً وهُم يتخبّطون في الأزمة، كما أنهم يُعبّرون عن عدم رضاهم على الإزعاج الذي يسببه حضوره ولو بغلق زقاق صغير عند دخوله أو خروجه من مصحّة جرونوبل (Grenoble).

ومعلومٌ أنّ ديننا يحُثُّنا على طلب العلم ولو في الصين، وأنَّ المؤمن يُسمَحُ له بالهجرة إلى أي مكان إذا تعرّض للاضطهاد. فلقد نصح الرسول (ص) مجموعةً مِنْ أصحابه المُضطهدين في مكة باللّجوء إلى النجاشيّ في الحبشة،على أن يبقى هو في ساحة المعركة.

لكنْ، هل يُعقَلُ أنْ يزور رئيس دولة مُسلِمة ” مدينة المُعجزات ” بحثا عن الشفاء من أمراضه؟ هل نعرف مُسلما واحداً زار هذه المدينة وهو في كرسي مُتحرّك ليُغادرها واقفاً على رجليْه؟ إنّني أظنّ أنّ هذا المَزار مُخصص للمسيحيين وقُدماء المستعمرين وحدهم، وليس للمسلمين، حتى ولو لم يكونوا مسلمين إلاّ بالاسم، خاصة إذا كانوا من المجاهدين باستثناء المسيحيين منهم. وبِغضّ النّظر عن ذلك، هل حدث أنْ كانت مدينة لورد سبباً في شفاء أحد من مرض السلطة؟ هذا السؤال يمكن أن يكون مُهماًّ إذا نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية.

الإنسان إذا وصل إلى آخر عمره يتحرر من الجاذبية الأرضية، من ملذات الحياة الدّنيا، ومن العواطف والأنانية المُتسلطة والأحقاد القديمة، من المؤامرات والأعمال الشيطانية لتحقيق غاياته، لأنه يشعر بأنه وصل إلى غايته هو. وحتى لو لم يكن هذا الإنسان من المُتديّنين طيلة حياته فإنه سيتذكر ” رهان باسكال” (Pari de Pascal)[1] ويُذعنُ فاتحاً باب الحياة الروحية أمام عينيه. وهكذا يشرع في تدريب نفسه على السموّ في التفكير، وعلى عدم الاكتراث بالتشريفات، ويدأب على أداء الصلوات في أوقاتها انتظارا للموت المحتوم الذي لا يريد الفرار منه، بل يستعدّ لاستقباله على أمل أن يكون موتاً “في فراش الرحمة”.

إنّ مرحلة ” أرذل العمر” هي المرحلة التي يتّجه فيها الإنسان إلى تنقية نفسه من أدران الشّرّ، والاجتهاد في فعل الخير وتجنّب الشّرّ. فلنْ تعود به حاجة إلى سلطة أو مال، ولا إلى اعتراف الناس وإطراءاتهم، ولا إلى تصفية الحسابات الصغيرة، اللّهُمّ إلاّ إذا كان من طينة الشياطين والأبالسة.

إنها المرحلة التي يجتهد فيها الإنسان للسموّ في مراتب الكرامة والتسامح والشهامة، ويسعى لأن يكون قدوة حسنة لغيره كي يصير خير سلف يعتز به الخلف. فعُمر الإنسان محدود، ولمْ يَعُدْ أحد يأمل أن يعيش ما عاشه النبي نوح عليه السلام (950 سنة) أو لقمان (536 سنة). وقد اكتفى المسيح، الفقير، بـ 33 سنةً لأنه لم يكن متشبّثا بملذات الحياة الدُّنيا، ولم يكُن مِنْ هواة المؤامرة والتدليس والسعي إلى السيطرة على الناس. بل جاء ليُنْقِذهم.

ولستُ أدري إنْ كان رئيسنا يعي حجم العار الذي ألحقه بنفسه وبنا. إنْ كان على وعيٍ بذلك ولا يكترث بشيء سوى التشبث بالمنصب والامتيازات التي يقتضيها، فمِن الحقّ أنْ نجزم بصفة نهائية أنّ طبيعة الجزائريين ليست من طينة سيدنا آدم. إنها صورة حقيرة لرجلٍ يستعمل آخر قواه ليتشبث بطموحات الحياة الدنيا التي لا تليق بسنِّه ولا تتناسب مع ما بقي له من إمكانيات، ولا يجد حرجاً في اللّجوء إلى التّدليس والمُغالطة كي يُثْبِتَ أنَّهُ لم يفقد الأهلية بسبب إعاقاته.

إنّ تعليق مصير دولة برجلٍ واحد، سواء أكان مريضاً أم مُعافى، هو ضربٌ من العبث والهراء، وهو خلل، بل فظاعة يجب تحريمُها ونفيها من مجال الممكن إذا كُنّا نُريد تشييد ” دولة لا تموت بموت الرجال والحكومات”، حسب الوعد الموعود سنة 1965 والذي لم يتمّ الوفاء به إلى يومنا. إنّ مثل هذه المشاهد لم يَعُدْ لها وجود في الجمهوريات الحديثة التي تُحكّمُ العقل. فعبادة الأشخاص انقرضتْ حتى في اليابان التي يُعتقدُ فيها أنّ الأمبراطور من طينة الآلهة، بل وحتى في أدغال الأمازون لم يعُدْ يحقّ لشخصٍ أنْ يتلاعب بمصير أمته. نستثني من ذلك، وبكلّ أسفٍ، هذا الدوّار الذي نعيش فيه.

تُرى، كم سيستغرق احتضارنا من الوقت؟ هذا الاحتضار (agonie) الذي اشتُقّ من كلمة يونانية تعني “المعركة أو الصراع” والذي تُجسّده العهدة الرابعة، أشبهُ شيءٍ برحلة بحث يائسة عن إكسير لاسترجاع الشباب، أو بهروب جنونيّ من الموت، كهروب قابيل من جيوفا في كتاب “consciencela ” لفيكتور هيجو(Victor Hugo)، أو بالسقوط الحُرّ في هاوية الجحيم. إنه احتضار كاحتضار الملوك الآلهة الذين تتوقف من أجلهم الحياة في انتظار صعود أرواحهم إلى عالم الروح.

إنّ احتضارنا احتضارٌ أخلاقيّ أوّلاً. فلطالما رأينا رئيسنا يتسكع من بلدٍ إلى آخر، ومن مستشفى إلى آخر محفوفاً بعبارات الهمز واللّمز على صفحات الصحافة الدولية، دون أن يتزعزع أو يتأثر لما يُقال أو يُكتَبُ عنه، لا بصفته كإنسان، لكن بصفته رئيس دولة، ولأنه لا يمثل نفسه بل يُمثّلُنا جميعاً. لو كانت المشكلة خاصة به هو وعائلته، فمَنْ ذا الذي سيتدخل أو سينشغل به؟ والحال أنه يعنينا جميعاً، في كل يوم، ونحن نتألّم لذلك ونُحسّ بالذّلّ والصّغار. وإذا نجا من الموت في هذه النوبة، فماذا سيكون الحال في المستقبل، بعد شهرٍ أو سنة؟ وإلى متى سنتحمّل لعبة التخفّي التي تُمارسها وسائل الإعلام وكذا محيطه والمُقرّبون منه؟ ماذا يجب أن يحدث كي يصل انهيارنا إلى نهايته؟

وبعد هذا، فإنّ احتضارنا احتضار نفسيّ: فماذا يُخفي هذا التشبّث بالسلطة؟ ماذا تُخبّئه لنا الأيام وراءه؟ إنّ الخوف والقلق مُلازمان لكلّ جزائريّ واعٍ: إنه الخوف من الهول الأكبر، من النوائب غير المتوقعة. وإنه القلق إزاء مستقبل اقتصاديّ غامض، والشعوربالقلق في كلّ مرّة يتمّ نقل الرئيس بصفة استعجالية إلى الخارج.



لوسواردالجيري 18 نوفمبر 2014



[1]– رهان باسكال حُجّة فلسفية وضعها بليز باسكال (فيلسوف، رياضي، وعالم فيزياء فرنسي من القرن 17م). وهذه الحُجة مُحاولة لإثبات أن من مصلحة الإنسان العاقل أنْ يؤمن بوجود الله، سواء كان الله موجودا أم غير موجود. فإنْ لم يكن موجودا لم يخسر شيئا، سواء أآمن أم لم يؤمن، وإنْ لم يكن موجودا. وإنْ كان موجوداً كان مصير المؤمن الجنة ومصير الجاحد النار(عبد الحميد بن حسان).




الرئيسية 5 أراء وتحاليل 5 احتضارُنا الطويـــــل

احتضارُنا الطويـــــل

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان
” ولَتَجِدَنَّهُمُ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، وَمِنَ الَّذِيَن أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ “(البقرة، 96).
لو كانت الجزائر مِلْكاً لرئيسها كما كانت مصر مِلْكاً للفراعنة لأَقْررْنا بأنه لا يحقّ لنا أنْ ننبس بكلمة واحدة حول ما يحدث في بلادنا. أمّا وهي مِلْكُنا المشترك، كلّ مواطنٍ صاحبُ أسهُمٍ فيها، وهي شركة باسمٍ جماعيّ، لا شركة بدون أي اسم، ففي هذه الحالة يصبح من حق، بل من واجب كلّ واحدٍ منّا أنْ يقول كلمته ليُندّد بالوضعية الخطيرة والمُذِلّة التي فُرِضَتْ علينا.
إنّ الجزائر لا يرأسها رجل مريض، بل إنّ مريضاً أصبح رئيساً لها.
إنه رئيس يُشرِفُ على نزرٍ قليلٍ من الأنشطة التي لا نطّلع منها إلاّ على بعض الرّسائل التي يتلوها الإعلاميون في نشرات الأخبار، أو تهاني بمناسبة أعياد الميلاد مُوجّهة إلى الخارج، مع بعض الصّوَرِ جيّدة التلفيق عن تلك الاستقبالات النادرة والمُقتضبة.
ومِنْ حين إلى حينٍ نُشاهد رجالاً « نزهاء » يتدخلون ليُقسِموا بآلهتهم أنّه في حالة جيّدة، وأنّ الأمور تسير على ما يُرام، وهي طريقة غير مباشرة لتوجيه هذه العبارة إلينا: ” هذا الأمر لا يعنيكم “.
إنّنا بلد يتربع على عرش السلطة فيه رجلٌ مريض منذ 2005، غير أنه كان آنذاك يتمتع بالقدرة على الكلام والسير على قدميْه. وعندما قام بخرق الدستور سنة 2008 كي يتمكن من الترشّح سنة 2009 بدون أيّ حقٍّ، لمْ يكُنْ لذلك بالغ الأثر في معظم النّاس لِعِلْمِهمْ بأنّ الرجل متشبّث بالسلطة، فكان السّكوت.
بل إنّ بعض الشخصيات باركته بسذاجةٍ على أملِ أن تُعطى له فرصة تأسيس دولة القانون، ويُسجّلَ ذلك في التاريخ. والحقيقة أنّ كُلّ همّه كان في نقطة واحدة هي البقاء في السلطة مهما كان الثمن، ومهما كانت حالته.
وهكذا تمكّن من ولوج باب العهدة الثالثة التي كانت إصابته خلالها (في أفريل2013) بالجلطة الدّماغية نقطة حاسمة. وبينما ارتفعتْ أصواتٌ تُطالب بتطبيق المادة الدستورية الخاصة بالعجز عن أداء مهامه، كان معظم المُواطنين متشبّثين بالأمل في أن يسترجع صحته ليتمكّن من الوصول إلى آخر عهدته التي تنتهي سنة 2014. وقليلون هم الذين لم تكن تُحرّكهم الأطماع، والذين كانوا يتصوّرون أنه سيترشّح إلى عهدة رابعة رغم تقدّمه في السّنّ ورغم حالته الصّحّيّة.
لم يكُن لهذا الرّجل أيّ حق معنويّ للترشّح لمهام الرئاسة الجسيمة. والذين صوّتوا لصالحه لم يكن لهم الحق المعنوي بمنح أصواتهم لرجل في هذه الدرجة من الإعاقة. والذين ساندوه في تلك المُغامرة الخطيرة لم يكن لهم الحق المعنوي في اللعب بمصير البلاد كما يُلْعب بحجر النّرد.
ولا شكّ أن وراء تلك المساندة مصالح ما. تلك هي الظروف التي أحاطت باعتلاء عرش السلطة في الجزائر من طرف رجل مريض. لقد تمّ طرد الرئيس من منصبه في ظرف يومين في بوركينا فاسو لسبب واحد هو أنه حاول المساس بالدستور بغية التمكّن من التّرشّح لعهدة ثانية. وكان هذا الرئيس في الثالثة والسّتّين، ولم يكن يشكو من أية إعاقة.
كيف يخفى على العقل الراجح والنفوس البريئة من الخبث أنّ هذا الرجل الهرم لن يسترجع شبابه مهما كانت حشود الأطباء الأخصائيين، ومهما كانت الوسائل التكنولوجية، في أحسن المستشفيات تجهيزاً، ومهما كانت أكاذيب المحيطين به باستمرار؟ كان عاجزاً عن تقديم أبسط خدمة لبلده. وكلّ ما كان باستطاعته أن يُقدمه ـ خيراً كان أم شراًّ ـ كان بإمكانه أن يُقدّمه منذ سنة 1957. إنّ زمن المعجزات قد ولّى منذ عهد المسيح، أي منذ ألفيْ سنة. قد يعود هذا العهد في العشريات القادمة، لكن بفضل تطوّر العلوم.
لمْ أدّخرأيّ جهدٍ في المقالات العشرين التي نشرتُها هنا حول العهدة الرابعة كي أؤكّد أنّ هذه العهدة ستكون بمثابة احتضار طويل لنا. إنّ هذا الرجل لا يتوقف عن التصريح، عن طريق وُسطائه، بأنّه في تحسّنٍ مُستمِرٍّ بفضل رعاية الله له، لكنّه من جهته لا يبدو عليه أيّ شوق للالتحاق بخالقه والدخول إلى جنة الرّضوان. فالإنسان إذا تقدّمتْ به السّنّ، وكان مؤمناً، يُفترض ألاّ يرجو ” إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى “(الليل 20)، ونفسُهُ لا تهتزّ إلاّ لهذه الوجهة، وتتلهّف إلى دخول الجنّة، وتركن إلى الرّاحة الأبديّة.
يُفترض أنّ الإنسان إذا كان في سنّ مثل هذا الرجل المريض لا تخطر بباله فكرة تعريض بلده للخطر، ولا يرضى أنْ يكون سببا في إضعاف النشاط الذي يتعلّق به المِلْك العموميّ، أو أنْ يتآمر من أجل ضمان تأثيره في مستقبل بلده حتى بعد موته. يُفترض على عكس ذلك أن يجتهد في الصوم التطوّعي، وصلاة النافلة في النهار وفي جوف الليل، وزيارة البقاع المُقدّسة للتكفير عن الذنوب استعدادا ليوم الحساب. هذا ما يتعلّمُه الإنسان العادي منذ طفولته في محيطنا الاجتماعي.
يجب علينا أن نتفادى النزعة العاطفية والأخلاقية الرخيصة عندما يتعلّق الأمر بمصير أمّة أو شعب أو دولة، وأن نتبنّى التحليل الصّلْد والموضوعيّ والعقلاني، بل ويجب أحيانا أن نفسح المجال للغضب والثورة إذا كان هناك ما يبرر ذلك. وعندما نكون في محيط تغلب عليه نزعة التّديّن يصير من الأنسب أن نقول ” لا حياء في الدّين “. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، يحقّ لنا أن نقول إنّ بلدنا يعيش حالة رجلٍ ” عاجز ” بالمعنى القانوني، تمّ تنصيبه على رأس جماعة بشرية يُفترض أن يحتلّ فيها موقع المَحْمِي، لا موقع الحامي المُرسّم.
ويُفترض أنّ المرض هو وضعية تقتضي الاحترام والتعاطف شرط أن يُكِنَّ هذا المريض نفس الاحترام ونفس التعاطف تُجاه عشرات الملايين من الأصحّاء الذين هم على وعيٍ بأنّه من غير المنطقيّ ومن الخطورة بمكانٍ أنْ يقودهم رجلٌ صحته في حالة ” قاب قوسين أو أدنى “.
ويُفترضُ أنّ صاحب الإعاقة الشديدة لا يتشبثُ بالحياة العامة ولا يميل إلى تفاهات الحياة الدنيا، ويبتعد عن خطيئة الكِبَر، بل يَلْزَمُ بيته ليُعالج سُقمه، ويتأمّل، ويكتب مُذكّراته، ويستعدّ للحياة الأخرى في عفّةٍ تامّة وفي تحفّظٍ وبكرامة. ولا يُعْقَلُ في مثل هذه الحالة أنْ يتسبب في تعليق مصير أمّة أو في رهن مستقبل دولة، وأن يؤدي إلى تعطيل عمل مؤسسات بلده واقتصاده أو يُغْرِق شعبه في العار بإقدامه على العلاج في بلد المستعمر الذي قضى حياته كلّها مُعتزاًّ بأنه ممّن حاربوه.
لا يسلمُ أيّ إنسانٍ من المرض والموت، لكنّ الدولة يجب ألاّ تُصاب بالمرض أو تموت لأنّ الإنسان والدولة من طبيعتين مُختلفتين، ومتوسط عمرهما لا يُقاسُ بنفس السُّلّم. فهو عند الإنسان يُقاس بالعشريات، لكنه في أعمار الدّول يُقاس بآلاف السّنين.
عندما يُصاب رئيس دولة بمرض، فإنّ الدولة ليست مُلْزمةً باتّباعه في أُفوله لأنّه إذا كان الإنسان لا يعيش إلاّ لنفسه، فإنّ الدولة لا تخضع لقيد الزمن، وهي التي تتكفّل بمصالح الموتى والأحياء ومصالح الأجيال التي لمْ تولَدْ بعد. وبعبارة أخرى فإنّ العجز الوظيفي الجسدي والعصبي عند الإنسان يجب ألاّ ينجرّ عنه عجز في وظائف الدولة. ويعني ذلك أنه يجب فصل الإنسان، مهما كان، عن الدولة. فلا يحقّ للإنسان أن يتسبب في شلل الدولة لأنه إذا كان بالإمكان نقله هو إلى الخارج من أجل العلاج، فذلك لا يصدق على الدولة.
عندما أصيب الرسول (ص) بالمرض في آخر سنة من عهدته أو رسالته ودّع أمته في خطبته المشهورة بـ ” خطبة الوداع “، ثُمّ عاد إلى منزله وامتنع عن التّدّل في كلّ ما يخصّ الشأن العامّ. فحتى الصلاة لم يَعُدْ يؤمّها بل كلّف أبا بكر الصّديق بذلك. كما أنّه لم يتدخّل في مسألة خلافته رغم كثرة المساعي. لم يُقِم الدنيا ولمْ يُقْعِدْها من أجل البقاء في الحياة، ولم يدْعُ أطبّاء زمانه إلى فراشه، كما أنه لم ينتقل إلى بلاد ” الكُفّار ” كي يُعيدوا له صحته، بل بقي مُمدّدا على فراشه، ينتظر ساعة الرحيل بهدوء، وهو مَنْ هو، إنّه ” خير خلق الله “.
ممّا جاء عن آخر ما قاله الرسول (ص) قبل وفاته أنّ سيدنا جبريل دخل على النبي وقال:
” يا رسول الله، ملك الموت بالباب، يستأذن أن يدخل عندك، وما استأذن على أحدٍ مِنْ قبلك “. فقال النبي: ” ائذن له يا جبريل “. فدخل ملك الموت على النبي وقال: ” السلام عليك يا رسول الله، أرسَلَني الله أُخيِّرُك بين البقاء في الدنيا وبين أن تلحق بالله “. فقال النبيّ:” بل الرّفيق الأعلى، بل الرّفيق الأعلى …”.
توفي الرسول (ص) في الثالثة والسّتّين ودُفِن في مكان بسيط من المنزل الذي كان مسجدا في المدينة، والذي كان يقطن فيه. وسرعان ما بدأ التنافس على الخلافة، وانتهى الأمر باختيار أبي بكر الصّدّيق الذي عُرِفَ بمقولته الشهيرة: ” من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لايموت، وليمض كلٌّ إلى شأنه ” أو كما قال.
ورغم ما كان مِنْ الحُكّام الجزائريين من مواقف تتنافى مع الأخلاق فإنّ الشعب الجزائري لمْ يفقد أهمّ قيمه الأخلاقية، مثل “الحياء” و”الحشمة” و”النيف” الذي يعني أنه لا يليق بالإنسان أنْ يحضر في مكان وهو يعرف أنه ليس مرغوباً فيه، كما لا يليق به أنْ يفرض نفسه في شأن لم يُدْعَ إليه، ولا يليق أن يتشبث بالحياة على حساب الكرامة، ولا يُتيح فرصة للأعداء كي يقدحوا فيه، خاصة إذا لم يكن هذا الإنسان من عامة الشعب، بل هو إقليده.
حقّ للفرنسيين لأهل الحنين إلى عهد ” الجزائر الفرنسية ” من الفرنسيين اليوم أن يسخروا من هذا الرئيس منذ 2005، فرغم الثروات الهائلة التي تتمتع بها بلاده فهي لا تملك مستشفى يستحقّ هذا الاسم لكي يعالج فيه. وهُمْ يُعبّرون في شبكات التواصل الاجتماعي أو بواسطة بعض زعمائهم السياسيين عن تضايقهم من هذه الجسارة، ومن حضور الرئيس الجزائري المتكرر في بلادهم.
أمّا باقي الفرنسيين فهم يعتقدون خطأً أنّه يأتي ليعالج عندهم مجاناً وهُم يتخبّطون في الأزمة، كما أنهم يُعبّرون عن عدم رضاهم على الإزعاج الذي يسببه حضوره ولو بغلق زقاق صغير عند دخوله أو خروجه من مصحّة جرونوبل (Grenoble).
ومعلومٌ أنّ ديننا يحُثُّنا على طلب العلم ولو في الصين، وأنَّ المؤمن يُسمَحُ له بالهجرة إلى أي مكان إذا تعرّض للاضطهاد. فلقد نصح الرسول (ص) مجموعةً مِنْ أصحابه المُضطهدين في مكة باللّجوء إلى النجاشيّ في الحبشة،على أن يبقى هو في ساحة المعركة.
لكنْ، هل يُعقَلُ أنْ يزور رئيس دولة مُسلِمة ” مدينة المُعجزات ” بحثا عن الشفاء من أمراضه؟ هل نعرف مُسلما واحداً زار هذه المدينة وهو في كرسي مُتحرّك ليُغادرها واقفاً على رجليْه؟ إنّني أظنّ أنّ هذا المَزار مُخصص للمسيحيين وقُدماء المستعمرين وحدهم، وليس للمسلمين، حتى ولو لم يكونوا مسلمين إلاّ بالاسم، خاصة إذا كانوا من المجاهدين باستثناء المسيحيين منهم. وبِغضّ النّظر عن ذلك، هل حدث أنْ كانت مدينة لورد سبباً في شفاء أحد من مرض السلطة؟ هذا السؤال يمكن أن يكون مُهماًّ إذا نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية.
الإنسان إذا وصل إلى آخر عمره يتحرر من الجاذبية الأرضية، من ملذات الحياة الدّنيا، ومن العواطف والأنانية المُتسلطة والأحقاد القديمة، من المؤامرات والأعمال الشيطانية لتحقيق غاياته، لأنه يشعر بأنه وصل إلى غايته هو. وحتى لو لم يكن هذا الإنسان من المُتديّنين طيلة حياته فإنه سيتذكر ” رهان باسكال” (Pari de Pascal)[1] ويُذعنُ فاتحاً باب الحياة الروحية أمام عينيه. وهكذا يشرع في تدريب نفسه على السموّ في التفكير، وعلى عدم الاكتراث بالتشريفات، ويدأب على أداء الصلوات في أوقاتها انتظارا للموت المحتوم الذي لا يريد الفرار منه، بل يستعدّ لاستقباله على أمل أن يكون موتاً “في فراش الرحمة”.
إنّ مرحلة ” أرذل العمر” هي المرحلة التي يتّجه فيها الإنسان إلى تنقية نفسه من أدران الشّرّ، والاجتهاد في فعل الخير وتجنّب الشّرّ. فلنْ تعود به حاجة إلى سلطة أو مال، ولا إلى اعتراف الناس وإطراءاتهم، ولا إلى تصفية الحسابات الصغيرة، اللّهُمّ إلاّ إذا كان من طينة الشياطين والأبالسة.
إنها المرحلة التي يجتهد فيها الإنسان للسموّ في مراتب الكرامة والتسامح والشهامة، ويسعى لأن يكون قدوة حسنة لغيره كي يصير خير سلف يعتز به الخلف. فعُمر الإنسان محدود، ولمْ يَعُدْ أحد يأمل أن يعيش ما عاشه النبي نوح عليه السلام (950 سنة) أو لقمان (536 سنة). وقد اكتفى المسيح، الفقير، بـ 33 سنةً لأنه لم يكن متشبّثا بملذات الحياة الدُّنيا، ولم يكُن مِنْ هواة المؤامرة والتدليس والسعي إلى السيطرة على الناس. بل جاء ليُنْقِذهم.
ولستُ أدري إنْ كان رئيسنا يعي حجم العار الذي ألحقه بنفسه وبنا. إنْ كان على وعيٍ بذلك ولا يكترث بشيء سوى التشبث بالمنصب والامتيازات التي يقتضيها، فمِن الحقّ أنْ نجزم بصفة نهائية أنّ طبيعة الجزائريين ليست من طينة سيدنا آدم. إنها صورة حقيرة لرجلٍ يستعمل آخر قواه ليتشبث بطموحات الحياة الدنيا التي لا تليق بسنِّه ولا تتناسب مع ما بقي له من إمكانيات، ولا يجد حرجاً في اللّجوء إلى التّدليس والمُغالطة كي يُثْبِتَ أنَّهُ لم يفقد الأهلية بسبب إعاقاته.
إنّ تعليق مصير دولة برجلٍ واحد، سواء أكان مريضاً أم مُعافى، هو ضربٌ من العبث والهراء، وهو خلل، بل فظاعة يجب تحريمُها ونفيها من مجال الممكن إذا كُنّا نُريد تشييد ” دولة لا تموت بموت الرجال والحكومات”، حسب الوعد الموعود سنة 1965 والذي لم يتمّ الوفاء به إلى يومنا. إنّ مثل هذه المشاهد لم يَعُدْ لها وجود في الجمهوريات الحديثة التي تُحكّمُ العقل. فعبادة الأشخاص انقرضتْ حتى في اليابان التي يُعتقدُ فيها أنّ الأمبراطور من طينة الآلهة، بل وحتى في أدغال الأمازون لم يعُدْ يحقّ لشخصٍ أنْ يتلاعب بمصير أمته. نستثني من ذلك، وبكلّ أسفٍ، هذا الدوّار الذي نعيش فيه.
تُرى، كم سيستغرق احتضارنا من الوقت؟ هذا الاحتضار (agonie) الذي اشتُقّ من كلمة يونانية تعني “المعركة أو الصراع” والذي تُجسّده العهدة الرابعة، أشبهُ شيءٍ برحلة بحث يائسة عن إكسير لاسترجاع الشباب، أو بهروب جنونيّ من الموت، كهروب قابيل من جيوفا في كتاب “consciencela ” لفيكتور هيجو(Victor Hugo)، أو بالسقوط الحُرّ في هاوية الجحيم. إنه احتضار كاحتضار الملوك الآلهة الذين تتوقف من أجلهم الحياة في انتظار صعود أرواحهم إلى عالم الروح.
إنّ احتضارنا احتضارٌ أخلاقيّ أوّلاً. فلطالما رأينا رئيسنا يتسكع من بلدٍ إلى آخر، ومن مستشفى إلى آخر محفوفاً بعبارات الهمز واللّمز على صفحات الصحافة الدولية، دون أن يتزعزع أو يتأثر لما يُقال أو يُكتَبُ عنه، لا بصفته كإنسان، لكن بصفته رئيس دولة، ولأنه لا يمثل نفسه بل يُمثّلُنا جميعاً. لو كانت المشكلة خاصة به هو وعائلته، فمَنْ ذا الذي سيتدخل أو سينشغل به؟ والحال أنه يعنينا جميعاً، في كل يوم، ونحن نتألّم لذلك ونُحسّ بالذّلّ والصّغار. وإذا نجا من الموت في هذه النوبة، فماذا سيكون الحال في المستقبل، بعد شهرٍ أو سنة؟ وإلى متى سنتحمّل لعبة التخفّي التي تُمارسها وسائل الإعلام وكذا محيطه والمُقرّبون منه؟ ماذا يجب أن يحدث كي يصل انهيارنا إلى نهايته؟
وبعد هذا، فإنّ احتضارنا احتضار نفسيّ: فماذا يُخفي هذا التشبّث بالسلطة؟ ماذا تُخبّئه لنا الأيام وراءه؟ إنّ الخوف والقلق مُلازمان لكلّ جزائريّ واعٍ: إنه الخوف من الهول الأكبر، من النوائب غير المتوقعة. وإنه القلق إزاء مستقبل اقتصاديّ غامض، والشعوربالقلق في كلّ مرّة يتمّ نقل الرئيس بصفة استعجالية إلى الخارج.

لوسواردالجيري 18 نوفمبر 2014

[1]– رهان باسكال حُجّة فلسفية وضعها بليز باسكال (فيلسوف، رياضي، وعالم فيزياء فرنسي من القرن 17م). وهذه الحُجة مُحاولة لإثبات أن من مصلحة الإنسان العاقل أنْ يؤمن بوجود الله، سواء كان الله موجودا أم غير موجود. فإنْ لم يكن موجودا لم يخسر شيئا، سواء أآمن أم لم يؤمن، وإنْ لم يكن موجودا. وإنْ كان موجوداً كان مصير المؤمن الجنة ومصير الجاحد النار(عبد الحميد بن حسان).



بناء جـزائر جديــدة: “أعمال شيطانية”

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: بوكروح وليـــد

– ” فعلُ الخير لن يكون أبدا غايتنا، فعلُ الشّر سَيَكونُ دائما مُتعَتَنا الوحيدة، مُعاكسين بذلك إرادةَ الله. و أَينَما حاولَت إرادَتُهُ أَن تَصنعَ خَيرًا من الشّر الذي نَرتَكبُه، وَجَبَ عَلينا أَن نَسعى لنُفسدَ هَكَذَا غاية، وأَن نَجدَ في ذاك الخير وَسَائلَ لارتكاب الشّر.. ذلك أَنَّ المُلكَ يَستَحقُّ الطُّموح، حتى في الجحيم. السيادة في جهنم أفضل من العبودية في الفردوس” إبليس (جون ميلتون – الفردوس الضائع / الكتاب الأول. 1667)
– “آوّاه ! هاذو خدايم الشيطان !…” (الشعب الجزائري).

عندما َنفقدُ القدرة على أن نرى بوضوح في ما يُصيبُنا، و يَتَمَلَّكُنا الذُّهول لفشلنا في مواكبة تَعَقُّد الأوضاع المحيطة بنا، حتى نَهُزَّ الأكتاف من الحَيرَة ونَشتعلَ غيظا من العَجز. حينئذ ينتابنا تدريجيا شعور غريب بالسُّخف و العَبث، فيَدفَعُنا إلى طريق لم نَكُن نَتَوقَّعُ أن نَسير عَلَيه هو طريق عالم الخوارق و الطرائف. و رغم التَّرَدُّد الذي ينتابنا من ذلك، نَجدُ أنفسنا نَتَمنّى من هذه المحطة الأخيرة قَبلَ الجُنون، أن تُفَسّرَ و تُوَضّحَ لنا ما تَعَسَّرَ فَهمُه مُنذُ مُدَّة ليست بالقصيرة.

عَالَمُ الخوارق هو عالم الظواهر غير العادية، و غَيرُ العادي هُوَ عندما لا تَسيرُ الأشياء على نحوها الطبيعي، كما تسير عليه في باقي العالم، و حين لا تمضي على الصراط المستقيم الذي يُوصل إلى ما هو مَعقول و مألوف. و لَمَّا تأخذ مَجرىً مُختلفا عن المعايير و القواعد المتداولة و المتوارثة، فَتَتَّبعَ رغما عن إرادتنا طُرُقا مُلتَوية تؤدي إلى أَوضاع غير معقولة و خطيرة. عبارة “رغما عن إرادتنا” تعني أيضا رَغمَ أَنف قوانين الطبيعة و المنطق، و رغما عن قواعد الطب و الأخلاق و التاريخ، و تعني كذلك رَغمَ أَنف الصَّالح العام و ما تقتضيه مصلحة البلد و الأجيال القادمة.

لقد حَاصَرَتنا و استَعمَرَتنا مُختَلَفُ الظّواهر الخارقة فأخلطت أوراقنا و جعلتنا نشُكُّ في حواسنا، حتى انتهى الأمر بأن غَرَسَت في أنفسنا اليقين أَنَّنا في الواقع لا نواجه إشكالية ذات طابع سياسي، بل تَركيبةً غَريبةً عَن مجال العقل، تَستَحضرُ مؤامرة جهنمية تَحيكُ خُيوطَهَا في الظّلام قوىً تُقَدّسُ الشَّرَ و تَتَلَذَّذُ بارتكابه ضد بلدنا المسكين و أَهله. مُؤامَرَةٌ يُقالُ أنَّ خيوطها تمتد إلى القوى الأجنبية التي ساندت العهدة الرابعة مقابل العقود و الصفقات، و امتيازات استغلال النفط و الغاز الصخري، حين ستبدأ في 2020 كما تَسَرَّعَ بإعلانه وزير الطاقة.

اليوم تُقَدَّمُ لنا الكثير من الأمور على أنها أشياء طبيعية و عادية. من بَينها تَمَركُزُ جُلّ السُّلُطات في البَلَد بَينَ يَدَي رئيس خارج الخدمة، لا يمشي و لا يتكلم، و هو ما لم نَرَهُ من قَبلُ في العالم و لا حتى في أفلام الخيال. و أيضا تَركُ البَلَد تائها ضائعا هائما في جميع المجالات، ناهيك أنَّنا نَجهلُ مَن الذي يُسَيّرُهُ حقيقةً. و كَونُ التَّعيين في المناصب العليا لم يَعُد يَخضَعُ إلّا لأربعة مَعايير لا خامس لها: الانتماء الجهوي، الوَلاء المُطلق، عَدم الكفاءة، و الارتباط بواحد من الملفَّات الكُبرى للرشوة و الفساد. و أيضا أَن تَغرَقَ غرداية في الحرب الأهلية مُنذُ سَنة حتى باتت قوى الأمن تُطالب بعدم الخدمة هناك. و أن تَحذو حَذوَها إيليزي التي اندَلَعَت فيها مُؤخرا مناوشات قَبَليَّةٌ. و أن يُترَكَ المُواطنون لأمرهم و تَستفحل المخدرات و الجريمة في المُدُن…

كل التناقضات المتراكمة، و الإصلاحات التي تُعلَنُ ثم تُنسى، و السياسات الاقتصادية الهائمة بين اتجاه و عكسه، و الفوضى المُتَعَمَّدَة، و التَعيينات الفاضحة في المَناصب العُليا و الّرمزية، كُلُّ هذه العلل التي يَصعُبُ تَفسيرها بالمنطق تُصبحُ مُتناسقة و مُنسَجمة تماما عندما نُرجعها إلى المنبع الحقيقي الذي تَتَدَفَّقُ منه. سواء كان بصحة مُشرقة أو في حالة يُرثى لها، بإمكانيات مُتواضعة أو بمئات مليارات الدولارات، فإن كل شيء يَخضعُ في النهاية لمَبدَأ واحد: البقاء في السلطة. “انتَصَرَ رَجُلٌ، انهَزَمَت أُمَّة” كان عُنوان مَقَال نشرته في 20 أفريل الماضي: ها هو الحال اليوم كذلك.

يَعلَمُ عُلماء الفَلَك جيدا أنه سيأتي يومٌ يَصطدمُ فيه نيزكٌ من الفَظاء بكَوكب الأرض، مُسببا له أضرارا تُعَادلُ تلك التي انقرضَت من جرائها الديناصورات منذ 65 مليون سنة. كذلك يَعلَمُ عَددٌ من الجزائريين مُنذ دخولهم في زمن العهدة الرابعة أن شيئاً رهيبا سوف يقع لا محالة، و أنَّ عواقبه المادية و البشرية ستكونُ وخيمة.

لكنَّ هذا ليس في الحقيقة كُل ما يَخشَونَهُ: فَرَغمَ استسلامهم لهذا الأمر المحتوم، إلّا أنَّ الرغبة الكامنة في أعماقهم و المُتَعَطشة للعدالة و الانتقام، تَدفَعُهُم إلى التَوَجُس من أن الكارثة القادمة التي ستأخذهم لَن يَنقَرضَ فيها أَحدٌ من الديناصورات، هكذا: “زكارة” فقط، كما لو شَاءَت ذلك إرادةٌ شيطانية. و هُم مُحقُّونَ فعلا في ذلك: فَرُبعُ قَرن من الإرهاب و الزلازل و الفيضانات و أعمال الشغب و حوادث المرور، قَضى عَلى مئات الآلاف منهم لكنه لم يأت على ديناصور واحد، أَو ابن ديناصور حتى.

تُحاولُ نظراتهم المُرتابَة أن تَتَوقَعَ من أين سَيَندَلعُ الحريق الذي لن يَنطَفئ: غرداية، إيليزي، ورقلة، تيزي وزو أو ولاية أخرى… في النهار يُراقبونَ كُلَ النواحي خِشيَةَ أَن يُباغِتَهُم نَوعٌ أو آخر من “المنكر” و في المساء يُصَفِّحونَ أبوابهم و يُحَصِّنونَ بُيوتَهُم. في الليل يُحاوِلُ أَكثَرُهُم تَسَيُّساً، قبل خلوده إلى النوم تحت غطائه الدافئ تَخَيُلَ مختلف السيناريوهات: اغتيال داعش لأجنبي آخر في مكان ما من القبائل، أو تصفية حسابات بين فصائل السلطة لإزاحة جنرال مُهمّ: توفيق؟ هامل؟ مسيرة هائلة أخرى للحرس البلدي أو البطالين، أو إضرابٌ شاملٌ للنقابات المُستقلة تَشُلُّ به البلد.

العهدة الرابعة، و التي تُمَثّلُ المستحيلُ الذي فتح الباب أمام المستحيلات الأخرى، كانت تُطَمئنُ نفسها بالقدرة على شراء السلم الاجتماعي حتى 2019 على الأقل و ذلك صحيحٌ فعلا. فلو تَوقَّفت الجزائر غدًا صباحاً عن تصدير المحروقات، فإنها ستصمد لثلاث سنوات أخرى بفضل احتياطات الصرف التي تملكها (200 مليار دولار / 3 = 66.6 مليار دولار، أي ما يعادل تقريبا كلفة وارداتنا السنوية حاليا). و بمناسبة موضوع اليوم، لَن نَمُرَّ مرور الكرام على هذه الثلاثية المتتالية من حرف 6 و التي سترتعش لها قلوب المسيحيين من مواطنينا، حيث تُذكّرُهُم دون شك بكتاب “سفر الرؤيا” للقديس يوحنا و ما يقوله عنها: ” …لن يُمكنَ لأحد أن يَشتري أو يبيع ما لَم يَحمل علامة الوحش، أو اسمهُ أَو رَقمَ اسمه…و مَن يَملكُ منكم الذَّكاءَ فَليُفَسّر رَقمَ الوحش، فَهُوَ عَدَدٌ من عالم الإنسان، و رقمهُ هو 666″, ( الآيات 15 إلى 18).

ما نعرفهُ عادةً عن “الشيطانية” هي أنها عبادةُ أَتباعها لأبليس. لكن يهوديا أمريكيا يَحملُ اسم “آنتون لافاي”، أعاد في ستينيات القرن الماضي تَشخيصَ هذه العبادة السرية القديمة، ليُعيدها إلى بُعد إنساني مَحض. في هذا التصور الجديد يتخلى إبليس عن عرشه لتُوضَعَ مَكانَهُ “أنا” الإنسان. يُصبحُ الإنسان بهذا هو إلهُ نَفسه، و هو المذهبَ الذي يعلو على كل القيَم الأخرى: الدين، الفلسفة، الفكر، التقاليد، المجتمع، الأمة، الأخلاق، الحياء…لا يجب على المرء أن يَعبُدَ إبليس، بل عليه أن يُصبحَ هُو نَفسُهُ إبليس. مَذهَبُ لافاي هذا لُقّبَ “بالشيطانية المعاصرة”، و عَمَّرَ طويلا بعد وفاة مُؤسّسه حتى صار له عشرات آلاف الأتباع في العالم، بما فيه الجزائر، و إن لم يعي أولئك ذلك.

هذا و لم ينتظر البعض لافاي الذي ربما لم يسمعوا بوجوده حتى، ليُؤَسّسوا لعبادة مُكَرَّسَة لشخصهم و مجدهم. و لم يترددوا في حبس و قتل الآلاف و الملايين من مواطنيهم من أجل البقاء و الخلود في الحكم: ستالين، ماو، كيم إيل سونغ و سلالته، شاوسيسكو، كاسترو، صدام، القذافي، مبارك و موغابي حتى لا نذكر إلا المعاصرين منهم.

الشيطانية المعاصرة أشد خطرا من العبادة الإبليسية القديمة. يُمكنُ و َيجبُ أَن يوصَفَ بالشيطاني، كل من وَضَعَ شَخصَهُ و َمصالحهُ فَوقَ الآخرين، و لم يَتَرَدّد في استعمالهم و التضحية بهم من أجل بلوغ غاياته التي تَتصدَّرُها الرَّغبة في الخلود على العرش. يُمكن أن نستخلص من هذا أن الذين أرادوا العهدة الرابعة و حققوها قد اتَّبعوا لهذا الغرض مخططا شَيطانيَّ الجَوهر، أَدَّى في النهاية إلى وَضع أُمَّة بأسرها تحت أقدام رجل معطوب و حاشيته. في السابق تَعَهَّدَ بومدين بمَعيَّة فريق الانقلابيين المحيط به، و على رأسهم بوتفليقة، بأن يَبني دَولةً “تَصمدُ أمام الأحداث و لا تَزولُ بزَوال الرجال”.

الدَّولةُ التي تركها لم تصمد بين 1988 و 1995 أمام أحداث أكتوبر، ثُمَّ لَم تَعرف بين 2005 و 2014، كيف لا تزولُ بزوال رَجُل واحد فقط: بوتفليقة. فالدولة الجزائرية لم تَعُد اليوم سوى حصيرة يَتَلَذَّذُ هذا الرَّجُلُ و أَتباعُهُ بمَسح أقدامهم عليها.

لم أتمكن خلال الربيع المنصرم من فهم الإصرار و التعنت الذي تمَّ به تمرير عهدة رابعة لرَجُل بَلَغَت حالتُهُ قمة الوَهَن. ذلك لأني كنت أَحسَبُها غايةً في حدّ ذاتها بينما لم تكن في الحقيقة إلا الوسيلة لبلوغ هدف آخر: تَأمينُ التَّوريث الذي كنت أرفض الإيمان بإمكانية حدوثه، معتقدا بسذاجة أن السَّمَكَةَ ستكون أَكبَرَ من أَن يَأكُلَها الجزائريون، و أنهم لا يُمكنُ أن يَقبلوا بشيء كهذا.

لكني اليَوم أُؤمن بهذا الاحتمال الذي, عندما تستوعبه العقول، يُضيءُ فجأة كُلُّ ما من حَولنا من ألغاز. إنها النظرية الوحيدة التي تضفي انسجاما لأحداث لَم تُطلعنا على شيء عندما حاولنا قراءتها على انفراد. إنها الشفرة التي تَسمَحُ بتَصَفُّح الملف السري، و التركيبة التي تُفتَحُ بها الخزنة الحديدية. هي الجُملةُ السّحرية التي تُدخلنا إلى مغارة علي بابا و اللُّصوص الأربعين، أين تمتلئ الأيادي بقطع الذهب و المجوهرات و شتَّى الكنوز المسروقة. كُلُّ شيء يأخذُ فيها مَكانه، مُنذُ البداية، مُنذُ الأبد، جميع القطع تجد مكانها في اللعبة.

نعم, لم يَعُد هناك شيٌء يستحيلُ الوقوعَ في بلادنا، حتَّى المُستحيل. وسَيقبل الجزائريون مُجَدَّدا بالمستحيل القادم, باسم “الاستقرار” و “المعزة التي تطير” و “تخطي راسي”، أو نقدا مقابل أموال مُغرية مُشبعة تُسمنُ و تُغني من جوع. مَذهَبُ الشيطانية يرتبط في جَوهَره بمذهب المُتعة. و بالمادّية و ثقافة الاستهلاك و حب المال، و بالتعطّش للارتقاء الاجتماعي و الفخفخة و ملذات الدنيا. هذا هو كل ما تَرغبُ فيه الأغلبية الساحقة من الجزائريين في الوقت الراهن. لكن، هناك رغم ذلك حقيقة مُسَلَّمةٌ و مُثبتةٌ عبر الزمن: في السياسة كما في العلم، الأقليات الفاعلة هي من يصنع التاريخ.

لم نعد, كما كنت أعتقد بسذاجة، نُواجهُ مُجَرّد حيَل مُستَوحاة من تُراث جحا، بل صرنا نَقفُ وجها لوَجه أمام أساليب شيطانية عديمة الضمير لا تتراجع أمام شيء. فعلا، فمنَ الصعب أن نَرى غير ذلك في تهريب كبار اللصوص إلى الخارج، أو في ضمان الحصانة لمسؤولين في مختلف القطاعات رغم تورط أسمائهم في تحقيقات و محاكمات علنية. في احتفاظ أسماء مشتبه بها في قضايا الرشوة بالمناصب الحكومية، و في تعيين الوجوه القبيحة المكروهة على رأس المؤسسات الرسمية و الهيئات المهمة.

نحن أمام مكيدة بدأ العَدُّ التَّنازُلي لتَنفيذها يَومَ أَعلن سلال تَرَشُّحَ بوتفليقة لعهدة رابعة. لم يكن ذلك له فقط بل كان بمثابة إشارة الانطلاق التي أُعطيت لتجسيد مُخطَّط تَوارث الحكم. هذا المخطط هو حتما ما وقع عليه الاتفاقُ الذي تَحَوَّلت بموجَبه العهدة الرابعة إلى مسألة ثانوية، و إلى مجرد وسيلة لبلوغ الغاية الحقيقية.

لم تكن هنالك أبدا “صراعات فوقية” أو خلافات على الجوهر، بل فقط حاجةٌ لإعادة تنظيم كان يجب القيام بها تمهيدا للعهد الجديد، و حَاجَة لوَضع توقيت يلتزم به الجميع. و بينما لم نفهم نحن شيئا عن سرّ تَعنُّت المرشح العاجز، “هم” كانوا يعلمون جيدا ماذا يفعلون و إلى أين يتوجَّهون، مُنَفّذين إستراتجية مُتَّفق عليها. الخطة المُتَّبَعَة؟ تعيين أَوفياء في المناصب الحساسة، يَتمُّ انتقائهم حسب المعايير الأربعة المذكورة أعلاه. تمرير التعديلات الدستورية التي لا نعلم عنها شيئا إلى حد الآن.

إغلاق اللُّعبة جيدا، ثُمَّ الشُّروع في تهيئة العقول لاستيعاب المخطط الذي رسموه في 1999 أو بالأمس، لا يَهُمًّ مَتى. في حال وقوع اضطرابات اجتماعية أو أمنية، الخضوع للمطالب الاجتماعية. المُهمّ أن لا تتحول إلى مطالب سياسية، أو تَعتَرضَ طريقَ المخطط.
هذه وسيلة لتكريس إعلاء الشر فوق الخير في البلد. وأسلوبٌ لتفضيل الخداع على الأمانة، و العَبَث عَلَى الجدّية، و الخبيث على ابن العائلة، و الغشاش على العامل و المقاول النزيهين. إنها طريقة لإفراغ البلد من الكفاءات، من الذكاء، منَ الأَفضل. غَلقُ ملفات الرشوة يَعني أن يُقال للجميع: ” تفضَّلوا، انهبوا و اسرقوا ما طابَ لَكُم، و احرصوا على أن لا يُمسك بكُم أحد”.

هذه الأعمال الإبليسية هي السبب الكامن وراء الإحباط الذي يَنخَر معنويات الأمة، و التَّشَرُّد الذي يَطبَعُ مَلامحها. “خدايم الشيطان” هذه هي المسئول عن التسيب في الإدارة، و عن الحصانة المضمونة لكبار المجرمين و صغارهم. هي السبب في العدمية التي أصبحت تتميز بها الأغلبية من الجزائريين، في زيادة حالات الانتحار، في “الحرقة” و “الحقرة”، في الهجرة و الاغتراب، في ارتفاع عدد المجانين.

عندما يصل الرجل السياسي إلى الحكم يجد أمامه طريقان متوازيان، تربط بينهما جسور في بعض الأماكن. فوق كل طريق سيجد لافتة, كُتب على أحداها: ” ما يخدم مصالحي”، و على الأخرى: “ما يخدم مصالح البلد”. الذي يتبع الطريق الأول سيضطر أن يُعَرّجَ بين الحين و الآخر على الطريق الثاني للتضليل أو الإيهام. لكنه سوف يحرص خلال حُكمه أن لا يُقدمَ على شيء يُثير استياء الشعب، مثل الإصلاحات الضرورية لمواصلة بناء البلد و الصالح العام، أو حماية التوازنات الاقتصادية الكبرى للأمة من التبذير، حتى لا يُثقل كاهل الأجيال القادمة بالمديونية. سوف يكذب على شعبه و يخفي عنه الحقائق، سيحيط نفسه برجال يكرسون أنفسهم لخدمة مصالحه و مصالحهم و يتصرف بمبدأ “أنا و بعدي الطوفان”.

و عندما يقع في فخ أعماله، حيث لا يستطيع العودة إلى الوراء لأنه لا يعرف كيف يفعل شيأً آخر أو لأنه يتربص عمدا بالشر لبلده، فإنّه سيجعل من ميزانية الدولة لائحةً ملكيةً، و سيفضل الاستيراد على الإنتاج و يمنح الصفقات العمومية الكبرى للشركات الأجنبية على حساب المحلية. كل قراراته ستصب في اتجاه الاحتفاظ بالسلطة من جهة، و في اتّجاه النهاية المُبَرمَجَة لبلاده بَعدَه، من جهة أخرى.

الذي يختار الطريق الثاني، طريق مصلحة البلاد، سيتجاهل الجسور التي توصل إلى الطريق الموازي و يتصرف عكس الأول تماما. سيواجه دائما شعبَهُ بالحقيقة، حلوة كانت أو مرة، و سيجمع حوله أكثر رجال البلاد كفاءة و نزاهة لإيجاد الحلول الحقيقية لمشاكله، و سيسعى لأن يترك بلده على حال أفضل من التي وجده عليها.

الهدف الأسمى للشيطان و أعماله، هو دفع أكبر عدد ممكن من الناس لارتكاب الشر (مخالفة القوانين و النظم، الأنانية، العنف، التعصب). و جَرّ الإنسان ليتنافس و يبدع في المنكر حتى يتمكن من البقاء على قيد الحياة، حتّى ينفذ بجلده، حتى “يسلّك راسو”، و حتّى يحمي نفسه من شر أخيه. ليرتقي في سُلَّم المناصب، ليحقق الثراء أو، بالنسبة للبعض، ليصل إلى السلطة. هذا هو المعنى الذي تحمله مقولة جون ميلتون، شاعر القرن السابع عشر الإنجليزي الذي يصنفه مواطنوه في نفس مكانة شكسبير. هو كذلك المغزى من الصيغة الشعبية الجزائرية، و التي تظهر حكمتها حاليا في حياتنا اليومية.

فعادة عندما لا يستطيع الجزائري أن يرى بوضوح في أمر ما، و يشتم رائحة الغموض و الخداع فيه، فإنه يتراجع قليلا كما لو كان يقصد الابتعاد عن الشر، و يصيح مروعا: “آوّاه ! هاذو خدايم الشيطان !…”




الأخلاق و الأمــــم

بقلم :نور الدين بوكروح

ترجمة : بوكروح وليد

  تَرَكَ الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي بيتاً صار منقوشًا في الذاكرة العربية و حفظتهُ أجيال منّا في المدرسة : ” إنَّمَا الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقيَت  فَإن هُمُ ذَهبَت أخلاقهم ذهبوا“. كلامٌ جميلٌ جدّا لكنه كباقي الشعر عُموما يتوجه إلى العواطف أكثر منه إلى العقل. فعندما نقارن هذا البيت بالواقع التاريخي نجد أنه، و إن حافظ على قوته العاطفية، فإنه ضيّع الكثير من حقيقته الفعلية. هكذا تسير الأمور عادة مع الثقافة العربية الإسلامية، فهي تَستَند قبل كلّ شيء على العواطف و المشاعر و السذاجة، و تَهدفُ إلى سحر القلوب قبل إقناع العقول، ما يجعل أحكامها و مُثُلَهَا سُرعانَ ما تغرقُ في مستنقع الواقع. و من ثَمَّ عندما ننظر من هذه الزاوية إلى بيت أمير الشعراء، فإنَّنَا نُدركُ أنه ليس نظريةً مُستَندةً إلى الواقع كما اعتقَدَت ذلك أجيالٌ كاملة، بل مُجرَّدَ بيت شعري جميل.

اختيار الكلمات في الشعر لا يعير اهتماما كبيرا إلى معناها الدقيق، بقدر ما يوليه إلى القافية و السجع و التناسق بينها لغرض تحقيق جمال القصيدة و نجاحها. بل يمكن للشاعر حتى استعمال الكلمات عكس معناها الحرفي لهذا الغرض، و هذا شيء طبيعي لأن الغاية من الشعر ليست بناء مفهوم أو نظرية ما و إنما مجردَ كلام جميل. إن لَم نَعرف ما قصده شوقي للأخلاق من تعريف دقيق، فإننا نعرف بالمقابل أن معناها يقتصر في الثقافة العربية الإسلامية على القيم ذات الطابع الديني. يمكن إذا أن نحاول انطلاقا من هذه النقطة جرد ما ينقص المسلمين في هذا السياق، لنَفهَم لماذا تَعجزُ قيَمُهُم عن تحقيق انطلاقة جديدة رغم أنها مكنتهم في السابق من التربع على عرش الحضارات.

لقد عبثت الأمم الغربية بأخلاقها و قَلَبَتها رأسا على عقب، حتى وصل بها الأمر إلى ترسيم الزواج المثلي و التَّفكك التام للعائلة، لكنها رغم ذلك لم “تذهب”، بل بقيت حاضرة أكثر من أي وقت مضى، و في أحسن حال من الذي كانت عليه في عهد توركيمادا Torquemada  أو سافونارولا Savonarole . و مع أن أخلاقها انحَلَّت و طابوهاتها انكسرت لكن الأمم لم تنهار، عكس ما هدَّد به بَيتُ أمير الشعراء الذي حسبناه صالحا لكل أُمَّة في كل زمان. و على عكس ذلك تماما، نجد مثالَ جماعة طالبان عندما استحوذت على السلطة في أفغانستان، حيث لم تَنشَغل خلال حُكمها بشيء غير “الأخلاق” لكن أُمَّتَها مع ذلك “ذَهبت” تَماما. هل يوجد منا من يعتقد أن طالبان سَوف تَرفَعُ أمّتها عاليا في سماء التطور لو عادت للسلطة في المستقبل؟ و ماذا عن “داعش «  التي هدمت و لا تَزالُ مَعَالمَ أَثريّةً تعود إلى مهد الإنسانية لأنّها لم تَرَ فيها سوى أصنام وثنية.

الخلاصة التي يمكن أن نتوصل إليها من هذه المقدمة هي أن اختصار “الأخلاق” في القيم و الشعائر الدينية يجعلها لا تضمن لأمَّة ما مكانةً في التاريخ، اللهم إذا اكتفت هذه الأمة بالحياة كما كانت في وقت سيدنا ابراهيم عليه السلام، أو أرادت أن تعيش كما يعيش رهبان التبت في قمم الهيملايا، أو أن تذهب لحكم “بوكو حرام”.

رأينا كيفَ يُمكنُ لأُمَّة أَن “تبقى” مع أن أخلاقها “ذهبت”، و رأينا أيضا الأمة التي ذهبت رغم أنها استَثمَرَت كلَّ شيء في أخلاقها، لكن هناك أيضا حالة ثالثة تَبقى فيها القيم الأخلاقية (بالمعنى الديني) و تَستَمرَّ دون أن تحتاج للتجسد على شكل أمة، و هو ما ينطبق على اليهود. فاليهود عاشوا تائهين بين حضارات التاريخ و العالم، مُشَتَّتينَ بين الأمم مثلما تَتَداوَلهُ أسطورة “اليهودي الهائم”  le Juif errant. حتما لم يريدوا ذلك، لكن هذا كانَ قَدَرَهُم ربما بسبب لعنة سُلّطَت عليهم لما عُرفوا به من قتل للأنبياء. و حتى يومنا هذا، هنالك أقلية منهم فقط تعيش في إسرائيل (5 ملايين) بينما يتوزع حوالي عشرون مليونا آخرين على مختلف أصقاع الأرض. إنها الحضارة الأقل تعدادا في التاريخ لكنها أيضا الأقوى، و التي تضم أكبر عدد من المشاهير في كل المجالات، و هي الأكثر تأثيرا في سياسات الدول التي يعيش فيها أبنائها رغم قلَّتهم؛ و كذلك التي حاز أبنائها على أكبر عدد من جوائز نوبل Nobel. يمكن أن نُسُجّلَ هنا نقطةً في رصيد بيت أحمد شوقي، بَيدَ أَنَّ اليهود لما أرادوا أن يأخذوا شكل أمة فقد فعلوا ذلك انطلاقا من قيم دينهم.

لكن ما هي هذه القيم؟ البكاء أمام حائط؟ السبت المقدس؟ القفطان الأسود و اللحية؟ ربما لكن ليس هذا فَحَسب. فقد تمكن اليهود من البقاء عبر التاريخ بفضل قدرتهم الفائقة على التأقلم مع جميع المناخات و الأجناس، و مع كل أشكال المجتمعات و الأنظمة السياسة و الأحداث، من حروب و ثورات و مذابح. لقدخرجوا دائما و في كل مرة في الصف الأول و في طليعة السباق، من جميع الاضطرابات و التغيرات التي شابت مسيرة التاريخ. بقائهم على قيد الحياة عبر الأزمنة و المحن لا يرجع إلى التمسك بقيم دينهم فقط، بل أيضا و خاصة إلى الذكاء و القيم الفكرية و التضامن و الفعالية و حب العمل و إتقانه و التفتح الفكري و القدرة على الإبداع… فكل يهودي من السفارديم أو من الإشكناز، يحمل  في ذاته و أَينَما وُجدَ هذه القيم العقلانية و الروح الكادحة، و ثقافة الفعالية، و القيم الاجتماعية الفكرية العصرية. هذا ما دَفَعَهُم، عندما أسسوا دولتهم فوق أرض الفلسطينيين في 1948، ألّا يَجعَلوا منها دولةً دينيةً تَضرُّعًا لربّهم، بل نظاما ديمقراطيا.

عندما ننظر إلى هذا الطاقم من القيم تتضح أمامنا الرؤيا الأولى عمّا ينقص المسلمين، كُلّ ما لا تَتَضَمَّنُهُ لائحة أخلاقهم و ما لا يَتَحَدَّثُ بشأنه علماء الدين : الوعي التاريخي، الروح الجماعية، الفعالية الاقتصادية و الاجتماعية، الانفتاح الفكري، القدرة على الإبداع، تجاوز الآفاق المعروفة، الميل لما هو أفضل، النظام السياسي الديمقراطي…

فَعُلَمَاءُ المسلمين فعلًا لا يُعطونَ قيمةً إلا لما هو دينيٌ محض، أو ما أُشيرَ إليه صراحة في آية أو حديث. كل ما يخرج عن ذلك، كلُّ ما لَم يَنتُج مباشرة عن تلك المصادر يُرفض ويُقصى لكونه خارجا عن التعاليم الإسلامية. بينما لا يجب أن تقتصر أخلاقُ أُمّة أو حضارة ما على قيم دينها فقط، فهي إن لَم تَضف إلى رأس مالها الأوَّلي (الدين) ما جاءَ به تطور البشرية من مساهمات تاريخية وأدوات فكرية و عَمَليَّة و علوم بشتى أنواعها و أشكال تنظيم عصرية، فأنها تحكم على نفسها بالفراغ و الهزال اللَّذَان سَيَنجُمُ عنهما الهلاك و الزوال لا محالة.

فالقيَمُ الأخلاقية سبقت القيَمَ الدّينية في الوجود، كما توجد كذلك حتى في الأمم التي لا دين لها. إذ لم توجد عبرَ التاريخ مجموعةٌ بشرية، سواء كانت مجتمعا أو قبيلة أو عصبة أو عشيرة، إلا و حملت مجموعة قيم معنوية و أخلاق تُلهمُ و تُوَجّهُ أفرادها، حتى و لو لم تأتيها من السماء. هذه الأخلاق، شفوية كانت أم مكتوبة، تحمل في طيها المبادئ التي تتبعها تلك المجموعة للتمييز بين الخير و الشر، و الإيثار و الأنانية، و السخاء و البخل، و الغفران و الانتقام، و التواضع و التكبر، و الفضائل و الرذائل، و الإفراط و الزهد، و الشجاعة و الجبن، و النظافة و الوسخ، و الحرية و الاضطهاد…

و إن لَم تُبد المجتمعات التقليدية الحاجة للارتقاء إلى أنظمة متطورة للحفاظ على نفسها، فهذا راجع إلى أنَّ الزمانَ و المحيطَ اللَّذان عاشت فيهما، و مستوى التطور الفكري الذي وصلت إليه، لم يسمحوا أو لم يتطلبوا منها ذلك. فالفضائلُ العَامَّة كانت تكفي للحفاظ على توازنات و متطلبات حياتها. قانون حمورابي Hammourabi  وضع أسس الحضارة البابلية؛ و قانون سولونSolon  نظم الحضارة الأثينية حتى أنجبت سقراط  Socrate و أفلاطون  Platonو أرسطو Aristote ؛ و كونفوشيوسConfucius  علَّم الصينيين احترام السلف والقوانين كأساس لتناسق أمتهم؛ و الحضارة الرومانية التي دامت سبع قرون (أي بقدر ما دامت الحضارة الإسلامية قبل انحطاطها) بُنيَت على روح روما… لكن وضع الأساس لا يكفي للبقاء طيلة عُمر الأُمَم الطويل، بل يجب بعد ذلك بناء الصَّرح الذي يعلو الأساس، ثم بعد ذلك إحاطته بالعناية والصيانة اللازمتين. فيصبح حينئذ من الضروري إدخال روابط جديدة و تقنيات تَشييد متطورة، و مراجعة دائمة لصلاحية مواد البناء، و مراقبة مطابقة البناء لمعايير الوقاية من الزلازل…

بعدما عاش العالم طيلة ألفيات في ضل القوانين الدينية وحدها، راهن ابتداءً من القرن الثامن عشر، و بالذات منذ الثورة الأمريكية، على الحرية في كل المجالات للوصول إلى السعادة والإبداع والعدل والتطور والنمو و الديمقراطية. فخاض بذلك مغامرة الحرية في الدين (حرية المعتقد)، و الفلسفة (حرية التعبير)، والاقتصاد (الليبرالية)، و السياسة (التعددية)، و الاجتماع (التَّنَوُع) و الصحافة… إلخ.

و قام لضَمان نجاح هذا الرهان بتطوير قيم أخلاقية جديدة مكملة للقيم التقليدية والدينية، بحيثُ يُمكن، إذا ما وصلت هذه الأخيرة إلى مرحلة الأزمة أو التعطل، للجديدة أَن تُبقي عليها مُتَّصلةً بقاطرة التطور و أن تُساعدها في الحفاظ على الحيوية اللازمة لبقائها. يُمكنُ أن نضع قائمةً لهذه الأخلاق الجديدة : القيم الإنسانية، الوطنية، الاجتماعية، المدنية، الديمقراطية، الاحترافية، العالمية… إلخ.

فأمم الغرب لم “تذهب” إذا بفضل التكامل الذي حصل بين قيمها التقليدية، والجديدة التي يمكن التفصيل فيها أكثر: احترام الحياة البشرية، السماح بتعدد المعتقدات، حرية الفكر و التفكير و الإبداع، الضمان الاجتماعي، الضرائب، العدالة المستقلة، حقوق الإنسان و المرأة و الطفل و الحيوان  و البيئة… و نجاحُ الغرب إذا يرجع لكونه تمكّن من المساواة بين الرفاه الأخلاقي و الرفاه الاقتصادي، و بين الآداب والبراعة. فأصبح مواطنوه بذلك مزدهرين محفزين سعداء منظمين منضبطين، تحركهم الروح الوطنية و احترام الآخر.

إذا أَرَدنا أو احتَجنا إلى غطاء إسلامي للقبول بهذا المنطق فَلَن نَجدَ أحسنَ ممّا وَرَدَ عن ابن تيمية في الموضوع حيث يقول : “حاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم “. و إذا أردنا التوسع في المعنى الذي قَصَدهُ شيخ الإسلام بكلمة “عادل”، فَيُمكنُ أَن نُحيلَ الكلمةَ إلى عَالم آخر يمكن وصفه بالمُحايد، و أقصد بذلك أنه سَبَقَ عَصرَ الجدال الذي بدأ منذ قرابة القرن بين الإسلام و الحداثة.

ففي بداية القرن التاسع عشر، قام الأبُ الروحي لمصر الحديثة، محمد علي، بإرسال مجموعة من ثلاثين طالبا مصريا في سفر تكويني لفرنسا، يُؤَطّرُهُم إمام من الأزهر هو الشيخ رفعت طهطاوي. و أَقام الوفد في فرنسا لخمس سنوات من 1826 إلى 1831، تَعَلَّمَ خلالها الشيخ الفرنسية و انكبَّ على دراسة أخلاق هذه الأمة الغربية. ثُمَّ كتب بعد عودته إلى مصر كتابا اسمه “ذهب باريس” جاء فيه ما يلي : “ما يسمونه عندهم و يَتَمَنَّونَهُ من الحرية هو ما نسميه عندنا العدالة و المساواة… المبدأ الثابت في الحياة الفرنسية هو البحث عن الجمال و ليس الأبهة و التفاخر بالغنى و الغرور… مثابرة الفرنسيين على تنظيف بيوتهم و ملابسهم شيء رائع…المسرح عندهم مدرسة عمومية يتعلم فيها العالم و الجاهل…”

ما نلاحظه ببالغ الانتباه في كلام الشيخ طهطاوي هو قوله أن كلمة “الحرية” عند الفرنسيين مُرادفةٌ للعدالة و المساواة عند المسلمين. يُمكنُ إذا أن نستنتجَ أن كلمة “عادل”، التي استعملها ابن تيمية في حديثه، تحمل نفس معنى “الحرية”. في هذه الجملة الصغيرة نجد فلسفةً تاريخيةً تَشرحُ لنا لماذا أمكن للحضارة الغربية – و يُمكنُ لأي حضارة أخرى ترتكز على العدل و المساواة – أن تدوم حتى لمَّا ذَهَبَت أخلاقها الدينية، بينما خَرجت الحضارة الإسلامية من التاريخ مع أنها لا تزال تحافظ عليها.

يمكن أن ندفع بالتفكير لأبعدَ من ذلك و نُذَكّرَ أن المقولة الآنفة تتحدث صراحة عن حاكم “مؤمن” و “كافر”. في ما معناه أَنَّ حاكما (أو دولةً) غير مؤمن (علمانيا أو ملحدا) يمكنهُ أن يَدومَ إذا بُنيَ حُكمهُ على العدل و الحرية و المساواة، و أنَّ حاكما مؤمنا (حتما حاكما أو دولةً إسلامية) لَن يُعَمّرَ طويلا إذا لم يَرتكز حُكمهُ على هذه الخصال.

عندما بحثت يوما في تفاصيل الدستور الأمريكي لضرورة عمل، وجدت نفسي أمام التشابه بين المبدأ المفروض في إعلان الاستقلال الأمريكي الذي منح الحق للمواطنين الأمريكيين في الثورة ضد الاستبداد، و المبدأ الذي فرضه أبو بكر الصديق عندما تأكد تعيينه كخليفة رسول الله  و الذي يقر نفس الحق. الفرق فقط هو في الصياغة، لكن المحتوى نفسه. وعلينا التأكيد هنا أن كلتا اللحظتين أي إعلان الإستقلال الأمريكي وخطاب تولي الخلافة كانتا فارقتين في تاريخ الأمتين لأنهما كانتا لحظتا تأسيسهما .

نقرأ في الفقرة الثالثة من إعلان الاستقلال :” تنصب الحكومات بين الرجال كي تكفل الحقوق، وسلطتها العادلة تنطلق من رضا المحكومين عنها، لكن متى ما أصبح الحكم مدمرا لهذا الهدف، للشعب الحق في تغييره أو إلغائه وتأسيس حكومة جديدة …. من حقه، بل ومن واجبه رفض مثل هذه الحكومة…” و لإعطاء المواطنين الأمريكيين الوسائل لتفعيل هذا المبدأ، شرع لهم التعديل الثاني للدستور الحق في امتلاك و حمل السلاح. الأمريكيين لم يعرفوا محاولة فرض الاستبداد عليهم، وبالتالي الانتفاض ضده. انطلاقا من هذا المبدأ القديم بقيت حرية حمل السلاح بالرغم من المشاكل التي تطرحها في المجتمع الأمريكي من يوم إلى آخر.

بعد تعيينه كأول خليفة لرسول الله ، خطب سيدنا أبو بكر الصديق أمام من بايعوه قائلا:” أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة.” فقام له أحد الحاضرين و قال ” لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناه بسيوفنا“- (على اختلاف الروايات بين نسبة هذه الحادثة إلى سيدنا أبو بكر أو سيدنا عمر أو إنكارها كلية). أليست الفلسفة السياسية هي نفسها التي تأسس عليها النص الأمريكي و خطاب أول الخلفاء؟ والجواب الذي رد به البدوي ليتمم المبدأ المطروح من طرف أبو بكر، ألا يقابل التعديل الثاني الذي شرع للجوء إلى استعمال السلاح  لمحاربة سلطة غير شرعية؟

لماذا سارت الأمور بشكل جيد لدى الأمريكيين وعكس ذلك لدى المسلمين؟ لأن ربع قرن بعد الإعلان عن هذا المبدأ، قام والي دمشق، معاوية بن أبي سفيان بالانقلاب على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب، وأسس للتوريث في الحكم دون أن تثور الرعية ضده، فتفنن بعدها من خلفوه  جيلا بعد أخر. منذ ذلك الحين، دخلت الشعوب التي يجمعها البندير ويفرقها سيف الحجاج العصر الذي لم ينقطع من الاستبداد بكل تصريفاته : خليفة السلالة الحاكمة، المملكة، الرئاسة مدى الحياة، الجمهوريات المتوارثة…

صدر بتاريخ :11 مارس 2012






الرئيسية 5 أراء وتحاليل 5 بين الفكر والسياسة 5 وماذا عنّا نحن ؟
وماذا عنّا نحن ؟

بقلم:نور الدين بوكروح

ترجمة :عبد الحميد بن حسان

في فيفري 1979 كان لي الحظ أن أمتطي أول طائرة مُقْلِعة من باريس باتجاه طهران بعد هبوط تلك التي أقلت آية الله الخميني من فرنسا يوما من قبل. كنتُ أريد أن أزور إيران لكي يتاح لي أن أعيش الثورة الإيرانية من الدّاخل وأسجل شهادتي على ما رأيتُهُ وعشته. وذلك ما قمتُ به عندما نشرتُ تحقيقا طويلاً تحت عنوان ( رحلة داخل الثورة الإيرانية) في جريدة المجاهد، بداية جوان 1979.

لم تكن القنوات الفضائية قد ظهرتْ آنذاك، فكان لا بدّ من التنقّل والتعرّض للأخطار من أجل الاطلاع على مجريات تلك الثورة. أمّا اليوم فقد أصبح بالإمكان متابعة الأحداث من البيت أو من أي مقهى عمومي، وبتفاصيل أكثر من المعاينة الميدانية الشخصية.

وفي هذا الشأن أتيح لنا منذ أيام أن نعيش لحظات نادرة في حياة الإنسانية: إنها مجريات عدة ثورات في آنٍ واحد. لقد ملأتْنا تلك الصور دهشةً وسعادةً، ومنها ما كان مُرعباً لأن المُشاهد عندما يراها يتساءل: وماذا لو حدث ذلك عندنا؟ إنني أقصد خاصة تلك الصور التي كانت تأتينا من ليبيا وتُقدّم على المباشر. بلدا ينفجر من الداخل ودولة تضمحل وجيشا يتفكك ومواطنين يتعرضون لقصف طائرات بلدهم، وقوات أجنبية تُحطم كلّ البنى التحتية بالطيران أو بالسلاح البحري، وكل ذلك كان يجري بسبب رجل واحد. من كان يعتقد أن الليبيين سيصلون إلى هذه الحالة؟ ولو حدث ذلك عندنا يوما، لا قدّر الله، فسيكون هناك من يقول كما قلنا: مَنْ كان يظن، أو من كان يعتقد…؟

وكانت كلٌّ مِنْ أفغانستان والصومال واليمن قد عرفت نفس المصير، لكن لأسبابٍ أخرى. وعلى نقيض ذلك يمكن لنا أن نلاحظ أنّ بلجيكا مثلاً تعيش بدون حكومة منذ سنة، وأنّ المجتمع منقسمٌ إلى شطرين، لكن البلد ما زال يسير وكأنّ شيئاً لم يحدُثْ. إذا كانت بلجيكا تبدو وكأنها تسير بواسطة التحكّم الآلي، فالعلّة في ذلك أنّ المُواطن البلجيكي والفلاماني(Flamand) والفالوني (Wallon) قد قاموا بثورتهم الديمقراطية منذ قرنين من الزمان. وكلُّ ما في الأمر أنّ إحدى هذه الجماعات تصبو إلى الانفصال. لم تُطلقْ رصاصة واحدة، ولم تُسجّلْ أيّة خسارة بشرية أو مادّيّة لها علاقة بالعنف.

وماذا عن بلدنا في خضمّ الثورات العربيّة؟ يقول عبد الرحمن الكواكبي الذي تنطبق أفكاره على الإشكالية المطروحة اليوم في البلدان العربية، والتي تعود أصولها إلى سنة 1866، يقول في كتاب (” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد “): “ إنّ الأمّة التي لا تشعر كلّها أو في أغلبيتها بآلام الاستبداد هي أمّة لا تستحقّ الحريّة… وقبل محاربة الاستبداد لا بدّ من إعداد النظام الذي يخلُفُه… فالاستبداد الغربي لو كُتِب له أن يختفي فإنه سيُعوّضُ بحكومة تقوم بتأسيس المؤسسات التي تتيحها الظروف، أمّا الاستبداد في مشرقنا لو امّحى فإنه سيُعوّضُ باستبدادٍ أكثر قساوةً. إنّ الأمر سيكون كذلك لأنَّ المشارقة لم يتعوّدوا أبداً على الانشغال بالمستقبل القريب، لأنّ أكبر همّهم مُتعلِّق بما سيحدثُ في العالم الآخر “.

أحْرى بنا، قبل التساؤل عمّا إذا كانت موجة الثورات العربية ستمتدّ إلى بلدنا، أنْ نتواضع وأنْ نطرح التساؤلات التي يقترحها النصّ الذي أوردناه، أي: هل هناك وضعية استبداد في الجزائر؟ وهل نحن مُتّفقون على إدانة هذا الاستبداد حتى ” نستحقّ الحُرِّيّة “؟ وهل أعددنا الطريق للنظام الذي سيخلُفُه؟ ألمْ نكدْ نستبدلْ الاستبداد باستبداد آخر أكثر قساوة سنة 1991؟ وفي كلمة واحدة، أو في مائة كلمة، هل نحن ناضجون بما يكفي للقيام بثورة ديمقراطية؟

بإمكاني أنْ أصوغ في الحين جوابا سريعا عن السؤال الأخير الذي لا يُمثلُ إلاّ شخصي: نعمْ، بالنسبة للثورة، وفي أية لحظة، لكن بالنسبة للديمقراطية فالأمر ليس مؤكّداً. صحيح أنه من الخطإ الاعتقاد بأنه بمجرّد أن تشتعل النار في منزل واحد تشتعل في المنازل الأخرى، لكنها إنْ كانت مصنوعة من نفس المواد فإنّ الاشتعال أمر حتميّ. والحال أنّ منزلنا مصنوع من قشٍّ. يجب أن نسارع ببناء منزل جديد ما دامت الإمكانيات متوفرة، وإنْ لم نفعل فإنّ النيران ستلتهمه.

إنّ المسؤولين الرسميين قد أكّدوا أنّ بلدنا لنْ يُصاب بأذى لأسبابٍ يمكن تلخيصها فيما يأتي: إنّ الجزائر قد قامت بثورتها الديمقراطية سنة 1988، وإنّ الدولة تملك إمكانيات مالية كافية لامتصاص الضغوط الاجتماعية، وإنّ قوات الأمن عندنا قد تمّ تدعيمها وتقويتها، وإنّ السلطة تحظى بقاعدة اجتماعية واسعة.

وكلّ هذه الحُجج واهية. فلو كُنّا قد قمنا فعلاً بثورتنا الديمقراطية سنة 1988، فأين هي نتائجها، وما السبب في بقاء السخط على السلطة؟ وهل تغيّر النظام؟ وهل جرى التداول على السلطة؟ أولمْ يتم تزوير الانتخابات بانتظام؟ ألم يتمّ تعديل الدستور تعديلا غير معقول؟ أمّا بالنسبة للحجّة الثانية، يكفي التذكير بأن ليبيا التي لا يتعدى عدد سكانها سدس عدد سكاننا ومداخيلها من العملة الصعبة هي ضعف مداخيلنا، ومع ذلك لم تبق في منأى عن الاشتعال. أما الحجة الثالثة فهي واهية لأنّ مصر كانت عندها قوات القمع تقدر بمليوني فرد، أي ضعف قواتنا، ومع ذلك لم تتمكن من تحرير ” ميدان التحرير ” ومِن إنقاذ حسني مبارك. فمهما كان عدد قوات الأمن ومهما كانت كفاءتها وسلاحها فإنها تبقى عاجزة عن إخماد الإرادة الشعبية عندما تتحرك بالفعل. لا يمكن القضاء على ملايين الناس والعالم بأسره يتفرّج، والمتابعات القضائية الدولية تُراقب القائمين بالمجازر. أما الحجة الرابعة فيجب التذكير بأن ملايين المناضلين الإداريين التابعين لحزب ابن علي وحزب حسني مبارك كان بإمكانهم أن يَغْشَوْا شوارع تونس والقاهرة وأن يغمروا المتظاهرين، هذا لو كان هؤلاء المناضلون موجودين حقيقةً. والحال أنّ كلّ ما شاهدناه هو عبارة عن شطحات بلطاجية سرعان ما اندحرت أمام الحشد الشعبي.

ومع ذلك فهناك أسبابا أخرى تدفعنا إلى التشكيك في إمكانية امتداد موجة الثورة إلى بلدنا. لقد حدثت عملية انتحار بالاحتراق في سيدي بوزيد، ومنذ ذلك الحين اشتعلت النار في عشرة بلدان. وبالمقابل جرت نفس الحادثة عندنا عشرين مرّة دون أن يحدث أي شيء حتى في نفس الشارع الذي جرت فيه الحادثة. ولهذا يمكن لي أن أجازف بالقول إنه لن تحدث أية ثورة عندنا على المدى القريب. وأكثر من ذلك يمكن أن نذهب إلى أنها ليست ذات فائدة لأنّ الشعوب لا تلجأ إليها إلاّ إذا دفعهم إليها الحكام بسوء التسيير وبتجاوزاتهم وانغلاقهم على أنفسهم. فالثورة ليست هدفا في حدّ ذاته، وهي لا تكتسب شرعيتها إلاّ بالأهداف الإيجابية التي تُحقّقها. ومعنى ذلك أنه إذا كانت هناك إمكانية لتحقيق الأهداف بالطرق السلمية، فهذا أحسن لأنّ ذلك يؤدي إلى إعفاء البلد من الخسائر المادّيّة والبشرية. وهذا بالذات ما يحاول أن يقوم به جيراننا في المغرب.

ومع ذلك يجب التريث وعدم التسرع في التفاؤل. ذلك أنه لو بقيت الأشياء على حالها، فبدلا من الثورة يمكن أن تستفحل ظاهرة الإضرابات والمناوشات والصدامات والانتفاضات المحلّيّة، والتشنّجات الجهوية، والصراعات القبلية، والمواجهات بين الأحياء والأماكن التي يغيب فيها القانون، والتي ألفناها في بلدنا، كلّ ذلك يمكن أن يتفاقم حتى تتلاشى الدولة. وعند ذلك ستكفي أتفه الأسباب لتتحول الصراعات المحلية إلى لهيب شامل.

إنّ المظاهرات وأعمال الشغب تمثّل المرحلة البدائية في عمر السياسة. ومن الأقوال الشائعة بين هؤلاء المتظاهرين: “إننا نريد أن نُلقّن درسا للسلطة” و “أن نُبيّن له أنّ…”، هذا دون الرغبة في ذهاب تلك السلطة بالضرورة، ليس حُباًّ فيها، ولكن بسبب شيوع فكرة هدامة في العقليات، إذ يُقال: ” إنّ الذي سيأتي لن يكون أحسن من الذي يذهب. فلماذا التغيير إذاً؟”. إن الثورة هي العنف، هذا صحيح، لكنها تأتي لخدمة فكرة: فكرة حول ما نريد أن نؤسسه بدلاً من الذي نريد أن نهدمه. إنّ الثورة هي فكرة مستقبلية في حياة الأمّة والدولة والمجتمع، وهي فكرة تؤمن بها أغلبية من المواطنين. والحال أنه إذا كان هناك إجماع على رفض النظام لمختلف الاعتبارات، فإنّ الإجماع على البديل لم يحدث مطلقاً. لا زلنا في مرحلة ” الأشياء ” أو “لقمة العيش ” وفي مرحلة الأشخاص (المهدي المنتظر، الزعيم، الشيخ…). لا زلنا لم نرقَ إلى مرحلة الأفكار: مرحلة الإجماع على مشروع مجتمع سائر في اتّجاه الديناميكية التاريخية، مشروع يضمن لقمة العيش للجميع ودون حاجة إلى استبداد شخص أو جماعة أو حزب.

إنّ انتفاضة أكتوبر 1988 لم تحمل بين طياتها إلاّ رفضا عنيفا للسلطة. لم نُشاهد، قبل أن تبادر جبهة الإنقاذ(FIS) بالاستيلاء على الانتفاضة، أية لافتة ولا لوحة ولا شعار. دامت هذه الانتفاضة ثلاثة أيام أعقبها خطاب باكي من الرئيس الشاذلي بن جديد، وكان الخطاب وحده كافيا لإقناع المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم وأغلبهم تسيل أعينهم بالدموع هم كذلك. أما انتفاضة جانفي 2011 فلم تدم أكثر من ذلك ولم تحمل هي كذلك أية رسالة سياسية. فقد اتفق الجميع على الاكتفاء بخفض أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، وهذا ما تحقق بسرعة.

كانت صور الجماهير الحاملة للاّفتات والشعارات وأقوال المتظاهرين في تونس ومصر تُبثّ تباعاً على قناتي الجزيرة والعربية وقنوات أخرى. لنتأمّلّ تلك الصور ولنتساءل عما إذا كانت تشبه أحداث أكتوبر 1988 أو جانفي 2011؟ لنقارن بين تشكيلة الجماهير، ولنستمع إلى تصريحات الشباب والصغار والنساء والمثقفين ورجال الشارع… أهي شبيهة بتصريحات شبابنا؟ هل سمعنا التونسيين والمصريين يهتفون “الشعب يريد الفيزا “؟ ولنتفحّص الشعارات التي ترددت في مظاهراتنا كثيرا: ” سلطة مجرمة” pouvoir assassin!)) “أولاش سماح أولاش”، ” وان تو ثري فيفا لالجيري “.. أين هي الرؤية السياسية للمستقبل في كلّ هذا؟ أين هي الأفكار؟

لقد شهدت بلادنا العنف على المدى الواسع مرتين على الأقلّ لأن التظاهرات المتقطعة كانت يومية تقريبا، لكننا لم نشاهد الأفكار تبنّتْها أغلبية إلاّ مرّة واحدة: إنها الأفكار التي رفعتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1990 والتي مفادها أنّ: الديمقراطية كفر، لا للميثاق ولا للدستور، لكن القرآن وحده يكفي، الدعوة إلى تغيير العادات والتقاليد المتعلقة بالملبس والمأكل عند الجزائريين، رفض الاختلاط في المدارس، تحبيذ المحاكم الشعبية للجنرالات، وإلغاء الضرائب…

كُنّا قرأنا قول الكواكبي منذ حين: ” إنّ المشارقة لم يتعوّدوا أبداً على الانشغال بالمستقبل القريب، لأنّ أكبر همّهم مُتعلِّق بما سيحدثُ في الآخرة. فما كانت جبهة الإنقاذ تَعِدُ به من ينتخب لصالحها هو بالضبط” الفوز بالجنّة “. وقد اتّضح أنّ جزءا كبيرا من الوعاء الانتخابي قد انجذب إلى هذا الإغراء، فأبواب جهنم ستُفتح لجميع الناس إنْ لم ينتخبوا. لكن، في النهاية، منِ الأولى بالتوبيخ: أهي جبهة الإنقاذ أم الناخبون، أي الشعب؟ إنّ ظهور معتوه أو معتوهين ليَعِدَ الناس بأي شيء أمرٌ ممكن. فأيّهما أكثر عَتَهاً ، أهُمُ الواعدون أم التابعون؟

وهناك مثال: لقد ظهر في تونس حزب مكافىء لجبهة الإنقاذ، وهو  ” الجبهة الإسلامية للتحرير “. وقد أعلن قادته أنهم أعدّوا أرضية من أجل الجمعية التأسيسيّة القادمة. وماذا كانوا يُحبِّذون في تلك الوثيقة؟ إعادة تأسيس الخلافة ومنع الديمقراطية والتعددية الحزبية إذا وصل حزبهم إلى السلطة. هكذا، بكل بساطة، وبابتسامة عريضة. وبعدُ، أين يكمن المشكل، وأهمّ من ذلك مَنْ بيده الحلّ؟ أهو في أيدي هؤلاء المعتوهين الذين لم يمنعهم عتههم من الإعلان عن برنامجهم على الأقل؟ أم هو بين أيدي الناخبين يوم الاقتراع؟

قد ينتابنا الخوف على التونسيين فنعمد إلى تقديم نصيحة لهم بألاّ يغامروا بقبول هذا الحزب، مثلما نَصَحَنَا ابن علي ومبارك والقذافي. لكن ذلك سيكون إخلالا بالاحترام تُجاههم لأنّ الأمر يعني ضمنياًّ أنّ نصف التونسيين مرشح للجنون. إذا كان الناخبون الذين سيُدلُون بأصواتهم بعد أشهر هم هؤلاء التونسيون والتونسيات الذين رأيناهم في التلفزة أيام ثورتهم، فلا خوف عليهم. فالشعب التونسي قد ارتقى إلى درجة مجتمع منذ زمن بعيد، ولم يبق له إلاّ أنْ يبدأ بتنظيف الإصطبلات لأنّ العسكريين والنخبة لم يقوموا بذلك.

إنّ المشكلة التي كانت مطروحة على الجزائريين في أكتوبر 1988 هي نفسها التي تُطرَح اليوم وبنفس الصيغة، والمشكلة هي: كيف يمكن إرساء قواعد الديمقراطية بدون رأي عام مؤمن بأفكارها؟ كانت أفكار الديمقراطية آنذاك تمثل أقلية، وهي عاجزة عن القيادة لأنّ تلك الأغلبية الصامتة التي كان يؤمّل أن تكون مع الديمقراطية قد امتنعتْ عن التصويت في أغلب الحالات. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ تلك الأفكار الديمقراطية كانت تتعارض فيما بينها أكثر مما تُعارض النظام الذي تدّعي محاربته. فالمعارضة الجزائرية لم يحدُثْ أبدا أنّ اتفقت على رأي واحد بخصوص البديل الذي يجب إعداده ليخلف النظام الحالي، بمعنى أنه لم يكن هناك أي إجماع على برنامج التداول على السلطة بصيغة قابلة للتطبيق. وكأنّ الغاية من العمل السياسي هي أشبه شيء بالتحقيق القضائي في قضية السلطة، ثمّ نشر بيانات، أو التوقيع على لوائح مطالب جماعية، أو في أحسن الأحوال الإدلاء بتصريح أمام ميكروفون قناة أجنبية. وبعد كل هذا يعود الناس إلى بيوتهم يرافقهم الإحساس بأنهم قاموا بالواجب على أحسن وجه والاقتناع بأن الثورة سائرة في طريقها.

وفي كل مرة تظهر محاولة للتّجمّع يتمّ إغراقها ونسفها في الحين. كل حزب يُشكك في الأحزاب الأخرى، وكلّ زعيم يحذر من الآخرين، وجميع الناس مهووسون بفكرة المخابرات. وللتذكير فإنّ الأحزاب في مصر وتونس قد تبنّتْ لغةً واحدةً أثناء أحداث الثورة، وأخذت مكانها وراء الشباب، ولم يتجرّأْ زعيم واحد على البروز ليوجّه الأحداث وجهة تناسبه. لكن أولئك الشباب كانوا يعرفون إلى أين بتّجهون، وقد كانوا في الاتجاه الصحيح بالفعل.

ينبغي أنْ نعترف بأنّ شعبنا لا تهمّه في الوقت الراهن إلاّ يومياته الصعبة: إنه لا يريد أية حكايات، فلا فائدة عنده من ” هذه الديمقراطية التي تمخضت عن مئات الآلاف من الضحايا”. يُريدُ أنْ يعيش ولو عيشة نباتية. وليس وراء هذا الموقف نقص في الشجاعة، فهو شجاع إلى درجة غياب الوعي، وليس وراءه خوف من الموت، فهو يراه ويواجهه يومياًّ. إنه ببساطة لمْ يَعُدْ يؤمن بأي شيء وبأيّ شخص. لو اتصلنا بالجزائريين فرادى لوجدناهم يتمنون التغيير جميعا، لكن شرط أن يأتي هذا التغيير من الغير وأنْ يتحملوا بالتالي تبعاته، وهم في هذا يُعبّرون عن وفائهم لتعاليم جحا التي يعرفها الجميع عن ظهر قلب. وإذا كان الجزائريون يتمتعون بالاستعداد للتضحية، فإنّ الذي كان ينقصهم دوماً هو الحسّ الاجتماعي والجماعيّ.

لقد تكلّمتُ، بزمن طويل قبل مجيء التعددية الحزبية، عن العصبيات، وهي “تجمّعات إيديولوجية حول الدفاع عن رموز ثورة التحرير والإسلام والبعد البربري”، تلك العصبيات التي تنخر عظام مجتمعنا. وهي لا تزال قائمة إلى يومنا، لم يتغيّر منها شيء، متّخذة شكل أحزابٍ سياسية. وكنتُ خصّصتُ سنة 1997 كتابا تحت عنوان  ” الجزائر بين السيء والأسوإ ” لتحليل هذه الإشكالية. ونحن لا نزال نتراوح في نفس الإشكالية.

أما في تونس فلم تظهر عصبيات ضد الدّفع العام لتحاول إجهاضه. ولو ظهرت العصبية لتدخّل الجيش لفرض حلٍّ ما، مهما بلغ هذا الحل من البُعد عن الواقعية. كان يمكن أن تُستغلّ العشرون سنة الماضية في إرساء قواعد حياة سياسية عقلانية وإعداد البديل، لكن النظام عمد إلى منعه، بينما كانت الأحزاب مُصِرّة على عصبياتها كي لا يضيع منها رأسمالها.

وبهدف التصدّي لعاصفة الأزمة الاقتصادية بدأت السلطة الجزائرية تتراجع عن التدابير المتّخذة في السنوات الأخيرة والتي كانت تهدف إلى الحدّ من رقعة الاقتصاد الموازي، وراحت تُزيلُ معظم العراقيل البيروقراطية التي كانت تقف في وجه الشباب الراغبين في القيام بمشاريع استثمارية. فهي ترى أنّ الرضوخ أحسن من الانكسار، وأنّ الاستجابة للمطالب الاجتماعية الاقتصادية أحسن من مواجهة الثورة. وهكذا صرنا نلاحظ أنّ مخالفة قانون المرور لم يعد يُعرّض صاحبه لأية عقوبة، وأنّ رجال الشرطة والدرك تلقّوا تعليمات بتفادي استفزاز المواطنين، وأنّ مصالح الجباية تلقت أوامر بالتخفيف من الأعباء الجبائية، وأنّ شركات الكهرباء والغاز والماء أصبحت مدعوة إلى تفادي قطع التموين بالماء والغاز والكهرباء عن المواطنين الذين لا يدفعون مستحقاتهم… وكلّ هذا قريب مما كان القذافي يقترحه على الليبيين في بداية الثورة: ” خذوا أموال البترول واقتسموها بينكم “! . وهكذا اقتُطِعَتْ مائة مليار دولار من المخزون وقُسّمتْ على 35 مليون جزائري، وحاصل العملية 2857 دولار لكل فرد، أي حوالى 280.000 دج في السوق الموازية. وهذا كله تجسيد لمقولة شعبية مأثورة: ” من لحيته بخّر له “. وقد وجدتِ السلطة عدة أحزاب وأقلام تدعم هذه ” السياسة الاقتصادية الجديدة “.

إنّ مثل هذه السياسة غير مسؤولة، وهي سياسة ديماغوجية وشعبوية لأنها لا تندرج ضمن الحرص على بناء اقتصاد مرشح للدوام، ولا هي نوع من التعاطف المفاجىء مع الشعب، بل هي هروب إلى الأمام. إنها ليست سياسة، بل عبارة عن “بوليتيك” أو لعبة الأغبياء، وهي كرّ وفرّ بين شعب مستعدّ لمهادنة السلطة إذا تركته لشأنه، يفعل ما يشاء كما يشاء، وبين سلطة مستعدة لتقديم كل التنازلات شرط ألاّ تتعرّض لخطر الانقلاب.

إنّ القاعدة الذهبية هي أنّ السلطة إذا فقدت شرعيتها يجب أنْ تُراجع نفسها أو أن تنصرف، وأنّ الشعب عليه أنْ يحترم قوانين وتشريعات بلده، ومن بينها الالتزام بالتشريعات الخاصة بالعمليات التجارية والمالية، ودفع المستحقات الجبائية، واحترام المحيط العمراني وقواعد التعمير. إنّ واجب الدولة أنْ تُكوِّنَ مواطنين واعين، مُتشبّثين بحقوقهم وواجباتهم، وواجب الشعب أنْ يوجِدَ لنفسه مؤسسات شرعية سيكون عليه أن يحترم قوانينها ويقبل بأعمالها. والحال أنه يكفي أنْ نتأمّل في حياتنا الوطنية لكي نُدْرِك أنّ هذين الشرطيْن غير متوفّريْن. وإذا كانت السلطة تسمح باختراق القوانين أو التهرّب منها كي لا يثور الشعب، وإذا كان الشعب يقبل بسلطة غير شرعية لأنها لا تحاسبه على أفعاله، فإنّ في ذلك إيذاناً بنهايةٍ مبرمَجةٍ لكلٍّ من السلطة والشعب. وتلك هي أحسن وسيلة لقتل الاقتصاد والقيم الأخلاقية، والوطن والدولة. وعند ذلك لن يبقى إلاّ دفنهما في مقبرة جماعية واحدة.

إنّ نقطة الضعف في الجزائر كانت تتمثل دوما في السياسات الاقتصادية المنتهجة. وهذه السياسات ـ وهي سياسة واحدة في الحقيقة، أي: هيمنة الدولة على كل شيء ـ تشترك كلّها في أنّها قائمة على هاوية، وعلى مداخيل ظرفية، وعلى التوازن البنكي. وكلُّ ما أُنجِز في إطار هذه السياسات سرعان ما تحلّل واضمحل وانطفأ مثله مثل أي شيء يُربط بخيوط رهيفة أو باللعاب. وبالفعل فإنّ الجزائر عاشت منذ الاستقلال من مداخيل البترول والغاز. فهي تشتري من الخارج بالعملة الصعبة التي تأتيها من البترول والغاز لكي تُغذي وتستجيب لحاجيات الرعاية الطبية والتجهيز والتربية والتسليح والعمل، وكذا تلهية البلد وأهله. إنّ كل هذا يُكلّف الجزائر اليوم حوالى 40 مليار دولار سنوياًّ (خارج المصاريف العسكرية).

لنتصوّرْ مثلاً لو توقف الغاز والبترول، إنه لن يبقى في الخزينة إلاّ أقل من مليار دولار بينما حاجياتنا من الواردات هي أربعون مليار دولار. أنا أعرف أنّ ذلك لن يحدث بعد أسبوع، لكن الجميع يعرف أن الأمر حادث لا محالة في ظرف 15 إلى 20 سنة في أحسن الأحوال، وفي أسوئها قد يحدث هذا في أقل من هذه المدة لو انهارت أسعار المحروقات. والسؤال المطروح هو: هل بإمكاننا أن نفعل في عشرين سنة ما لم نفعله في خمسين؟ هذا بالإضافة إلى أنّ حاجياتنا الاستهلاكية ستتزايد بتزايد عدد السكان، وفي المقابل فإنّ إمكانياتنا المالية لتغطية تلك الحاجيات مرشحة للتناقص حتى التلاشي. وقد يقول قائل: في انتظار ذلك فإنّ صُنّاع هذه “البوليتيك” لن يكونوا حاضرين لكي يُحاسبوا.

سيبلغ عدد سكان الجزائر خمسين مليون نسمة على الأقل بعد عشرين سنة، وستكون بحاجة إلى ثمانين مليار دولار من المصاريف للحفاظ على المستوى الحالي للمعيشة، ذلك أنه يجب أنْ نُدخِل في الحساب مداخيل البترول والغاز اللّذين سنكون قد توقّفنا عن إنتاجهما. فمن أين نأتي بهذه المبالغ المالية؟ وهل سنتمكن في انتظار ذلك من بناء اقتصادٍ قادر على تصدير ما قيمتُه ثمانين مليار دولار؟

إنّ ثلثي الميزانية المخصصين لدفع أجور الموظّفين والمعلّمين ومِنح الطلبة والعسكريين ورجال الدرك والشرطة والجمارك ورجال الإطفاء والأطباء وشبه الطبيين، والأئمة، ومنح المجاهدين وذوي الحقوق، والمتقاعدين، والبعثات الديبلوماسية في الخارج وغيرها من المصالح العمومية وخُدّام الدولة، هذان الثلثان آتيان من الجباية البترولية. بماذا سنُعوِّض كلّ ذلك؟ لنتصور ماذا سيحدث لو أن الدولة أصبحت عاجزة عن دعم أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، وعن تمويل قطاع الصحة والتعليم وبرامج التجهيز والسكن؟ ماذا سيحدث عندما يضطر القطاعان العام والخاص إلى غلق وحداتهما الإنتاجية بسبب نقص المواد الأولية والتجهيز الصناعي المستورد، وما ينتج عن ذلك من إحالة ملايين العمال على البطالة؟

ذلك هو اليوم الذي ستحدث فيه ثورة في غياب الديمقراطية، والذي ستظهر فيه الطامة الكبرى، أو ” الهول” الذي تساوي قوته الزلزال المرفوق بالتسونامي الذي ضرب اليابان. ذلك هو اليوم الذي ستنتفض الجزائر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. سيغادر الموظفون الذين لم تُدفع أجورهم مناصبهم، وسيكون القتال العام على طريقة ” زنقة زنقة ” من أجل رغيف خبز أو قطعة نقود أو علبة دواء أو ثوب… ستُنهب الدكاكين، وستنهال الموجات البشرية على مراكز الشرطة والدرك من أجل الاستيلاء على الأسلحة، وستغيب الدولة ولن يوجد أي إنسان يسعى إلى السلطة… وعندما ستتحول الحياة في المدن إلى جحيم مثلما نشاهد في أفلام الرعب، سيعود كلٌّ إلى قريته الأصلية، وسترجع العروش والدواوير والمشاتي كما كانت نظاما لبنيتنا الاجتماعية، وسنعود إلى حياة الرعي والبداوة، ونضطر إلى استعمال الحمير والبغال والخيل والبعير في النقل لأن حظيرة السيارات ستُشلّ بسبب نقص قطع الغيار والوقود. ومع ذلك فإننا في كل هذا سنربح شيئا مُريحا، بل مُميِّزاً، وهو أننا سنكون أكثر الشعوب حفاظا على البيئة في المعمورة !

لم يمر على استقلانا أكثر من نصف قرن وها نحن أولاء على شفا حفرة من الإفلاس العام. لن يكون دخولنا إلى التاريخ إلاّ لرمشة عين، وفي هذه المدة القصيرة نكون قد عرفنا طرفا من الحياة الوطنية والعصرية. وعلى أية حال فإننا خلال العشرين قرنا الماضية عشنا تحت الاحتلال الأجنبي أكثر مما عشنا أحراراً . ولقد تحدث ابن نبي فيما مضى عن القابلية للاستعمار وعن ” البوليتيك”. و الأحداث الحالية بيّنت لنا أن الإنسان لا يكون مُستبَداًّ به إلاّ إذا كانت فيه القابلية لذلك. لكن الرسول (ص) قال قبل أيٍّ كان:” كيفما تكونوا يُوَلّ عليكم “.

إن التحوّلات والتطورات التي يعرفها العالم العربي تبيّنُ أننا سنكون مُجدّداً في آخر الرتل، كما هي حالنا اليوم في عدة مجالات. و السبب في هذا أن السلطة لا تستشرف المستقبل والشعب لا يريد أن يجعل لحياته نظاماً. فمتى سيعود لنا الوعي يا تُرى؟ متى سنستيقظ لننظر في الحقيقة ونرى الوقائع؟ ومتى سنشرع في العمل على كل الجبهات وفي كل المستويات؟ ومتى سنعمل على تفادي هذا المصير المشؤوم الذي ينتظرنا؟

عندما كنت طفلاً سمعتُ والدتي المحترمة أكثر من مرة تذكر إحدى النبوءات التي سمعتْها هي بدورها وهي طفلة من والديها خلال الأربعينيات. والنبوءة تقول إن فرنسا ستغادر الجزائر قبل نهاية القرن، لكن جنسا أصفر سيُسلّط على بلدنا. ورغم نعومة أظافري فإنّ هذه الكلمات كان لها بالغ الأثر في نفسي، ولأجل ذلك لم أنسها أبداً. وفي أيامنا، عندما استفحل أمر الصين على صعيد الاقتصاد العالمي، وأمام تكاثر عدد الصينيين في بلدنا، رحتُ أتساءل عما إذا كان مضمون تلك النبوءة ينطبق على ما نراه من غزو للمنتوجات واليد العاملة الصينية لساحتنا الاقتصادية، أم أنه ينطبق على شيء آخر يختفي وراء الستار الذي يلُفُّ المستقبل.

في العشرين سنة المقبلة ستبقى تونس قادرة على تغطية تكاليف وارداتها بما تدرّه عليها صادراتها وسياحتها وإسهامات مُغتربيها بالعملة الصعبة. ستبقى تونس قادرة على تغطية أجور مستخدميها بمداخيل الجباية. فلماذا تُصدّر تونس عشر مرات أكثر ممّا نُصدّرُ نحن ـ خارج المحروقات ـ ؟ لماذا يُرسِلُ مُغتربوها أموالهم عن طريق القنوات البنكية ولا يفعل مغتربونا نحن ذلك؟ ما السّرّ في موت سياحتنا؟ ما السبب في أن تجارنا وأرباب الصناعة عندنا لا يُصرّحون إلاّ بثلث رقم أعمالهم أو أقل (هذا إن صرّحوا أصلاً)؟ ما هو الشيء الذي قمنا به منذ خمسين سنة ممّا يصدق وصفه بالصحيح والحقيقي؟ هل قمنا ببناء الإنسان، هذا المورد الرئيسي وهذا المكسب الغالي بالنسبة لأيّ وطن؟ بماذا يمكن أن نعتزّ: بتجارتنا السوداء؟ ببناياتنا غير الشرعية؟ بغياب الحس المدني عندنا؟ بميلنا إلى التّهرّب أو إلى العمل الرديء أو إلى العنف؟ بالحرّاقة ؟(وقد دخلت هذه الكلمة إلى معجم لاروس كشهادة على إسهامنا في اللغات الحديثة). أمْ بالفضائح المتعلقة بالفساد والتي يظهر ابن علي إزاءهاكسارق صغير؟

وقد سبق لي أن طرحتُ هذه التساؤلات في مقال نُشِر في أكتوبر 1979 في جريدة ” المجاهد ” تحت عنوان:” عبقرية الشعوب “، حيث كتبْتُ قائلاً: “ إنّ عبقرية الشعب هي علامتُهُ الخصوصية التي تُعطيه لمعانا يُميِّزه، وطريقته الإيجابية والخلاّقة في أخذ نصيبه من التاريخ، وهي انتصاراته على الطبيعة وعلى نفسه، وإنجازاته التقنية والروحية، واكتشافاته العلمية والاجتماعية، وإسهاماته في إطار الحياة البشرية، ونظرته الشعرية إلى الحياة، ومهاراته في المعمار… فعبقرية الشعوب إذاً ليست خيالاً أو صفة واهية وغير مُحدّدة، أو مُجرّد بهرجٍ في اللغة السياسية، بل هي واقعٌ، وحقيقة ساطعة مُثبتة ومُعترف بها لدى الجميع. صحيح أنّ ساعات الديماغوجيا والجهل قد تُحوّل عبقرية الشعب إلى مُجرّد شعار أو إطراءٍ أو وهم، وقد حدث ذلك بالفعل، لكن مثل هذا الشعار والإطراء والوهم لا يدوم في الغالب، ولا يقف في وجه النقد… ففيمَ تتمثل عبقريتنا؟ وما الذي يُميِّزُنا عن الغير؟ وكيف يرانا غيرنا؟ وماذا يُقال عنّا في التقارير الديبلوماسية؟ وفيمَ تتمثّل هذه العبقرية التي أرهقوا بها أسماعنا؟… إننا نعيش بسلوك يدلّ على اعتقادنا بأنّ الحياة ستنتهي بموتنا. فنحن لا نهتمّ إلاّ بما يمسّ بمصالحنا. فما أكثر المُخالفات والجرائم المتنوعة التي تُقترف أمام أعيننا، وأحيانا برضا تام منّا، أو على الأقل بسكوتنا المشبوه… “حشيشة طالبة معيشة” ، “هف تعيش” وغيرها من العبارات التي تعطي سلوكنا تبريرا”فلسفياًّ”… فقد خرج الجزائريّ من مرحلة ما قبل الاقتصاد ليقع في مرحلة النزعة المادية المُسِفّة (Economisme). وقد أذلتنا تلك النزعة وجعلت منّا أوغادا وشوّهتْ طبيعتنا، وحشرتنا في نزعة فردية منقطعة النظير، وحوّلتنا إلى مستهلكين حقيرين أو إلى أجهزة هضمية “. كان ذلك منذ اثنتين وثلاثين سنة !

لوسوار دالجيري 28 مارس 2011









بوكروح ل« OUMMA.COM »: هزني ما رأيته من درجة الانهيار و التقهقر الذي بلغته الجزائر

ترجمة: بوكروح وليد

لقد أطلقتم عبر صفحتكم في الفايسبوك “نداء لثورة سلمية مواطنة” تناقلته وسائل الإعلام الجزائرية و كان له صدى كبير داخل الوطن و لدى الجزائريين المقيمين بالخارج. لماذا؟ و بالأخص لماذا الآن؟

أشكركم على منحي الفرصة لأتحدث عن أسباب هذا “النداء” قبل التطرق إلى آثاره، لأن هذا جد مهم ليتسنى فهم دوافعه و أهدافه، خاصة في أعين الملاحظ البعيد

السياق: منذ أفريل 2013، تاريخ تعرض رئيسها لجلطة دماغية، لم تعد الجزائر تسيّر بما يناسب أدنى حد من متطلبات الحكم العادية. فهو لم يعد يترأس شيئا و لا يلبي أي من واجبات البروتوكولية، و لم يعد يسافر للخارج إلا للعلاج و يعيش معزولا في إقامة طبية مجهزة. و قد شاهد العالم أجمع صور حالته الصحية من بينها تلك التي التقطها الوزير الأول الفرنسي السابق مانويل فالس. كذلك لم يتكلم مع شعبه منذ ماي 2012 كما لم يعد يظهر ليراه. يتم عرضه من فترة لأخرى على كرسي متحرك، حتى نرى بأنه لا يزال على قيد الحياة، و يجمع مجلس الوزراء مرتين أو ثلاثة في السنة ليصادق في عجلة على مشاريع القوانين الحساسة مثل قانون المالية أو برنامج الحكومة. كما ينتظر منذ بضعة شهور أو سنوات حوالي أربعين سفيرا أن يستقبلهم لتسليم أوراق الاعتماد إليه كما ينص على ذلك الدستور…

قبل و بعد مرضه، قام الرئيس عبر سلسلة من التعديلات الدستورية التي مررها على برلمان مذعن لأوامره، بتخدير دقيق لجميع مؤسسات الدولة (الوزارة الأولى، المجلس الدستوري، البرلمان…)، و قام بسلبها صلاحياتها ليحصرها في دور شكلي بحت. كما أقدم على إعادة هيكلة داخل الجيش واضعا جهاز المخابرات، بكل ما يرتبط به من أساطير عن دوره في الحكم السياسي للبلاد، تحت سلطته الشخصية.

نتيجة لذلك أصبحت كل السلطات المدنية و العسكرية بين يديه بينما هو غير قادر على ممارسة أي منها، و هو ما تسبب في تباطؤ كبير في إدارة البلاد. رئيس في صحة بالغة التدهور، يتحرك بما بقي من النفس و الوعي الأخيرين ليتمسك بالسلطة كما يتمسك العجوز بكيس نقوده في حكاية “البخيل” ل موليار

هذه المأساة التي تمسك بأعصاب الجميع تستمر منذ سنوات، و كلما مر عليها الوقت كلما غاصت الجزائر في جو متوتر من نهاية حكم لا آخر لها. فضائح الرشوة تتوالى و الشعب يتساءل عن هوية الذين يسيرون البلاد في الحقيقة، و عما سيكون عليه مستقبله. البلاد في الواقع لا تسيّر و إنما هي متروكة لتتدحرج لوحدها، بينما تتوجه كل الأنظار إلى أخيه الذي يشغل منصب “المستشار الخاص” له منذ القرن الماضي

في هذه الأثناء، خسرت البلاد ثلثي عائداتها من النفط و الغاز و هي كل ما تملك لأن اقتصادنا لا يصدر شيئا آخر، بينما يلزمنا 70 إلى 80 مليار دولار في السنة لنتمكن من مواصلة العيش كما تعودنا عليه و لم يعد يدخل خزينتنا غير ثلث هذا الرقم. هذا العجز تغطي حتى اليوم بفضل احتياط الصرف الذي تبقي منه اليوم ما يكفي حوالي سنتين أي حتى نهاية العهدة الرابعة للسيد بوتفليقة (أفريل 2014). لكن هذا الأخير لا يعد حاليا لذهابه بل يستعد للبقاء لعهدة خامسة، أو لانتقال السلطة إلى أخيه آخذا مثال فيدال كاسترو.

التوقيت: لقد صدم الجزائريون هذا الصيف بأحداث لم يعرفوا لها مثيلا في السابق. وزير أول حديث التعيين يصرح في البرلمان بأن حكومته ستبادر نظرا للأزمة الاقتصادية بكبح لجام ما أطلقت عليه أنا اسم “مافيا الاستيراد/استيراد”، و ستحاول الفصل بين السياسة و لوبي المال الذي تطور في السنوات الأخيرة ليصبح جزءا لا يتجزأ من دوائر صنع القرار

و خلال ترأسه لنشاط عمومي، طلب من القائمين على التشريفات بأن لا يتركوا لرئيس منظمة أرباب العمل مكانا للجلوس بجانبه كما اعتاد سابقه فعله، و ذلك حتى يبقى منسجما أمام ما صرح به للعلن. إلا أن هذا القرار نال استياء هذا الأخير الذي بادر بمغادرة القاعة جليا، و تبعه في ذلك بكل غرابة مسئول النقابة “الرسمية” للعمال. بعدها بدأت الصحافة تتداول أخبارا و إشاعات بأن المعني بالأمر اشتكى لأخ الرئيس و أن أيام الوزير الأول صارت محدودة على رأس الحكومة. كان هذا يبدو لا يصدق و من ضرب المستحيل، لكنه كان ما وقع بالفعل بعد أيام معدودة.

فخلال جنازة رسمية شارك فيها المسئولون الأربعة (رب العمل، الوزير الأول، النقابي و أخ الرئيس)، حظر هذا الأخير إلى المكان محاطا بمدير تشريفات الرئيس وبحرسه الشخصي، في سيارته الرسمية، و هو ما يعني أنه لبس حلة الرئيس كاملة، و هي تعتبر أول مرة منذ 1999 يقع فيها مثل هذا.

في نهاية الجنازة التي صور خلالها الشركاء الثلاثة و هم يتبادلون الضحكات على بعد بضعة أمتار من الوزير الأول الذي كان وجهه جنائزيا، ليس فقط حزنا على روح الفقيد بل على مصيره أيضا ؛ قام أخ الرئيس باصطحاب رئيس منتدى المؤسسات معه في سيارة الرئاسة، و انصرف الاثنان يعانقان بعضهما في لقطة توحي بأنهما الثنائي الرئاسي.

في اليوم الموالي، و بينما كان الوزير الأول في باريس ليلتقي مع نظيره الفرنسي، بدأت قناة تلفزيونية معروفة بقربها من أخ الرئيس بسرد لائحة اتهامات طويلة ضده. ثم صدرت قرارات نسبت إلى الرئيس تأمر الوزراء بأن يوقفوا العمل بالإجراءات الاقتصادية التي اتخذها الوزير الأول سابقا. هل هذه تصرفات تناسب طريقة عمل دولة؟

و ما أن عاد الوزير الأول إلى أرض الوطن حتى صدر قرار إنهاء مهامه بمجرد بيان مقتضب أصاب البلاد بأكملها بالذهول، إذ ظهر الدليل القاطع أمام أعين الجميع بأن سلطة القرار انتقلت إلى أيدي أخ الرئيس و رجال الأعمال. و ما لم يكن سوى إشاعات و تكهنات أصبح حقيقة و واقع: فالبلاد أصبحت فعلا بين أيدي عصبة لم تعد تخشى أن تظهر للعلن أو أن تتحرك في وضح النهار

بصفتي مثقفا و رجلا سياسيا، و بصفتي المساهم رقم 40 مليون في ملكية هذا البلد، فقد هزني ما رأيته من درجة الانهيار و التقهقر الذي بلغته الجزائر. لم أصدق ما رأته عيناي و أدركه عقلي من الانحراف و الشر و الإذلال، فجاء ردي على الأحداث في ثلاثة مقالات تعبر عناوينها عن محتواها: “لم نعد دولة بل…” ؛ و “شغب على رأس الدولة” ؛ و ” الجيش، صامت لا يريد الاستماع “.



لكن هل تعتقدون أن هذا النداء يمكنه أن يحرك الأشياء في بلد يبدو يائسا و مرتابا من المبادرات السياسية التي في كل مرة تنطفئ في اليوم الموالي لإطلاقها؟.

أجبت على السؤال “لماذا” بوصفي لحالة تتدهور باستمرار منذ 2013 و ستؤدي لا محالة لو واصلنا تركها تسير بديناميكيتها الحالية إلى الفوضى، و أجبت على “لماذا الآن” الذي هو مرتبط بالأحداث التي وقعت خلال الشهر المنصرم.

المعادلة الجزائرية لمن يلاحظها بدقة هي معادلة ذات مجهولين. الأول من جهة و هو السلطة التي هي في أصلها ذات طبيعة غامضة غير شفافة، و وقعت خلال السنوات الأخيرة بين أياد غير مسئولة بالمعنى المزدوج للكلمة: القانوني لأنها غير شرعية، و الأخلاقي لأنها مرتبطة بالمال الوسخ ؛ و التي هي اليوم تحظر بنشاط لعهدة خامسة بحلول انتخابات 2019 الرئاسية، و ذلك ليتسنى لها الاستمرار في الاختباء في ظل رئيس عاجز، أو ضمان انتقال السلطة على النحو الذي تفاهمت عليه دوائر محدودة داخلها. من جهة أخرى يوجد الشعب الذي يشله ما عاشه خلال التسعينيات و ما رآه في الدول العربية التي شهدت “ربيعا” قاد جميعها باستثناء تونس إلى الجحيم

لو بقيت الأمور على ما هي عليه، السلطة منساقة خلف مشروع جنوني و الشعب مشلولا بقوة الجمود التي تطبق عليه، الأولى مصممة على انحرافها لأنها لا ترى شيئا من غير المصالح الفردية لأعضائها المدنيين و العسكريين، و الثاني غير مبال بمصيره لخوفه من أن يتعرض للأسوأ ؛ لو بقيت الأمور هكذا فإن البلاد ستتجه نحو هلاكها. لقد صرح الوزير الأول في لقاء سياسي سري الأسبوع الماضي بأن الحكومة لم تكن تملك ما تدفع به رواتب شهر نوفمبر. هل تتخيلون ما يمكن أن تمثله فرضية مثل هذه؟ ما يمكن أن تؤدي إليه؟ سيكون الانفجار العام و الدخول في دوامة جهنمية.

الوزير الأول الجديد (الذي في الحقيقة يتولى المنصب للمرة العاشرة منذ 1995) قدم إلى البرلمان “مخطط عمل” يرتكز على اللجوء الصريح إلى طباعة العملة لتمويل العجز في الميزانية، و هو ما سيؤدي (رغم نفيه لذلك) إلى تدهور في العملة و إلى تضخم خارج السيطرة، فالاقتصاد الجزائري لا ينتج أي ثروة أو قيمة مضافة تقريبا بما أن %70 من المنتجات التي نستهلكها تأتي من الخارج. تدهور الدينار سوف يقضي على القدرة الشرائية و يرجع بالجزائريين إلى فقر نسوه منذ انتهاء العهد الاستعماري.

الإشكال الذي يطرح نفسه على الإنسان الوطني و العقلاني في ظروف كهذه هو: ماذا، متى و كيف يمكن أن نفعل لنتجنب هذه الأخطار؟ فالسلطة عالقة في هلعها مثل بخيل موليار أن يسلبه أحد ماله، و المواطنون متشتتون و مبعثرون، لم تعد أغلبيتهم تنتخب أو تنتظم في أي إطار سياسي كان.

تكنولوجيات الاتصال الحديثة التي غيرت العديد من جوانب الحياة العصرية يمكنها أن تساعد أيضا في عملية تحسيس و توعية و تجنيد. في الماضي كانت السياسة تتغير عبر الأفكار الثورية، التجمعات الشعبية، المظاهرات و المسيرات، المنشورات أو حتى بالمتاريس و السلاح، و هي الوسائل التي تجند بها عادة قوة المواطنة للوصول إلى التغيير لحياة أفضل ؛ أما اليوم فيمكن لأغلب هذه النتائج أن تحقق بواسطة وسائل الالتقاء و التبادل و النقاش الجديدة التي تتيحها شبكات التواصل الاجتماعي للتوصل إلى قراءة موحدة للوضعية، و إلى إرادة جماعية للعمل، و خطة طريق توافقية لإيجاد الحلول؛ كل ذلك في ظل الهدوء و احترام القوانين و المؤسسات و سلامة الأملاك. اليوم لم يبق أمامنا إلا سنة و نصف لنجهز للقطيعة مع نمط سياسي ذي جذور استبدادية هي بقايا عهد بائد، و لنبني لها بديلا مختلفا

“النداء” الذي أطلقته كان يحمل رقم 1، و قد قلت بوضوح في خاتمته بأنه ليس إلا مرحلة أولى هي مرحلة التوعية، من مبادرة أكبر و سوف تسير نحو مراحل أخرى تتعلق على وجه التحديد ببناء البديل



تنادون على كل واحد بأن “يبدأ العمل انطلاقا من المكان الذي يوجد فيه”. هل يعني هذا أنكم تنادون إلى استيقاظ ضمير جزائري جماعي يتخطى الحدود، و أن “الثورة المواطنة” التي تنادون بها ستؤثر على مزدوجي الجنسية و تدفعهم إلى التحرك للتأثير على رئاسيات 2019؟

بالنسبة إلى فإن مزدوجي الجنسية ليسوا أنصاف مواطنين بل هم مثل باقي الجزائريين و يحملون كامل و نفس الحقوق و الواجبات، و يحملون نفس الآمال و الأحلام لجزائر أفضل. يعرفون بأن بلد منشأهم أو أصلهم أو قلبهم، لا تهم الكلمات، قد أصبح اليوم مضحكة أمام العالم ؛ و أنه أصبح اليوم يحتل المراتب الأخيرة في كل شيء بعد ما كان في أوائل الستينيات يعتبر من دول العالم الثالث البارزة. فجميع بلدان إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية التي كنا نشاركها نفس الوضعية و المؤشرات قد تقدمت اليوم علينا

في السنوات الأخيرة استقر الكثير من الجزائريين أينما أمكن لهم في العالم، لكن هؤلاء في غربتهم و منفاهم لا زالوا يحملون الجزائر في قلبهم و مخيلتهم، و هم يعانون عندما يرونها رهينة بين أيدي الجهل و عرضة للافتراس. كذلك الكثير من مزدوجي الجنسية الذين لم يولدوا في الجزائر قرروا الاستقرار و العمل فيها رغم الصعاب. يمكن لجزائر متحررة من الاستبداد، واعية بحس المواطنة و متوجهة في اتجاه التاريخ و العالم أن تصبح خلال بضعة سنوات فقط بلدا جذابا. و مساهمة المغرّبين في إعادة نهضة البلاد تعتبر واجبا عليهم و سوف يمكنهم هذا الواجب لو قاموا به من اكتساب حقوق جديدة

ندائكم أثار ردود أفعال عنيفة في أعلى هرم الدولة من بينهم رئيس المجلس الشعبي الوطني الذي حذركم من “المساس برموز الدولة”. كما كنتم تتوقعون “الشروع في متابعات قضائية بهدف إسكاتكم و كسر المبادرة السياسية التي أطلقتموها”. لكن يبدوا أن السلطة منذ هذا الصباح قد بدأت تتراجع و أنها قررت حسب كلام الوزير الأول بأن “لا تعاقبكم”؟

أنا لم أمس بأي رمز للدولة، لكن في المقابل فإن شخصا مريضا في جسده و عقله هو الذي حولّ هذه الدولة إلى مريضة معه لم يتبق منها إلا الرموز. صدور مقالاتي الثلاثة المتتالية أثار ردّين رسميين من وزارة الدفاع و ثالثا من لواء متقاعد، تهديدات بالمتابعة القضائية من الناطق الرسمي لحزب الوزير الأول، تحذيرات من رئيس المجلس الشعبي الوطني، و وابلا من القذف و الشتم من وسائل إعلام تابعة لهم، دون أن ننسى هجمات متعددة ل”قناصين” متعطشين للشهرة ؛ و هذا كله هو الذي دفعني إلى الدفاع عن نفسي

علمت مثلكم بأن الوزير الأول صرح هذا الصباح في البرلمان بأن السلطة قررت أن “لا تعاقبني” و أنها ستكتفي بتجاهلي. هو لم يقل “تحيلني إلى القضاء” أو “تحاسبني” أو “تحاكمني” بل قال “تعاقبني”، ربما لأنه لم يجرأ أن يقول “تقتلني”، فقد أضاف بعد ذلك: “لأن لا نجعل منه شهيدا”

اللغة التي استعملها فقط تكفي لإطلاعنا على الطريقة التي يفكر بها المستبد الصغير، زعيم الدوار، “شامبيط” العهد الاستعماري، و هو نفسه التفكير الذي يسيّر الجزائر بالجهل، بانعدام الحياء و الكفاءة، و العنف. لقد نشرت الدولة طيلة قرابة شهر كافة وسائلها و مؤسساتها لتحارب رجلا لا يملك إلا صفحة فايسبوك. المؤكد أن دولة كهذه ليست قائمة أو مسيّرة، بل هي دولة معطوبة و هائمة

كما أن هذا الوزير الأول يعتبر رمزا حيا للعبودية، فهو ينتمي إلى حظيرة السلطة الأليفة منذ عشرين سنة. يعيّن و يطرد من المناصب دوريا دون أن يهمس ببنت شفة. يفرد عضلاته عندما يشير له أسياده بمهمة قذرة يأمرونه بإنجازها، و ينصرف مطأطئ الرأس حين يطردونه. لو كانت “السلطة” تتجاهلني فعلا فلماذا هي تتكلم عني في المجلس الشعبي الوطني إذا؟
أنا لست خارجا عن القانون بل أعرف القوانين و أحترمها أكثر منهم. كذلك لست من المنادين بالفوضى و لم أدعوا الجزائريين إلى التمرد على الدولة، بل دعوتهم لأن يعيشوا ثورة مواطنة و معنوية ستجهزهم لأن يصبحوا فاعلين في تقرير مصيرهم خلال الأشهر القادمة. هذه الثورة الفكرية، الثقافية، السياسية و الديمقراطية تهدف إلى تغيير العقليات و طريقة النظر إلى العالم عند المواطنين الجزائريين؛ و أنا سأستمر فيها بالوسائل المتاحة إليّ: الأفكار، الفكر و العقلانية. أنا أفعل ذلك لمستقبل بلادي و للأجيال الجديدة ؛ و من المفروض أن يساعدني في ذلك من بقوا يصلحون في المؤسسات الجزائرية بدل أن يعارضوني

في حوار نشر على موقع “Maghreb Emergent”، يأكد المحلل السياسي لهواري عدي أن “القول بأن الرئيس و أخاه يقرران كل شيء هو أسطورة تهدف إلى تركيز السخط على الشخصيتين و صرف النظر عن أصحاب القرار الحقيقيين الذين يتحملون مسئولية كبيرة في الوضع الذي آلت إليه البلاد”. من يقرر فعلا في الجزائر؟ ما هي حقيقة الشلطة في البلاد؟

لا أدري إن كان هذا الحكم يعاني من إفراط في استعمال المنهجية البنيوية في التحليل، أم يحمل نية في التخفيف من مسئولية الإخوة بوتفليقة في تحطيم الدولة الجزائرية. أنا و لكوني لاحظت من قريب هذه الدولة، و كوني دخلت بعض الشيء في دواليبها و عرفت بعض من الرؤوس و “أصحاب القرار”، أملك فكرة أدق بعض الشيء من هذه

تحدثت عن الإفراط في البنيوية لأنه، و إن كان في السابق صحيحا بأن تعدد مراكز القرار هو منذ زمن بعيد واقع، إلا أنه لم يعد كذلك منذ أن تمكن الرئيس من اكتشاف الثغرة في كتلة المقررين العسكريين، ثم استغلها بإثارة المواجهة بين قيادة الأركان و جهاز المخابرات و قام أخيرا بوضع هذا الجهاز الرهيب تحت سلطته الشخصية. كان يمكن لما فعله هذا أن يشكل ميلادا للديمقراطية، لدولة القانون و “الدولة المدنية” التي يتوق إليها كل الجزائريين و التي دافعت عنها شخصيا طوال مسيرتي، لكن بوتفليقة لم يقم بذلك سوى للبقاء في السلطة مدى الحياة و لضمان التداول الذي يرغب فيه هو بعد موته، و هذا في المقابل شيء لا يرغب الجزائريون فيه. لقد فعل ما فعله لحماية نفسه فقط، لا لحماية الدولة أو الديمقراطية

لقد نددتم مرارا بأن الجزائر مفخخة بالقبلية و الإسلاموية و الجهوية و المحاباة التي تمنع بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي مبني على العدالة و المواطنة؟

الانفتاح الديمقراطي الذي قرر في الجزائر عام 1989 فشل لنفس الأسباب التي فشلت بسببها الثورات العربية عشرين سنة بعدها: لأسباب ثقافية و فكرية. هذه الشعوب التي تعيش منذ 14 قرنا (اليوم هو الأول من السنة 1439 عند المسلمين) في ظل ثقافة استبدادية يضنون بأنها فرض ديني كما علمهم ذلك العلم الديني القديم و قصص ألف ليلة و ليلة، هذه الشعوب لم يكن في مقدورها عند حدوث انفتاح ديمقراطي أو ثورة، إلا أن تصوت بالأغلبية على التيار الديني. فهذه الثقافة لا تفرق بين “المؤمن” و “المواطن”، و قام سلّم ثقافي أصبح مع مرور الزمن جينيا، بتنصيب الأول فوق الثاني. لا ترى هذه الشعوب الفارق بين فكرة “الشعب” و فكرة “المجتمع”

سنة 1979، تنقلت إلى إيران لأعيش الثورة من الداخل، كما ذهبت إلى تركيا في 1980 بعد الانقلاب لأدرس إلى أين كانت قد وصلت الأفكار في عاصمة الخلافة العثمانية سابقا، و كتبت عن البلدين الكثير منذ ذلك الحين إلى غاية يومنا هذا. في 1997 ألّفت كتابا حاولت فيه أن أفسر فشل التجربة الجزائرية بعنوان “الجزائر بين السيئ و الأسوأ”. و في 2006 أيضا ألّفت كتابا عنوانه “الإسلام دون الإسلاموية”. كما رافقتُ الثورات العربية بعشرين مقالا صدرت في الصحافة الوطنية. يمكن القول عن المبادرة السياسية التي أعلنت عنها بأنها قد أتت نتيجة تجربة حياة كاملة، كما أن “النداء” الذي نشرتموه منها لا يعتبر إلا خطوة أولى منها. مقابلة مع « OUMMA.COM »
ت


رد السيد نور الدين بوكروح على مجلة “الجيش”: أنا أرفض تهديداتكم وتخويفكم

نشرت منذ أيام على صفحتي بالفايسبوك رأيا حمل عنوان “الجيش الجزائري: صامت لا يريد السماع”، و قد عقّب عليه بعد أيام “مصدر موثوق” مقرب من نائب وزير الدفاع قائد أركان الجيش الوطني الشعبي من خلال تصريح نشرته جريدة ناطقة بالعربية. و كوني رأيت في هذا “حقا للرد”، فقد قمت بنشره على صفحتي ثم عقبت عليه عبر إعادة نشر مقال كتبته سنة 2015 عنوانه ” الشعوب و الجيوش”.

بعد ذلك قام لواء متقاعد من الجيش بكتابة مقال يرد عليّ فيه كاتبا بأنه متفق معي في موضوع المقال، لكنه يعيب علي كوني قسوت على مسئولي الجيش السابقين أكثر مما فعلت مع الحاليين. أيضا اعتبرت رأيه هذا كحق في الرد و قمت بنشره على صفحتي، ثم أجبت عليه بمقال آخر. لا أعلم ماذا سيفعل هذا اللواء الآن لكني أود أن أعرف.

أما عندما سمعت البارحة عن الافتتاحية التي جاءت على صفحات مجلة “الجيش”، فقد وجدت نفسي حائرا أمام ثلاثة أسئلة : كيف أجيب ؟ على من أجيب ؟ و على ماذا أجيب؟

1)  كيف أجيب؟ : لأن الأعراف و القواعد الصحفية تنص بأنه عندما تتعرض وسيلة إعلامية في كتاباتها لإنسان ما، ذاكرة إياه بالاسم أو واصفة إياه بطريقة تسمح بالتعرف عليه، فإنه يمكن لهذا الأخير أن يمارس حقه بالرد، خاصة عندما يعتبر بأن ما كتب عنه يطعن في شرفه. هل “الجيش” مستعدة لمنحي هذا الحق؟ و إن رفضت ذلك فهل توجد وسيلة لإرغامها على احترام حق المواطنين، بما أنه يفترض بأننا نعيش في دولة قانون و ليس في “باركينغ” فوضوي؟

2) على من أجيب ؟ : لأن هذا المقال لم تكتبه مؤسسة لا جسد لها، لكن كتبه بشر مثلنا. و بما أن ملكية “الجيش” تعود إلى وزارة الدفاع الوطني التي يعتبر رئيس الجمهورية مسئولها الأول، فإلى من أوجه حقي في الرد؟ و من يمكنني أن أقاضي بتهمة القذف إذا ما أردت ذلك؟ الرئيس؟ قائد الأركان ؟ رئيس التحرير؟ كاتب المقال ؟ الدولة ؟ و في أي قضاء يمكنني أن أفعل ذلك، المدني أم العسكري؟

3)  على ماذا أجيب؟ على شتائم وصفتني ب “المرتزق الذي باع روحه للشيطان، واضعا قلمه في خدمة مصالح انتقامية”، جملة بالية من لغة خشب تعود إلى القرون الوسطى، في عهد السحرة و العفاريت؟ لو كنت حقيقة قد بعت روحي للشيطان و وضعت قلمي في خدمة “مصالح انتقامية”، فلماذا لا تعتقلون الأول و تهجمون على الشياطين بما أنكم تمكنتم من تحديد مواقعهم؟ هذا الكلام ليس عسكريا البتة !

لا توجد وزارة دفاع واحدة في العالم قامت بكتابة مقال افتتاحي يحمل تهديدات تكاد تكون صريحة ضد أحد المواطنين، تزامنت مع حملة صحافية بفبركة “قضايا”. هذه أساليب تعرف بها عادة العصابات والمافيا، و ليس دول القانون.

إعلم يا سيدي كاتب “الجيش” بأني أكتب في صحافة بلادي متطوعا و بالمجان منذ نصف قرن، بينما ارتكبت أنت مقالك لأن أحدا أعطاك الأمر بذلك، و قد طبقت هذا الأمر لتتمكن من الاستمرار في “أكل الخبز”، و هذا ما يجعلك أنت أقرب مني إلى تعريف مصطلح “المرتزق”. قلمي يا سيدي كان محبوبا جدا عند رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، و قد كتب له عددا كبيرا من الخطابات الرسمية التي ألقاها بفخر و تحت التصفيقات، داخل و خارج الوطن.

هذا القلم محبوب أيضا، و إن لم يعجبك ذلك، عند عدد كبير من الجزائريين منذ عشرات السنين و ستجد من بين هؤلاء بعضا من أقربائك. و هو محبوب و معترف به عند أبرز المثقفين في الجزائر و خارجها منذ السبعينيات و الثمانينيات. أنا متيقن بأنك إذا ما حدث و التقينا في يوم ما فإنك ستقول لي: “على بالي يا سي نور الدين، بصح راك تعرف حالة العسكري”.

يبدو لي بأنك  تعيس (و أرجو أن يكون شخصك فقط وليس وليس كامل الجيش)  لكوني ” أتطرق إلى كل المواضيع و الاختصاصات من الشريعة إلى التاريخ مرورا بالاقتصاد و علم الفلك و شتى العلوم و المعارف الأخرى” كما تقول في مقالك. طبعا، فهذا هو ما نتعرف به على المثقف و رجل السياسة الحقيقيين، و هذا ما يفرقهم يا سيدي عن المثرثرين المتخلفين رواد لغة الخشب.

لست أدري ما هي رتبتك لكن، كوني كنت محافظا سياسيا خلال تأديتي للخدمة العسكرية منذ أربعين سنة، لا أتصورك في مخيلتي أكثر من “جودان”. مع أن معرفتي للواقع الجزائري تجعلني لن أفاجأ إذا كنت قد وصلت في الواقع حتى إلى رتبة جنرال، بينما كان يجب أن تسرح من “الجيش” للنقص في قدرات التحليل و لانتهاء تاريخ صلاحية الأفكار.

أتخيلك في صورة أقرب إلى الحقيقة و أنت منهمك خلف مدفع تضبطه لتقصفني به، فأنت و بعض من يفكر مثلك، لا زلتم تعتقدون بأن حرية التفكير و التعبير هي “انتهاك لوحدة الجيش” أو “خيانة عظمى”

أنت و الذي أمرك بشتمي باسم الجيش الوطني الشعبي، لستما الجيش بل أنتما موظفان فيه. هذه المؤسسة ليست ملكا لكم بل هي ملك للأمة التي لم تضع بين أيديكم القوة لكي تستعملوها ضدها، ضد مواطنين ينددون بالشر و التعدي على مصلحة البلاد.

لا الدولة و لا الجزائر ملككم، فحصصنا في ملكية هذا البلد متساوية و قيمتها متعادلة. نحن أربعون مليون مالك بالتساوي للجزائر. فوق الجيش الوطني الشعبي، فوق رئيس الجمهورية، و فوق الدستور الذي يمكن أن نضع فيه ما نشاء و الذي في السنوات الأخيرة “تمرمد” كثيرا؛ وفي المرتبة الثانية مباشرة بعد الله، يوجد “الشعب السيد” الذي ليس دائما مفهوما مجردا بل قد يكون حيا في بعض المرات و يجهر بصوته من خلال واحد أو آخر من أبنائه. وعدد هؤلاء سيرتفع في المستقبل القريب…

أنا لم أهاجم الجيش، ولم أقل له الاحترام ولم أدعه إلى الانقلاب كما تزعمون، ولن أجرأ على ارتكاب مثل هذا أبدا، ليس خوفا من تهديداتكم لكن لقناعتي العميقة بعدم جدوى ذلك. و كوني تعرضت في الماضي إلى بعض المشاكل مع الجيش، فالسبب أنني هاجمت بعض الجنرالات الذين لطخوه. وبدل أن يسلم لي وسام استحقاق وطني، جرني الجيش أمام العدالة.

كل ما فعلته هذه المرة هو أني طلبت من المسئولين العسكريين الحاليين و السابقين الذين قبلوا بالعهدة الرابعة، أو يستعدون للقبول بخامسة أو بسيناريو مشابه لذلك أن يحتكموا إلى العقل قبل 2019، لكي لا يرهنوا مصير البلد مرة أخرى فالجزائريين لن يقبلوا بذلك. هذه المرة سيبلغ السيل الزبى.

لم أفعل هذا كوني أعتقد بأني مركز الكون، لكن لأن هؤلاء استقبلوني في عدد لا يحصى من المرات خلال سنوات التسعينيات، بطلب منهم  و داخل مقر وزارة الدفاع الوطني، ليستشيروني و يطلبوا رأيي في أوضاع البلاد؛ كما كانوا يفعلون ذلك مع باقي نساء و رجال السياسة في البلاد. و هذا ليس جرما من هذا الطرف أو من ذاك.

في كل الأحوال، و بصفتي مواطنا جزائريا، سوف أعترض على عهدة خامسة أو سيناريو مشابه لذلك بكل ما أملك من قوى معنوية و فكرية. اللهم الا إذا نزل من السماء في الوقت المناسب “بومعرافي” آخر ليرمي برصاصه في ظهري.

كل ما زاد عن هذا يا سيدي كاتب “الجيش”، ليس إلا محاكمة للنوايا و تصرف حراس “باركينغ” فوضوي. نقطة إلى السطر.



ترجمة بوكروح وليد






بوكروح ل« OUMMA.COM »: هزني ما رأيته من درجة الانهيار و التقهقر الذي بلغته الجزائر

ترجمة: بوكروح وليد

لقد أطلقتم عبر صفحتكم في الفايسبوك “نداء لثورة سلمية مواطنة” تناقلته وسائل الإعلام الجزائرية و كان له صدى كبير داخل الوطن و لدى الجزائريين المقيمين بالخارج. لماذا؟ و بالأخص لماذا الآن؟

أشكركم على منحي الفرصة لأتحدث عن أسباب هذا “النداء” قبل التطرق إلى آثاره، لأن هذا جد مهم ليتسنى فهم دوافعه و أهدافه، خاصة في أعين الملاحظ البعيد

السياق: منذ أفريل 2013، تاريخ تعرض رئيسها لجلطة دماغية، لم تعد الجزائر تسيّر بما يناسب أدنى حد من متطلبات الحكم العادية. فهو لم يعد يترأس شيئا و لا يلبي أي من واجبات البروتوكولية، و لم يعد يسافر للخارج إلا للعلاج و يعيش معزولا في إقامة طبية مجهزة. و قد شاهد العالم أجمع صور حالته الصحية من بينها تلك التي التقطها الوزير الأول الفرنسي السابق مانويل فالس. كذلك لم يتكلم مع شعبه منذ ماي 2012 كما لم يعد يظهر ليراه. يتم عرضه من فترة لأخرى على كرسي متحرك، حتى نرى بأنه لا يزال على قيد الحياة، و يجمع مجلس الوزراء مرتين أو ثلاثة في السنة ليصادق في عجلة على مشاريع القوانين الحساسة مثل قانون المالية أو برنامج الحكومة. كما ينتظر منذ بضعة شهور أو سنوات حوالي أربعين سفيرا أن يستقبلهم لتسليم أوراق الاعتماد إليه كما ينص على ذلك الدستور…

قبل و بعد مرضه، قام الرئيس عبر سلسلة من التعديلات الدستورية التي مررها على برلمان مذعن لأوامره، بتخدير دقيق لجميع مؤسسات الدولة (الوزارة الأولى، المجلس الدستوري، البرلمان…)، و قام بسلبها صلاحياتها ليحصرها في دور شكلي بحت. كما أقدم على إعادة هيكلة داخل الجيش واضعا جهاز المخابرات، بكل ما يرتبط به من أساطير عن دوره في الحكم السياسي للبلاد، تحت سلطته الشخصية.

نتيجة لذلك أصبحت كل السلطات المدنية و العسكرية بين يديه بينما هو غير قادر على ممارسة أي منها، و هو ما تسبب في تباطؤ كبير في إدارة البلاد. رئيس في صحة بالغة التدهور، يتحرك بما بقي من النفس و الوعي الأخيرين ليتمسك بالسلطة كما يتمسك العجوز بكيس نقوده في حكاية “البخيل” ل موليار

هذه المأساة التي تمسك بأعصاب الجميع تستمر منذ سنوات، و كلما مر عليها الوقت كلما غاصت الجزائر في جو متوتر من نهاية حكم لا آخر لها. فضائح الرشوة تتوالى و الشعب يتساءل عن هوية الذين يسيرون البلاد في الحقيقة، و عما سيكون عليه مستقبله. البلاد في الواقع لا تسيّر و إنما هي متروكة لتتدحرج لوحدها، بينما تتوجه كل الأنظار إلى أخيه الذي يشغل منصب “المستشار الخاص” له منذ القرن الماضي

في هذه الأثناء، خسرت البلاد ثلثي عائداتها من النفط و الغاز و هي كل ما تملك لأن اقتصادنا لا يصدر شيئا آخر، بينما يلزمنا 70 إلى 80 مليار دولار في السنة لنتمكن من مواصلة العيش كما تعودنا عليه و لم يعد يدخل خزينتنا غير ثلث هذا الرقم. هذا العجز تغطي حتى اليوم بفضل احتياط الصرف الذي تبقي منه اليوم ما يكفي حوالي سنتين أي حتى نهاية العهدة الرابعة للسيد بوتفليقة (أفريل 2014). لكن هذا الأخير لا يعد حاليا لذهابه بل يستعد للبقاء لعهدة خامسة، أو لانتقال السلطة إلى أخيه آخذا مثال فيدال كاسترو.

التوقيت: لقد صدم الجزائريون هذا الصيف بأحداث لم يعرفوا لها مثيلا في السابق. وزير أول حديث التعيين يصرح في البرلمان بأن حكومته ستبادر نظرا للأزمة الاقتصادية بكبح لجام ما أطلقت عليه أنا اسم “مافيا الاستيراد/استيراد”، و ستحاول الفصل بين السياسة و لوبي المال الذي تطور في السنوات الأخيرة ليصبح جزءا لا يتجزأ من دوائر صنع القرار

و خلال ترأسه لنشاط عمومي، طلب من القائمين على التشريفات بأن لا يتركوا لرئيس منظمة أرباب العمل مكانا للجلوس بجانبه كما اعتاد سابقه فعله، و ذلك حتى يبقى منسجما أمام ما صرح به للعلن. إلا أن هذا القرار نال استياء هذا الأخير الذي بادر بمغادرة القاعة جليا، و تبعه في ذلك بكل غرابة مسئول النقابة “الرسمية” للعمال. بعدها بدأت الصحافة تتداول أخبارا و إشاعات بأن المعني بالأمر اشتكى لأخ الرئيس و أن أيام الوزير الأول صارت محدودة على رأس الحكومة. كان هذا يبدو لا يصدق و من ضرب المستحيل، لكنه كان ما وقع بالفعل بعد أيام معدودة.

فخلال جنازة رسمية شارك فيها المسئولون الأربعة (رب العمل، الوزير الأول، النقابي و أخ الرئيس)، حظر هذا الأخير إلى المكان محاطا بمدير تشريفات الرئيس وبحرسه الشخصي، في سيارته الرسمية، و هو ما يعني أنه لبس حلة الرئيس كاملة، و هي تعتبر أول مرة منذ 1999 يقع فيها مثل هذا.

في نهاية الجنازة التي صور خلالها الشركاء الثلاثة و هم يتبادلون الضحكات على بعد بضعة أمتار من الوزير الأول الذي كان وجهه جنائزيا، ليس فقط حزنا على روح الفقيد بل على مصيره أيضا ؛ قام أخ الرئيس باصطحاب رئيس منتدى المؤسسات معه في سيارة الرئاسة، و انصرف الاثنان يعانقان بعضهما في لقطة توحي بأنهما الثنائي الرئاسي.

في اليوم الموالي، و بينما كان الوزير الأول في باريس ليلتقي مع نظيره الفرنسي، بدأت قناة تلفزيونية معروفة بقربها من أخ الرئيس بسرد لائحة اتهامات طويلة ضده. ثم صدرت قرارات نسبت إلى الرئيس تأمر الوزراء بأن يوقفوا العمل بالإجراءات الاقتصادية التي اتخذها الوزير الأول سابقا. هل هذه تصرفات تناسب طريقة عمل دولة؟

و ما أن عاد الوزير الأول إلى أرض الوطن حتى صدر قرار إنهاء مهامه بمجرد بيان مقتضب أصاب البلاد بأكملها بالذهول، إذ ظهر الدليل القاطع أمام أعين الجميع بأن سلطة القرار انتقلت إلى أيدي أخ الرئيس و رجال الأعمال. و ما لم يكن سوى إشاعات و تكهنات أصبح حقيقة و واقع: فالبلاد أصبحت فعلا بين أيدي عصبة لم تعد تخشى أن تظهر للعلن أو أن تتحرك في وضح النهار

بصفتي مثقفا و رجلا سياسيا، و بصفتي المساهم رقم 40 مليون في ملكية هذا البلد، فقد هزني ما رأيته من درجة الانهيار و التقهقر الذي بلغته الجزائر. لم أصدق ما رأته عيناي و أدركه عقلي من الانحراف و الشر و الإذلال، فجاء ردي على الأحداث في ثلاثة مقالات تعبر عناوينها عن محتواها: “لم نعد دولة بل…” ؛ و “شغب على رأس الدولة” ؛ و ” الجيش، صامت لا يريد الاستماع “.



لكن هل تعتقدون أن هذا النداء يمكنه أن يحرك الأشياء في بلد يبدو يائسا و مرتابا من المبادرات السياسية التي في كل مرة تنطفئ في اليوم الموالي لإطلاقها؟.

أجبت على السؤال “لماذا” بوصفي لحالة تتدهور باستمرار منذ 2013 و ستؤدي لا محالة لو واصلنا تركها تسير بديناميكيتها الحالية إلى الفوضى، و أجبت على “لماذا الآن” الذي هو مرتبط بالأحداث التي وقعت خلال الشهر المنصرم.

المعادلة الجزائرية لمن يلاحظها بدقة هي معادلة ذات مجهولين. الأول من جهة و هو السلطة التي هي في أصلها ذات طبيعة غامضة غير شفافة، و وقعت خلال السنوات الأخيرة بين أياد غير مسئولة بالمعنى المزدوج للكلمة: القانوني لأنها غير شرعية، و الأخلاقي لأنها مرتبطة بالمال الوسخ ؛ و التي هي اليوم تحظر بنشاط لعهدة خامسة بحلول انتخابات 2019 الرئاسية، و ذلك ليتسنى لها الاستمرار في الاختباء في ظل رئيس عاجز، أو ضمان انتقال السلطة على النحو الذي تفاهمت عليه دوائر محدودة داخلها. من جهة أخرى يوجد الشعب الذي يشله ما عاشه خلال التسعينيات و ما رآه في الدول العربية التي شهدت “ربيعا” قاد جميعها باستثناء تونس إلى الجحيم

لو بقيت الأمور على ما هي عليه، السلطة منساقة خلف مشروع جنوني و الشعب مشلولا بقوة الجمود التي تطبق عليه، الأولى مصممة على انحرافها لأنها لا ترى شيئا من غير المصالح الفردية لأعضائها المدنيين و العسكريين، و الثاني غير مبال بمصيره لخوفه من أن يتعرض للأسوأ ؛ لو بقيت الأمور هكذا فإن البلاد ستتجه نحو هلاكها. لقد صرح الوزير الأول في لقاء سياسي سري الأسبوع الماضي بأن الحكومة لم تكن تملك ما تدفع به رواتب شهر نوفمبر. هل تتخيلون ما يمكن أن تمثله فرضية مثل هذه؟ ما يمكن أن تؤدي إليه؟ سيكون الانفجار العام و الدخول في دوامة جهنمية.

الوزير الأول الجديد (الذي في الحقيقة يتولى المنصب للمرة العاشرة منذ 1995) قدم إلى البرلمان “مخطط عمل” يرتكز على اللجوء الصريح إلى طباعة العملة لتمويل العجز في الميزانية، و هو ما سيؤدي (رغم نفيه لذلك) إلى تدهور في العملة و إلى تضخم خارج السيطرة، فالاقتصاد الجزائري لا ينتج أي ثروة أو قيمة مضافة تقريبا بما أن %70 من المنتجات التي نستهلكها تأتي من الخارج. تدهور الدينار سوف يقضي على القدرة الشرائية و يرجع بالجزائريين إلى فقر نسوه منذ انتهاء العهد الاستعماري.

الإشكال الذي يطرح نفسه على الإنسان الوطني و العقلاني في ظروف كهذه هو: ماذا، متى و كيف يمكن أن نفعل لنتجنب هذه الأخطار؟ فالسلطة عالقة في هلعها مثل بخيل موليار أن يسلبه أحد ماله، و المواطنون متشتتون و مبعثرون، لم تعد أغلبيتهم تنتخب أو تنتظم في أي إطار سياسي كان.

تكنولوجيات الاتصال الحديثة التي غيرت العديد من جوانب الحياة العصرية يمكنها أن تساعد أيضا في عملية تحسيس و توعية و تجنيد. في الماضي كانت السياسة تتغير عبر الأفكار الثورية، التجمعات الشعبية، المظاهرات و المسيرات، المنشورات أو حتى بالمتاريس و السلاح، و هي الوسائل التي تجند بها عادة قوة المواطنة للوصول إلى التغيير لحياة أفضل ؛ أما اليوم فيمكن لأغلب هذه النتائج أن تحقق بواسطة وسائل الالتقاء و التبادل و النقاش الجديدة التي تتيحها شبكات التواصل الاجتماعي للتوصل إلى قراءة موحدة للوضعية، و إلى إرادة جماعية للعمل، و خطة طريق توافقية لإيجاد الحلول؛ كل ذلك في ظل الهدوء و احترام القوانين و المؤسسات و سلامة الأملاك. اليوم لم يبق أمامنا إلا سنة و نصف لنجهز للقطيعة مع نمط سياسي ذي جذور استبدادية هي بقايا عهد بائد، و لنبني لها بديلا مختلفا

“النداء” الذي أطلقته كان يحمل رقم 1، و قد قلت بوضوح في خاتمته بأنه ليس إلا مرحلة أولى هي مرحلة التوعية، من مبادرة أكبر و سوف تسير نحو مراحل أخرى تتعلق على وجه التحديد ببناء البديل



تنادون على كل واحد بأن “يبدأ العمل انطلاقا من المكان الذي يوجد فيه”. هل يعني هذا أنكم تنادون إلى استيقاظ ضمير جزائري جماعي يتخطى الحدود، و أن “الثورة المواطنة” التي تنادون بها ستؤثر على مزدوجي الجنسية و تدفعهم إلى التحرك للتأثير على رئاسيات 2019؟

بالنسبة إلى فإن مزدوجي الجنسية ليسوا أنصاف مواطنين بل هم مثل باقي الجزائريين و يحملون كامل و نفس الحقوق و الواجبات، و يحملون نفس الآمال و الأحلام لجزائر أفضل. يعرفون بأن بلد منشأهم أو أصلهم أو قلبهم، لا تهم الكلمات، قد أصبح اليوم مضحكة أمام العالم ؛ و أنه أصبح اليوم يحتل المراتب الأخيرة في كل شيء بعد ما كان في أوائل الستينيات يعتبر من دول العالم الثالث البارزة. فجميع بلدان إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية التي كنا نشاركها نفس الوضعية و المؤشرات قد تقدمت اليوم علينا

في السنوات الأخيرة استقر الكثير من الجزائريين أينما أمكن لهم في العالم، لكن هؤلاء في غربتهم و منفاهم لا زالوا يحملون الجزائر في قلبهم و مخيلتهم، و هم يعانون عندما يرونها رهينة بين أيدي الجهل و عرضة للافتراس. كذلك الكثير من مزدوجي الجنسية الذين لم يولدوا في الجزائر قرروا الاستقرار و العمل فيها رغم الصعاب. يمكن لجزائر متحررة من الاستبداد، واعية بحس المواطنة و متوجهة في اتجاه التاريخ و العالم أن تصبح خلال بضعة سنوات فقط بلدا جذابا. و مساهمة المغرّبين في إعادة نهضة البلاد تعتبر واجبا عليهم و سوف يمكنهم هذا الواجب لو قاموا به من اكتساب حقوق جديدة

ندائكم أثار ردود أفعال عنيفة في أعلى هرم الدولة من بينهم رئيس المجلس الشعبي الوطني الذي حذركم من “المساس برموز الدولة”. كما كنتم تتوقعون “الشروع في متابعات قضائية بهدف إسكاتكم و كسر المبادرة السياسية التي أطلقتموها”. لكن يبدوا أن السلطة منذ هذا الصباح قد بدأت تتراجع و أنها قررت حسب كلام الوزير الأول بأن “لا تعاقبكم”؟

أنا لم أمس بأي رمز للدولة، لكن في المقابل فإن شخصا مريضا في جسده و عقله هو الذي حولّ هذه الدولة إلى مريضة معه لم يتبق منها إلا الرموز. صدور مقالاتي الثلاثة المتتالية أثار ردّين رسميين من وزارة الدفاع و ثالثا من لواء متقاعد، تهديدات بالمتابعة القضائية من الناطق الرسمي لحزب الوزير الأول، تحذيرات من رئيس المجلس الشعبي الوطني، و وابلا من القذف و الشتم من وسائل إعلام تابعة لهم، دون أن ننسى هجمات متعددة ل”قناصين” متعطشين للشهرة ؛ و هذا كله هو الذي دفعني إلى الدفاع عن نفسي

علمت مثلكم بأن الوزير الأول صرح هذا الصباح في البرلمان بأن السلطة قررت أن “لا تعاقبني” و أنها ستكتفي بتجاهلي. هو لم يقل “تحيلني إلى القضاء” أو “تحاسبني” أو “تحاكمني” بل قال “تعاقبني”، ربما لأنه لم يجرأ أن يقول “تقتلني”، فقد أضاف بعد ذلك: “لأن لا نجعل منه شهيدا”

اللغة التي استعملها فقط تكفي لإطلاعنا على الطريقة التي يفكر بها المستبد الصغير، زعيم الدوار، “شامبيط” العهد الاستعماري، و هو نفسه التفكير الذي يسيّر الجزائر بالجهل، بانعدام الحياء و الكفاءة، و العنف. لقد نشرت الدولة طيلة قرابة شهر كافة وسائلها و مؤسساتها لتحارب رجلا لا يملك إلا صفحة فايسبوك. المؤكد أن دولة كهذه ليست قائمة أو مسيّرة، بل هي دولة معطوبة و هائمة

كما أن هذا الوزير الأول يعتبر رمزا حيا للعبودية، فهو ينتمي إلى حظيرة السلطة الأليفة منذ عشرين سنة. يعيّن و يطرد من المناصب دوريا دون أن يهمس ببنت شفة. يفرد عضلاته عندما يشير له أسياده بمهمة قذرة يأمرونه بإنجازها، و ينصرف مطأطئ الرأس حين يطردونه. لو كانت “السلطة” تتجاهلني فعلا فلماذا هي تتكلم عني في المجلس الشعبي الوطني إذا؟
أنا لست خارجا عن القانون بل أعرف القوانين و أحترمها أكثر منهم. كذلك لست من المنادين بالفوضى و لم أدعوا الجزائريين إلى التمرد على الدولة، بل دعوتهم لأن يعيشوا ثورة مواطنة و معنوية ستجهزهم لأن يصبحوا فاعلين في تقرير مصيرهم خلال الأشهر القادمة. هذه الثورة الفكرية، الثقافية، السياسية و الديمقراطية تهدف إلى تغيير العقليات و طريقة النظر إلى العالم عند المواطنين الجزائريين؛ و أنا سأستمر فيها بالوسائل المتاحة إليّ: الأفكار، الفكر و العقلانية. أنا أفعل ذلك لمستقبل بلادي و للأجيال الجديدة ؛ و من المفروض أن يساعدني في ذلك من بقوا يصلحون في المؤسسات الجزائرية بدل أن يعارضوني

في حوار نشر على موقع “Maghreb Emergent”، يأكد المحلل السياسي لهواري عدي أن “القول بأن الرئيس و أخاه يقرران كل شيء هو أسطورة تهدف إلى تركيز السخط على الشخصيتين و صرف النظر عن أصحاب القرار الحقيقيين الذين يتحملون مسئولية كبيرة في الوضع الذي آلت إليه البلاد”. من يقرر فعلا في الجزائر؟ ما هي حقيقة الشلطة في البلاد؟

لا أدري إن كان هذا الحكم يعاني من إفراط في استعمال المنهجية البنيوية في التحليل، أم يحمل نية في التخفيف من مسئولية الإخوة بوتفليقة في تحطيم الدولة الجزائرية. أنا و لكوني لاحظت من قريب هذه الدولة، و كوني دخلت بعض الشيء في دواليبها و عرفت بعض من الرؤوس و “أصحاب القرار”، أملك فكرة أدق بعض الشيء من هذه

تحدثت عن الإفراط في البنيوية لأنه، و إن كان في السابق صحيحا بأن تعدد مراكز القرار هو منذ زمن بعيد واقع، إلا أنه لم يعد كذلك منذ أن تمكن الرئيس من اكتشاف الثغرة في كتلة المقررين العسكريين، ثم استغلها بإثارة المواجهة بين قيادة الأركان و جهاز المخابرات و قام أخيرا بوضع هذا الجهاز الرهيب تحت سلطته الشخصية. كان يمكن لما فعله هذا أن يشكل ميلادا للديمقراطية، لدولة القانون و “الدولة المدنية” التي يتوق إليها كل الجزائريين و التي دافعت عنها شخصيا طوال مسيرتي، لكن بوتفليقة لم يقم بذلك سوى للبقاء في السلطة مدى الحياة و لضمان التداول الذي يرغب فيه هو بعد موته، و هذا في المقابل شيء لا يرغب الجزائريون فيه. لقد فعل ما فعله لحماية نفسه فقط، لا لحماية الدولة أو الديمقراطية

لقد نددتم مرارا بأن الجزائر مفخخة بالقبلية و الإسلاموية و الجهوية و المحاباة التي تمنع بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي مبني على العدالة و المواطنة؟

الانفتاح الديمقراطي الذي قرر في الجزائر عام 1989 فشل لنفس الأسباب التي فشلت بسببها الثورات العربية عشرين سنة بعدها: لأسباب ثقافية و فكرية. هذه الشعوب التي تعيش منذ 14 قرنا (اليوم هو الأول من السنة 1439 عند المسلمين) في ظل ثقافة استبدادية يضنون بأنها فرض ديني كما علمهم ذلك العلم الديني القديم و قصص ألف ليلة و ليلة، هذه الشعوب لم يكن في مقدورها عند حدوث انفتاح ديمقراطي أو ثورة، إلا أن تصوت بالأغلبية على التيار الديني. فهذه الثقافة لا تفرق بين “المؤمن” و “المواطن”، و قام سلّم ثقافي أصبح مع مرور الزمن جينيا، بتنصيب الأول فوق الثاني. لا ترى هذه الشعوب الفارق بين فكرة “الشعب” و فكرة “المجتمع”

سنة 1979، تنقلت إلى إيران لأعيش الثورة من الداخل، كما ذهبت إلى تركيا في 1980 بعد الانقلاب لأدرس إلى أين كانت قد وصلت الأفكار في عاصمة الخلافة العثمانية سابقا، و كتبت عن البلدين الكثير منذ ذلك الحين إلى غاية يومنا هذا. في 1997 ألّفت كتابا حاولت فيه أن أفسر فشل التجربة الجزائرية بعنوان “الجزائر بين السيئ و الأسوأ”. و في 2006 أيضا ألّفت كتابا عنوانه “الإسلام دون الإسلاموية”. كما رافقتُ الثورات العربية بعشرين مقالا صدرت في الصحافة الوطنية. يمكن القول عن المبادرة السياسية التي أعلنت عنها بأنها قد أتت نتيجة تجربة حياة كاملة، كما أن “النداء” الذي نشرتموه منها لا يعتبر إلا خطوة أولى منها. مقابلة مع « OUMMA.COM »
ت







http://aljazairalyoum.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D9%86%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%88%D9%83%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D8%AD%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2/

الرئيسية 5 الجزائر 5 المفكر نور الدين بوكروح حصريا على “الجزائر اليوم” كل خميس
المفكر نور الدين بوكروح حصريا على “الجزائر اليوم” كل خميس

الجزائر اليوم

تعلم “الجزائر اليوم” قراءها الكرام في الجزائر والعالم العربي، وقراء الحرف العربي حول العالم، بأن المفكر والسياسي الجزائري الكبير، نور الدين بوكروح، والمهتم بفكر العلامة الجزائري الكبير مالك بن نبي، سيشرع بداية من يوم الخميس 28 يناير2016، في نشر مقالات حصرية باللغة العربية على موقع “الجزائر اليوم”.

المفكر نور الدين بوكروح، سيتناول أسبوعيا، القضايا الوطنية والدولية، كما سيخصص حيزا كبير لتناول أفكار العلامة مالك بن نبي، من خلال دراسة معمقة لموروث بن نبي ستنشر لأول مرة، وبشكل حصري باللغة العربية “الجزائر اليوم”، وسيطلع القراء على أفكار جديدة لم يسبق نشرها على الإطلاق، لأنها ستتناول ما جاء في الدفاتر الشخصية للعلامة بن نبي.

جدير بالذكر، أن القارئ للحرف العربي سواء في الجزائر أو في العالم، لم يسبق له الاطلاع على هكذا إنتاج فكري وتحاليل ومعلومات حول حياة وفكر مالك نبي،  بالنظر لكون المفكر نورد الدين بوكروح، هو الوحيد الذي يحوز المذكرات والدفاتر الشخصية للعلامة بن نبي.

يشار إلى أن المفكر الجزائري نور الدين بوكروح، ينشر المقالات باللغة الفرنسية حول فكر العلامة مالك بن نبي، بصفة دورية أيضا و حصريا وبموافقة خطية منه، مع الموقع الفرنسي “أمة.كوم” (“Oumma.com”).

المفكر والسياسي نور الدين بوكروح، سيتناول أيضا الشأن الجيو-سياسي في المنطقة، حتى يكون القارئ بالحرف العربي على اطلاع بهذه الملفات..وسيكون التناول بين مقالات فكر العلامة بن نبي، والمواضيع أخرى بالتناوب، وإذا استدعت الضرورة سينشر المقال مرتين في الأسبوع.