الأحد، سبتمبر 24

الاخبار العاجلة لرفض اطارات مديرية الاشغال العمومية حضور حصة اداعية "اضاءات للصحافية امينة تباني والصحافية تعلن رسميا رفض ضوفها الحضور الاداعي كشكوي للمستمعين ومن محاسسن الصدف ان حصة على وقع الحدث انقدت الحصة الاداعية الضائعة وهكدا اصبح مسيري دشرة قسنطينة يرفضون الحضور الاداعي بسبب التراجع الشعبي لاداعة قسنطينة واغراقها في القضايا المحلية التافهة والاسباب مجهولة


  • أي مشروع للجزائر؟

    بقلم نورالدين بوكروح
    ترجمة: فوضيل بومالة
    ونحن في خضم الألفية الثالثة، وفي وقت نشهد فيه تراجع أُمم عتيقة معتزة بذاتها إلى حد الشوفينية، محاولة منها تجديد عقلياتها التي لم تعد تتماشى والعصر، حتى تدخل في أنظمة حياتية جماعية، اكتشف الجزائريون بهلع كبير انه ليس فقط الحاملة التي تنقلهم التي تعطلت، ولكنها تتصدع أمام ناظريهم المذهولة دون أن يجدوا لذلك تفسيرا واضحا.
    وبالرغم من علمهم المسبق أن عالم الغد لن يقبل سوى الأمم المنضبطة الفاعلة داخليا المنافسة لغيرها إلى ابعد الحدود والناجعة للإنسانية، وبالرغم من شهادتهم الحية على إمبراطورية عظيمة وهي تتصدع وكذا بلاد تحتل مراكز محترمة تندثر هكذا فجأة، وبالرغم من رؤيتهم بأم أعينهم كل مساء احتضار قارة بأكملها تحت وطأة الحروب والمجاعة و السيدا، مازالت النخبة بين الجزائريين عامة تتساءل بكل مرارة عما إذا كان دورهم قد حان أو ربما الأوان قد فات، أو أن بلادهم قد أصبحت في المرتبة الدنيا لا يحسب لها حساب وليس لها مكان.
    إن الجزائريين يعلمون أنهم يجلسون فوق فوهة البركان و أنهم وقعوا في شرك الدوامة ويستشعرون انه لم يبق لهم إلا القليل من الوقت حتى ينجو بأنفسهم أو يهلكوا، وذلك حتى يبنوا ملاجئ في الطبيعة يحتمون بها وإلا رموا خارج الكوكب، حتى يستجمعوا أنفسهم داخل كيان منسجم قادر على كفاية ذاته وحمايتها و إلا “أكلهم بوبي” حسب التعبير العامي الذي درج عليه الناس.
    ولكن أصل الداء هنا! ما الحل وما العمل حتى يصبحوا كيانا كذلك الذي نتحدث عنه، بينما لم يعرفوا أبدا مثل هذه الانقسامات، ولم تعرف دولتهم مثل ذلك الانحطاط، واقتصادهم مثل ذلك الخراب؟
    وهاهم ينظرون في جنباتهم ويعترفون دون عناء: “بالفعل لسنا دولة صلبة ومجتمعا متآزرا واقتصادا نشطا”ويزيدون على ذلك دون عقدة: ” لا توجد بعد الجزائر المنتصب بناؤها إنما هي في طور الانجاز دائما”. وليستنتجون وهم يعيدون مشاهدة شريط حياتهم بعد تعب كبير: “منذ ثلاثة ألاف سنة والورشة تشتغل وأجيال اليد العاملة تتعاقب عليها، ومواد البناء تحت وهج الشمس، ورغم ذلك لم تنتج الأشغال شيئا مستديما يذكر”.
    لقد أن الأوان أن ينظر الجزائريون إلى حقيقة أنفسهم ويدركون أن الجزائر التاريخية ليست خلفهم كسند ومرجع ومكتسبات ولكنها أمامهم كتحد يجب التغلب عليه. إنها ليست واقعا قائما بذاته ولكن  مشروعا أبديا. و قد راودهم الشك في ذلك قليلا منذ أن تبين لهم أن كل شيء حديث، هش وغض ولا وجود لما يمكن أن يعض عليه بالنواجذ حينما تقع الواقعة وتربك أوصالهم.وعليه، فلن يكون النظر مستقبلا إلا من اجل الانجاز والعمل حتى يتسنى لنا رسم معالمها، ولا مجال لنا في أن نؤجل هذه المهمة ونحملها للأجيال المقبلة.
    أمن حب الشعب والعطف عليه أن ندعه بين مخالب وضعية لا يجد لها تفسيرا فتنهشه؟ أمن خدمة المريض أن نتركه في جهل تام بمرضه وعلته؟ بالعكس، يجب إعلامه وتنويره وتوعيته للمخاطر التي تترصده وجعله طرفا رئيسيا في العمل من اجل مداواته، وخصوصا يجب بعث الأمل فيه.
    إن الشعوب لا تتحرك إلا بدوافع نفسية تحميسية قوية… وحتى تتحرك، لا بد لها من هدف أسمى وتحد ورؤية للكون تبرر تضحياتها واستثماراتها النفسية والمادية على المدى البعيد…وحتى يسرعوا في حركيتهم ويزجون بأنفسهم في عوالم البحث عن قدرهم ويرفعون الجبال، لا بد أن تنفخ فيهم روح الوعي التراجيدي وترفع نفوسهم كي تتجنب كل ما من شانه أن يحيدها عن طريق الهدف المرسوم لها.وذلك ما حدث بين 1954 و1982 وفي بعض الظروف القليلة المماثلة في تاريخنا.
    يجب على الجزائريين أن يستغلوا ما تبقى لديهم من طاقة ومن صفاء حتى يترفعوا عن خلافاتهم وانقساماتهم ويبعدوا عن أنفسهم روح الرعاع التي سكنتهم وليلتحقوا بجموع الأمم المتحركة والمنظمة سلميا..
    و لأجل هذا كله، لا بد لهم من دواعي التكتل والترابط والقوة والاعتماد المتبادل والتوجه صوب هدف واحد عبر قنوات مشتركة ورص كل ما لديهم من اجل بناء هيكل وبناء متماسك قوي. وعليه، يجب وبسرعة تزويدهم باليات العمل والمناخ اللازم لذلك والاقتراح عليهم ا يشيدوا صرح مجتمعهم طبقا للقواعد المعمول بها عالميا من خلال مخططات دقيقة وواضحة و أكيدة. وبكلمة واحدة، لا بد لهم من مشروع للمجتمع، قانون للمرور، مخططا للإقلاع في جو لا يقبل الأخطاء والشطط  والانحرافات.
    وفي الواقع، بدأت عملية انجاز المشروع المشترك في الفوضى وبدون أن يكون العد التنازلي مع أكتوبر 1988. وإذا كانت مسائل الهوية و الايديولوجيا قد طغت منذ البداية فذلك راجع إلى كونها تمس مباشرة القاعدة الأساس التي يراد إقامة الأعمدة والركائز التي تحمل البناء فوقها، لقد استيقظ الجزائريون مذعورين من جراء الأحداث الأليمة وراحوا يبحثون في أنفسهم بنوع من اللهفة عن مواقع الداء، وقد لاحظوا مع أول حركات حرة قاموا بها ان بهم شوائب خفيفة فسرت كونها نتيجة للاستعمال السيئ والمتواصل للأطراف التي تشكو من الوجع…وعليه، كانت كل الحواس والمرجعيات في استنفار تام، لأنها لم تكن متعودة على التكفل بالذات وتحديد مصيرها بنفسها..وراح الجزائريون يستعجلون في الكشف عن محتوى أحقادهم و مكبوتاتهم ومطالبهم وحتى ما لديهم من “فهامة”. وراح الكل وفي الوقت نفسه يضع مبدأه في جدول الأعمال: الاسلاموية، القومية، الامازيغية، الحداثة، اللائكية، النسوانية، الطائفية…وراح الجميع ينضم إلى ذلك: رجالا، نساء، أحزابا، جيشا، جمعيات، نقابات وزوايا…ولم يكن الأمر إلا في كيفية المحافظة على المصالح والقوى التي تحمي كل واحد أو في الوصول إلى أعلى الاعتبارات واحتلال أحسن المراكز الإستراتيجية أو فرض رأيه.
    وفي الحقيقة، ما كان الأمر مدعاة للعجب لولا أن الناس هنا وهناك لم تكن تبحث عن حلول شاملة ولكن عن حلول جزئية، عن حلول لصالح الجميع ولكن على حساب الآخرين. وما أسهل أن نفهم كل ما حدث بعد ذلك. لقد كنا على عتبة انطلاقة أشغال بناء مجتمع، حيث رسمنا حدود المعمل وقيدنا وسائل الإنتاج واستحضار كل الاختصاصات التي تحتاج إليها عملية البناء…
    وهاهنا مازلنا في مرحلة تعلم كيف نتشارك في إطار عام واحد ومن ثم نتعارف ونقيم خلافاتنا الفلسفية الناجمة عن تكويننا في مدارس فكرية مختلفة إن لم نقل متعادية، ومحاولة منا لتعزيز صفوفنا وصراعنا على المناصب واقتتالنا المستميت. و ما ذاك إلا المخاض العسير الذي يولد فيه مجتمع من المجتمعات.
    إنها الجزائر، على غرار الأمم الأخرى التي تشكلت من قبلها، التي تمر بمراحل الصناعة في ألم الدماء والدموع.قد يأتي اليوم الذي تبزغ فيه شمس أخرى تجبرنا على أن نعترف ببعضنا البعض ونعوض دواعي الحرب التي تواجه بيننا بدواعي السلم والوسطية المستديمة.
    كنا نتدرب حتى نصبح دولة ونستعد لنتحول إلى مجتمع ونفاوض مفاهيم العقد الجماعي الذي سيصبح غدا دستورنا، حيث ستكتب القواعد التي تحكمنا بأحرف من دم وكذا القوانين المقدسة التي يخضع لها كل واحد ويطبقها، والخطوط الحمراء التي يجب ألا تتخطى من قبل أي كان، والحقوق والواجبات التي يتمتع بها كل واحد داخل الجماعة.
    إلا أن كل ما ذكرنا يقيد في فاتورة ويجب الوفاء بدفعها مهما كان ثمنها. إن الطريق السريع للتاريخ، حيث السير المضمون والسريع وقواعد السياقة الصارمة و الإنارة الدائمة، لا يدخله ويستعمله إلا من دفع الرسم عند المدخل.
    إذا كنا قد ضيعنا الكثير من وقتنا وتأخرنا عن الوصول إلى الهدف، فذلك راجع لكون حكامنا جهّال لا يعيرون لما ذكرنا أي اعتبار. إن رسالة ومهمة إرساء دعائم امة تكلف الكثير، الجهال والعور الذين يعتقدون أنهم لزمام الأمور قابضين للأبد، لا لشيء إلا لأنهم كانوا ملوكا في وقت كان فيه الجميع عورا، لم يدركوا انه بتجدد الأجيال، يصبح عُميان الأمس مبصري اليوم، الذين لا يفهمون كيف تمكن العور من قيادتهم أو باستطاعتهم ذلك.
    ومهمة كهذه لا تعطي ثمارها إلا إذا كانت مدروسة من قبل مستشرفين ومفكرين ورجال دولة محنكين. أن تكون “أقدم ضابط بأعلى درجة عسكرية” ولم تسرق، إن كنت غائبا عن ارض الوطن مدة ثلاثين عاما، إن كنت لا تملك إلا سيارة من نوع فيات 128 ، كل ذلك لا يؤهلك في بلد من العالم أو في التاريخ أن تتوق إلى رئاسة الدولة أو الحكومة.
    ما الذي كان سيقوله أفلاطون و الذي سجل بكل حسرة منذ 24 قرنا في “جمهوريته”: “أن ألام الإنسانية لن تهدأ قبل أن يصل الفلاسفة الحقيقيون من ذوي العرق الصافي إلى الحكم أو قبل أن يباشر رؤساء المدن، برحمة إلهية، في التفكير الفلسفي الحقيقي”.إن الجهال والعُور لا يمكنهم أن يلهموا الفضائل السامية وبعث القدرات والدفع نحو الخير وتحريك الضمائر والجماهير، انه لا يمكنهم إلا زرع روح الرعاع و الخشونية والعدمية والإرهاب.
    إنهم لا يملكون إلا أنفسهم الوضيعة يقدمونها أمام المشاهد العامة وليس لديهم إلا “أناهُم” المرضي كمثال يبرزونه ولا يرون الواقع إلا مشوها من خلال أبصارهم المريضة، إنهم المسؤولون عن تكوين هذه الأرواح الفارغة التائهة والكائنات الهجينة و الذرات المتنافرة. و إذا كان الجزائريون لم يبنوا لأنفسهم قيما وظيفية مشتركة عبر مسار تطورهم، فبسبب بقائهم قطعانا رؤوسهم تحت أقدام أولئك العور والجمال، بينما يستأهلون أن يقوم عليهم رجال مبادرة قادرين على إنجاحهم ويستحقون الاعتراف الدولي.
    إن مهمة بناء الدولة الجزائرية المعاصرة يجب أن توكل إلى ذوي العقل النير وذوي القدوة و أصحاب الكفاءة العالية والشباب والصناعيين القادرين و الأدمغة في المهجر. ولكن المسالة الجوهرية هي في كيفية جعل الجزائريين يعيشون زمنا واحدا، وفي كيفية جعل 26 مليون جزيء تنظيما ذريا وعضويا، وكيف يتم تحقيق نوع من التركيب النفسي بينهم حتى يتشابهوا داخليا ومن ثم خارجيا، أي في انسجام وتناغم مع ذواتهم قادرين على العيش والموت لأجل الأسباب والغايات ذاتها.
    إن بناء مجتمع ما لا يتم على فكر قبلي أو جهوي وتعارضي لا يعرف التسامح من جراء الانتفاء والتناقض الدائم. وحتى يتم ذلك، لا بد أن تمحي هذه التصرفات والنزاعات و الذهنيات والخلفيات من الذاكرة وترمى أثارها حيث لا يعثر عليها احد.
    إن المجتمع ليس مجرد تجميع للبشر فوق مساحة جغرافية، ولكنه في سيادة القيم والقوانين والمؤسسات. انه نظام بيئي حيث تضمن الوظائف الكبرى (الإنتاج، التوزيع، العدالة، التربية) من خلال التبادلات المنتظمة للثروة والخدمات و الأفكار وكذا التوازنات الدائمة التي تسهل الحياة بل تجعل الرفاه ممكنا.
    إن القيمة العليا لأي مجتمع كان هي في قدرته على الانسجام مع كل جيل جديد، حيث لا يعيد التفاوض معه حول كل المفاهيم الأساسية للعقد…عليه أن يكون على شاكلة شركة للتامين…نتوجه إليها لتمنح لنا وثيقة السير بسيارتنا. المباديء التي يكون بها التامين وسيلة عالمية وعامة ومعنوية تصلح للجميع، ندفع ثمن ذلك ونوقع وننطلق أمنيين بدون قراءة تفاصيل العقد…
    إذا كان في بلد ما، باستطاعة كل من هب ودب أن يلغي المؤسسات ويزعزع كيان الأمة بأبسط مكبر للصوت، فذلك يعني أن ذلك البلد غير حقيقي ولا يعكس واقعا ما ويمكن له أن يزول في أي لحظة من اللحظات. و قد عشنا ذلك في الجزائر وشاهدنا بأُم عيننا، كيف هوت على نفسها تلك التي تعرف بالمؤسسات الديمقراطية والجمهورية “القادرة على تخطي الظروف والعقبات ولا تزول بزوال الرجال”. لقد زالت في أول انتخاب حر في تاريخنا. ذلك ما يستطيعه الجهال والعُور: إعلاء البنايات المزيفة، الكرطونية على الرمل والماء يجري من تحتها، إنهم المموهون للحقيقة، المزورون و الترابنديست.
    إن الطب يعلمنا أن الجسم “أمة بيولوجية”. ويمكننا أن نعكس الصورة ونقارن المجتمع بالجسم الإنساني العجيب الذي يعمل بانتظام، وفي الوقت نفسه، وهو مركب من ملايير الخلايا التي تعمل لغرض واحد “إبقاؤه على قيد الحياة وفي أحسن الظروف ولأطول مدة ممكنة”. ولكن الفرق الأساسي بين الجسم الإنساني والمجتمع هو كون الأول مزود منذ ولادته بوسائل مناعية ودفاعية، بينما يجب على الثاني أن يصوغها واحدة بواحدة.
    ويمكن أن تظهر في المجتمعات الحقيقية ثغرات و اختلالات وأمراض كالبطالة والإجرام والأزمات السياسية، ولكن بإمكان أجهزتها أن تتشربها وتصححها. وفي وضع اللامجتمعات كحالنا نحن، نجد هنالك أمراضا و اختلالات وإجراما وأزمات دون أن يوجد الجسم والهيكل ذاته.
    إن الناس يختلفون حتى في برامجهم الجينية، ولكن عبقرية المجتمع والتربية والقانون، هو في التمكن من تسيير تلك الاختلافات وتحويلها من وضع الصراع الكامن إلى وضع التعايش والتفاعل الحقيقي.
    ما أعجبنا! في وقت أدار فيه الفكر العالمي ظهره لمصطلح “الحق في الاختلاف” وعوضه “بالحق في التكامل والاندماج” ( الاقتصادي والعسكري والثقافي والقانوني) نفتح نحن الجزائريين المتخلفين في كل شيء، المجال أمام صراعات عبثية حول أصولنا وجنس الملائكة. ليس لنا الحق أن نهتم باختلافاتنا إلا إذا ضمنّا نهائيا تشابهاتنا وتوافقاننا حول مصالحنا المشتركة.
    إن الحكمة التي تقول “الطيور على أشكالها تقع” لا تُعبر فقط عن حكمة أخلاقية. إنها جبريا معادلة حقيقية يمكن لنا أن نستنتج من خلالها انه إذا كان الزواج عن غير طواعية، فمن المؤكد أن الطلاق سيكون باتفاق الطرفين. و الحقيقة أننا كثيرا ما عشنا متفرقين مطلقين. وعليه ألم يحن الوقت أن نُجرب حياة لمِّ الشمل؟!
    جريدة “الخبر” 04-05-1993
     
  • السلطة: داء الجزائر

    بقلم :نور الدين بوكروح
    ترجمة:نورة بوزيدة

    “لكن ها هي السلطة قد أخذت وجها رهيبا، والقوة التي وضعت بين يديها أصبحت تستعمل لاقتراف المنكر، بدل خدمة الصالح العام. كيف لا انفعل ولا اصرخ امام مشهد كهذا!؟”برتراند دو جوفينال.
    ماذا يعيب الشعب على السلطة؟ كونها خفية وقبلية، وتعمل لتحقيق مصالح أعضائها الخاصة وحدها. ماذا تعيب السلطة على الشعب منذ إرساء التعددية؟ كونه غير مسؤول وغير راشد ولا يستحق الديمقراطية.
    بماذا تفخر السلطة منذ جانفي 1992؟ بكونها أنقذت الجزائر وحافظت على الوحدة الوطنية ومنعت الإرهاب من اخذ السلطة بالقوة. لقد حكمت على الشعب مرتين بـ “عدم المسؤولية”: بعد الفوزين الذين حضى بهما “الفيس” في جوان 1990 وديسمبر 1991، سحبت ثقتها منه. وبدفع المسار الانتخابي في نوفمبر 1995، فكرت في خلق “يد خفية” كتلك التي اكتشفها آدم سميث في سير شؤون السوق، ولها نفس المزايا، أي انها تنظم وتسوي النتائج الانتخابية بعد غلق مكاتب الاقتراع، وللخروج بالنتائج الوحيدة التي تعتبرها السلطة مقبولة. والنتيجة ظهرت كالتالي: تيار إسلامي محاصر في حدود المعقول، وتيار جهوي سجن داخل حدوده الطبيعية، ويفوز بالأغلبية حزب نشأ من العدم ثلاثة أشهر فقط قبل اقتراع جوان 1997.
    هكذا، ولأول مرة في تاريخها، وجدت الجزائر نفسها تملك مجلسا شعبيا تعدديا، ليس بفضل هيئة انتخابية اكتسبت تجربة ورشدا، بل بفضل “يد فاطمة” التي قد تكون في اغلب الظن توأم “اليد الخفية” التي تحدث عنها الاقتصادي الاسكتلندي. وفي الثقافة العربية، يعتقد الناس أن “يد فاطمة” تبعد وتصد سوء الحظ. لكن، في حالتنا نحن، فهي لم تنجنا من “السيء”، بل من “الاسوا” فقط. اي من فوز آخر للتيار الإسلامي، وان كان المعتدل منه. فخلال الانتخابات المحلية لأكتوبر 1997، لم تجد السلطة بدا من متابعة عملية تغيير الوجه السياسي الجزائري التي ابتدأت بالانتخابات الرئاسية.
    والغرض من هذه العملية طبعا، هو تكريس هيمنتها على المؤسسات. انه هو دائما ذلك النظام القديم، لكنه الآن يتخفى وراء التعددية ويستعمل رجالا من الجيل الجديد بعد إخفاق الجيل القديم وهرمه. هؤلاء الرجال الجدد، خادموا السلطة ورجال سياسيون مزيفون يتربصون الفرص التي تمنحها لهم الفترة المضطربة لضمان مكانتهم وتحسين معيشتهم، وبعضهم يأخذ فيلا في موريتي، او منحة ليزاول ابناؤه دراساتهم في الخارج، ويستحوذ آخرون على الاستيراد، وبعضهم الأخر يضمن لنفسه تقاعدا ذهبيا…
    وكانت رغبة السلطة وإستراتيجيتها منحصرة في كيفية البقاء في الحكم، وسخرت لهذا الغرض كل الوسائل. فهي لم تكن تحسب حساب الكل في مشاريعها، بل كانت تفكر في بقاء البعض فقط. لم تكن تبحث عن حلول حقيقية وواقعية ونهائية، بل كانت تبحث عن الحيل والحلول الزائفة لأنها لا تملك النظرة الشاملة والبعيدة المدى. لذلك كانت تقتصر على تقديم حلول سريعة ومرتجلة لسد الثغور التي تظهر هنا وهناك، وتبعث بالمطافئ حيث تندلع النيران . ولم تكن تحسب حسابا للخسائر، لا من حيث المصاريف ولا من حيث الضحايا البشرية، ولا من حيث الوقت، ولم تفكر في أنها تشوه صورة البلاد لدى الأجانب، او أنها تخلق سوابق تلغم بها المستقبل.
    ان البلاد التي تنبع من ممارسات كهذه لا يمكنها أبدا أن تكون دولة دائمة، بل دولة هشة، ومريضة، وضعيفة اجتماعيا ومعنويا. لن تتحمل دولة مثل هذه اعباء المنافسة التي ستميز القرن القادم، ولن تطمع في البقاء بعد الانتهاء الاكيد للريع، بل تولد عن حركة ثورية وعنيفة ضد مستوطن صد كل الأبواب السياسية والسلمية.
    لقد نشا من “الزعامة” والدكتاتورية والتسلط بعينه، لا يقبل المعارضة ولا يؤمن بالانتخاب. ونشأ أيضا في حرارة مرحلة تغمرها هالة روحية –حرب تحريرية- وضعت على رأسه تاج الرسالة المقدسة. وعلقت به ذهنية الوصاية الأبوية، حيث انه متأكد انه هو الذي صنع الجزائر وأنجبها، وبما انه موجود قبل نشأة الأمة الجزائرية السيدة، لم يكن ينتظر منها شرعية كأن “التاريخ” قد منحه اياها من قبل. كيف يمكن ذلك والأمة الجزائرية من “صنعه” هو بفضل ما قام به بين 1954 و 1962؟ كل هذا أعطاه، في نظره، حق الحياة والموت عليها دون ان تتمكن من الاعتراض. إن ذهنية كل الرجال الذين سيروا البلاد منذ الاستقلال مبنية على هذه المسألة، وعلى مجمل الأفكار التي تحولت فيما بعد الى إيديولوجية و “عصبية”، اي مجموعة أحكام ومصالح تختلف عن تلك التي يحملها المجتمع. بالتالي، فان هذا العصبية ميزت بين قواتها وقوات الآخرين، وفرقت بينها. وتتمثل فيالقها في تلك المنظمات المسماة بالوطنية والتي تحظى بالدعم المعنوي والمادي للسلطة. ومنها تأخذ هذه الأخيرة رجالا تثق في ولائهم. وانطلاقا من هذه الذهنية، يمكن الخروج بنتيجة: إن الثورة الجزائرية لم تكن من صنع الشعب بأكمله، بل قام بها البعض فقط. وكانت السلطة تحضرلإحداث فوارق أخرى ستؤدي لا محالة الى نشوب أحقاد وصدامات جديدة. وتقوم الآن بوضع نظام امتيازات تحظى بها هذه الشريحة “La priviligentsia” . وقد انفردت الجزائر في العالم بامتلاكها منظمة لـ “أبناء المجاهدين” ، وأخرى لـ “أبناء الشهداء” (بالرغم من انه غير لائق ان ننعت رجالا تتجاوز أعمارهم الاربعين بتسميات ترجعهم إلى عهد الطفولة). ان النزعة الوراثية تبدو واضحة هنا.
    وبعد أن احتكرت السلطة قيم نوفمبر 1954، لم تترك خيارا أخرا للجزائريين غير الراضين بسياستها وإدارتها وتجاوزاتها سوى اختراع قيم أخرى او البحث عنها في الماضي او في الدين. وذلك ما فعلوه لكي يتميزوا عنها وعن خطابها ومرجعياتها ورجالها ورموزها. لقد ردت الهيئة الانتخابية على المؤامرة بمؤامرتين، فالاولى خربت البلاد، والثانية تعد العدة لتفجير مقبل، وقد أظهرت لنا ما يمكنها القيام به بعد اغتيال معطوب الوناس.
    إن السلطة إذن، تعمل عن وعي وبمحض إرادتها لإحباط الفكرة الوطنية، وبالفعل، فبالإضافة الى رداءتها وتعسفها وجهلها، أدخلت سموم التمييز والتفرقة في كيان الأمة، لا لشيء سوى للحفاظ على هيمنتها وضمان بقائها. لم تكن “الأسرة الثورية”، و “ذوي الحقوق” ،و “النوفمبرييون” سوى الغطاء لهذا التمييز الذي يضاهي ذلك الذي طبع النظام الفرنسي القديم الذي ادى الى اندلاع ثورة 1789.
    إن الإسلاميين الذين يزعمون معونة إلهية لهم يحسبون من لا يشاطرهم أفكارهم “كفارا”، أما السلطة التي تستند الى الشرعية الثورية، فإنها تعتبر كل من انتقدها وعارضها “خائنا”. في الحالة الأولى، يعتبر “الأعداء” عديمي الإيمان، وفي الثانية، عديمي الوطنية. مع ذلك، فان الشعب الجزائري لم يحاكم سلطته بتهمة الشرعية، بل بسبب نتائج عملها وسياستها وقراراتها. والحكم على هذه الأشياء هو الذي جعله ينتفض في وجهها ويكن لها الحقد والكراهية الى اللحظة الراهنة.
    من بين الرؤساء الذين حكموا البلاد منذ استقلالها، لم يتصور ثلاثة منها أبدا أنهم سيتولون هذه المهام في يوم من الأيام. فهم لم يترشحوا لها، بل تم “استدعاؤهم”. اولهم، الشاذلي، فهو اليوم يعيش معزولا في نواحي وهران، أما الثاني، بوضياف، فقد تم اغتياله، اما الثالث، زروال، فهو يواصل مهمته “المقدسة” للسنة الخامسة. أما الآخرين، بن بلة وبومدين، فأمرهما شيء أخر، حيث أنهما كانا يحلمان به، وبه فقط، قبل ان تتحرر البلاد. وبن بلة يعيش اليوم في المنفى بعد ان قضى ثلاث سنوات في الحكم، و14 سنة في السجن دون محاكمة. أما بومدين، فقد مات موتا غريبا وهو في عز قوته. وكان أطول حكم لبومدين والشاذلي، حيث قضى كل واحد منهما 13 سنة في منصبه. وكاد ان يكون اطول لولا تدخل القدر: فالاول ذهب ضحية مرض غريب، بينما اجبر الثاني على الاستقالة. ومن بين الخمسة رؤساء، تم “اختيار” اربعتهم، والخامس، بومدين “اختار” نفسه بنفسه. ومبدأ “الاختيار” هذا هو الذي ولد طبيعة القبلية للسلطة الجزائرية لأنه، بمجرد أن يصل إلى الحكم، يسعى “المختار” الى التخلص من قيوده واسترجاع استقلاليته بعض الشيء. كما ان هذا الإجراء المتميز في تنصيب الرؤساء، وهو إجراء سيء وغير فعال ومدمر، هو الذي رمى بالجزائر في المأساة. بقدر ما كانت هذه الممارسة مبررة في عهد الحزب الواحد، بقدر ما هي فضيعة وغير مقبولة بعد انهياره في 1989. غير أنها عادت إلى الساحة السياسية بترشح زروال، وزير الدفاع، للانتخابات الرئاسية. فكانت عودتها كالقطرة التي تفيض الكأس. لقد أدت بنا الى التزوير الانتخابي، والى تكوين حزب مزيف –التجمع الوطني الديمقراطي- والى المفاوضات مع التيار الإسلامي، والى حضور مجموعة استعلامية دولية، والى نزع المصداقية عن المؤسسة الرئاسية بفعل رجال مقربين من الرئيس، والى استعمال وسائل الدولة ومؤسساتها لأغراض خبيثة كما تدل عليه قضية علي بن سعد، وقضية فيلات موريتي (بهذا الصدد، نقول ان ثمنها ليس هو المشكل في القضية، لكن المشكل قائم في مبدا منحها لرجال النظام، ولذا يستوجب فتح دعوى في القضية) ، وكذا قضية منع السلطات أطفال من الخروج من التراب الوطني بالرغم من التسريح القانوني من قبل عائلاتهم…
    هل خرجت الجزائر من أزمتها؟ يمكننا الإجابة بنعم اذا ما اكتفينا بالنظر إلى ظاهر الأشياء، وإذا ما استمعنا الى خطاب السلطة. عن بعد، تبدو الجزائر كأي بلد عادي، و لولا الاغتيالات اليومية، لما اهتم بها احد. فهي تشبه الديمقراطية والجمهورية في تسيير شؤونها وتملك برلمانا تعدديا في الظاهر، وصحافة شبه حرة، واحزابا تسمى بمعارضة. لكن كل هذا تمثيل ومظاهر. ويبقى هذا البناء جد هش لان الشعب فقد ثقته في سلطته، والسلطة ايضا فقدت الثقة في شعبها.
    الأول يهاب الثانية، و هي بدورها تجامله وتشكره بانتظام على تجديد ثقته فيها!! ففي المجال المؤسساتي انتهت الجزائر من اعادة بناء مؤسساتها “الديمقراطية”، لكن هذه العملية تمت كمن أعاد ترميم بناية تضررت من أثار الزمن، حيث تم إصلاح وترقيع النظام القديم والكل مدرك لذلك. لا يشعر المواطنون ان السلطة تغيرت وأدركوا أنها عاجزة تمام العجز عن تحقيق القطيعة المنشودة. وعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، أجبرت السلطة على اتخاذ بعض إجراءات الانفتاح بعد إمضاء اتفاقيات إعادة جدولة الديون الخارجية. لكن هذه الاجراءات لم تجري الى حد الآن الدفع المرجو في الاستثمار والتنمية، ولم تتخذ سوى “الاجراءات السيئة”، مما عمق الشرخ أكثر بين أقلية ثرية وأغلبية المعذبين في الأرض.
    لقد عرفت خزينة السلطة، اي قطاع المحروقات، نوعا من التحسن خلال العامين الماضيين، لكن لم تكن الاكتشافات الجديدة واستقرار الأسعار في مستواها الجيد (قبل تدنيها في الآونة الأخيرة) كافيين لإحياء اقتصاد مازال رهن البيروقراطية والرشوة.
    اذا كانت السلطة لم تتغير، فان الشعب كذلك لم يتغير. انه يبدي استسلاما ظاهرا بسبب بشاعة العنف الذي استهدفه والصعوبات اليومية المحيطة به، في محاولة أخيرة للبقاء. كان العنف عبر التاريخ سببا في القضاء على العديد من الأنظمة الاستبدادية، اللاشرعية او المرتشية. لكن كان يتم ذلك عندما لا يحضر العنف بمفرده، بل يحمل في طياته وعيا مشتركا ومشروعا سياسيا يحمل بدوره تقدما مأمولا. اما العنف الذي انفجر في الجزائر وضرب الضعيف قبل القوي، والبريء قبل المذنب، لم يكن يبشر بالافضل، بل كان هو “الاسوأ”، ولهذا السبب انتفضت في وجهه أغلبية أفراد المجتمع والأحزاب السياسية، مما ادى الى إخراج السلطة من ازمتها. انتهى الأمر بالديمقراطية إلى ان تكون غطاءا وذريعة تتلاعب بها السلطة بعد ان عانت (اي الديمقراطية) من سوء الفهم وتهمة الكفر وخلطها مع “اللائكية” التي كانت في حد ذاتها مفهومة على أنها عملية ردة جماعية.
    يوشك عقد من الزمن على الانتهاء وكانت سمته الحرمان والوحشية.  ينتهي ومرارة الحقيقة تغمره: لقد عادت الجزائر الى نقطة البداية. هامت على وجهها وعاشت في دائرة مفرغة مدة عشر سنوات، فقدت خلالها العديد من أبنائها. هذا الانهزام انهزام الأمة كلها بأفكارها وثقافتها، بشعبها وسلطتها وأحزابها، لكن هل قضى الامر الى الابد وبدون رجعة؟ الجواب بنعم يعني شتم التاريخ، بدءا بتاريخ هذا البلد. ان شعبا عاش محنا عديدة لا يمكنه ان يرى مستقبله مسدودا بسبب القوة او الخوف او التزييف. ونقول أن حتى الإخفاقات مفيدة لما تحمله من دروس تهيؤنا للقيام بمحاولات أكثر جدية وتنظيم في المستقبل.
    إن الجزائر مجبرة الآن على مسايرة المعايير العالمية في التسيير، والحقيقة ان هذه المعايير نفسها تؤطر المجتمع من كل جوانبه بما فيها الثقافية والسياسية. لقد ارتطم “الحق الإلهي في سوء التسيير” بحواجز مفيدة (الرأي العام الذي هو بصدد التشكيل، المجتمع الدولي، المنظمات الغير حكومية، صندوق النقد الدولي…) وهكذا يمكن للجزائريين ان يأملوا في معانقة قريبة مع القانون والأخلاقيات العمومية، والرشاد والواقعية. بالتالي يمكنهم إرساء علاقات تربطهم يبعضهم البعض على أسس عقلانية وموضوعية وقانونية. ولن يعودوا بعد ذلك أرواحا شاغرة وأيادي مكسورة وأذهانا فارغة يستسيغها المشعوذون الذين يدفعون بهم الى المغامرة، سواء كانت دينية ام لا.
    عندما يكون كل واحد منا منهمك في عمله طيلة النهار ضمن مجتمع صارم ومتمسك بالانضباط، وعندما يشغل الإنعاش الاقتصادي اكبر عدد من العقول والأيادي، وعندما تفرض كلفة العيش على كل واحد طريقة جد منتظمة وعندما يغير البائع وكل من يقدم خدمات للآخرين سلوكهم بسبب المنافسة، وعندما تعمل العدالة المستقلة، والصحافة الحرة، والشفافية على تقليص التعسف والرشوة، حينئذ ستشبه الجزائر خلية نحل، بمعنى أخر، مجتمعا تتشابك فيه المصائر والمصالح في ظل دولة قوية لكن عادلة. وعوض ان تبحث الجزائر عن طريق معزول او مصير متميز، ستجد نفسها في شبكة عالمية، فرحة برفقة الأمم المقننة والامنة والمتقدمة. وهذا يستم بمجرد ان تنفتح على الاستثمار الأجنبي والسيولة الحرة لرؤوس الاموال، والتبادل التجاري الحر للمنتوجات والأفكار. قد يظهر مهلوس أخر كما يحدث في بعض البلدان الأخرى، لكن قليلة هي الفئة التي ستعير هلوسته اهتماما. ام باقي الجزائريين، فسيدلونه على مكانه: دار المجانين او السجن. ولن يتمكن احد بعد ذلك ان يجعل منهم سفاكي دماء ومجرمين متوحشين ببعض الكلمات والدموع والخرافات.
    إن الجزائريين شعب ينبض حياة وحيوية، كله حماسة وصلابة، ويتميز بروح المبادرة. هم شعب تخطى ذهنيا أشواطا كبيرة نحو الحداثة. يمكنهم ان يصبحوا بسرعة مجتمعا يعيش وفق معايير العالم المتقدم، شريطة ان يسيروا او يوجهوا وفق قوانين وقواعد تكرس الحرية والديمقراطية والعدالة. وعندما يشعرون ان مسيريهم عادلين نزهاء، يردون الجميل بأروع صور التضحيات والسخاء. لكن، ويا للأسف، على هذا المستوى بالذات لم يكن جزاؤهم سوى الخديعة إلى حد الآن.
    آه، لو أخذت معها المجموعة الاستعلامية الأممية عند مغادرتها بلادنا بعض الأشخاص بدل التقارير التي ستحملها في حقائبها. سيكون ذلك جميلا ثمينا تقدمه للإنسانية جمعاء وللجزائريين على الأخص.
    الوطن 28جويلية 1998
     

    من يزرع “اللاشيء” يحصد “العدم”

    بقلم نور الدين بوكروح
    ترجمة:حليس علي

    رسالة المثقف تتمثل في تسليط الضوء على بضعة أشياء، أما تلك التي يقوم بها السياسي فهي في الغالب تهدف إلى جعلها أكثر ضبابية… السياسة تعمل على التعتيم لتبدو كل القطط رمادية“. خوسيه اورتيقا إي غاست
    لا شئ أبلغ و أكثر إستدلالا من هزيمة الجناح الخاسر في أزمة ( الآفلان) لشرح هذه المقولة المتجذرة في الحكمة الشعبية الجزائرية.شخصيات كنا نسمع عنها آتت من التاريخ الغابر والتي أعتقدنا وفاتها منذ زمن، و أسماء اعتقدنا تنحيتها من اللعبة السياسية ، ووجوه ضاعت ملامحها بفعل الزمن عادت إلى الواجهة الإعلامية لتعترض على مصيرها المهين  الذي حُكم به عليها عند أرذل العمر.
    لأنهم زرعوا لاشئ “والو” مند نصف قرن، فقد دُفعوا إلى خارج اللعبة دون أدنى مراعاة أو اعتبار لخدماتهم، لتقدمهم في السن، لذكرياتهم المشتركة، للروابط التي نسجتها مؤامراتهم، للملح و الخبز المتقاسم بينهم.العدالة التي طالما سخروها واستعملوها في القضايا المشبوهة وضرب الخصوم، و التي اعتقدوا أنها باستطاعتها أن تحكم لصالحهم، حكمت ! واجابتهم بـ “ماكاش” !!. “الرئيس المجاهد” الذي استجدوه سرا وتوسلوا إليه علانية بقي أصم أبكم لا يرد على نواحهم قبل أن يختم على جباههم بالحديد الأحمر حتى تتعرف عليهم العامة أينما ذهبوا وتغير الرصيف كي لا تقابلهم.
    لكن تم الوصول إلى قمة الخزي وذروة العار مبكرا، عندما يختار سوء الطالع الفظ و الذي يفوق القدرة على التحمل، من كان يُعتبر آخر واحد بينهم  ليشير لهم بإصبع من حديد إلى الباب الذي سيخرجون منه، قبل أن يضربهم بالضربة القاضية  في ساحة المعركة تحت الأعين غير الآبهة للعامة.لقد كانوا طيلة فترة عملهم خداما مطيعين و متحمسين للنظام، لينهوا مسارهم بتسريح تعسفي، فكانوا ضحايا لنفس الطرق الفظة التي استعملوها هم بدورهم ضد إخوانهم في المعركة عندما ألقي بهم بدورهم كطعام للحيوانات.
    بقي لهم شيء واحد يتمنونه هو تحاشي الجنون، لأن المدهش أنهم لم يستسيغوا لماذا فعل بهم هكذا؟ لقد بحثوا جيدا و لم يجدا معنا لأي سيناريو لمستقبل بدونهم، لقد دعموا العهدة الرابعة وكانوا على استعداد لدعم الخامسة والسادسة، وحتى القبول بجثة الفقيد، فلماذا حدث لهم هذا؟ انه ” القصاص”، بل و ربما أقل منه فالدليل لديهم الآن و قد قدم لهم من الأرض ولم يهبط من السماء!
    منذ مدة وعند بداية الاستيقاظ، بدأت إرادة خفية في الجزائر، و إن كانت غير معلنة إلا أنها صارمة، في تحطيم كل القيم النبيلة في البلد و الإجهاز عليها و بكل الطرق و الوسائل، يتعلق الأمر بأن يظهر و يثبت، دون أن يقال ذلك أو ينفى صراحة، أن العقلانية، الكفاءة، الذكاء، التربية الحسنة، الشرف و الأدب  التي قد تحفظ للجزائري القليل من الشرف وتعطي معنا لكلمة “الوطنية” لديه، لم تعد لها قيمة، كما لم يكن لها قيمة في الماضي و لن يكون في المستقبل، فقد صار الآن الاقتداء باللصوص و الصعاليك هو الطريق الأوحد إذا أراد أحدهم النجاح وتسلق السلم الاجتماعي و الإقتصادي، أو على الأقل، العيش، الإحتفاظ برتبته، منصبه،عمله أو مصدر رزقه.
    هذه الإرادة الهدامة لا ترتكز فقط على الربح، وهي تشجع كذلك الحركة الدينية المضللة باستعمالها للشعوذة لتكمل الإغلاق التام على الجزائريين في خيار وحيد و هو مبدأ خاسر- خاسر:إما العيش في الذل أو تحت مظلة الورع الكاذب. أبقت القيم الأخلاقية الجزائريين طافين على السطح وقت الخطر و الآن لابد من سحبها نهائيا و تكريس الإذلال والشيطنة والتعايش مع تجرع الهوان حتى يفقد المجتمع كل آليات الدفاع و إعادة البناء.ألم تكن الشعوذة مدعومة من المستعمر؟
    حتى نهاية الثمانينات كان الجزائري يعتبر عادات الحياة المتمدنة و التي حصلها من التعايش الإجباري مع الفرنسيين و كأنها منتوجات ثقافته هو، لكنها زالت بفعل الزمن وتعاقب الأجيال، و حل محلها عادات أخرى جافة وصلبة وغير إنسانية ولا اجتماعية، مع وجود اليقين بأنه بذلك تم استعادة الشخصية الجزائرية والقيم السامية للإسلام.
    بمشاركتها في ثورة التحرر الوطني، كانت المرأة الجزائرية متأكدة أنها تمكنت من خلق نموذج جديد تتكافئ فيه مع أخيها الرجل في الحقوق والواجبات في جزائر الغد..لكن هيهات فالاسلاموية مرت من هنا، و قامت بتعديل النموذج  فتركت لها أو لنقُل فرضت عليها نموذج المرأة المنظفة المثالي.
    هذا النوع من المسارات الذكورية و الأنثوية لم يمكّن أصحابه بأن يصبحوا بنائي الحضارة، مجتمع و أمة عظيمة.فهم لا يُعتبرون حتى من عامة الناس الذين يشكلون الكتلة البشرية للشعوب العادية كأقرانهم في دول أوروبا الشرقية وأسيا وأمريكا اللاتينية. هذه مسارات ساكني بلد” معزة و لو طارت” بديلهم أن يعيشوا تحت خلافة داعش وليس في جمهورية عصرية.
    و لمن لا يعرفها، فان قصة المعزة التي تطير وهو مثل طريف يوظفه الجزائريون للتدليل على أن كل شئ ممكن الحدوث عندهم حتى المستحيل منه، معزة تغني، تفقز، تهذي، تتنظف لكن أن تطير في صورة طائر ! لا اجزم بوجود مثل هذا في الثقافات الشعبية للأمم الأخرى و يفترض ذلك لكونها لم تواجه ما كان سببا في وجوده في الجزائر و الذي لا نعرف متى و لا السياق الذي أطلق فيه.فأكيد لم يكن ذلك بسبب معزة طارت يوما ما حقيقة، بل لاستعداد لا يتقبله إلا “لاوعينا القديم” و الذي يجعل من هذه الفكرة مقبولة في كل عصر.هذا الإستعداد ليس حديثا، ولا خاصا بمنطقة أو فترة زمنية، بل نجده دائما مع اختلافات بسيطة في الصياغة، يعاقب الجزائريّ  لكونه جزائريا ويعدنا في المستقبل أن هذا ما يميز أصالتنا بين البشر.
    قبل اكتشاف هذه العبارة المبررة لما لا يمكن تبريره عندما نفتقد الحجج المقنعة وتخوننا العقلنة نصيح:” إنها معزة حتى ولو طارت”، وسبق أن استغربت من قول رئيس الجمهورية في الستينات ” الشعب راسو يابس” ، وفي اللحظة التي قالها فيها، عقد حاجبيه معها و جحظت عيناه و كأنه يُخطر أنه لا يتوانى عن رمي أيّا كان بالرصاص لو شكّك في هذه الميزة العليا لدى الجزائري. وأصبحت فكرة راسخة لدى بومدين، لكن لو راجع القاموس لمعرفة معنى الفكرة الثابتة« marotte »  سيقرأ:” الرأس الموضوع فوق خشبة ومزين بجواهر تدل على أن صاحبه مجنون” .
    لازلت متعجبا بل و مصدوما  لأن هذه الذكرى لازالت تطاردني، فأن تسمع إعلان من مصدر بهذا المستوى و الدرجة من المسؤولية  أن الفضيلة العليا للشعب الجزائري هي في كونه يمتلك ” رأسا صلبا” الوصف الأمثل للعناد، للعقل المنغلق و الذي يجعله أقرب إلى الحمار منه إلى البشر، وهو ما أوحى لي بكتابة مقال عنونته« Le Khéchinisme » “الخشينيزم” أي الخشونة في المجاهد بتاريخ 1 اكتوبر1979 و كنت في حالة ضغط و تمرد  ضد هذا العدمية التي جرّت هذه العبارة لأنه يجب أن نفتخر بميزاتنا الجيدة و لا يجب بأية حال أن نفعل ذلك بعيوبنا.
    أي العبارتين “يشرفنا كون لدينا الرأس اليابس”و “معزة و لو طارت” تحير أكثر؟ لا يمكنني ان أعرف لكن فحواهما واحد، وفي قُرانا يوجد المعنى ذاته بصيغ مختلفة مثلا:” اللي يحبني، يحبني بخنونتي”.على كل لا يوجد سوى هذه الفلسفة الشعبية التي يمكن أن تبرر لهذا الإنحراف كأن يقبل على رأس دولة شابة ومحاطة بكل الأخطار شخص في حالة الرئيس بوتفليقة.مضمون هذه “الفلسفة” هو تبرير ما لا يبرر و ليس شرحه، لابد من البحث في مكان آخر عن الشرح لهذه الحالة من إزدراء المصلحة الوطنية و والسفالة السائدة التي جعلته ممكنا.
    في أفريل 2014 ، و بمجرد نشر نتائج الانتخابات الرئاسية التي كرست بوتفليقة رئيسا كتبت مقالا عنونته “فاز رجل وخسرت أمة” وفي الفاتح نوفمبر من نفس السنة وعلى شرف البوركينابيين وبمناسبة اندحار رئيس بوركينا فاسو بليزكامباوري رغم صغر سنه وصحته الجيدة بعد أن حاول التمديد لفترة رئاسية خارقا الدستور معتقدا نفسه في الجزائر، كتبت “خسر رجل وفازت أمة“، الرئيس البورندي حاليا في السجن لأنه اعتقد أن عقلية البورندين قريبة جدا من عقلية الجزائريين، الأمر الذي أخطأ في تقديره،  وننتظر ما تسفر عنه الأحداث في بورندي.
    في السنة  التي تم فيها اغتصاب الدستور(2008) والترخيص بعهدة ثالثة  و من بعدها برابعة  لصالح بوتفليقة بتآمر من برلمان تضاعفت أجور نوابه ثلاث مرات بضعة أشهر قبل القرار، في الوقت الذي ابتدأ الرئيس الشاب ساركوزي بمراجعة الدستور ليحدد عدد العهدات باثنتين بعد أن جعل الرئيس شيراك مدة العهدة الواحدة بخمس سنوات بدل السبعة سنة (2000).
    لم تندد فرنسا بيمينها ويسارها وآثرت الصمت حيال اغتصاب الدستور و العهدة الرابعة، كما أنها منعت الكشف عن غاز الشيست و استغلاله لديها في حين شجعته في عين صالح، وكأن هذا الأخير تعويض عن الآخر، ما لا يمكن السماح به عندهم مباح عندنا، نحن مجددا في وضعية المستعمِر والمستعمَر، يعمل أحدهما ضد الآخر.المستعمِر القديم قلص العهدات، مستعمَر الأمس مددها، المستعمِر القديم منع استغلال ثروة ملوثة على أراضيه، المستعمَر الأبدي سمح بها في أراضيه.
    للرجال حياة، وللأمم تاريخ. الرجال يولدون و يموتون، والأمم تتكون وتنهار، تتجدد وفق قوانين البيولوجيا والنماذج الإجتماعية التي تُسيِّرها. أربع أسماء مثلت التيار الحضاري للجزائر في القرن العشرين عبد الحميد بن باديس، فرحات عباس، علي الحمامي، مالك بن نبي كانت أفكارهم جميعها تدعوا إلى التأهيل الحضاري للفرد الجزائري حسب الوسائل المتاحة، تثقيفه وتوعيته بضرورة أداء الواجب قبل المطالبة بالحقوق، تمدينه بنشر الوعي المدني قبل التكلم معه عن الاستقلال.هذا التيار تم خنقه بالشعبوية ومزايدات مصالي الحاج وحزب الشعب، وحركة انتصار الحريات الديموقراطية الذين أوصلوا هذا الشعب إلى الهلاك على جميع الأصعدة وجعلوه يتغدى بأفكار ملؤها الخرافات و الأساطير ولا يفهم شيئا في معجزة وجوده القلِق والعشوائي.
    مما كتبته في مشروع المجتمع الذي عرضته يوم 3 نوفمبر1989 على الصحافة الوطنية بقاعة ابن خلدون (بداية الإستشهاد):” الخطر المحذق بنا، ليس أننا دولة متخلفة، لكن في عدم استعدادنا للتقبل الأفكار العقلانية…نحن لسنا مهددين بأزمة، بل بإنهيار كلي.اليوم نحن لسنا دولة فلاحية ولا دولة صناعية، لسنا اشتراكيين، ولا رأسماليين، لسنا افراد شررين ولا بجماعة جيدة، لسنا بمسلمين جيدين ولا لائكيين حقيقين.لسنا معربين ولا مفرنسين، وليست هذه آخر تناقضاتنا. نحن لا نمتلك تصورا عن أنفسنا وما سنصير عليه مستقبلا، ونترك قدرنا لما يسمى المخططات الرباعية والخماسية التي جعلت من الجزائر مأساة حقيقية من “مشروعٍ قيد التنفيذ”.لا يجب البحث عن الحلول في البنيان السياسي الحالي و الذي برغم كل محاولات الإصلاحات بقي المرحلة القصوى التي قادتنا للإفلاس، هي في انتظار تجديد للأمل، المهمة الواجب القيام بها عظيمة لكنها ستؤتي ثمارها إذا ما تجذرت في هذا المسلمة الأساسية التي يجب على الشعب كله أن يشارك فيها: الشعب الذي يستحق الإستقلال و النمو، هو الذي  يعمل من أجلهما كل يوم”(نهاية الإستشهاد)
    نفس التحديات واجهناها في نهاية الثمانينات بسبب التسيير الفوقي بعد أن فرض على الجزائري نهجا اشتراكيا شموليا مستوردا انتهى بانهياره مع سيل من الدماء في 5 اكتوبر1988، ومع الإنفتاح سنة 1990 أتى لنا وبطرق غير مشروعة باسلاموية كلفتنا الكثير ورغم المأساة لا يزال من ينادي بذلك وينتظر جنته الموعودة، دائما إنها الرغبة في الحياة من اجل “والو”.الرهان الفلسفي لباسكال انحدر ليصبح تجاريا.
    هنا كذلك كان ينبغي تأهيل الفرد الجزائري ديمقراطيا بدل الانفتاح على تعددية قاتلة، وقعنا في الكارثة دون أن نستعد لها كحالة مضليّ يرمي نفسه من الطائرة ليلا بدون مضلة.تم تقديم الانفتاح السياسي لشعب ساذج وأعمى تملاؤه الأحقاد على السلطة، صيحاته المعارضة صبت لصالح “جحا” الملتحي والأمرد معا. تبعتها حرب أهلية كنتُ قد حذرت منها في رسالة في 03 أوت 1993 قبل الانتخابات البلدية التي فاز بها الفيس في الوقت الذي كان البلد ينعم بالهدوء.في هذه المقتطفات وجهت خطابي للمعارضة (بداية الإستشهاد):” أتت الديموقراطية كإقرار بالفشل والانهيار، وكان بالإمكان أن تكون تتويجا للتطور، تمنيناها سنة 79، وانتظرناها سنة 85، اعتقدنا اقترابها في سبتمبر88، و مع الأسف وصلت متأخرة ب 5 أشهر، و كلف هذا التأخر وطننا مئات القتلى….عندما خرجنا من الصف و اقترحنا “مشروع مجتمع” و الموجه ليخرج البلد تدريجيا من أزماته  التي هددت وجوده كمجموعة إجتماعية، إقتصادية و سياسية، وكان يؤلم أعضاء حزب التجديد الجزائري أن ترى البلد يتجه ببطئ ولكنه أكيد إلى حتفه إلى مصيره المحتوم من جراء سباق محموم من أجل اقتسام الغنيمة خلال فترة التقييم المفاجئ للمسار، وفي كثير من الأحيان كان من أجل مصالح ضيقة وشخصية.
    كان وكأن جميع الشركاء و الأحزاب والأشخاص فرادى وجماعات متفقون على إسقاط الجزائر معتقدين أنهم يسقطون عدو المرحلة “النظام”. كان الجميع يعمل دون أن يشعر على رفع التوتر عاليا، على زيادة أسباب الفرقة وإضعاف البلد و إنهاكه و هو يعتقد أنه يعمل بحسن نية على إنقاذه، كان الكل يستغل التفكك الحاصل لفرض رؤيته حول الهوية واللغة واللباس ! ويندفع إلى التطرف…
    لابد من هبّة نوعية وسريعة لأن وطننا في خطر، فهو مهدد بالضياع النهائي بسبب نظام يزيد من تأجيج السخط الشعبي بظهوره الباهت الذي لا ينشغل إلا بالتمسك بسلطة يخاصمه الشعب عليها يوميا، وهو الفاقد للمصداقية حتى لو أتي بالشمس بيمينه والقمر بيساره…لكن هذا الوطن أيضا مهدد حتى بعداواتنا نحن و انقسامنا، جهودنا المتفرقة، مخاوفنا المتبادلة، لاعقلانيتنا…و ها نحن بدورنا نؤكد نقصنا القديم في امتلاك روح الجماعة التي يلام عليها شعبنا، و نقدم الدليل للعالم الذي يتبعنا عن عجزنا في رفع التحدي في توحيد مصالحنا العليا و بناء مستقبل مشترك للأجيال القادمة في مرحلة حيوية من مستقبل وطننا.نحن نعرف جيدا أن هذا هو ما ضيع الأجيال التي سبقتنا على هذه الأرض و أدت بهم إلى الإستعمار و التخلف.لقد سلكنا طريق الانتحار الذي أدخلنا في حرب أهلية وأدى بنا إلى الإنهيار… لم نتوافق على شئ ولم نتمكن من استدراك أخطائنا، و إيجاد قواسم مشتركة لشعبنا لتكوين مجتمع وتحويل الفوضى الحالية إلى نظام اجتماعي، و إقتصادي، وسياسي متوازن ومتين……
    أمام العجز عن بلورة مشروع المجتمع المشترك، الذي قد نصل إليه في يوم ما، تبقى أولويتنا العاجلة هو زرع الأمل في حصول إجماع في شكل مجلس تشاوري للوفاق الوطني نستشيره في القضايا الوطنية في إنتظار حل البرلمان وإجراء إنتخابات رئاسية مسبقة والتخلص من النظام القائم هذا كأول بنود اتفاقنا، ويجب أن نعمل على أن يكون ذلك في كنف السلم المدني والحفاظ على الدولة ومؤسساتها كنقطة اتفاق ثانية .لكن بشرط أن ننجح في الإتفاق على خطاب سلمي عمومي يلائم برنامجا اقتصاديا يتماشى مع ضرورة حل المشاكل المستعجلة، و يكون الدليل القاطع على أن المعارضة الجزائرية بالمستوى الذي يخول لها ضمان انتقال سلمي للبديل الذي ترسمه الانتخابات التشريعية القادمة ديموقراطيا.
    الحلول التي نقترحها لا يجب أن تكرس اختلافاتنا بل تدفع إلى الأمام بقواسمنا المشتركة كجزائريين وتنبع من مختلف المشارب السياسية، ومكونة من مدارس فكرية متنوعة، لكن تغدي إنتماءنا الوطني لرؤية وطننا يخرج من أزمته الحالية بأقل الخسائر ” (انتهى الإستشهاد)
    هذه النظرة وهذا التحليل وهذه الإقتراحات التطبيقية، وهذه الكتابات الواقعية، المحذرة و المنذرة والتي يمكن أن تظهر اليوم دون أن تجد من يسمعها من سلطة ومعارضة ونخبة ولا حتى الشعب، ولكن كان لابد أن نفكر، نعمل، نكتب، ننشر وأن نحذر على الأقل لأداء دور الشهادة. بعد25 سنة و250000 قتيل,هذه الاقتراحات لا تزال صالحة وذات أهمية وفعالة بل و متطلعة لكنها مهملة في بلد يفضل السير بـ “أغيوله” (حماره) بدل بغل غيره !
    ماذا نقول اليوم ونحن ننظر إلى المستقبل، إلى الأفق البعيد، إلى ما بعد بوتفليقة. سيكون هناك الأسوأ أو الأحسن وقد يكون الكارثي لكنه سيكون نتاج ما نحن بصدد تقديمه اليوم، نتكلم على ” انتقال ديموقراطي” ،على “أرضية صومام جديدة”، عن “إنتخابات مسبقة”، كأن كل عبارة من هذه العبارات هي في حد ذاتها برامج، ترياق للشعب لكنها قنبلة تقض مضجع ” النظام” و تحرمه النوم، لكنها تبقى مجرد” كلام” ،”هواء” و”ريح”، إنها ” والو” وستنتج حتما ” ماكاش “.
    لم أقرأ أي ملف يشبه ” البرنامج المشترك”، ولا مخططا لمشروع مجتمع جزائر الغد، و لم أسمع عن دراسة لوضع إستراتيجية انتخابية قادرة على منافسة النظام في المرحلة القادمة.عندما تُعطى صافرة انطلاق الانتخابات الرئاسية سنجد 100 مترشح جاؤوا من كل حدب و صوب، وكل واحد بينهم يتخيل انه “المنتظر”.
    و يظهِرون لنا مجموعة غوغاء و أغلبها في الحقيقة ليست سوى  مجموعات من” جحا” مزيفين و مخادعين، يظهروهم في  دور ممثلي “المعارضة” التي تدعي معرفة طريق الخلاص، وهي في الحقيقة مركب تناقضي مكبل بالأغلال، قاطرات متنافرة من أحزاب و شخصيات لم تحلم أن تظهر يوما فضلا عن أن تقدم بديلا يفرز” مشروع المجتمع” و الذي يحمل بين طياته بعدا اقتصاديا جوهريا.
    نجد الأكثر حنكة والأقل تعبا وخاصة الأقل خطرا بأن نطلب تسليم السلطة من داخل صالون أوخيمة لتحاشي إنفجار الجماهير ،التي يعتقدون بغبائهم، إمكانية استغلالها أليا، شيء يشبه قصة جحا الذي سرق منه حذاءه واسترجعه بحيلته الشهيرة. مختلسي السلطة الجزائريين لن يعيدوها، لأجل ذلك لابد من انتزاعها من تحت أقدامهم.ما نراه ليس سياسة ولا معارضة انه التسول المفضوح.لكن لم يفتنا الوقت بعد لإعادة الأمر لنصابه و تقويم المسار.
    صدر في لوسوار دالجيري بتاريخ: 31 ماي 2015

ما عندناش و ما يخصناش…

عندما نؤمن مثل معظم الجزائريين بمصادفات القدر و الخرافات، فإنه يتعين علينا الارتفاع عاليا في السماء إذا أردنا العثور على جواب للسؤال الذي يراودنا أحيانا عمَّا إذا كان مصيرنا مكتوبا منذ قبل أن نظهر على وجه الأرض، أم أنه لا يعدو أن يكون ثمرة الأفكار التي تحملها ذهنياتنا، و ما ينتج عنها في واقعنا من خلال ترجمة هذا العتاد الفكري إلى تصرفات اجتماعية، ثم إلى أحداث تاريخية تتوالى عبر الأزمان و العصور. حتما سيَميلُ رجلُ الدين المتخفي داخل كل واحد فينا إلى الفرضية الأولى، فيعيد حينئذ صياغة السؤال بطريقة مختلفة: بأي واحدة من هاتين القوتين يَتّسمُ مصيرنا: بالبركة أم باللعنة؟
يبقى الجزائريون في هذا أوفياء لحالة “المسلّمين مكتّفين” التي آلوا إليها منذ أن أوصدت في وجوههم أبواب الاجتهاد و العقلانية. تُريحُهُم فكرةُ أنَّ الله يَتَكَفَّلُ بهم واحدا واحدا فَيَرَونَ بصمات إرادته في كل أحداث و تفاصيل حياتهم اليومية. و بيد أنهم يعرفون سبحانه و تعالى فإنهم لا يتخيلون للحظة أن يصيبهم فرحٌ أو مصيبةٌ إلّا و كان ذلك مكتوبا و مقررا عليهم من فَوق. إن لم يكن بالمعنى الحرفي، أي من عند الله، فبالمعنى المجازي أي من عند حاكمهم.
يمكن أن يكون تفكيرهم هذا صحيحا فعلا عندما يتذكرون أنهم عمَّروا ثلاثين قرنا من الزمان في التاريخ الذي نعرف كونه لا يرحم الكائنات الضعيفة. فنحن تمكنا بأعجوبة من البقاء على قيد الحياة طيلة كل هذا الوقت، نقتات يوما بعد الآخر، في غالب الأحيان برغيف يابس أو “قرنينة حافية” فقط، دون أن نُشَيّدَ مدناً أو نخترع و نساهم بشيء يمكن أن تَشهدَ به لصالحنا الحضارةُ الإنسانية و العلمُ الحديث ، أو أن تُدَرّسَه للخلف.

لكننا من جهة أخرى، و رغم إفلاتنا من الزوال لم نتمكن أيضا من معالجة مشكلة التطور لا باشتراكية بومدين و لا بليبرالية الشاذلي و لا بفلسفة “قش بختة” لبوتفليقة، رغم تهاطل مليارات الدولارات علينا باستمرار و دون انقطاع منذ بداية حكمه حتى الأيام القليلة الماضية. اليوم ها نحن بدأنا نرتعش رعبا من ظهور أول علامات الجوع و الفقر التي تلوح في الأفق، و ها قد انتابنا التوجس من فكرة اقتراب اليوم الذي…

يبدو على ضوء هذا أن الله أحاطنا ببركته طيلة ثلاثة ألفيات، ثم أحل علينا بعد ذلك لعنته عند الاستقلال بأن وضع تحت أقدامنا كميات هائلة من المحروقات، اعتدنا على بيعها خاماً حتى جعل ذلك منا بلدا ريعيا و شعبا كسولا متواكلا نسي ما تَعَلَّمَهُ في السابق عن العمل و التكفل بالنفس. هل يجب أن نُذكّرَ بأن الفرنسيين هم من اكتشف النفط في بلادنا بدئا من أربعينيات القرن الماضي و وصولا إلى بداية استغلال حاسي مسعود في 1956؟ أم أن ذلك لا يهم أمام بديهية سيادة القدرة الإلهية على كل شيء؟

المدهش إذاً في كل هذا الأمر هو أننا لم ننقرض مثل الحضارات ما قبل الكولومبية أو الهنود الحمر، و هو ما يوافق عادةً سُنَّةَ التاريخ الذي لا يسمح ببقاء الضعفاء. لكننا أيضا و رغم ذلك لم نتمكن من الالتحاق بركب الأمم المتطورة مثلما يريدهُ عادةً منطق الاقتصاد عندما ننظر بعينه إلى الخيرات الهائلة المتوفرة لدينا. فلا أمواج طوفان التاريخ العاتية تمكنت من إغراقنا و ربما تخليصنا نهائيا من عناء قرون من المعيشة المُرَّة التي لم نستطع فعل شيئا إزائها؛ و لا نحن تمكنّا من الالتحاق بركب الأمم المتمكنة الجديرة لنستحق بذلك رضى شهدائنا و نضمن استمرار سلالتنا.

بقينا عالقين في مكان ما بين “الزلط” و “التفرعين”، بين الفقر و الثراء، و النجاح و الفشل، و الديمقراطية و الأصولية، تماما مثل حمار “بوريدان”، الذي عكسنا لم يعمر طويلا في وضعية التردد الذي انتابه و مات جوعا و عطشا وفقا لما تسير عليه قوانين الطبيعة. لا أعتقد أنه يوجد تفسير عقلاني منطقي، أو مبرر ميتافيزيقي للتشويش الذي يلتصق بجلدنا منذ قرون. لكني خلال بحثي في أعماق مخزون حكمتنا الشعبية عثرت على واحدة من المقولات الغريبة التي تبرز جيدا هذا التناقض الوجودي: “ماعندناش و ما يخصناش” (لا نملك شيئا و لا ينقصنا شيء). هل هذا معقول سيداتي سادتي؟

يمكن أن نفترض للوهلة الأولى أَنَّ حكمة كهذه تَشهَدُ على نوع من روح الزهد و التقوى عند أسلافنا الذين و إن لم يملكوا شيئا، فإنهم أكثر كبرياء من قارون و فرعون مجتمعين. قد يكون أوَّلُ من استعملها واحدٌ من أجدادنا “الموسطاش” الذي قد يكون ردَّ بها ساخطا على تعليق جارح مَسَّ حالته المادية البدائية، و ضَربَ بوقاحته الكبرياء الوطني في الصميم، فأصبح جوابه بعد ذلك منقوشا في ذاكرتنا الجماعية للأبد. لكننا عندما نتأمل فيها مرّات أُخَر نتساءل إن لم يكن لها معنى آخر، و إن لم تكن مجرد امتداد طبيعي لعبارة أتعس و أبغض منها هي ” المتسول المغرور”، و هو ما يُحَوّل العبارة من فضيلة تُسجل لصالحنا إلى مجرد عاهة أخرى تضاف إلى رصيد عيوبنا الاجتماعية الثري؛ مديحٌ آخر للامعقول يدعم رأسمال أفكارنا الخاطئة.

فالشعب الجزائري يَجُرُّ منذ آلاف السنين أفكارا خاطئة كانت السببَ في المآسي التي عرفها تاريخه، و في عدم تمكنه من تأسيس مجتمع حقيقي و دائم، كما تُفسرُ أيضا حالة الفقر المادي و المؤسساتي المدقع التي يوجد عليها اليوم. مخزونه يزخر بالعديد من العبارات الشعبية الأخرى التي تفوق الأولى غرابة، لكن الناس مع ذلك يؤمنون بها بكل ما أوتوا من قوة و يطبقونها في حياتهم اليومية، و هي التي تتحكم في تصرفاتهم مع بعضهم حتى الطبيعية و العفوية منها. كما تزخر لهجتنا العامية بكوارث فكرية مماثلة توارثناها أبا عن جد من حياة بدائية قَبَليّة قروية و فوضوية. و هذا ما سمح منذ قديم الزمان لأي مغامر أو “جحاً” ممن يعبرون سبيل تاريخنا أن يكتشفَ بسهولة هذه الثغرة العظيمة في نفسيتنا، و يتمكن بفضلها من أن يبني تسلطه و إمبراطوريته.

هل منَ المعقول أن نفتقر إلى كل شيء و ألّا نحتاج شيئا في الوقت ذاته؟ عقلانيا لا يمكن ذلك، لكن هذا لا ينطبق على الذهنية الجزائرية التي تهتم بإخفاء الحقيقة عندما تكون مهينة لها أكثرَ ممّا تهتم بالتفكير المنطقي. فالشَّكلُ في عقليتنا أهمُّ من المضمون، و الذاتيُ أَولى من الموضوعي. و حكام اليوم، الذين يتحملون كامل المسؤولية عن نتائج الأزمة التي تدق بابنا، يَتَمَنَّونَ في هذه الأوقات المحفوفة بالخطر أن تعود هذه العبارة للحياة بكل ما تحمله من روح الاستقالة و الاستسلام للقدر. لكن ما يجهلونه، فضلا عن أشياء أخرى كثيرة، هو أنها أصبحت اليوم سلاحا ذا حدين.

فهذه الحكمة الظرفية ظهرت في أوقات كان فيها الفقر محتوما على الجميع و التقشف إجباريا، لكنها منذ ذلك الزمان قد فقدت إطارها و أسبابها الاجتماعيين، و بالتالي مبرراتها النفسية و الأخلاقية. لا توجد أدنى فرصة لأن نرى الملايين من جزائريي اليوم، الشباب منهم و غير الشباب، و الذين تعودوا على أن تكفلهم العائلة أو الدولة يرددون مقولة كهذه ليسكتوا بها صراخ بطونهم المتضورة جوعا حين ستلقي الأزمة بأوزارها عليهم، . هؤلاء سيحتضنون مقولة معاكسة تماما، خصوصاً بعد ما عرفَتهُ العشريةُ الأخيرةُ من فضائح للرشوة في الدولة. سوف يرددون بكل سذاجة و حسن نية: “عندنا و يخصنا“، إذ هم يعتبرون أن حقهم من المحروقات اختُلسَ من قبل حكامهم الطائشين، و بالتالي أَنَّ ما يملكونه مهما كان سيبقى دائما ناقصا. و عندما يصل اليَوم الذي تَسحقُ فيه الأزمةُ القدرةَ الشرائية للعاملين و تجعل الحياة مستحيلة على البطالين و الفقراء فالأكيد أن هؤلاء لن يقنعوا بالوطنية و الخبز و الماء فقط. هذا اليوم قد اقترب الآن و لن يمكن لأحد أن يوقفه.

هناك أيضا سؤال آخر أصبح الكثير من الناس لا يخجل من طرحه نظرا لحالة المهانة و الإفلاس التي وصلت إليها البلاد: هل الشعب الجزائري موجود حقيقة أم لا؟ السؤال مشروعٌ فعلا طالما هو يبدو ميتا في أجزاء كبيرة من جسده و روحه. حتى بعد الاستفزازٌ الأخير الذي ظهر هذه الأيام ليتحدى عقلهم و شرفهم دون أن يحرك فيه ساكنا و هو إعلان تحول “الجيش الإسلامي للإنقاذ” إلى حزب سياسي شرعي يعد الجزائريين مرة أخرى “بالإنقاذ”.

طوال الزمن الذي كانت فيه الجزائر منحنيةً أمام مهانة الاستعمار الفرنسي، لم تكن الأناشيد الوطنية الرنانة المؤثرة مثل “من جبالنا طلع صوت الأحرار…” قد خلقت بعد. الجبال الشامخة كانت موجودة منذ ملايين السنين، و الأمازيغ كانوا يعيشون في سفحها منذ عشرات القرون لكنهم لم يكونوا قد ارتقوا بعد إلى مرتبة “الرجال الأحرار” (معنى كلمة أمازيغ). ظلَّ قَدَرُهم لوقت طويل أن يعيشوا تحت خزي الاستعمار و عاره مرارا و تكرارا، و لم تكن بَعدُ قد حانت ساعة ايقاظهم من الخضوع و الاستسلام الذي كانوا عليه، و الإلقاء بهم في تضحيات 8 ماي 1945 و 1 نوفمبر 1954 التي بفضلها استعادوا الحرية و الكرامة.

إذا كان على هذا الشعب أن يثبت مرة أخرى أنه لم يمت فسيُبرهنُ عن ذلك بانتفاضه ضد سياسة الإفلاس و الإذلال التي تُفرَضُ عليه بمزيد من التهور و الاحتقار كل يوم. و سيبرهن على هذا بإيجاد وسائل سلمية تنجح في التعبير عن رفضه النهائي و قطيعته الأبدية. ليس عليه هذه المرّة الانتقام من مستعمر أجنبي أو التخريب للمطالبة بخفض أسعار المواد الاستهلاكية، لكن أن يَقفَ لإعادة ترتيب البيت. بل لبناء البيت الذي استشهد هباءً في سبيله مئات الآلاف من الشهداء بين 1945 و 1962: “الدولة الديمقراطية الاجتماعية” التي قرَّرَها بيانُ أول نوفمبر، و التي ما أن جاء الاستقلالُ حتى مَنَعَ قيامَها مغامرون و محتالون اخترقوا القواعد الخلفية للثورة و ظلّوا في الكواليس يتربصون و يتآمرون.

لقد اقترب اليوم الذي… من رحم هذا الشعب المخدوع بالأوهام و الأكاذيب التي يُسقى بها منذ 5 جويلية 1962، سيولد 11 ديسمبر 1961 جديد. و سوف نسمع يومها نشيدا وطنيا جديدا يدوى عاليا و يعلن: “من صدورنا طلع صوت الأحرار…” ليحرر الجزائر من الشياطين و الفشل و المافيا السياسية المالية التي تحكم قبضتها عليها. ستعلن هذه الصرخة حينئذ عن ميلاد عهد جديد لها و لأجيال المستقبل، عهد لم تشهد مثله خلال الألفيات الثلاثة من تاريخها المعروف.

لا يجب لهذا اليوم الذي يقترب أن يكون موعدا للكارثة و الفوضى الانتحارية، بل لنهضة الأمة الجزائرية، ليس بمبادرة “جيش إنقاذ” إسلاميا كان أم علمانيا و الذي سيتحول لا محالة إلى زمرة حاكمة أو كهنوت ديني جديدين؛ بل انطلاقا من الإرادة الشاملة لجميع أبناء الوطن.

وراء كل حدث تاريخي عظيم في حياة شعوب العالم، و خلف كل ثورة سياسية أو علمية أو اقتصادية أو تكنولوجية فاصلة، نجد أن حجر الأساس هو دائما فكرةٌ جديدة، نظرةٌ مختلفة للعالم و طموح جماعي جديد. و قد بدأ اليومَ الكثيرُ من الجزائريين الذين كانوا لا يفرقون بين الولادة الديموغرافية و الولادة الاجتماعية، يتقبلون فكرة أن البشر يولدون “شعوبا” يمكنُ لها بعد المرور على مسار طويل و معقد من التربية المدنية أن تتحول إلى “مجتمعات”. عندما يتعمم هذا الإدراك في أذهان أجزاء كبيرة من الشعب، سيمكن لنا أن نفكر جماعيا و نردد معا: “ما عندناش و يخصنا“.

عندما سنقول ذلك لن نفكر في بطوننا، و إنّما سنفكر في تجميع و تحصيل المبادئ و التصرفات المدنية الضرورية لنصبح مجتمعا حقيقيا، و في تحقيق الإنجازات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي تنقصنا لنحقق ذلك. سوف نبدأ حينها بجمع الوسائل و الرجال و الأفكار اللازمة لبناء الأمة الجديدة، و لبناء “نحن” الذي سيعوض مجموعة “الأنا” التي نحن عليها اليوم.

يجب علينا أن نستعد ليوم التغيير، و أن نُحَضّرَ للمنعرج التاريخي، للثورة الأخلاقية و الفكرية و السياسية و الاجتماعية التي ستقودها الأجيال الجديدة بمساعدة البيولوجيا التي تنجز عملها بتجديد الأجيال. لا نزال نجهل إن سيكون هذا يوما مشئوما أم يوما سعيدا. لكن المؤكد أن العشريات و القرون التي ستتبعه سوف تُصنَعُ من المعدن الذي يأتي به. هذا بدوره مرتبطٌ بالأفكار التي ستصنع هذا اليوم: فإن هي كانت ذات طابع رجعي فإننا سنلتحق بالصومال و اليمن و أفغانستان و سوريا؛ أما إذا كانت ذات طابع واقعي و عقلاني و تقدمي فإننا سنسير على الطريق الذي سبقنا إليه إخوتنا التونسيون. إن كان لنا هذا كله فإننا سنكتب دستورا جديدا من أجل مستقبل جديد يحقق القطيعة الحقيقية مع قرون قابلية الاستعمار التي أدت إلى احتلالنا عديد المرات من عديد المستعمرين، و قادتنا إلى قابلية الإذلال التي وَضَعَت على رأسنا الجهلة و اللصوص.

يُمثلُ الدستورُ للشعب ما يمثلهُ القانونُ الأساسيُ للمؤسسة الاقتصادية. فمن هذا المنظار، المؤسسة الاقتصادية و المجتمع هيكلان متماثلان. كلاهما ينبثق عن مبادرة متفق عليها و عمل مشترك، و اتحاد لجهود جميع الأطراف من أجل هدف مشترك: أرباح توزع و أخرى يعاد استثمارها، إبداع، تجديد، تنافسية، نمو… دستور الدولة و قانون المؤسسة كلاهما يحدد حقوق و واجبات الشركاء (الشعب)، و يُعيّنُ هيئات التسيير (الحكومة، الرئاسة)، و يُفَصّلُ الصلاحيات المخولة لكل طرف، و يضع هيئات للمراقبة (البرلمان، المجلس الدستوري، مجلس محاسبة، مجلس دولة…)

مدير المؤسسة أو رئيس الجمهورية عندما يُعَيّن لا يمكنه أن يتجاوز حدود عهدته و صلاحياته ليحل محل الشركاء، أو أن يغير صلاحيات هيئات التسيير و المراقبة الأخرى من أجل مصالحه الخاصة أو ليبقى في منصبه إلى أن يموت، أو أن يتصرف في الأملاك المشتركة كملكية خاصة له. لكن هذا بالذات هو ما حدث مع مسيرينا السياسيين و الاقتصاديين منذ أول يوم من الاستقلال و يستمر في الحدوث، وسط تواطؤ و صمت الجميع.

في اليوم الذي سيستوعب فيه الجزائريون هذه الأفكار الأساسية و العالمية، سوف يدخلون في مسار تغيير واقعهم الذهني و السياسي و الاجتماعي و التاريخي. لكننا للأسف لا نعرف هذه الأفكار و لا نسمع بها إلا عند الآخرين، الأمريكان و الأوربيين خاصة. ما نعرفه نحن من أفكار عن التنظيم السياسي للمجموعة هو أنها ينبغي أن تخضع لقائد واحد فقط (“و إلّا ستغرق السفينة عندما يكثر رُّيَّاسها” كما يقول المثل). زعيم يمكن إن يكون صالحا فيخدم الله قبل كل شيء ثم الناس و البلد، و إن كان عكس ذلك فمصيره في الآخرة جهنم أين سيتكفل الله وحده بحسابه و ليس نحن.

هذا كل ما نملكه من الفلسفة السياسية. فلسفةٌ سطحيةٌ باليةٌ أكل عليها الدهر و شرب، نتوارثها عبر التقاليد عندنا و في باقي البلاد العربية-الأمازيغية-المسلمة، و ذلك منذ قبل مجيء الإسلام. أفكارٌ ترجع إلى تراكم قرون من الحكايات و الأساطير، و من وعظ ديني يخدم و يتماشى و يتلاقى مع مصالح أصحاب الحكم السياسي: الله يهيمن في السماء و الحاكم في الأرض. لا تهم الألقاب التي تطلق عليه:  أغليد، خليفة، شيخ، ملك، أمير، زعيم، رئيس أو …جحا، فكلها، عدا فوارق بسيطة، تتمتع بذات الصلاحيات و نفس السلطة المطلقة. عندما يُبايَعُ أحد هؤلاء فإن عهدته أبدية حتى يموت، و له علينا الطاعة الكاملة إلى أن يخلفه وريثه أو الذي ينقلب عليه أو يقتله. هذا هو الصرح الذهني و الثقافي الذي بُنيَ عليه الاستبداد في بلاد الأمازيغ-العرب-المسلمين، و لا يزال يستمر.

أفكار أخرى مختلفة عن هذه مثل “العقد الاجتماعي”، القانون الأساسي”، “عقد الشركاء”، “سلطة الشعب”، “حق الشعب الدستوري”، “الانتخاب”، “الديمقراطية”، “عدالة مستقلة يمكن أن تحاكم أخطاء المسيرين”، لا مكان لها في ثقافتنا، في لا شعورنا، في ماضينا و في تاريخنا. هل اقترب اليوم الذي ستأخذ فيه هذه الأفكار مكانها كضرورة حيوية، و تُسَجَّلَ ضمن أولويات مستقبلنا و مشاريعه؟

يجب علينا لنتحرر من هذا التصور الاجتماعي و السياسي و الفلسفي المستوحى من الجوهر الديني أن نغير كل شيء تقريبا فينا: الدستور الحالي، مناهج التعليم السارية المفعول، الخطاب السياسي العام، تفكير الشعب، “العلم” الديني و نظرة الإسلام للعالم. ففي هذا المجال أكثر من أي مجال آخر يتداخلُ الدين مع السياسة و يتشابكان بما لا يدع مجالا لعلاجهما على انفصال. و هذا ما يحتم علينا الانكباب على المهمتين في آن واحد: إصلاح الفكر الإسلامي أولا ثم الدفع بفكر جزائري حديث يتماشى مع مسيرة عالم اليوم. هذا ما أسعى شخصيا لتحقيقه منذ سنوات عدة.

عرفت الجزائر منذ استعادت سيادتها أربعة دساتير (1963، 1976، 1989، 1996)، لكن أحدا منها لم يولد من رحم إرادة الشعب، من استشارة نزيهة له أو من مجلس يمثله. جميعها صيغت في السر و كُتبت في الظلام. حتى الانتقالُ من أحدها إلى الآخر أو التعديلات التي مسّتها من حين لآخر جاءت نتيجة صراعات كواليس على السلطة، كما لم يكن هدفها تأسيس السيادة الشعبية، الحريات الأساسية، التسيير الديمقراطي و الشفاف للمؤسسات أو مراقبة التصرف في الثروات العمومية.

كذلك مع مرور الوقت، ساد خلط في الصلاحيات داخل مبدأين أساسيين في الدستور: “سلطة المدستر”، أو حق صناعة الدستور، و هي المهمة التي يتمتع بها الشعب وحده، و بين “حق المبادرة بتعديل الدستور” و التي يُفَوَّضُ لها رئيس الجمهورية. هذا الخلط المتعمد و المغرض الذي فرضَ نفسَهُ باطلاً سَهَّلَ من حدوث اختلاس الصلاحيات هذا، و مَكَّنَ من مصادرة حق سيادي يعود في الأصل و في القانون للشعب، لكنه رغم هذا لم يُمارسهُ و لو لدقيقة واحدة منذ الاستقلال. الآن اقترب اليومُ الذي يَجبُ فيه على الشعب أن يَستَعيدَ حقَّه.



03سبتمبر 2015
ترجمة: بوكروح وليد (بتصرف)

قصص الحمير

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة  :ساعي.عايدة (بتصرف)
يُعد أسلوب الحكايات الرمزية (Fable) من الأساليب الأدبية في الكتابة، وعرف هذا الفن في شكليه المدون والشفهي منذ العصور الغابرة، و رغم قدمه، إلا انه لم يندثر لأنه يقدم أسمى الدروس الأخلاقية الفلسفية والسياسية في لغة بسيطة واضحة و مسلية. و من بين من أثروا هذا الفن برسائلهم النبيلة نذكر الإغريقي ايزوب  ( (Esopeالأمازيغي ابيلي دو مادور((Apulée de Madaure، ابن المقفع (الذي تذكر بعض الروايات أن استعماله لهذا الأسلوب كان احد أسباب مقتله) و جين دي لافونتين  Jean de la Fontaine. و مما قاله هذا الأخير: ” استعين بالحيوانات لتعليم البشر”، و هذا صحيح، فالحكايات الرمزية يمكن أن تربي الشعوب و الحكام بشرط أن يرغبوا هم في ذلك، لان هناك منهم من يعتبر أن لا حاجة له: لا للحكايات الرمزية و لا للتربية.
عندما كانت حرية التفكير متاحة في ارض الإسلام، حرر ابن الطفيل ( القرن 12 عشر ميلادي) أول رواية فلسفية وهي قصة “حي بن يقظان”، و التي يحكي فيها قصة طفل تم التخلي عنه عند ولادته في جزيرة خالية لتنقذه غزالة، ومن خلال سرد أحداث الرواية يصل الكاتب إلى فكرة إمكانية معرفة الإله باستعمال القدرات العقلية وحدها، و بدون تدخل أي ديانة، أو وساطة أي نبي أو وصاية أي عالم. لم يحل ابن الطفيل حينها إلى المحاكمة  و لم يصدر أحد نحوه أي فتوى تبيح قتله .أما أول رواية نثرية فقد أصدرها الجزائري ، ابيلي دو مادور (في القرن الثاني ميلادي) كان عنوانها “الحمار الذهبي” و بطله رجل اسمه لوكيوس، مسخ بحيلة سحرية إلى حمار ليجد نفسه في مغامرات عجيبة.
و بمناسبة حديثنا عن الأحمرة، فلنبدأ بقصة جحا و حماره. هذه الشخصية الخرافية التي تقدم أحيانا في شخص حكيم أو محتال، وفي أخرى في شخص أحمق غبي، على حسب القيمة المراد استنباطها من قصصه. تروي الحكاية  أنه كان يتعين عليه  سفر برفقة زوجته و حماره في رحلة طويلة، يعبر خلالها بمناطق يسكنها أناس بذهنيات مختلفة. في وقفته الأولى، حين كان يمشي هو و زوجته سيرا على الأقدام، صادف رجلا ظريفا لم يتوانى عن إبداء ملاحظته له :” لماذا تجبر، يا صديقي العزيز، زوجتك على المشي وأنت تمتلك حمارا؟” خجل جحا من نفسه وعمل بنصيحة الرجل، لكن الوضع لم يستمر طويلا فقد وجد في محطته التالية عجوزا بشارب مفتول (موسطاش) قذفه بكلماته متذمرا:” منذ متى تركب المرأة ‘حشاك’ على ظهر الحمار في حين يمشي الرجل على قدميه؟ أتعلم، لم يحدث هذا من قبل !” انصاع جحا لرأي العجوز وأمر زوجته بالترجل ليحل محلها.
في مدخل قرية مجاورة لم يكن يعلم المسكين أن هناك من لن يرضيه هذا المنظر، فبمجرد ما رأت امرأة من أنصار الحركات النسوية  موكب جحا أقامت الدنيا على رأسه و لم تقعدها قائلة:”أيها المهووس. تعتقد نفسك ذلك الثري العظيم و تتبختر على حمارك الصغير، في الوقت الذي تكابد فيه رفيقتك عناء المشي…” قفز جحا من فوق حماره و هو يضرب رأسه بيديه محتارا فيما عليه فعله ليتجنب هذه الملاحظات اللاذعة.
قرر إذن أن يركب هو و زوجته ظهر الحمار، معتقدا انه وصل للحل الأمثل، لكن اعتقاده فنده لقاء رائد جمعية الرفق بالحيوان الذي بادره قائلا :”ألا تشفق على هذا الحيوان لتركب أنت و مرافقتك، كلاكما عليه؟” استاء بطلنا من موقفه معتقدا انه اخطأ مرة أخرى. فرفع الحمار على كتفيه مواصلا سيره تتبعهما زوجته.لكن مصيرا ساخرا كان في انتظاره، فقد علق عليه احد الماكرين من وراء حاجز من القصب:” أيها الأحمق، هل تحمل الحمار في حين عليه هو أن يحملك؟ من “الداب” أنت أم هو؟”… في النهاية لا نعلم بالضبط ماذا فعل جحا هل انتحر؟ هل شق عباب البحر كـ”حراق”، هل واصل مسيرته ماشيا أم عاد أدراجه…وكائنا ما كان قراره.. فالحكمة من قصته هي أننا سنتعرض للنقد مهما فعلنا، و لو أصغينا إلى الغير فلن نفعل أي شيء.
الشعوب العربية التي قامت بثوراتها، تعيش تماما وضع جحا.عندما كانت ترزح تحت نير رق الاستبداد، قيل عنها في احتقار أن لا قيمة لها و لهذا استحقت المصير الذي تعيشه.و عندما انتفضت و هي تهدد استقرار أوطانها للتخلص من الاستبداد، وصفت بأنها إما كانت مسيرة و بالتالي فهي كالحمير لا تفقه شيئا، أو أنها خائنة. و عندما صوتت بحرية، و لأول مرة، اتهمت أنها لم تنحى في الوجهة الصحيحة المتمثلة الديمقراطية بل اتجهت إلى الخيار الخاطئ و هو الإسلاموية.
هذا الوضع يطرح أسئلة حقيقية لكنها لا تجد إلا الأجوبة الخطأ: هل كان على الشعوب أن تثور و تراق دماؤها كي يأتي رجال مهيؤون سلفا لقطف ثمار ثورتهم؟ ألا يكونون وطنيين و أذكياء إلا إذا قبلوا بان يحكمهم ديكتاتور، أو جاهل أو فرد من عائلة مالكة جشعة؟ هل كان يجب أن يبقى كل من بن علي، مبارك، القذافي و صالح في الحكم حتى لا تحدث المآسي التي شهدتها بلدانهم؟ هل توجب أن لا يتغير شيء في المغرب و المشرق حتى لا تنجح نظرية المؤامرة كما هو الحال الآن ؟ هل كان على الشعوب تحمل نزوات حكامهم عل مضض كي لا يقلقوا منام الآخرين و راحتهم؟ هذا أكيد ما كان يتمناه كل من بن علي، مبارك، القذافي و صالح عندما أصروا على البقاء في السلطة، و هذا ما لا يزال يرجوه بشار بموقفه المتصلب. لم يجرؤ هؤلاء الظلمة أن يقولوا لشعوبهم:” سنقوم بالتغيير دون أن ندمر بلداننا، دون أن نتقاتل فيما بيننا، دون أن نسمح للأجنبي بالتدخل”، بل كان خطابهم على العكس تماما:”نحن و بعدنا الطوفان، نحن أو بحر الدماء، نحن أو الحرب الأهلية، نحن أو تقسيم البلد….”
لا يذعن السيئ من تلقاء نفسه عندما يرى طريق الأفضل، بل يغلق على الفور المنافذ الموصلة إليه حتى لا يترك المجال مفتوحا سوى للأسوء.الشعوب التي انتفضت، لم يكن لديها حلول بديلة قريبة –الأفضل- لقد غامرت باختيار الأسوء لاعتقادها انه لن يكون أكثر مما قاسته.لم يكن لديها خيار، فإما أن لا تفعل شيئا ، أو أن تقوم بما قامت به. بما أن الأفضل غاب عن الأذهان و الاسوء وصل الذروة ولم يعد يحتمل فلم يكن هناك مفر من الثورة. لأننا عندما نصل إلى النهاية، نخوض في الأسوء حتى و إن لم نحضر الأفضل بعده، حتى و ان جهلنا ما قد يحمله لنا الغد. وكما يقول المثل:”لا يمككنا عمل العجة دون ان نكسرالبيض”.مكابرة القذافي هي التي أجبرت الليبيين لخوض غمار الحرب الأهلية و من بعدها تدخل الأجنبي.هم لم يقبلوا بالعودة إلى نقطة الصفر، إلا لأملهم في صناعة الأفضل يوما.
مات حمار بوريدان جوعا و عطشا لأنه كان محتارا بما يبدأ، الماء او الكلأ.المستبدين العرب أرادوا الإغلاق على شعوبهم فيما عرف منذ هذه التراجيديا الحمارية بـ”مفارقة حمار بوريدان”:تجميدهم في الاستسلام و الرضا بالاسوء لمنعهم في الفصل بين بديلين الأفضل و الاسوء.
كان جين بوريدان (Jean Buridan) ، الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في القرن الرابع عشر، كعلمائنا المسلمين،لا يؤمن بحرية الإنسان و لا بالإرادة الحرة .في الوقت الذي اثبت الحمار الذي بقي اسمه مرتبطا به انه يمكننا الموت إن لم نقرر، إن لم نختر، و إن لم نجازف وهذا ما فهمته الشعوب. اتخذت الثورات العربية مخرجا لها في الإسلاموية. لكن هل أعطى المستبدون للتيار غير الإسلامي المناخ كي يؤسس نفسه، و للقوى السياسية الديمقراطية التي لم تزل في مرحلتها الجنينية الفرصة لتنتظم؟. الجواب لا، كانوا هم أو الفوضى، فكان رد الشعوب :”فلتحيا الفوضى”.
على الشعوب التي قامت بثوراتها أن تثبت أنها أمم، مجتمعات و دول جديرة بهذه الأسماء.و بعيدا عن السياسة و الانتخابات، ما يهم هو ضمير الشعوب، التركيبة البيولوجية للأمم، نتائج تجربة ” القابلية للاستمرار” التي وضعت إزائها عندما ادعت هذه الخصائص.لا  يفضل قول ذلك، لكن العديد من الدول التي تحررت من الاستعمار كانت دولا مزيفة. “دولة، امة، وطن..”لقب لا يقدم كهدية و لا يرتجل بسرعة، بل يبنى ويصان باستمرار.التاريخ أعطى للكثيرين الفرصة كي يصبحوا مجتمعات، اقتصاديات و دول، لكنهم لم يعوا ذلك جيدا.بلد ك” مالي” تم تقسيمه إلى اثنان من طرف بعض المئات من المقاتلين في ظرف 72 ساعة.هل هذا معقول؟ ليبيا حصلت على استقلالها بتدخل من الأمم المتحدة سنة 1949.القذافي أركعها و سرق خيراتها ثم تركها على حالتها العشائرية كما كانت سنة 1949.هل يعقل هذا أيضا؟
عرف تاريخ العالم العربي اضطرابات عظيمة، قادتها تحركات تلقائية كان يمكن أن تذهب به في الاتجاه السليم أو الخاطئ. في بصيص الضوء الخافت حيث نحن من المستعجل بل من الضروري أن نتكلم، أن نصرخ، أن نكتب لنوجه من هم في الظلام، من اختطفتهم هذه التحركات التي قد تفقد صوابها، على أمل أن نعيدهم إلى الاتجاه الصحيح في مسيرة التاريخ. التحرك العفوي الذي ينبع من ذاته،  يمكنه أن يتقدم إلى الأمام كما يمكن أن يتراجع إلى الخلف. إذا كانت هناك نخب فعلية في هذه البلدان فعلى دورها أن يبرز الآن و ليس لاحقا،عليها أن تظهر، أن تعبر، أن تشرح و تفسر قبل فوات الأوان، مثلما تفلت الدابة عن أي سيطرة، عندما يتم إسكاتهم، سحقهم آو نفيهم إجباريا. وكما يقول كهنة المسيحيين عند الإعلان عن سر الزواج المقدس :”من لديه شيء ليقوله، فليتفضل الآن أو ليخرس للآبد”.
ماذا يمكن أن تفعل ونحن مربوطين بخيط، خيط البترول ؟ إذن لا داعي للضحك على الآخرين :الأفغان، الصوماليين، الليبين، الماليين، و لا لان نعتقد أننا أكثر ذكاءا منهم بالنظر إلى انجازاتنا في مجال الاقتصاد و الإرهاب، ولنعد لحميرنا.
كتب الشاعر الفرنسي فرنسيس جايمس (القرن التاسع عشر) إشادة حقيقية افتخارا بحمار، كانت تدرس لنا في المدارس قبل تعريبها :” أحب الحمار الهادئ الذي يمشي بمحاذاة الحشائش القصيرة…”الحزب الديمقراطي الأمريكي  كرم الحمار و جعل منه رمزا بالرغم من عيوبه :العناد و النهيق، هو أول من يتقاسم مع الإنسان حمله. في موروثنا اللغوي عندما نريد أن نعبر لشخص كم يضيع من الوقت و هو يحاول أن يخضع  شخصا ذا روح مراوغة نقول له:” أنت تدفع حمارا ميتا” .الحمار هادئ مسالم ومحبوب إذا لم يفتح فمه بالنهيق، و لهذا ربما قلل من شانه القران .هو يتقاسم ضعفه هذا مع رجال السياسة في العالم كله الذين و إن لم ينهقوا، إلا أنهم غالبا ما يطلقون حماريات أكثر إزعاجا من صيحاته المثيرة للشفقة ” إي-اون”.
مات القذافي،”ملك ملوك إفريقيا” كما كان يحب أن ينادى، كأنه” الأسد العجوز” للافانتوين.حسب هذه الأسطورة الأسد الملك تقدم به السن، و ضعف لدرجة أن رعاياه القدامى أصبحوا يتلذذون بالانتقام منه  احدهم بعضة ،و الآخر بخدشة، و ثالث بلدغة، أو بنطحة.لما جاء الدور على الحمار ليرفسه،  حشرج الأسد قائلا:”آه .هذا كثير:كنت أتمنى الموت، لكن أفضل أن أموت مرتين على أن أعيش معاناة إصاباتك”.من هذه الأسطورة تولدت مقولة “أعطي ركلة الحمار” للتعبير عن فكرة انه عند سقوط الملوك، أول من سيسارع للإجهاز عليهم هم خدمهم القدامى.
لو لم يضيع القذافي وقته في كتابة الحماريات التي تضمنها “كتابه الأخضر” و تكرم بتخصيص سويعات من سنواته الإحدى و الأربعين في الحكم لقراءة  الأساطير التي هذبت الخلفاء في زمن ابن المقفع و الملوك الحقيقيين في زمن لافونتين، لربما لم يلقى النهاية التي لاقاها: محاكمة على الملأ، أمام منفذ للمجاري حيث تطارد الفئران.ولو قرأ”الأسد و الفأر”، والتي كأنها أسطورة كتبت لأجله من طرف المؤلف الفرنسي، لكان ربما لا يزال على قيد الحياة (و إن كانت الأعمار بيد الله).
الحكاية الرمزية التي بدأت بالكلمات التالية:”لابد، وقدر ما نستطيع،أن نخدم الجميع: نحن غالبا في حاجة لمن هو اقل منا” ،عالجت فكرة انه بعد الخدمة التي قدمها الأسد لفأر ضعيف في محنته،جاء اليوم الذي كان الأسد محجوزا في شبكة لم تنفعه معها لا أنيابه و لا زمجرته لينقد هذا المسمى ‘فأرا’ حياته في آخر لحظة.لو كان القائد الليبي صاحب فضل على مواطنيه (بان قدم لهم الخير)، لما انتفضوا ضده.و لتوفي على سريره”معززا مكرما”، و لدفن في ضريح بدلا من قبر مجهول في الصحراء.
بالرغم من العبر التي تحملها هذه النهاية المأساوية إلا أن هناك من لم يقرأ الدرس بعد، و على ذكر الدروس و التعليم ستداعب ذاكرتنا رواية حمار الحكيم بل شك، فعندما نقلب تلك الحماريات في بداياتها تجذبنا لقطاتها الأولى عندما ابتاع توفيق الحكيم جحشه الصغير واسكنه غرفة الفندق التي كان يقيم فيها ،ما فتئ هذا الأخير أن يعتبر نفسه من أهل الدار و بدأ يتجول بين أرجاء الفندق يدخل غرفه دون سابق استئذان…
ترى هل قرأ بشار الأسد بداية رواية توفيق الحكيم دون أن يتمها .ربما… لأن روسيا بوتين أصبحت صاحبة الدار بل الديار سماء مفتوحة و أرض مستباحة و دم مهدور..مع الفرق في كون توفيق الحكيم نسي باب غرفته مفتوحا بينما الأسد لم يفتح مجاله الجوي عن نسيان.. و إن كنا نعلم أن توفيق الحكيم هو من اشترى الحمار و بثلاثين قرشا فإننا لا نعرف تفاصيل صفقة “سوريا- روسيا”..فضلا عن أن حمار الحكيم كان فيلسوفا في حين أن الثاني..؟؟، أهدى توفيق الحكيم حماره هذه الكلمات في روايته: ” إلى صديقي الذي ولد و مات و ما كلمني لكنه..علمني..”، ماذا سيتعلم الأسد يا ترى و ماذا سنتعلم نحن معه ؟ أم أن الزمان لن يجيب نداء الحمار الفيلسوف: “متى تنصف أيها الزمان فأركب فأنا جاهل بسيط أما صاحبي فجاهل مركب”..
لا نعلم بالضبط في أي فترة تم إنشاء نقطة العبور على الحدود بين المغرب و الجزائر التي أطلق عليها اسم”زوج بغال”(بغلين اثنين).إذا بحثنا عن أصل هذه التسمية سنجد على الأرجح اثر الروح المسيطرة الموجودة في ذهنية البلدين: العناد و المكابرة. من العبارات المعروفة و الدارجة في المغرب العربي” حمارنا أفضل من بغلكم”. قد يكون تمكن احد الحكماء من الوصول إلى توافق بين البلدين الجارين حول تسمية نقطة العبور هذه وحقق التعادل بينهما. حاليا، الحدود مغلقة من جديد بسبب الأزمة الصحراوية و التي لم يسمح التصلب في الرأي للطرفين بحلها منذ أربعين سنة.في هذه القضية، و يؤسفني أن أنوه إلى أن المغرب حصل على الغنيمة المثمرة في حين حصلنا نحن السراب، هذا الأخير الذي كان مكلفا لنا .لا بأس “ماعليش”،المبادئ لا تقدر بثمن، سنعزي أنفسنا بان نردد “تاغنانت ، تخسارت”.


صدر المقال في لوسوار دالجيري: 15 أفريل 2012

ماذا يخفي لنا المستقبل ؟

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: ساعي عايــدة
” كما تعتمد كل حضارة في تنظيمها الاجتماعي و الاقتصادي على الرؤية للعالم التي تهيمن بين أفرادها، تُعتبر التغييراتُ في تصورات العالم الأحداثَ الأكثر أهمية في التاريخ الإنساني” جين ستون Jean Staune (“مفاتيح المستقبل”« Les clefs du futur »).
توارثنا مجموعة كبيرة من التقاليد و المأثورات المروية شفهيا بواسطة لغة أصلية  و هي الأمازيغية اللغة التي كادت تندثر لعدم تدوينها، و اللغة العربية التي قُزّمت طويلا لحاجات دينية محضة، و لغة أجنبية منبوذة و هي الفرنسية لارتباطها بذكريات سيئة.
لا يقرأ الجزائريون الكتب إلا قليلا : نادرا بالأمازيغية لأنهم لا يتقنونها، و بنسبة قليلة باللغة الفرنسية، أما باللغة العربية فتشهد الكتب الدينية مقرؤية متزايدة. فهل يمكننا، بهذه الخصائص أن نصبوا إلى مكانة مرموقة بين مجتمعات العلم و المعرفة مستقبلا؟
نحن لا نولي أهمية كبيرة للعلوم و المعارف الموجودة بين ثنايا الكتب. يهتم أغلبنا بالمسائل الدينية و كأن الإسلام لم يُوحَى به إلا منذ زمن قريب، وكأن الرسول (ص) لم يمتُ إلا حديثا، وكأن يوم الحساب سيكون غدا.” و بالنسبة لنا ليس ما يهمنا هو المستقبل، التاريخ، تحقيق الأهداف الأرضية أو الكونية التي خُلق من أجلها البشر، بل” المُستقر الأخير” الذي سنرتحل إليه عما قريب لنعيش فيه حياة أبدية سعيدة.
لم يبق سوى المسلمين من لا يزالون يحملون هذه النظرة القاصرة للأشياء، والأسوء من ذلك أن يموتوا أو يُقتلوا من أجل أفكار خاطئة لا زالوا يعتقدونها صحيحة. ما الفرق بين فكرة مجنونة و فكرة خاطئة ؟ ألا يعتقد المجانين فيما بينهم أنهم عقلاء ؟و مع ذلك، هل لنا أن نعتبر أنفسنا” خير أمة أخرجت للناس”؟
يخبرنا العلم القديم وهو يربت على أكتافنا و يخذر ضمائرنا أنه لا يوجد مخلوقات على الأرض إلا و الله يتكفل بحاجاتها، “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا “(هود6) ،الفكرة التي قدمها لنا منذ أربعة عشر قرنا كضمانٍ لنا حتى لا نقلق على معيشتنا في حين يتحدث سياق الآية عن السلسلة الغذائية. فقد خصصت الطبيعة لكل جسم حي ليس الغذاء الأنسب له فقط، بل و المتصل بكائن حي آخر حتى تستمر دورة الحياة كما هي عليها. هذه الكائنات الحية مقسمة إلى “منتجين” أي النباتات،”مستهلكين” أي آكلات الأعشاب و آكلات اللحوم و “محللين” أي البيكتيريا و الفطريات. ضمن أي صنف يمكن أن نضع أنفسنا يا ترى؟
نخدع أنفسنا بالدين، معتقدين بدون وجه حق أننا لم نُخلق إلا لعبادة الله. و هذا ما تردد فعلا مرار في القرآن الكريم، و الذي لا يكمن المشكل فيه إطلاقا بل في التأويلات التي استُنبِطت منه في حقبة لم يكن هناك أي مجال لاستنباط غيرها.عبادة الله من خلال ممارسة مجموعة شعائر أمر مفهوم، فضلا عن كونه مفيد للإنسان أكثر منه لله، لكن الأفضل أن يُعبد و يُتقرب منه أيضا بأداء الواجبات التاريخية و الكونية التي وُجدنا لأجلها.أليس لأننا نحمل علما مهجورا وجدنا أنفسنا في الاتجاه المعاكس لتطور البشرية ؟
يصدمنا التدمير الذاتي للعديد من البلدان الإسلامية و الذي لا نجد له تفسيرا، ترعبنا حمامات الدماء العبثية التي تسيل في كل مكان، تصم أذاننا الإنفجارات التي دمرت مدينة  تدمر (Palmyre)، تدميرٌ ليس له نظير رغم ما توالى عليها من أحداث و مع كل جنون بشري عرفته منذ نشأتها، منذ توسعها و تجميلها على التوالي من طرف اليهود أولا (سليمان حسب التوراة)، ثم الإغريق، فالعرب الذين احتلوها بعد وفاة الرسول (ص) بسنتين (بقيادة خالد بن الوليد)، كل هؤلاء لم يلمسوا أيّا من آثار المدينة الساحرة بل أضافوا لها مباني عظيمة  كالقصور و شبكة السير و المؤسسات  التجارية، حتى تامرلان  (Tamerlan)الذي سلب ثرواتها سنة 1401 حافظ على إرثها المعماري.
يحث القرآنُ الإنسانَ “خليفة الله في الأرض” على بناء الحضارات، على غزو الفضاء، على حماية الطبيعة، لكن العلم الديني يذكرنا بكل هذا في إشارة خفيفة عابرة بـ:”وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا “. هناك فرق كبير بين أن تقول لأحدهم “إفعل هذا” و أن تقول له “لا تنس أن تفعل هذا”، فالعبارة الأولى بقوتها تستهدف شيئا أساسيا فيما تشير الثانية إلى أمر ثانوي.
كيف سيكون وضعنا في مواجهة الاكتشافات المستقبلية التي تكاد تبتلع في أجزاء كاملة كل إدراكاتنا الذهنية و تغمر العديد من معتقداتنا؟ ماذا سنفعل و نحن نراها تغرق الواحدة تلو الأخرى كقطع الجليد المتساقطة تحت تأثير التغييرات المناخية؟ يعرف العالم ثورات ابستمولوجية، علمية و تكنولوجية لم يسبق لها مثيل في غفلة منا، فنحن نكتفي فقط بإيجاد منتجاتها لاحقا في السوق لنقتنيها بمال البترول.
ستتغير ظروف الحياة البشرية خلال هذا القرن، وتتجاوز كل ما كنا نعرفه أو نفعله، سيسير كل شيء بوتيرة سريعة جدا، هذه التحولات ليست عبارة عن تنبؤات فقط، لقد تم التفكير فيها وتجريبها فعلا، و لن تتـأخر في أن تستخدم. ماذا سنفعل نحن في هذا العالم الجديد مع ذهنياتنا التي تقاوم كل إعادة نظر في تصوراتنا للكون، للإله، للآخرين و لسبب وجودنا فوق الأرض و التي ترسخت منذ أمد بعيد؟
نحن نتلقى هذه التغييرات السريعة بصفة المستهلك ليس إلاّ، دون أن تتزعزع قناعاتنا أو تهتز نظرتنا البالية للأشياء، نتلقى كل ما يَرِدنا دون أن نتحدث عنه أو نفكر فيه. نكتفي فقط بالحصول على الترميز الضروري الذي يسمح بتشغيله و الإفادة منه. و ما هذا إلا تدريب و تعليم يفرضه السوق و التقليد، و ليست الأفكار، ثم يستغله الجميع، إلى أن تأتي تقنية جديدة، آخر صيحة أو ما يُعتقد أنه الأفضل الذي سيعوض سابقه.عندما نصل إلى مرحلة لا نجد معها ما ندفع ثمن المعروض، سيلفظنا العالم و يلقي بنا في أقبيته مع جملة الشعوب تحت التصنيف.
أحضر لي من باريس الصديق يوسف مسعودان، وهو باحث مستقل، انشغل بنقاط الإلتقاء بين العلم و الميتافيزيقيا، وناقش علماء معتمدين في الفيزياء النظرية، علم الفلك و البيولوجيا، آخر كتاب لصديقه فيلسوف العلوم الفرنسي جين ستون “مفاتيح المستقبل : فلنبتكر معا مجتمع، إقتصاد وعلم الغد”( Jean Staune, « Les clés du futur, réinventer ensemble la société, l’économie et la science ».) و هي دراسة و بحث من سبعمائة صفحة طبعته منشورات بلون  Plon بمقدمة لجاك أتالي Jacques Attali ،و لقد أبهرني هذا المؤلَف، كما قدم لي كتابا آخر تحت عنوان” العلم و البحث عن المعنى”(« Science et quête de sens » ) أهداه لي الكاتب بعد مكالمة هاتفية معه.
ربط يوسف علاقة صداقة مع ستون الفيلسوف، الرياضي، الأنتروبولوجي (علم الأناسة)، المتخصص في الإعلام الآلي و البروفيسور في إدارة الأعمال من مجمع الدراسات التجارية العليا، منذ أن ذهب إلى باريس حيث حمل له اعتراضا مبنيا على بعض المفاهيم البيولوجية و الأنثروبولوجية التي لها علاقة بالمواضيع التي عالجها كتابه. اقتنع يوسف أن البحوث المستخلصة من دراساته و رؤيته غير المألوفة يمكن أن تساعد على دفع النظريات الحالية في علوم الكونيات و الفيزياء و الميكانيكا الكمية و البيولوجيا إلى الأمام. الغريب في الأمر أن هذه “الإعتراضات” التي تهدف لتحقيق هذا التقدم، لو أخذت بعين الإعتبار من طرف المجمع العلمي الدولي، يُنظر إليها بجدية من طرف علماء أصليين و أكاديميين وهم ستون، فانوشي (François Vanucci) و غيرهم.
لم يكن ليلفت انتباههم إن لم يدهشهم بمعارفه الرائعة مع أنه تلقى دراسات قاعدية و مارس حياة عملية في مجال الفنون المطبخية، لكن هذه العصامية التي جعلته في مصاف أساتذة جامعيين و مؤلفين معروفين في مجال اختصاصهم، هي التي خولته لربط صداقات معهم بل و دعوتهم لإلقاء محاضرات  في الجزائر.
في سنة 2012، كان علماء الفيزياء في جميع أنحاء العالم مقتنعين بأن عائلة النيوترونات Neutrinos كاملة مع ثلاثة أنواع: الإلكترون، الميوني Muonique و التاوي  Tauique.أصر يوسف مسعودان في مبادلاته مع البروفيسور فانوشي على إحتمال وجود نوع رابع. في سنة 2013 وصلته رسالة من هذا الأخير كتب له فيها:” يجري الحديث عن نيوترونات جديدة تسمى” غير المخصبة” و لها وزن أهم من الثلاثة المعروفة و قد تشكل إحداها المادة الناقصة في الكون”… و إذا كان مسعودان قد كسب الرهان في هذه النقطة، إلا أنه لا يزال ينتظر اكتشافا آخر: و هو أن ازدواجية الأمواج و الجسيمات غير موجودة، بل لابد من الحديث عن ” تكاملية “…لا ينتظر أن يرتد إليه طرفه حتى يرى أبحاثا و اكتشافات جديدة تصادق على يقينياته الحدسية.
قدّمنا أحد أعمال الدكتور ستون متعدد التخصصات و الذي يحوي رصيده كتابا آخر من أكثر الكتب مبيعا أيضا صدر سنة 2007 ” هل لوجودنا معناً؟”« Notre existence a-t-elle un sens ? ».. ذكرني كتابه الأخير” مفاتيح المستقبل” بكتاب الأمريكي الفان تفلر Alvin Toffler  الذي صدر سنة 1970 تحت عنوان” صدمة المستقبل”« Le choc du futur » ، و الذي كان له صدًى عالميا، و قد خصص له مالك بن نبي على ما أذكر جلسات عديدة في حلقاته.
بادر جين ستون عملا ضخما عرض من خلاله هذه الحوصلة للإكتشافات الحديثة، و التحديثات التكنولوجيّة حتى لتلك التي مازالت قيد الإنجاز لعرضها على شريحة واسعة من الجمهور بلغة واضحة بهدف بسطها على عالم الغد الذي ستعيشه البشرية. و أنا أقلب صفحات الكتاب أخذ سؤال حياتي يكبر تدريجيا بداخلي : كيف سنصير نحن الجزائريون في عالم يقترب إلينا في الزمن لكن نبتعد عنه بسنوات ضوئية بسبب أفكارنا الحالية، ذهنياتنا البالية، بمردوديتنا الضعيفة في كل مجالات الدراسة و الأعمال، بمراتبنا المتأخرة في جل المجالات؟ لأني دائما ما أُسقط الأمور على حالتنا، على مستوانا و على واقعنا، لدي انطباع أننا على أعتاب لحظات في التاريخ الإنساني شبيهة في انعكاساتها  بتلك التي فصلت الإنسان عن القردة (بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بالإنتقاء الطبيعي).
يخبرنا “مفاتيح المستقبل” أن العالم الجديد سيكون منتوج شركات عالمية تنشط في مجال تكنولوجيا الإعلام و الإتصال، مثل غوغل الذي يتلقى 3.5 مليار طلب يوميا، و فايسبوك الذي يمتلك مليار شخص حسابا فيه، و آبل أكبر شركة بورصة مالية في العالم و التي تمتلك رصيدا ماليا يفوق رصيد الولايات المتحدة الأمريكية، و التي يمكن أن نضيف إليها منظمات عمومية كوكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية DARPA. تحتل هذه المنظمة و غوغل القمة على المستوى الدولي في مجال البحث و الذكاء الإصطناعي.
لقد غير الإنترنيت حياتنا فعلا، علاقاتنا، أفكارنا، مشاعرنا، تنظيم أوقاتنا و ميزانيتنا.، لقد ساهم أيضا في قلب أنظمة حكم سياسية، فأنقذ شعوبا من الإستبداد و ألقى بأخرى في حرب أهلية أو سلمها للهمجية. سيسمح لنا مستقبلا بأشياء أسطورية أخرى، كأن نصنع في بيوتنا أشياءا بفضل تقنيات جديدة كالطابعة ثلاثية الأبعاد. طابعات بعدة أمتار في الطول يمكن أن تنسخ حلقات من 125 غرام و يمكن أن ترفع مركبات تزن الطن، تركيب أعضاء بشرية و أيضا منازل خلال أربع و عشرين ساعة بمزج الإسمنت و بقايا البناء مرسكلة… كل شخص سيتمكن من صنع ما يريد لحاجاته من منزله.
و يشير الكاتب إلى أن مجموعة من المهندسين الجزائريين نجحوا في صناعة لَبناتٍ باستعمال رمال الصحراء التي كانت تُعتبر غير صالحة لهذا الإستعمال، فدوّن التالي:” تصوروا قوة جمع لبنات مصنوعة من رمال الصحراء بطابعة عملاقة ثلاثية الأبعاد قادرة على بناء مسكن” و يزودنا بعنوان الكتروني للإلتحاق بأبناء بلدنا هؤلاء: www.greenprophet.com/2013/04 .هل سمع أيّ منا بهذا الإبتكار و الذي سيخفض سعر السكن في بلدنا؟ و هل سيهتم أحدهم سواء مؤسسات عمومية أو شركات بالموضوع ؟
منذ الآن و إلى غاية عشرين أو ثلاثين سنة، كما أعلن ستون، استعمال الرجال الآليين في الإنتاج الصناعي سيكون سببا في زوال 150 إلى 200 مليون منصب شغل خاصة في البلدان البارزة التي قامت بالعديد من عمليات تحويل النشاط لتخفيض التكلفة خلال العشريات الأخيرة. ستُعاد المصانع إلى أراضيها و اليد العاملة غير المكلفة سيتم استبدالها بالآليات التي ستكون سببا في اندثار العديد من المهن:” لابد من استيعاب فكرة بسيطة: كل ما يمكن أن يكون آليا سيصبح آليا. السؤال الكبير إذن: ما الذي لا يمكن أن يكون آليا؟ هل سيكون سائقو السيارات في منأى من هذا التطور؟على الأرجح لا.على الأقل في المدن الكبرى، فاحتمال أن تظهر سيارات بدون سائق كتلك التي يعمل غوغل على تجريبها حاليا .السكريترات؟ لقد بدأت تختفي بالجملة مع تطور المعارف الصوتية… محولي الهاتف؟ لم يعد الحديث قائم عنهم أصلا لأنه تم تعويضهم باللوائح الصوتية. المترجمين؟ مستقبلا سيكون واحد فقط كافيا لإعادة القراءة و تصحيح عدة ترجمات آليا… الأساتذة ؟ و لا حتى هؤلاء، لأن أستاذا واحدا يمكنه أن يدرس آلاف الطلبة. لن تكون فيديوهات مسجلة بل آليات مبرمجة كي تقدم، إنطلاقا من قاعدة معلومات ،إجابات الأسئلة الأكثر تكررا(الصفحة 44-45).
ماذا سيفعل كل هؤلاء الرجال و النساء العاطلين عن العمل بسبب التطور التكنولوجي الذي أصبح منذ نصف قرن السبب الأول و الحقيقي للبطالة؟ من أين سيكسبون لقمة عيشهم؟ و بماذا سيشغلون أوقاتهم؟ أي مجتمع سيكون ممكنا مع أغلبية بدون عمل لا تحتاج أن يتم تكوينها أو تعليمها، لأن الإقتصاد لن يكون بحاجة لها؟ سيجعل تعويض الطاقات الحفرية بالطاقة الشمسية الإنتاج أقل تكلفة، لكن كيف سيدفع المستهلك ثمن هذه المنتجات و هو بدون دخل و لا قدرة شرائية لديه ؟:” حسب استشراف رياضي، سيحدث  انهيار كبير للإقتصاد مستقبلا، يبقى توقيته فقط مجهولا، ينتج عنه مجتمعات تعيد إرساء استقرارها،مجتمعات زراعية، ثابتة لا تسعى لأي نمو كالذي سعت له شريحة واسعة من البشرية منذ ألفيات عديدة”(صفحة 74).
تبدو التوقعات المفتوحة بسبب الإستخدام الآلي و التصميمات الصغيرة و الدقيقة بناءا على قاعدة أن  ” كل ما هو صغير قويّ”،غير محدودة بل ومخيفة : “و ماذا لو كان بالإمكان جعل الإنسان آليا إجمالا؟”…يوما ما، بفضل دراسات معمقة لآليات المخ، سنصل إلى فهم طريقة عمل الوعي و من ثم يمكن صناعة آلة قادرة على تحقيق نفس المستوى من الوعي و بالتالي التطور في النوع البشري…
“سيكون ما فوق الذكاء آخر ابتكار للنوع البشري و الذي قد يسجل نهاية هذا الأخير فوق الأرض…فلو تجاهلنا مخاطر النووي المدني و العسكري، الإحتباس الحراري، التلوث : في القرن الواحد و العشرين ،أكبر تهديدٍ للجنس البشري هو أبعد من ذلك، فهو الإحتمال الذي ذكرناه من ظهور ما فوق الذكاء…،يمكن أن نكون متأكدين من أنه مادام احتمال أن الذكاء الإصطناعي يمكن أن يتفوق على الإنسان قائمٌ، فسيحدث ذلك حتما يوما ما” (الصفحة 47 و 56). سيوفر التقارب بين الذكاء الإصطناعي و البيوتكنولوجيا (المعالجات الجينية، النانوتكنولوجيا) في سنوات 2045 النانو الآلي  القادر على الدخول إلى الجسم البشري لترميم الخلايا و الطائرات بدون طيار القاتلة والصغيرة جدا (micro-drones-tueurs) “السلاح الأكثر دقة و ترويعا الذي اخترعته البشرية” (الصفحة 60).
بعد كل هذه الأنباء التي نسجت الجزء الأول من الكتاب، خُصص جزؤه الثاني لإستعراض المذاهب الإقتصادية الليبرالية و السياسات الإقتصادية المتبعة في الغرب في فترة ما بين نهاية القرن الفارط و أزمة 2008 الإقتصادية التي نظر إليها ستون كأزمة نموذج و قطيعة نظامية :” كما بينته أزمة الرهن العقاري جيدا، الرغبة في تحصيل المصلحة الإقتصادية الفردية لعدد صغير من الفاعلين يمكن أن يخالف مصالح كل الفاعلين الإقتصاديين تقريبا و يهدد التوازن في المجتمع بشكل خطير…و لهذا تعقّدَ دورُ الدولة في المجتمع، ما بين سلطة  الدولة وتدخلاتها، و الليبرالية و الخوصصة المتوحشة، أمّا في القرن الواحد و العشرين فلابد أن يُعاد النظر فيه كلية”.
حمل جزء الكتاب الثالث عنوان ” الحداثة، ما بعد الحداثة، و ما وراء الحداثة”، و استُهِل بهذه الحكمة:” ماتت الحداثة لكن لا علم لها بذلك بعد”.و يقصد الكاتب منها أن القدرة على التنبؤ بالمستقبل أو وضع نموذج له لم تعد ممكنة، كما لم يتوقع أي كان أن تضحية البوعزيزي بنفسه سيشعل فتيل الربيع العربي، لكنّ أحداثاً مثل هذه ” ستتزايد بشكل مضاعف” (الصفحة 319) .ستكون ثورات بدون قائد، لن يصبح العلم ملكا لـ”أساتذة” و مكتبات الأرض كلها ستفتح في وجه الجميع، يمكن الإطلاع على محتواها من المنازل دون تنقل، دون حدود و دون مقابل. لم يعد العلم فطريا طبيعيا، بل هو معروض على نسيج باتصال مجاني و موضوع في شكل شبكات غير محدودة، لقد عُمم و جُعل ديمقراطيا، الأمر الذي يسبب تغيرا جذريا في العلاقات الإجتماعية.
لن تكون العلاقات عشوائية مستقبلا، بل ستكون أفقية و عرضية، لقد تجددت أشكال الإتصالات و التواصل، و ستُغيّر أساليب التفكير و توسع امتداد هذا التواصل الذي لن ينحصر داخل مجتمع و حسب بل سيتعداه إلى ما بين كل الأجيال المتعاقبة، كل البلدان، كل الثقافات و اللغات…
بحث الكاتب طيلة الجزئين الأخيرين من الكتاب قواعد اقتصاد جديد لا يرتكز على الموارد المالية أو الطبيعية، لكن على المعرفة، المعلومة و الإبداع :” القوة الفكرية هي الثروة الأساسية” (الصفحة 395).ستكون الثورة الثالثة في الغرب خلال ثلاث قرون، كانت الأولى تطبيق العلم على التقنية (مهارة الحرفيين)، والثانية في تطبيقه على العمل (التايلورية)، أما الثالثة ففي تطبيق العلم على العلم نفسه.” ظهرت تصورات علمية جديدة سمحت لنا بالتوجه و بشكل أفضل نحو العولمة المعقدة التي أصبحت من يومياتنا.غيّر التعليم باتحاده مع ثورة المعلوماتية و الإنترنيت، و بشكل جذري، القوة و التركيبة الذهنية للأشخاص العاملين بالمؤسسة…لقد تم توظيفك في أكبر مؤسسة صناعية حيث يعرف أحد منتجاتها رواجا في العالم كله.عند وصولك للمؤسسة لأول مرة تطلب من أول شخص يستقبلك أن يوجهك إلى مقر عملك ، كم ستكون حجم مفاجئتك و هو يجيبك:” أنت من عليك ابتكاره” (الصفحة 534-540).
في الخاتمة، يخبرنا البروفيسو رستون، مكونات التحول التي ستنقلنا إلى حقبة جديدة:
1) الثورة التقنية لأجزاء الانترنت الأربعة (الاتصال، المواد المنسوخة في المنزل، مواد التواصل و الطاقة) و التي ضاعفت من قدرة معالجة، تخزين و نقل المعلومة.”هذه الثورة هي الأكثر وضوحا، و الأكثر تأثيرا على حياتنا لأنها ستغير أسلوبنا في الإنتاج، الاستهلاك، التصرف، و ستقلب العلاقة ما بين الأفراد، الدول و المؤسسات” (الصفحة 660).
2) ثورة المفاهيم و التصورات (تغيير النظرة للعالم التي تسببت فيها الاكتشافات المستحدثة في العلوم القاعدية، كالفيزياء الكمية، الأسترو فيزياء، نظرية الفوضى الفيزيائية والرياضيات)
3) ثورة اجتماعية (الانتقال من الملكية إلى الكينونة)
4) ثورة اقتصادية (الانتقال من عالم مؤسس على الآلات و الأموال إلى عالم مؤسس على العلم والإبداع).
هل نحن جاهزون كجزائريين لإيجاد مكان لنا في مسارات التطور هذه ؟

الحضارة الغريقة

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة: بوكروح وليد

  رَوعَ تنظيم داعش أعين العالم أجمع لمّا نسف آثارا تاريخية تعود إلى مهد البشرية، كانت منتصبة في مكانها منذ آلاف السنين، بما في ذلك في عهد الرسول (صلى الله عليه و سلم) و الخلفاء الراشدين من بعده الذين لم تخطر على بالهم يوما فكرة تدميرها. بل لم يحدث أن تعرض الرسول أو خلفائه يوما لأيّ من المعالم الأثرية التي وجدوها في شتى أنحاء القارات الثلاث التي حكمتها الحضارة الإسلامية دون انقطاع لمدة قرون.

فَلَيسَ الإسلامُ إذن من يحثُّ على مثل هذه الأفعال الشنيعة، و إنّما هو “العلم” الذي انبثق منه و الذي سبق له أن ألهم “طالبان” ليقصفوا تماثيل “بوذا” في أفغانستان بالمدفعية الثقيلة. و نلاحظ بالمناسبة أنه لم تندد أي واحدة من الدول الإسلامية بهذه الأفعال، كما لم تخرج جماهير المسلمين إلى الشارع لتغضب على هذا الإنتهاك الصارخ لمبادئ الإسلام الأصلية. ما أخشاه هو أن تكون هي أيضا رأت في هذه الآثار أصناما يتطاولُ وجودها على توحيد الله، رغم أن الوثنية لم تتمكن يوما من أن تمنع مجيء الإسلام أو انتشاره. هذا إذا أعطينا أصلا أيّ معنىً لمثل هذا التفكير.

هذا العلم لم ينبع من العدم بل تولد عن “تفسير” عكف طيلة قرون على دفن الروح الأصلية للقرآن الكريم، و إحكام الغلق عليه ليجعلهُ يقولُ و يعني ما يريد متى يريد، وقام بتغليفه مثلما تفعل الطبقات الجوية لكوكب الأرض لكن ليس ليحميه، بل ليمنع الضوء من النفاذ منه أو إليه. مالك بن نبي الذي عانى في حياته كثيرا من هذا الدرع أطلق عليه عبارة تصفه و تلخصه: “غث ما بعد عهد الموحدين” (la gangue post-almohadienne).

حال الأمة الإسلامية اليوم أسوء من أي وقت مضى، لا لأنها تعاني من أعدائها كما كان الحال في الماضي، بل لأنها صارت تموت تحت ضربات أبنائها الذين يغتالونها “بالأفكار القاتلة ” التي يحملونها (الإسلاموية بأطيافها)، و التي أفرزها تعفن جثة “الأفكار الميتة” التي توارثوها و لا يزالوا. هذا هو الواقع الذي لن يستطيع نفيه لا الإنكار المصطنع، و لا الإحتجاج الشوفيني و لا التفاؤل الوهمي.

كَثُرَ و يزداد عدد البلدان العربية الإسلامية التي أضحت فريسة للإرهاب و الحرب الدينية اللذان يحصدان مئات الآلاف من القتلى منذ نهاية القرن الماضي، و منذ إعادة اشتعال الصراع الذي بدأه معاوية وعلي قبل أربع عشر قرنا و الذي أخذ اليوم ملامح حرب دينية متجذرة بين السنة و الشيعة. لابد من حل واق من هذا الإنحراف، فما الذي جناه الطرفان من حرب إيران و العراق في ثمانينيات القرن الماضي، التي قتل خلالها مليون من الضحايا من بينهم وزير خارجيتنا مع وفد يُرافقه في ذلك الوقت ؟

تتشكل اليوم في أذهان غير المسلمين رويدا رويدا ملامح حرب أشد ضراوة و أكثر تهديدا لمستقبل المسلمين أينما وجدوا في العالم، كما يتأكدون يوما بعد يوم أن الإسلام ككل هو المسؤول عن التناقض الصارخ بين المسلمين و باقي الأجناس. حتى و إن كانت أقلية فقط منهم هي التي تحمل الأفكار التي توصف بالمتطرفة، فلا يمكن الإنكار أن هذه الأفكار تنبع مباشرة من “العلم” الرسمي و الخطاب الديني الذي تسقيه و تتداوله مختلف القنوات التلفزيونية و المساجد يوميا. هذا و يعمل “الجهل المقدس” (العبارة التي يُرجح أنّ قائلها هو محمد أركون) دون هوادة ليجعل من هذه الأقلية أغلبية ساحقة وسط المسلمين، كما نلاحظ مثلا في بلدنا الذي حقق انتصارات واعدة و متميزة في هذا الشأن.

كيف لا ندق بعد هذا جرس الإنذار؟ و كيف يمكن ألّا نشعر بالحاجة الماسة لإعادة النظر في كل ما يدور في فلك الإسلام؟ لنَفرشَ كل ما يحتويه على البساط حتى نرجع إلى نقطة البداية، و من هناك نتتبع الطريق الذي سار عليه الفكر الإسلامي خطوة بخطوة، حتى نجد اللحظة و الحدث و المكان الذي تحول فيه مصيره، و مفترق الطرق الذي غير فيه الفكر الإسلامي اتجاه التقدم، ليسلك طريق الانحطاط و الإرهاب الفكري ثم الفعلي.

استنادا إلى الحقائق هذه، و عرض الأحداث هذا، نشرت و أواصل سلسلة مقالات اقترحت فيها ورقة طريق من أجل إصلاح الفكر الإسلامي.و ما أعنيه بهذا هو تحديث التصور الذي يحمله المسلمون للوجود، وإعادة تكييفه بما يتماشى مع التوجهات العالمية الذي تسلكها البشرية اليوم.

هذا وعَرَضتُ أيضا إطارا مناسبا يمكن أن تعالج فيه القضية، في ما يمكن أن يأخذَ شكلَ دورة مفاوضات متعددة الأطراف داخل “منظمة التعاون الإسلامي”. كما أشرت بدقة لعدم جدوى ربط ذلك برزنامة زمنية لأن العمل يمكن أن يتطلب عشريات كاملة. المهم هو أن يتمكن المشروع في النهاية من إزاحة “غث ما بعد الموحدين”: الخروج بتفسير و فقه جديدين، توحيد المذاهب، ثم توحيد برامج التكوين و التعليم في المجال الديني، في العالم الإسلامي أجمع.

كما اقترحت أيضا منهجية يمكن من خلالها تجديد و تحديث تفسير القرآن، عبر استغلال الأفق الفكري الواسع الذي تفتحه أمامنا دراسَتُهُ في الترتيب الزمني الذي نزل فيه. ليس للخروج بمصحف جديد، كما أكدت على ذلك جيدا، فليس هذا هو الهدف، و إنما من أجل الاستغلال الأمثل لكل الموارد المعرفية و الفكرية التي تتيحها لنا هذه القراءة. فقد يُمَكّنُنَا هذا من توسيع و تنظيم التصور الذي يحمله المسلمون لله و للكون و لسبب وجود الإنسان و لغير المسلمين بما يتماشى مع ما وصل إليه العلم الإنساني اليوم من تقدّم. أين الخطأ في هذا؟ أين هو التطاول على الله أو الدين أو الرسول (صلى الله عليه و سلم) أو القرآن؟

لقد عرف تاريخ المسيحية على سبيل المثال محاولتين مماثلتين فاشلتين، في القرن التاسع عشر ثم العشرين، عُرفَتا باسم “فاتيكان” 1 و 2. لكن العراقيل في ما يخص الإسلام ليست بنفس التعقيد، إذ لا يَكمُنُ المشكل في العقيدة مثل ما يفرق بين الكاثوليك و البروتستانت، و إنما فقط في ما أضافته يد الإنسان إلى الدين. يُمكنُ في هذا السياق التذكير بأن السنة و الشيعة يشتركون في نفس المصحف الذي جمع في عهد عثمان.

فعلا ففي هذا الموضوع أو سواه، ما يتكون منه الإسلام اليوم، هو قليل فقط من القرآن، لكن كثير من كتلة معارف متحجرة بالية أضافَتها يَدُ البشر طيلة أكثر من ألف عام. فيستحيل في اعتقادي إدخال إصلاح على الفكر الإسلامي دون اللجوء إلى القرآن، لنتمكن من بعث نفس و طاقة جديدين فيه. و دون هذا الإصلاح ستستمر الأمة في الغرق حتى يبتلعها بَحرُ الشعوذة و الجهل والفقر والحرب الأهلية.

الإسلام هو أولا القرآن، ثم سيرة و أحاديث الرسول (صلى الله عليه و سلم)، و أخيرا اجتهاد القدرات العقلية و الفكرية الحرة للإنسان. في الماضي البعيد اجتهدت عقول نيرة حرة و جريئة لتعطي القرآن تفسيرا يواكب اتجاه التطور البشري و يسير معه. فجاء ثمرةً لاجتهادهم و المجهود الذي بذلوه “العصر الذهبي” الإسلامي الذي طور شتى العلوم الإنسانية و الفنون و العلوم الدقيقة و الفلسفة، حاملا في سياق تقدمه شعوبا و أديانا أخرى. ثم جاء يوم انتهت فيه هذه المسيرة العظيمة بقدرة قادر، تاركةً مكانها لجفاف الفكر و الروح و القلب و الوجه و اللفظ.

الروح الأصلية للقرآن تمكنت من حمل المسلمين ليصلوا إلى هذه المرحلة لا أكثر؛ إلى نقطة التحول التي تمكنت بعدها المُحافَظةُ و الصُّوفية و الحَرفيَّةُ من الدين، و تغلبت على العقل و المنطق. ثم استحوذ منذ ذلك الحين “رجال الدين” على دراسة القرآن و تفسيره، مانعينَ أيًّا كانَ من الاقتراب منه، حابسينَ بذلك الإسلام في الجمود والانحطاط. و حتى بعد أن غنم العالم الإسلامي بعناء بعض المكتسبات المتواضعة من تَغَلُّبه على الاستعمار، فإنه عاد مجدَّدًا من تلقاء نفسه إلى براثن العلم القديم الذي وَجَدَهُ أكثر تخلفا من أي وقت مضى.

و ها هو حالنا اليوم، نعيشُ و رؤوسنا محشوة بخرافات و أحكام تقريبية حول كل ما يتعلق بالدين: الله، الشيطان، الغيب الذي لا نفرق بينه و بين غير المرئي و غير الملموس. نخشى أن نكفر إذا أردنا فهم شيء أو طرح سؤال، أو الاستفهام عن غرابة ما تأتي به بعض الفتاوى التي تتحدى العقل و المنطق. نشعر بالذنب و نُحاسَبُ و نُضطَهَدُ باستمرار كُلَّمَا راودتنا أصغر الأفكار؛ نشك في كل شيء و كل إنسان؛ نَضَعُ مكانَ عقولنا تعليمات و فتاوى شيوخ التلفاز الذين يستعمرون أعيننا و آذاننا و عقولنا. من أين جاءنا هذا الإدمان على الشعوذة؟ من أين أتت هذه القابلية ل”الراسبوتينية” (Raspoutinisme)؟

لا يمكن للتطلع الروحي الذي تسير نحوه البشرية المعاصرة أن يقبل بهذا التعامل البسيط مع الإله. بالعطاء نحوه شرط انتظار مُقابل عن ذلك، بالطمع في النعيم الأبدي مقابل بضع سنوات من عبادة فردية أنانية تَحسُبُ الحسنات مثلما تحسب النقود. لا يمكن للأمور أن تبقى بهذه السهولة و التفاهة، فهذا لا يرقي إلى مستوى الإله الذي خلقَ كونًا دائم التَمَدُّد، كما لا يُمكنُ أن يتوافق مع دين عقلاني مثل الإسلام. لا يمكن لمثل هذا التصور الوجودي أن يُلهم المواهب أو العبقرية، و لا أن يساهم في بروز أفكار جديدة أو علوم مفيدة أو فلسفة متقدمة. كُلُّ ما يمكن أن يُوصلَ إليه هو ملأ الأرض بقطعان من الأغنام البشرية لا مكان لها في هذا القرن.

الإشكالية التي طرحتها، و التي أُذَكّرُ أنها تهدف إلى إخراج الذهنية الإسلامية من المأزق الذي وصلت إليه و ليس إلى زرع الشك والارتياب حول العقيدة الإسلامية في حد ذاتها وَلَّدَت بصفة تلقائية وعفوية حوارا  عبر وسائل التواصل. و قد شبهت عملي هذا في مقال سابق بالسير بين قطرات المطر، إذ لا يمكن الطموح إلى هدف كهذا دون أن نُزعج على الأقل مزاج “الجهل المقدس”، و يقينَه الذي يُلَوّحُ به في وجه كل من ينتقدهُ، بأنه الوحيد المكلف “بحراسة الإسلام”.

لكني تأسفت على اختزال الجدال إلى مسألة ترتيب القرآن فقط، و هو ما بادرت به عمدا عقولٌ ضيقةٌ لم تقرأ ما كَتَبتُهُ أو لم تَفهَمهُ، أو تعتقد ببساطة أنه ليس لي الحق في الحديث في الموضوع. كيف هذا و باسم ماذا؟ فهذا الحق أعطاني إياه القرآن كما أعطاه لكل مسلم قادر على التفكير والإنتاج الفكري، و لجميع “ذوي الألباب”. و أنا شخصيا استعملت الحق في الكتابة عن الإسلام منذ السبعينيات دون أن أنتظر رخصة أو أخشى منعا من أحد (سينشر لاحقا كتاب يجمع كتاباتي حول الإسلام ما بين 1970 و 2013 تحت عنوان “ماذا نفعل بالإسلام؟”). ضف إلى ذلك أن دراسة القرآن في الترتيب الزمني لا تضر بالكتاب أو الدين أو الله في شيء، بل على عكس ذلك تفتح آفاقا جديدة للعقل ليساهم في إعادة إحياء العلاقة التي تربط الفرد بدينه. فَبالعَودَة إلى الأفق الأصلي للقرآن، نكتشف إلى أيّ مدى القرآن عقلاني و متناسق إضافةً إلى فضائله الأخرى.

ازداد الجدال حدة، مما أعتبره دليلا على الصحة الفكرية الجيدة لمجتمعنا واهتمامه بالموضوع لاسيما حين لا تقتصر الردود على الشتائم أو محاكمة النوايا، بل تركز على الأفكار المطروحة للحوار لإثرائها أو نقدها أو لتفنيدها. فإن اشتاق مجتمعنا لشيء فإنما يشتاق إلى حرية التعبير والتبادل السلمي للأفكار و النقاش البناء الذي ينبع عفويا من المجتمع، بدل أن يُملى و يُحركَ من فوق. فما الذي يمنع الجزائر من احتلال الطليعة في هذا الموضوع أو غيره، و التأسيس لحركة فكرية جديدة ومجددة يُمكنُ أن تُصدَّرَ لاحقا إلى باقي العالم العربي الإسلامي؟

من بين من رَدُّوا عَلى أفكاري هناك من نَفى بكل بساطة و تحد للعقل وجود ترتيب النزول في القرآن الكريم، و كان منهم أيضا من اتهمني بالسرقة الفكرية (و قد يكون هو المعتاد عليها)، فادعى أني استلهمت من أعمال و أفكار المستشرقين. بَيدَ أنَّ اتهامات هؤلاء لم تَتَعدّى التلميحات و الإشارات الغامضة، حيث لم يوضح أحد منهم كيف و ماذا و من سرقت، و في أي مقال أو فقرة، و هم الذين كان سيسعدهم أن يقبضوا علي متلبسا بالجرم المشهود. ربما اعتقدوا أن مجرد قولهم لما قالوه كاف ليُصَدَّق؟ لا يا أيها السادة العلماء و “الدكاترة”، لن تكفيكم الهُمزة اللُّمزة، و سَيَجبُ على برنوسكم أن يعرق أكثر من هذا.

لم أجد من بين عشرين مقالا أو أكثر هاجمني في الصحافة، فضلا عن مئات التعليقات على المواقع الاجتماعية، مقالا واحدا ليَردَّ موضوعيا على الأفكار التي طرحتها. كما لم يتفضل أحد من هؤلاء بالقول علنا و بوضوح: هذه فكرة خاطئة، و هذه مسروقة، و تلك تتطاول على الدين…إلخ. و لم يتمكن كذلك أحدهم من صياغة بداية جواب على الأسئلة التي طرحتها، مكتفين جميعهم بالتحليق حول الموضوع من بعيد، أو الصراخ و العويل مع من اتهموني مباشرة و صراحة بالكفر. و لما كان الأمر كذلك، و بما أن الجدال دار حول ما تناولته من الآية الثالثة من سورة المائدة، و الآيات المتعلقة بالخلق الفيزيولوجي و التاريخي للإنسان، و تلك المتعلقة بخلق السماوات و الأرض. فسنرى إذًا إن كان من بين العلماء و الدكاترة من يتفضل و يجيبنا من أعالي منبر جهله المقدس عن تلك الأسئلة و أخرى مثل هذه الدفعة الجديدة من الإستفهامات (و أؤكد أني لم أسرقها من المستشرقين):

1) قال رسول الله صلى الله عليه و سلم “ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها “. و نعلم أن الضمير “من” يشير إلى الفرد أو الجمع على حد سواء، و يمكن تعريف “التجديد” هنا بالنهضة التاريخية للدين، كما ندرك جيدا أنّ “الدين” يُقصَدُ به البعد الفكري و الحضاري للإسلام و ليس العقيدة في حد ذاتها. إذن لو سَلَّمنا أن هذه القراءة للحديث صحيحة، فهذا يعني أنه ينبغي أن يكون عدد “المجددين” الذين برزوا خلال القرون الثلاث عشر الماضية معتبرا، على الأقل ثلاث عشر مُجدد، فأين هم؟ أو ربما لم تتطلب الحالة الرائعة التي توجد عليها الأمة وجود أحد منهم؟ في هذه الحالة ما المغزى من هذا الحديث؟

2) إذا كان القرآن نُزّلَ على شكل السور التي نعرفها اليوم، كما يزعم و يصر عليه البعض، فلماذا إذن تَحملُ خمس عشر واحدة منها عدة أسماء؟ مثلا ” الفاتحة “تحمل حوالي عشرين إسما من بينها: الحمد، الأساس، أم الكتاب و السبع المثاني، و “التوبة” تعرف كذلك بـ: براءة، المقشقشة، المبعثرة، الفاضحة، أما “النحل” تسمى كذلك بالنعم، و “الإسراء” تعرف أيضا بسورة بني إسرائيل، كذلك ” السجدة” بالمضاجع، “فاطر” بالملائكة،”غافر” بمؤمن،”فصلت” بحم السجدة، “محمد” بالقتال،”الملك” تعرف بتبارك أو المنجية، “الإنسان” بالدهر،”العلق” بالقلم،” الماعون” بأرأيت،” المسد “بأبي لهب، و “الإخلاص” بالتوحيد ؟

و هاهو رأي عالم جزائري، السيد حمزة بوبكر رحمه الله، صاحب ترجمة  للقرآن الكريم، العميد السابق لمسجد باريس و والد العميد الحالي الدكتور دليل بوبكر، إذ كتب:” ليس للإسم، الذي أحصاه جامعِي القرآن الأوائل و تبنته الروايات المتواترة، في أغلب السور سوى قيمة دلالية فقط، فهو يسهل على الذاكرة تعيين سورة ما (و التي لا تعتبر في حد ذاتها فصلا) بفضل إبراز كلمة منها تبدو الأكثر تمييزا في النص القرآني المعني بالتسمية. فاسم السورة ليس بحجة، و لا هو بلازمة  أو تذكير بحدث أو ظرف، و ليس ضبط أو اختصار لموضوع مفصل… السور حاليا مرتبة حسب طولها، و يختلف هذا الترتيب التعسفي و الذي فُرض رسميا، عما دوّنه ابن مسعود و أبيّ بن كعب، و هو لم يُبنى حسب تسلسل منطقي كما لم يُعنى إطلاقا بترتيب النزول، فقد وُزّعت  السور القرآنية 114 حسب استعمال تقليدي جعل أولى الإعتبارات حاجات دراسة النص المقدس وحفظه عن ظهر قلب…” (ترجمة القرآن ،منشورات ENAG الجزائر العاصمة 1989)

3) المعتقد الشائع هو أنَّ القرآن يتكون من 114 سورة، منها 86 مكية و 28 مدنية، لكن الحقيقة تختلف قليلا عن ذلك. فالقرآن يتكون حقيقةً من 51 سورة مكية، و 22 مدنية، و باقي السُور تنتمي إلى فئة ثالثة يمكن أن نصطلح عليها “بالمختلطة” و عددها 41، و هو ما يقارب ثلث القرآن الكريم. وما أصفها بالمختلطة هي الـ35 سورة مكية التي تحتوي على آيات مدنية، و الـ 6 سور المدنية التي تحتوي على آيات مكية. هل نعرف أسباب هذه التعديلات و مغزاها؟ أليست غاية في الأهمية، حتى ولو لم تخص إلا عددا صغيرا من الآيات مقارنة بالكل؟

السور المكية التي تحتوي على سور مدنية هي :”الأنعام”،”الأعراف”،”يونس”، “هود”، “يوسف”،  “إبراهيم”،”الحجر”،”النحل”،”الإسراء”،”الكهف”،”مريم”،”طه”،”الفرقان”،”الشعراء”،”القصص”،”العنكبوت”،”الروم”،”لقمان”،”السجدة”،”سبأ”،”يس”،”الزمر”،”غافر”،”الشورى”،”الزخرف”،”الدخان”،”الجاثية”،”الأحقاف”،”ق”،”النجم”،”القمر”،”الواقعة”،”القلم”،”المزمل”،”الماعون”.

أما السور المدنية التي تحوي آيات مكية هي:”النساء”، “الأنفال”، “التوبة”، “الحج”، “محمد” و “الرحمن”.

4) يُمكنُ أن نَفهَمَ أنَّ آيات مدنية نُقلَت إلى سور مكية فهي نزلت بعد هذه الأخيرة، لكن ما السر وراء صعود آيات مكية إلى سور مدنية، مع أن بعضها سبق كثيرا في تاريخ التنزيل ؟ كما مثلا في “النساء” و ترتيب نزولها 92، “الرحمن” و تقع في المرتبة 97، أو “الحج” و ترتيب نزولها 103؟ أين كانت هذه الآيات قبل هذا التحويل؟

5) اختلف علماء الدين الأوائل حول عدد (و/أو) رقم الآيات المنقولة في سور “النساء”، الأنعام”، “الأعراف”، “هود”، “يوسف”، “إبراهيم”، “الكهف”، “مريم”، “طه”، “الشعراء”، “غافر”، “الدخان”، و أخرى. لماذا؟

6) سورة “القلم” هي الثانية في ترتيب النزول و 68 في الترتيب الحالي. و من بين آياتها الـ52، توجد 22 آية مدنية (من الآية 17 إلى 33 و من 48 إلى 52). هذا يعني أنه انقضت ما بين نزول آياتها المكية و المدنية 13 سنة (لو نُقلت إليها الآيات المدنية في السنة الأولى من الهجرة)؛ أو حتى 22 سنة (لو نقلت إليها في السنة الأخيرة من الهجرة). متى نزلت هذه الآيات المدنية بالضبط ومتى جرى نقلها لسورة القلم المكية؟ ثم أين كانت هذه الآيات قبل أن تُنقل؟

7) سورة “التوبة” لا تبدأ بالبسملة لأنها كانت في الأصل تابعة لسورة “الأنفال” قبل أن تفصل عنها. و هي تحتل في ترتيب النزول المرتبة 113 و الترتيب الحالي المرتبة السابعة، بينما توجد “الأنفال” في المرتبة 88 من ترتيب النزول و الثامنة في الترتيب الحالي. لماذا هذا القلب في الترتيب حيث تأتي “الأنفال” بعد “التوبة”، بينما العكس هو المنطقي و الأرجح؟

8) في سورة “التوبة” أيضا نَجدُ “آية السيف” التي تُعرَفُ أنها نسخت عدة آيات سبقتها. ماذا لو كانت هذه الآية موجودة في سورة الأنفال (قبل النقل الذي فصل التوبة عنها)؟ ألا ينزع ذلك عنها طبيعيا القدرة على نسخ الآيات التي نسختها، بما أنها كانت ستصبح في ترتيب النزول في المرتبة 88 عوض 113؟

من يمكنه أن يجيب عن كل هذه الأسئلة ؟ و يستمر التفكير والنقاش. و الله أعلم.

الوسوم :la gangue post-almohadienne) الأفكار القاتلة الإسلاموية بأطيافها المعالم الأثرية داعش غث ما بعد عهد الموحدين مالك بن نبي محمد أركون نورالدين بوكروح

الحضارة الغريقة

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: بوكروح وليد
  رَوعَ تنظيم داعش أعين العالم أجمع لمّا نسف آثارا تاريخية تعود إلى مهد البشرية، كانت منتصبة في مكانها منذ آلاف السنين، بما في ذلك في عهد الرسول (صلى الله عليه و سلم) و الخلفاء الراشدين من بعده الذين لم تخطر على بالهم يوما فكرة تدميرها. بل لم يحدث أن تعرض الرسول أو خلفائه يوما لأيّ من المعالم الأثرية التي وجدوها في شتى أنحاء القارات الثلاث التي حكمتها الحضارة الإسلامية دون انقطاع لمدة قرون.
فَلَيسَ الإسلامُ إذن من يحثُّ على مثل هذه الأفعال الشنيعة، و إنّما هو “العلم” الذي انبثق منه و الذي سبق له أن ألهم “طالبان” ليقصفوا تماثيل “بوذا” في أفغانستان بالمدفعية الثقيلة. و نلاحظ بالمناسبة أنه لم تندد أي واحدة من الدول الإسلامية بهذه الأفعال، كما لم تخرج جماهير المسلمين إلى الشارع لتغضب على هذا الإنتهاك الصارخ لمبادئ الإسلام الأصلية. ما أخشاه هو أن تكون هي أيضا رأت في هذه الآثار أصناما يتطاولُ وجودها على توحيد الله، رغم أن الوثنية لم تتمكن يوما من أن تمنع مجيء الإسلام أو انتشاره. هذا إذا أعطينا أصلا أيّ معنىً لمثل هذا التفكير.
هذا العلم لم ينبع من العدم بل تولد عن “تفسير” عكف طيلة قرون على دفن الروح الأصلية للقرآن الكريم، و إحكام الغلق عليه ليجعلهُ يقولُ و يعني ما يريد متى يريد، وقام بتغليفه مثلما تفعل الطبقات الجوية لكوكب الأرض لكن ليس ليحميه، بل ليمنع الضوء من النفاذ منه أو إليه. مالك بن نبي الذي عانى في حياته كثيرا من هذا الدرع أطلق عليه عبارة تصفه و تلخصه: “غث ما بعد عهد الموحدين” (la gangue post-almohadienne).
حال الأمة الإسلامية اليوم أسوء من أي وقت مضى، لا لأنها تعاني من أعدائها كما كان الحال في الماضي، بل لأنها صارت تموت تحت ضربات أبنائها الذين يغتالونها “بالأفكار القاتلة ” التي يحملونها (الإسلاموية بأطيافها)، و التي أفرزها تعفن جثة “الأفكار الميتة” التي توارثوها و لا يزالوا. هذا هو الواقع الذي لن يستطيع نفيه لا الإنكار المصطنع، و لا الإحتجاج الشوفيني و لا التفاؤل الوهمي.
كَثُرَ و يزداد عدد البلدان العربية الإسلامية التي أضحت فريسة للإرهاب و الحرب الدينية اللذان يحصدان مئات الآلاف من القتلى منذ نهاية القرن الماضي، و منذ إعادة اشتعال الصراع الذي بدأه معاوية وعلي قبل أربع عشر قرنا و الذي أخذ اليوم ملامح حرب دينية متجذرة بين السنة و الشيعة. لابد من حل واق من هذا الإنحراف، فما الذي جناه الطرفان من حرب إيران و العراق في ثمانينيات القرن الماضي، التي قتل خلالها مليون من الضحايا من بينهم وزير خارجيتنا مع وفد يُرافقه في ذلك الوقت ؟
تتشكل اليوم في أذهان غير المسلمين رويدا رويدا ملامح حرب أشد ضراوة و أكثر تهديدا لمستقبل المسلمين أينما وجدوا في العالم، كما يتأكدون يوما بعد يوم أن الإسلام ككل هو المسؤول عن التناقض الصارخ بين المسلمين و باقي الأجناس. حتى و إن كانت أقلية فقط منهم هي التي تحمل الأفكار التي توصف بالمتطرفة، فلا يمكن الإنكار أن هذه الأفكار تنبع مباشرة من “العلم” الرسمي و الخطاب الديني الذي تسقيه و تتداوله مختلف القنوات التلفزيونية و المساجد يوميا. هذا و يعمل “الجهل المقدس” (العبارة التي يُرجح أنّ قائلها هو محمد أركون) دون هوادة ليجعل من هذه الأقلية أغلبية ساحقة وسط المسلمين، كما نلاحظ مثلا في بلدنا الذي حقق انتصارات واعدة و متميزة في هذا الشأن.
كيف لا ندق بعد هذا جرس الإنذار؟ و كيف يمكن ألّا نشعر بالحاجة الماسة لإعادة النظر في كل ما يدور في فلك الإسلام؟ لنَفرشَ كل ما يحتويه على البساط حتى نرجع إلى نقطة البداية، و من هناك نتتبع الطريق الذي سار عليه الفكر الإسلامي خطوة بخطوة، حتى نجد اللحظة و الحدث و المكان الذي تحول فيه مصيره، و مفترق الطرق الذي غير فيه الفكر الإسلامي اتجاه التقدم، ليسلك طريق الانحطاط و الإرهاب الفكري ثم الفعلي.
استنادا إلى الحقائق هذه، و عرض الأحداث هذا، نشرت و أواصل سلسلة مقالات اقترحت فيها ورقة طريق من أجل إصلاح الفكر الإسلامي.و ما أعنيه بهذا هو تحديث التصور الذي يحمله المسلمون للوجود، وإعادة تكييفه بما يتماشى مع التوجهات العالمية الذي تسلكها البشرية اليوم.
هذا وعَرَضتُ أيضا إطارا مناسبا يمكن أن تعالج فيه القضية، في ما يمكن أن يأخذَ شكلَ دورة مفاوضات متعددة الأطراف داخل “منظمة التعاون الإسلامي”. كما أشرت بدقة لعدم جدوى ربط ذلك برزنامة زمنية لأن العمل يمكن أن يتطلب عشريات كاملة. المهم هو أن يتمكن المشروع في النهاية من إزاحة “غث ما بعد الموحدين”: الخروج بتفسير و فقه جديدين، توحيد المذاهب، ثم توحيد برامج التكوين و التعليم في المجال الديني، في العالم الإسلامي أجمع.
كما اقترحت أيضا منهجية يمكن من خلالها تجديد و تحديث تفسير القرآن، عبر استغلال الأفق الفكري الواسع الذي تفتحه أمامنا دراسَتُهُ في الترتيب الزمني الذي نزل فيه. ليس للخروج بمصحف جديد، كما أكدت على ذلك جيدا، فليس هذا هو الهدف، و إنما من أجل الاستغلال الأمثل لكل الموارد المعرفية و الفكرية التي تتيحها لنا هذه القراءة. فقد يُمَكّنُنَا هذا من توسيع و تنظيم التصور الذي يحمله المسلمون لله و للكون و لسبب وجود الإنسان و لغير المسلمين بما يتماشى مع ما وصل إليه العلم الإنساني اليوم من تقدّم. أين الخطأ في هذا؟ أين هو التطاول على الله أو الدين أو الرسول (صلى الله عليه و سلم) أو القرآن؟
لقد عرف تاريخ المسيحية على سبيل المثال محاولتين مماثلتين فاشلتين، في القرن التاسع عشر ثم العشرين، عُرفَتا باسم “فاتيكان” 1 و 2. لكن العراقيل في ما يخص الإسلام ليست بنفس التعقيد، إذ لا يَكمُنُ المشكل في العقيدة مثل ما يفرق بين الكاثوليك و البروتستانت، و إنما فقط في ما أضافته يد الإنسان إلى الدين. يُمكنُ في هذا السياق التذكير بأن السنة و الشيعة يشتركون في نفس المصحف الذي جمع في عهد عثمان.
فعلا ففي هذا الموضوع أو سواه، ما يتكون منه الإسلام اليوم، هو قليل فقط من القرآن، لكن كثير من كتلة معارف متحجرة بالية أضافَتها يَدُ البشر طيلة أكثر من ألف عام. فيستحيل في اعتقادي إدخال إصلاح على الفكر الإسلامي دون اللجوء إلى القرآن، لنتمكن من بعث نفس و طاقة جديدين فيه. و دون هذا الإصلاح ستستمر الأمة في الغرق حتى يبتلعها بَحرُ الشعوذة و الجهل والفقر والحرب الأهلية.
الإسلام هو أولا القرآن، ثم سيرة و أحاديث الرسول (صلى الله عليه و سلم)، و أخيرا اجتهاد القدرات العقلية و الفكرية الحرة للإنسان. في الماضي البعيد اجتهدت عقول نيرة حرة و جريئة لتعطي القرآن تفسيرا يواكب اتجاه التطور البشري و يسير معه. فجاء ثمرةً لاجتهادهم و المجهود الذي بذلوه “العصر الذهبي” الإسلامي الذي طور شتى العلوم الإنسانية و الفنون و العلوم الدقيقة و الفلسفة، حاملا في سياق تقدمه شعوبا و أديانا أخرى. ثم جاء يوم انتهت فيه هذه المسيرة العظيمة بقدرة قادر، تاركةً مكانها لجفاف الفكر و الروح و القلب و الوجه و اللفظ.
الروح الأصلية للقرآن تمكنت من حمل المسلمين ليصلوا إلى هذه المرحلة لا أكثر؛ إلى نقطة التحول التي تمكنت بعدها المُحافَظةُ و الصُّوفية و الحَرفيَّةُ من الدين، و تغلبت على العقل و المنطق. ثم استحوذ منذ ذلك الحين “رجال الدين” على دراسة القرآن و تفسيره، مانعينَ أيًّا كانَ من الاقتراب منه، حابسينَ بذلك الإسلام في الجمود والانحطاط. و حتى بعد أن غنم العالم الإسلامي بعناء بعض المكتسبات المتواضعة من تَغَلُّبه على الاستعمار، فإنه عاد مجدَّدًا من تلقاء نفسه إلى براثن العلم القديم الذي وَجَدَهُ أكثر تخلفا من أي وقت مضى.
و ها هو حالنا اليوم، نعيشُ و رؤوسنا محشوة بخرافات و أحكام تقريبية حول كل ما يتعلق بالدين: الله، الشيطان، الغيب الذي لا نفرق بينه و بين غير المرئي و غير الملموس. نخشى أن نكفر إذا أردنا فهم شيء أو طرح سؤال، أو الاستفهام عن غرابة ما تأتي به بعض الفتاوى التي تتحدى العقل و المنطق. نشعر بالذنب و نُحاسَبُ و نُضطَهَدُ باستمرار كُلَّمَا راودتنا أصغر الأفكار؛ نشك في كل شيء و كل إنسان؛ نَضَعُ مكانَ عقولنا تعليمات و فتاوى شيوخ التلفاز الذين يستعمرون أعيننا و آذاننا و عقولنا. من أين جاءنا هذا الإدمان على الشعوذة؟ من أين أتت هذه القابلية ل”الراسبوتينية” (Raspoutinisme)؟
لا يمكن للتطلع الروحي الذي تسير نحوه البشرية المعاصرة أن يقبل بهذا التعامل البسيط مع الإله. بالعطاء نحوه شرط انتظار مُقابل عن ذلك، بالطمع في النعيم الأبدي مقابل بضع سنوات من عبادة فردية أنانية تَحسُبُ الحسنات مثلما تحسب النقود. لا يمكن للأمور أن تبقى بهذه السهولة و التفاهة، فهذا لا يرقي إلى مستوى الإله الذي خلقَ كونًا دائم التَمَدُّد، كما لا يُمكنُ أن يتوافق مع دين عقلاني مثل الإسلام. لا يمكن لمثل هذا التصور الوجودي أن يُلهم المواهب أو العبقرية، و لا أن يساهم في بروز أفكار جديدة أو علوم مفيدة أو فلسفة متقدمة. كُلُّ ما يمكن أن يُوصلَ إليه هو ملأ الأرض بقطعان من الأغنام البشرية لا مكان لها في هذا القرن.
الإشكالية التي طرحتها، و التي أُذَكّرُ أنها تهدف إلى إخراج الذهنية الإسلامية من المأزق الذي وصلت إليه و ليس إلى زرع الشك والارتياب حول العقيدة الإسلامية في حد ذاتها وَلَّدَت بصفة تلقائية وعفوية حوارا  عبر وسائل التواصل. و قد شبهت عملي هذا في مقال سابق بالسير بين قطرات المطر، إذ لا يمكن الطموح إلى هدف كهذا دون أن نُزعج على الأقل مزاج “الجهل المقدس”، و يقينَه الذي يُلَوّحُ به في وجه كل من ينتقدهُ، بأنه الوحيد المكلف “بحراسة الإسلام”.
لكني تأسفت على اختزال الجدال إلى مسألة ترتيب القرآن فقط، و هو ما بادرت به عمدا عقولٌ ضيقةٌ لم تقرأ ما كَتَبتُهُ أو لم تَفهَمهُ، أو تعتقد ببساطة أنه ليس لي الحق في الحديث في الموضوع. كيف هذا و باسم ماذا؟ فهذا الحق أعطاني إياه القرآن كما أعطاه لكل مسلم قادر على التفكير والإنتاج الفكري، و لجميع “ذوي الألباب”. و أنا شخصيا استعملت الحق في الكتابة عن الإسلام منذ السبعينيات دون أن أنتظر رخصة أو أخشى منعا من أحد (سينشر لاحقا كتاب يجمع كتاباتي حول الإسلام ما بين 1970 و 2013 تحت عنوان “ماذا نفعل بالإسلام؟”). ضف إلى ذلك أن دراسة القرآن في الترتيب الزمني لا تضر بالكتاب أو الدين أو الله في شيء، بل على عكس ذلك تفتح آفاقا جديدة للعقل ليساهم في إعادة إحياء العلاقة التي تربط الفرد بدينه. فَبالعَودَة إلى الأفق الأصلي للقرآن، نكتشف إلى أيّ مدى القرآن عقلاني و متناسق إضافةً إلى فضائله الأخرى.
ازداد الجدال حدة، مما أعتبره دليلا على الصحة الفكرية الجيدة لمجتمعنا واهتمامه بالموضوع لاسيما حين لا تقتصر الردود على الشتائم أو محاكمة النوايا، بل تركز على الأفكار المطروحة للحوار لإثرائها أو نقدها أو لتفنيدها. فإن اشتاق مجتمعنا لشيء فإنما يشتاق إلى حرية التعبير والتبادل السلمي للأفكار و النقاش البناء الذي ينبع عفويا من المجتمع، بدل أن يُملى و يُحركَ من فوق. فما الذي يمنع الجزائر من احتلال الطليعة في هذا الموضوع أو غيره، و التأسيس لحركة فكرية جديدة ومجددة يُمكنُ أن تُصدَّرَ لاحقا إلى باقي العالم العربي الإسلامي؟
من بين من رَدُّوا عَلى أفكاري هناك من نَفى بكل بساطة و تحد للعقل وجود ترتيب النزول في القرآن الكريم، و كان منهم أيضا من اتهمني بالسرقة الفكرية (و قد يكون هو المعتاد عليها)، فادعى أني استلهمت من أعمال و أفكار المستشرقين. بَيدَ أنَّ اتهامات هؤلاء لم تَتَعدّى التلميحات و الإشارات الغامضة، حيث لم يوضح أحد منهم كيف و ماذا و من سرقت، و في أي مقال أو فقرة، و هم الذين كان سيسعدهم أن يقبضوا علي متلبسا بالجرم المشهود. ربما اعتقدوا أن مجرد قولهم لما قالوه كاف ليُصَدَّق؟ لا يا أيها السادة العلماء و “الدكاترة”، لن تكفيكم الهُمزة اللُّمزة، و سَيَجبُ على برنوسكم أن يعرق أكثر من هذا.
لم أجد من بين عشرين مقالا أو أكثر هاجمني في الصحافة، فضلا عن مئات التعليقات على المواقع الاجتماعية، مقالا واحدا ليَردَّ موضوعيا على الأفكار التي طرحتها. كما لم يتفضل أحد من هؤلاء بالقول علنا و بوضوح: هذه فكرة خاطئة، و هذه مسروقة، و تلك تتطاول على الدين…إلخ. و لم يتمكن كذلك أحدهم من صياغة بداية جواب على الأسئلة التي طرحتها، مكتفين جميعهم بالتحليق حول الموضوع من بعيد، أو الصراخ و العويل مع من اتهموني مباشرة و صراحة بالكفر. و لما كان الأمر كذلك، و بما أن الجدال دار حول ما تناولته من الآية الثالثة من سورة المائدة، و الآيات المتعلقة بالخلق الفيزيولوجي و التاريخي للإنسان، و تلك المتعلقة بخلق السماوات و الأرض. فسنرى إذًا إن كان من بين العلماء و الدكاترة من يتفضل و يجيبنا من أعالي منبر جهله المقدس عن تلك الأسئلة و أخرى مثل هذه الدفعة الجديدة من الإستفهامات (و أؤكد أني لم أسرقها من المستشرقين):
1) قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها “. و نعلم أن الضمير “من” يشير إلى الفرد أو الجمع على حد سواء، و يمكن تعريف “التجديد” هنا بالنهضة التاريخية للدين، كما ندرك جيدا أنّ “الدين” يُقصَدُ به البعد الفكري و الحضاري للإسلام و ليس العقيدة في حد ذاتها. إذن لو سَلَّمنا أن هذه القراءة للحديث صحيحة، فهذا يعني أنه ينبغي أن يكون عدد “المجددين” الذين برزوا خلال القرون الثلاث عشر الماضية معتبرا، على الأقل ثلاث عشر مُجدد، فأين هم؟ أو ربما لم تتطلب الحالة الرائعة التي توجد عليها الأمة وجود أحد منهم؟ في هذه الحالة ما المغزى من هذا الحديث؟
2) إذا كان القرآن نُزّلَ على شكل السور التي نعرفها اليوم، كما يزعم و يصر عليه البعض، فلماذا إذن تَحملُ خمس عشر واحدة منها عدة أسماء؟ مثلا ” الفاتحة “تحمل حوالي عشرين إسما من بينها: الحمد، الأساس، أم الكتاب و السبع المثاني، و “التوبة” تعرف كذلك بـ: براءة، المقشقشة، المبعثرة، الفاضحة، أما “النحل” تسمى كذلك بالنعم، و “الإسراء” تعرف أيضا بسورة بني إسرائيل، كذلك ” السجدة” بالمضاجع، “فاطر” بالملائكة،”غافر” بمؤمن،”فصلت” بحم السجدة، “محمد” بالقتال،”الملك” تعرف بتبارك أو المنجية، “الإنسان” بالدهر،”العلق” بالقلم،” الماعون” بأرأيت،” المسد “بأبي لهب، و “الإخلاص” بالتوحيد ؟
و هاهو رأي عالم جزائري، السيد حمزة بوبكر رحمه الله، صاحب ترجمة  للقرآن الكريم، العميد السابق لمسجد باريس و والد العميد الحالي الدكتور دليل بوبكر، إذ كتب:” ليس للإسم، الذي أحصاه جامعِي القرآن الأوائل و تبنته الروايات المتواترة، في أغلب السور سوى قيمة دلالية فقط، فهو يسهل على الذاكرة تعيين سورة ما (و التي لا تعتبر في حد ذاتها فصلا) بفضل إبراز كلمة منها تبدو الأكثر تمييزا في النص القرآني المعني بالتسمية. فاسم السورة ليس بحجة، و لا هو بلازمة  أو تذكير بحدث أو ظرف، و ليس ضبط أو اختصار لموضوع مفصل… السور حاليا مرتبة حسب طولها، و يختلف هذا الترتيب التعسفي و الذي فُرض رسميا، عما دوّنه ابن مسعود و أبيّ بن كعب، و هو لم يُبنى حسب تسلسل منطقي كما لم يُعنى إطلاقا بترتيب النزول، فقد وُزّعت  السور القرآنية 114 حسب استعمال تقليدي جعل أولى الإعتبارات حاجات دراسة النص المقدس وحفظه عن ظهر قلب…” (ترجمة القرآن ،منشورات ENAG الجزائر العاصمة 1989)
3) المعتقد الشائع هو أنَّ القرآن يتكون من 114 سورة، منها 86 مكية و 28 مدنية، لكن الحقيقة تختلف قليلا عن ذلك. فالقرآن يتكون حقيقةً من 51 سورة مكية، و 22 مدنية، و باقي السُور تنتمي إلى فئة ثالثة يمكن أن نصطلح عليها “بالمختلطة” و عددها 41، و هو ما يقارب ثلث القرآن الكريم. وما أصفها بالمختلطة هي الـ35 سورة مكية التي تحتوي على آيات مدنية، و الـ 6 سور المدنية التي تحتوي على آيات مكية. هل نعرف أسباب هذه التعديلات و مغزاها؟ أليست غاية في الأهمية، حتى ولو لم تخص إلا عددا صغيرا من الآيات مقارنة بالكل؟
السور المكية التي تحتوي على سور مدنية هي :”الأنعام”،”الأعراف”،”يونس”، “هود”، “يوسف”،  “إبراهيم”،”الحجر”،”النحل”،”الإسراء”،”الكهف”،”مريم”،”طه”،”الفرقان”،”الشعراء”،”القصص”،”العنكبوت”،”الروم”،”لقمان”،”السجدة”،”سبأ”،”يس”،”الزمر”،”غافر”،”الشورى”،”الزخرف”،”الدخان”،”الجاثية”،”الأحقاف”،”ق”،”النجم”،”القمر”،”الواقعة”،”القلم”،”المزمل”،”الماعون”.
أما السور المدنية التي تحوي آيات مكية هي:”النساء”، “الأنفال”، “التوبة”، “الحج”، “محمد” و “الرحمن”.
4) يُمكنُ أن نَفهَمَ أنَّ آيات مدنية نُقلَت إلى سور مكية فهي نزلت بعد هذه الأخيرة، لكن ما السر وراء صعود آيات مكية إلى سور مدنية، مع أن بعضها سبق كثيرا في تاريخ التنزيل ؟ كما مثلا في “النساء” و ترتيب نزولها 92، “الرحمن” و تقع في المرتبة 97، أو “الحج” و ترتيب نزولها 103؟ أين كانت هذه الآيات قبل هذا التحويل؟
5) اختلف علماء الدين الأوائل حول عدد (و/أو) رقم الآيات المنقولة في سور “النساء”، الأنعام”، “الأعراف”، “هود”، “يوسف”، “إبراهيم”، “الكهف”، “مريم”، “طه”، “الشعراء”، “غافر”، “الدخان”، و أخرى. لماذا؟
6) سورة “القلم” هي الثانية في ترتيب النزول و 68 في الترتيب الحالي. و من بين آياتها الـ52، توجد 22 آية مدنية (من الآية 17 إلى 33 و من 48 إلى 52). هذا يعني أنه انقضت ما بين نزول آياتها المكية و المدنية 13 سنة (لو نُقلت إليها الآيات المدنية في السنة الأولى من الهجرة)؛ أو حتى 22 سنة (لو نقلت إليها في السنة الأخيرة من الهجرة). متى نزلت هذه الآيات المدنية بالضبط ومتى جرى نقلها لسورة القلم المكية؟ ثم أين كانت هذه الآيات قبل أن تُنقل؟
7) سورة “التوبة” لا تبدأ بالبسملة لأنها كانت في الأصل تابعة لسورة “الأنفال” قبل أن تفصل عنها. و هي تحتل في ترتيب النزول المرتبة 113 و الترتيب الحالي المرتبة السابعة، بينما توجد “الأنفال” في المرتبة 88 من ترتيب النزول و الثامنة في الترتيب الحالي. لماذا هذا القلب في الترتيب حيث تأتي “الأنفال” بعد “التوبة”، بينما العكس هو المنطقي و الأرجح؟
8) في سورة “التوبة” أيضا نَجدُ “آية السيف” التي تُعرَفُ أنها نسخت عدة آيات سبقتها. ماذا لو كانت هذه الآية موجودة في سورة الأنفال (قبل النقل الذي فصل التوبة عنها)؟ ألا ينزع ذلك عنها طبيعيا القدرة على نسخ الآيات التي نسختها، بما أنها كانت ستصبح في ترتيب النزول في المرتبة 88 عوض 113؟
من يمكنه أن يجيب عن كل هذه الأسئلة ؟ و يستمر التفكير والنقاش. و الله أعلم.
سبتمبر، 
2017
بقلم: نور الدين بوكروح ترجمة: عبد الحميد بن حسان
 يقول المولى تعالى “…. أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا … “ ( النساء 97 )
ويقول أيضاً ” …وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ “ ( المائدة 82)
في الزمن الذي نزلت فيه الآيات التي تذكر شساعة الأرض – ذُكر هذا المعنى أيضا في سورتي “الزمر” (الآية 10) و”العنكبوت” (الآية 56) – لم يكن كوكبنا مكتظّا كما هو اليوم، إذ لم يبق على ظهرها أيّ متر مربع بدون مالك أو بدون أن يكون له إطار قانونيّ. لم تكن هناك حدود وطنية معترف بها في القانون الدولي، ولا جوازات سفر ولا تأشيرات. كان بالإمكان التنقل إلى أي مكان على ظهر حصان أو سفينة شرط أن يكون المسافر تحدوه عقيدة ما، أو أن يكون من محبِّي المغامرة. كل شيء تغيّر اليوم، لكن أفكار المسلمين بقيت على حالها، إذ لا يزالون يتصرفون من منطلق أن الأرض لله، وأنهم، هم وحدهم، أصحاب الحق في ملكوت الله. وهكذا فهم يرون أنهم في ديارهم حتى وهم في ديار الآخرين.
من المفيد أنْ نبحث في أحداث الساعة عمَّا بقي لنا من فضائل دينية خاصة في معاملتنا للآخرين وعلاقتنا بهم. لقد وجدنا تلك الفضائل أكثر انتشارا في البلدان المسيحية، عند حمل الله – وهو الاسم الآخر للمسيح عليه السلام – منها في أرض الإسلام التي يُذْبح فيها المسلمون وغير المسلمين على السواء كقرابين على محراب الإسلاموية. فالتكفُّل باللاجئ المسيحيّ الفارِّ من بلاده المنكوبة فكرة لا تخطر على بال المسلم، بل لا وجود لها حتى في خياله.
إنّ أقوى مقاييس العدل هو تبادل الأدوار، فهو المقياس الذي تنبني عليه قاعدة الثنائية التي هي أساس القانون الدوليّ. فإذا أردنا فهم مشكلةٍ ما وإيجاد أحسن حلٍّ لها، وجب علينا أحيانا أن نضع أنفسنا مكانَ الغير. فلقد كان المسلمون عاجزين عن الخروج من ذواتهم من أجل تفحص الأشياء من زاوية نظر غير إسلامية. فلو أنهم تمكنوا من ذلك وقارنوا بشكل موضوعيّ بين أسلوب تفكيرهم وبين أساليب تفكير الآخرين ـ كي لا يُطالبوا بما لا يرضون هم أنفسهم منحه للغير ـ لأُتيح لهم الوقوف على حجم ظلمهم وأنانيتهم ومقدار بعدهم عن المشاعر الإنسانية. وبانتشار الإسلاموية اسْتَشْرَتْ ذهنية الإقصاء حتى بين صفوف المسلمين، فلم يعد بينهم تسامح ولا وئام، وهم يتقاتلون فيما بينهم دون سبب في كل أصقاع أرض الإسلام.
وهنا نصطدم بحقيقة غامضة في الخُلُقِ الإسلاميّ: ففي السنة النبوية دعوة في هذا السياق كـالتي لخصها هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه) وعلى اختلاف صيغ الرواية، فإننا لو اكتفينا بفهم الحديث على أنه يقصد المسلمين وحدهم، فإنّ رفض الغير وإقصاء غير المسلمين من بني آدم ومن” الأخوة في الله”، يصبح أمرا ثابتا في أخلاق الإسلام. و بالتالي يصبح الله سبحانه إلها للمسلمين دون غيرهم و ليس ربا للعالمين – تعالى الله عن ذلك-. فكيف يكون الإسلام بعد هذا هو الدين الذي جاء استكمالا للديانات السابقة التي يعترف بها و الذي يؤكده قول النبي (ص) :”إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق” ؟
ملايين من المسلمين لاذوا بالفرار من وحشية حرب نشبت بين الإسلاموية والإستبداد، الأولى منهما تريد أخذ مكان الثاني لإقتراف ما هو أبشع. وقد كانت وجهة الفارّين نحو البلدان المسيحية واللائكية بحثا عن ملجأ آمِنٍ. إنهم لم يَتَحَدَّوْا عُباب البحار والموت وحُرَّاس الحدود ليلجئوا إلى أرض إسلامية، بل اتجهوا إلى الغرب يتقاذفهم المد والجزر، مُقْتدِين في ذلك بصحابة الرسول (ًص) الذين اختاروا اللجوء إلى النجاشيّ المسيحيّ في الحبشة عندما تنكّر لهم إخوانهم العرب واضطهدوهم.
وكثيرون هم قادة الإسلاموية ومناضلوها الذين وجدوا في البلاد المسيحية نجاتهم وخلاصهم، واستفادوا، بل تمتّعوا باللاَّئكية وحقوق الإنسان، والبيان العالمي عن حقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف. والأسماء كثيرةً فمن جمال الدين الأفغاني ووصولاً إلى قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومن الخميني إلى الغنّوشي، نجد هذه الحقيقة قائمة. إن هؤلاء القادة استفادوا، وهم في منفاهم، من القيم الغربية المذكورة أعلاه دون أن يكون لديهم أدنى استعداد لمعاملة غير المسلمين بتلك القيم في بلدانهم هم. فبمجرّد عودتهم إلى أوطانهم يسارعون بالعودة إلى التشنيع بالغرب ليثبتوا وفاءهم للأرثدوكسية الإسلاموية. ذلك أنهم تعوّدوا على إيجاد طريقة لإثبات الشيء وضده بالرجوع إلى ما أسميه العلم القديم، فقد وجدوا لهذا النكران ولهذا العقوق ما يبرره ويؤسس له في الموروث الإسلامي بقولهم: الحــــرب خــــــدعة.
إنّ هدف المسلمين في أرض الغربة ليس العيش في أمان فحسب. فبمجرّد تسوية وضعياتهم واستقرار أحوالهم واطمئنانهم إلى أن حرية التعبير والنشاط الجمعويّ أصبحت في مُتناولهم، يشرعون في نشر مطالبهم الجماعية لفرض فكرة أو رفضها، إذ يبدؤون بتحريم أكل الخنزير ومنع الإختلاط، ثمّ ينتقلون إلى المطالبة بفتح مساجد وبارتداء أشكال محددة للحجاب… وهم يفعلون ذلك دون أن يشغلوا أنفسهم برأي مُضَيِّفيهم. وهكذا يصير حالهم كحال الضيف الذي يفرض رغبته على صاحب الدار، آمِراً إياه ضمنيًّا أن يغيِّر ثقافته ومأكله، وبشكلٍ ما أن يصبح مسلماً رغما عنه.
ما قيمة حقوق الإنسان، وماذا عسانا نفعل بها إذا كان هناك مَنْ يعبث بها بقبول بعض مبادئها التي تخدم مصلحتة ورفض المبادىء الأخرى، بل استعمالها ضدّ من نظّر لها وطبّقها وشرفوهم بها. إن مأساة الطفل إيلان الكردي هي المأساة التي اخترقت الآفاق وخاطبت الضمائر ببلاغة لا نظير لها، وأحدثت انقلابا جذريا في الرأي العام الغربي بخصوص موجات المهاجرين، إذ اضطرت البلدان الغربية تحت ضغط الرأي العام إلى فتح حدودها لجحافل اللاجئين.
ولم تَسْلمِ الكنيسة الكاثوليكية من موجة التأثُّر التي فجّرتها حادثة موت ذلك الكرديّ الوديع. فالمعروف عن البابا الحالي أنه صورة عن سلفه القديم سان فرانسوا داسيز (Saint François d’Assise ) إذ يتلخص اتجاهه في العودة إلى فضائل المسيحية الأصيلة، أي الرحمة والإحسان. وهكذا وجّه نداءً إلى كل المسيحيين في العالم يدعوهم إلى دق النواقيس وفتح قلوبهم و أحضانهم و أبواب بيوت الكنيسة و بيوتهم للاّجئين، مضيفا إلى ندائه هذه الكلمات ” إذا كان الزوجان منغلقين على نفسهما، والأسرة منغلقة، والجماعة منغلقة، والكنيسة منغلقة، والوطن منغلقا، فنحن المسؤولون عن هذا الوضع وليس الله”. إنّ الأمر لم يتوقف عند حدود الإحسان المسيحي، بل كان وراءه دعم قوي مصدره القيم الإنسانية وقيم الفكر الجمهوري. فللرّدّ على الإسلاموفوبيا التي استشْرت في صفوف اليمين المتطرف بادرت حكومات أكبر البلدان الأوروبية بمنع التنكر للاّجئين بناءا على انتمائهم الدينيّ.
هل يمكن أن يصدر مثل هذا الصنيع الإنساني عن المسلمين الذين يمثل الدين عندهم المقياس الوحيد للتمييز بين الناس ؟ ومن المؤكد أن القرآن بريء من هذا الإعتقاد الفاسد، إنما هو العلم القديم والتأويل الذي اعتُمِد منذ إثني عشر قرنا بالإعتماد على معطيات تجاوزها الزمن. إن هذا العلم القديم يمكن أن يُخيِّل لأتباعه أنّ عملية إنقاذ اللاّجئين ما هي إلاّ مخطط شيطاني هدفه تنصير المسلمين. فهو يفضِّل أن يبتلع البحرُ هؤلاء اللاّجئين أو أن يسقطوا تحت رصاص بشار الأسد أو “داعش” على أن يعترف بمسؤوليته عن هذه الأحداث بل ومسؤوليته عما يحدث في العالم الإسلامي عموما من تدمير ذاتي.
أمّا عن الرافعة التي سقطت من علوّ شاهق بسبب خطأ إنساني وأدت إلى مقتل مئات الحجاج فما هي إلاّ دليل على “معجزة”. كيف لا وقد “سجدت” أمام عظمة الله؟ و لن يختلف الأمر كثيرا عن الإزدحام الذي أدى إلى مقتل زهاء ألف شخص، فما ذلك إلاّ “فضل” من الله عز وجل الذي أراد “إكرام” الضحايا بأن يُدْفَنوا في الأراضي المقدسة، بجنب الصحابة. فإلى متى سيستمر هذا الجهل المقدس ؟ وما الذي عساه أن يداوي سقم الجنون الإسلاموي ؟
إنّ السلطات في البلدان الإسلامية “المنتفخة كبرا وغطرسة”، مدنية كانت أو دينية، تواجه ما يحدث من جرائم فردية أو جماعية ببرودة تامة، ولا يدعوها كل ذلك إلى مراجعة سياساتها أو خطابها. أيمكن أن نتصور هذه السلطات وهي تبادر بفتح أبواب المساجد للمسيحيين، أو أبواب بيوتهم الشخصية للمضطهدين كما فعل الأمير عبد القادر في عصره في سوريا ؟ كم مسلما بادر بإنقاذ أطفال مسيحيين أو يزيديين “مشركين” كما فعل صلاح الدين الأيوبي (الكردي) عندما أنقذ عدوه “ريتشارد قلب الأسد” من الموت المحقق ؟ وفي المقابل، كم مسيحيا أنقذ أطفالا مسلمين ووفّر لهم العلاج والغذاء، بل وتبَنَّاهم ؟ هذا المشهد الأخير نراه كلما أصيب بلد إسلامي بمكروه، حربا كان أو زلزالا أو نزوة من نزوات التعصب.
إنّ هناك فرقا شاسعا بين المهاجرين الأوروبيين باتجاه أمريكا في القرن 17 وبين المهاجرين المسلمين اليوم. فالأوروبيون الذين هاجروا إلى أمريكا كانت هجرتهم بحثا عن عالم جديد ينوون بناءه وليس العيش في بلد تم تأسيسه يقدم الأمن، المأوى و العمل و يحترم حقوق الإنسان، أمّا اللاجئون المسلمون اليوم فهم يتجهون إلى أوروبا لأنهم يصْبون إلى الإستقرار في كنف أنظمة إجتماعية متقنة و إقتصاديات ناجعة و مزدهرة. إنهم يريدون الإندماج في نظام جاهز، ولا ينوون خلق شيء من العدم كما فعل ركاب سفينة “مايفلاور” الذين كان زادهم الوحيد هو (الإنسان، الأرض والوقت) حسب تعبير مالك بن نبي. إنّ المسلمين كانت بين أيديهم هذه العوامل الثلاثة الدائمة منذ زمن بعيد، لكنهم لم يستفيدوا منها شيئا، بل بذَّروها، أو هم مستمرون في تدميرها بأيديهم باسم السلفية تارة وباسم الوهابية والتعصب والإرهاب تارة أخرى.
إن عدد المسلمين اليوم زهاء مليار ونصف من البشر ما يعادل تقريبا 23% من تعداد سكان العالم، يشغلون 32 مليون كلم2 من مجموع مساحة المعمورة المقدرة بـحوالي 149 كم2. الوقت عنصر متوفر لديهم كسائر البشر، لكنهم مع هذا لم ينجزوا ما أنجزه الأوروبيون في أمريكا، ولن ينجزوا شيئا بأفكارهم الميتة التي يجترّونها معتقدين أنها أسمى تعبير عن الحقيقة الإلهية، وهي في الواقع من العلم القديم. بل بالعكس، فهم يموتون بمئات الآلاف سنويا، وتضيع منهم أراضٍ وأراضٍ (فلسطين والسودان على سبيل المثال)، وتتساقط بعض دولهم التي لم تتأسس إلاّ بصعوبة (مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن وأفغانستان وباكستان…). ولكون المسلمين عاجزين عن تشييد بلدانهم والمحافظة عليها والعيش فيها بهدوء، فقد تحولت حضارتهم إلى حضارة غرقى ولاجئين ومهاجرين غير شرعيين لا يقنعون بالإندماج في المجتمعات التي استقبلتهم، بل يتحيّنون أوّل فُرَصَة لزرع بذور المرض الذي نفاهم من وطنهم.
إنّ أبسط ما يُنتظر من هؤلاء اللاّجئين المسلمين ومن أبنائهم ألاّ يكونوا سببا في خلق مشاكل خطيرة للبلدان التي استقبلتهم باسم حقوق الإنسان والروح الإنسانية والإحسان المسيحي.عليهم أن يتفادوا، مع مرور الزمن وبفعل النسيان، قلب أسباب هجرتهم (التعصب وعدم التسامح) من بلدانهم ضد مضيفيهم. عليهم ألاّ يعتبروا “الإدماج” بمثابة استسلام الأغلبية لتقاليد الأقلية بحجة أن الإسلام هو أحسن دين وأن القرآن هو كلام الله وأنهم، هم، “خير أمة أخرجت للناس”. على المسلمين أن يحركوا مجاديفهم في الإتجاه الذي اتخذته البشرية، لا في الإتجاه المعاكس، عليهم أن يراجعوا المحتوى الحقيقي لأفكارهم الراكدة منذ اثني عشر قرنا وما تقتضيه على مستوى التعامل مع العالم، مع التاريخ ومع الآخر.



بلدان مشاكل و شعوب الغد

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة شايب الحوسين
وجدت الأوطان من خلال بحث الإنسان عن مأوي يحميه من الحيوانات الضارية، ويقيه من سوء الأحوال الجوية، وشر تقلبات الزمن، أو من احتكار الأراضي الخصبة، أو من سطوة قوة أو هيئة دولية كالقرار الشهير رقم 181 لجمعية الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين. الإسرائيليون لا يريدون إرجاع الأراضي المحتلة سنة 1948 و1967 للفلسطينيين، و يعتقدون بأنها جزء من ” أرض الميعاد” (الموعودة من طرف الرب) ويتجاهلون قرار الأمم المتحدة. و منظمة حماس لن ترد غزة للسلطة الفلسطينية بسبب الفكر الإسلاموي.
الكل كان يوما ما إما فاتحا، أو مُستَعمِرا، أو مُستَعمَرًا، أو ذِمِيًا، أو لاجئا، أو بدون وطن، أو مغتربا، أو منفيا، أو “حراڨا”… الكثير من الناس لا يدرون في أي أرض أو أي بحر ستنتهي بهم الأيام. كل البلدان وجدت يوما ما، لم يكن أي بلد موجودا عند ظهور الإنسان، و بفضل الطفرات الجيولوجية و المناخية و البيولوجية و الثقافية والتاريخية، تمكن الجنس البشري شيئا فشيئا من تنظيم نفسه من أجل البقاء على قيد الحياة على شكل عائلات، أو قبائل، أو مدن، أو إمبراطوريات، أو حضارات، ثم في شكل دول وطنية في العصور المتقدمة، فحُددت الأقاليم والإيديولوجيات كما تفعل الحيوانات  من أجل ضمان فضاء للعيش، و كثيرا ما اندلعت حروب بسبب الرغبة في امتلاك أو حيازة بعض الكيلومترات المربعة، أو” التبشير” الديني، أو الإيديولوجي.
قلة من الشعوب تعرف أين كانت منذ ألاف السنين، من أين أتت بالضبط و لماذا هي متوطنة حيث هي بدلا من مكان آخر، فمعظمها ليست لديها حتى النية لمعرفة ذلك. الآباء المؤسسون للإتحاد الإفريقي وضعوا في موجة التحرر في سنوات الخمسينات مبدأ ذكيا وهو عدم المساس بالحدود الموروثة من الإستعمار. تشكلت بلدان عن طريق الهجرة  كالولايات المتحدة الأمريكية، أو عن طريق الحروب التحريرية، أو عن طريق اتفاقات بين القوى العظمى، كما هو حال الكثير من المستعمرات الإفريقية، أو عن طريق انقسام مجموعات كبرى جراء الإختلاف الديني (كالهند و باكستان،السودان و جنوبه)، أو على أساس الإيدولوجيا (الصين، ألمانيا، كوريا، الفيتنام، الأراضي الفلسطينية في الضفة و القطاع…).
انهارت التجمعات التي أنشأت على أُسس إيديولوجية، سياسية، أو لغوية (الإتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا، بريطانيا العظمى التي انفصلت عنها إيرلندا، وكادت أن تلتحق بها اسكتلندا إلى عهد قريب). والدول التي نشأت بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية، هي بدورها في طريقها إلى التفكك كما هو حال العراق و سوريا. من بين الإخوة المنشقين، يوجد الذين تصالحوا كما هو حال ألمانيا الشرقية والغربية، والفيتناتم الشمالي والجنوبي، بينما ” الإخوة ” المسلمون يتطلعون ويعملون على مزيد من التفرقة والإنقسام في المستقبل.
إن بعض البلدان تؤجر لوائها البحري لمالكي السفن من أجل زيادة مداخليها بالعملة الصعبة، و بلدان أخرى تؤجر أراضيها الزراعية للشركات المتعددة الجنسيات، وثلثا سكان لبنان يعيشون خارج حدود بلدهم الصغير جدا، و نصف سكانه تقريبا مكون من الفلسطينيين والسوريين الذين طردوا من بلدانهم منذ 1948 بالنسبة للأولين و 2012 بالنسبة للآخرين. وفي دول الخليج الغنية، الأجانب فيها أكثر بكثير من سكانها الأصليين، و يوجد اليوم كثير من الأسباب، أو الذرائع التي تفرق العالم الإسلامي، أكثر من العوامل التي توحده.
إن التحولات الجيولوجية والمناخية والثقافية، و كذلك الأسباب التاريخية التي شكلت هذا الكوكب لا تزال قائمة، و نحن نشهد في أيامنا هذه تشكيل خارطة جديدة لإستيطان أراضٍ شاسعة. بعض الأقاليم مهددة بالزوال بسبب ارتفاع مستوى البحار والمحيطات، وستجني على شعوبها فيصبحون بدون وطن. و بلدان خصبة تفرغ من سكانها لأسباب سياسية ودينية . ما هو مصير هذه الشعوب من دون أراضيها، و تلك الأراضي المهجورة خوفا من الحكام المستبدين أو من هذه العصابات المتعصبة؟ من الذي يستقبل الأولين (النازحين)؟ و من سيرث الأراضي التي يهجرها أهلها؟ ما مصير القيم كحب الوطن و الوطنية والحضارة و التسامح و الإنسانية التي طبعت المسيرة الطويلة للإنسان؟
هل يدري أحد في هذا العالم أين يتجه العالم؟ عندما كنا نسمع قديما أن العالم  يتغيّر، لم يكن يترائ للجميع لأن التغيير يبدأ دائما صغيرا وبصورة تدريجية. المتحفظون و المشككون يعتبرونه من بديهيات الأشياء، المتعلمون يستنتجونه من القياسات العلمية والمنحنيات الإستشرافية، لكن عامة الناس لا تدركه إلا إذا أصبح واقعا، و بعد برهة من حدوثه  يصبح بدوره خاضعا لقانون التغيير حيث يبدأ صغيرا لينتهيَ كبيرا.
في عصر الأقمار الصناعية والألياف البصرية و الرقمنة و النانومتر، يمكننا وضع هذا التغيير في غياهب النسيان، قبل أن تقره التحولات الملاحظة في نمط الحياة والأفكار، أو التكنولوجيات. يمكننا أن نراه كما لو كنا مجهزين بنظارات مكبِّرة أو بواسطة التلسكوب أو حتى بالميكروسكوب، والإكتشاف في نفس الوقت إلى أي نقطة يمكن لخيالنا أن يكون مخطأ عن واقع غير متوقع. إننا متيقنون بصفة مؤكدة بأن العالم يمكنه أن يتغير بأقصى سرعة، وهذا من خلال ما لاحظناه، و كذلك بفضل الإمكانيات التي شاهدناه بها.
و الأهم ليس في رؤية التغيير، و إنما في تحديد موقفنا منه. إن  مصير الجنس البشري  معرض لتهديدات كبيرة، نابعة من التغير المناخي، و اكتظاظ السكان، و ندرة الموارد، وهشاشة الإقتصاد العالمي، وعودة التعصب الديني، واستمرارية الأنظمة السياسية الاستبدادية، بدون تشجيع حكومات العالم إلى تنسيق مواقفها.
من الذي يصنع التاريخ : العالم أم البشر؟ إلى مرحلة ما، كان الكوكب أو العالم أو الطبيعة هم الذين يملون قوانينهم على الإنسان، ثم تمكن هذا الأخير من الوصول إلى قلب الأدوار، و تحرر من هذا الإرتباط، و أصبح تدريجيا “سيدا، ومالكا للطبيعة” حسب أقوال ديكارت.Descartes  منذئذٍ لم يترك مِقود التغيير وصنع تاريخه، بفضل الإمكانيات التي اكتسبها بذكائه و جهده. و يمكننا القول خلال نصف القرن العشرين أن الكوكب دخل في مرحلة “الانترو بوسين”  L’anthropocène” (أي عصر البشر)، حيث  ” للمرة الأولى في التاريخ، غيرت النشطات البشرية جوهريا، مجموعة الأنظمة التي تُبقي الحياة على وجه الأرض” (ماتيو ريكارد   Matthieu Ricardعالم الوراثة و راهب من التبت).
لكن ما نلاحظه في الأوقات الحالية، هو أن الشؤون الإنسانية تبدو و كأنها تخرج عن كل سيطرة، مما يثير مخاوف كبيرة من أن تصبح مصدرا لمشاكل جديدة للبشرية. الصور التي تصلنا من أوروبا منذ بضعة أشهر، تظهر أمواج المهاجرين وهم يقتحمون الحدود، والطرق السريعة، ومحطات المسافرين، وهذا دليل على أن أمورا محددة ستحدث، و التي لا يمكننا معرفة نتائجها إلا بعد جيل أو عدة أجيال.
هذه الأمواج البشرية مصممة على الحصول على موطأ قدم في أوروبا، أو الموت في البحر أو في الطريق. وكأنها موجة تسونامي تجتاح في طريقها الحدود، و نقاط المراقبة، و قوات الأمن، و القوانين الوطنية، و الإجراءات، و الممارسات الإجتماعية الخاصة، لتذكرنا بالتنبؤات التي اطلعنا عليها قديما في كتب مشهورة.  إنها كلمات المستشارة الألمانية التي صرحت بقولها “تدفق المهاجرين سيغير ألمانيا”. مرة أخرى هذا البلد أبهر العالم حيث وافق أربعة أخماس سكانه على قرار مستشارتهم بالترحيب ب 800.000 لاجئ خلال السنة الجارية، بينما ستستقبل فرنسا 24.000 لاجئ خلال سنتين و بريطانيا 20.000 لاجئ خلال خمس سنوات.
عند متابعتنا للتقارير المتعلقة باللاجئين على شاشات التلفزيون العربية والغربية، يصعُب علينا عدم ربطها بصور أخرى في نفس القنوات، تُظهر منظمة “داعش” باعتبارها أكبر مصنع إنتاج للمهاجرين، منذ الحرب العالمية الثانية.
هل يوجد حل لظاهرة الهجرة الفوضوية التي هزت العالم، والتي ستغيره ثقافيا على المدى البعيد؟إذا لم يتمكن المجتمع الدولي من ايقاف الإحتباس الحراري، و الذي اهتم به بعد فوات الأوان ، يمكنه أن يتجه لحل مشكل أمواج المهاجرين العرب بمعالجة أسبابه، و الذي نتج عن الاستبداد المحلي و إستراتيجية القوى العظمى التي سلمتهم للإسلاموية كي تفكك بلدانهم بسهولة. الجميع يركز على حل عواقب الأحداث و لا يفكر أحد في أسبابها، لماذا؟
كان احتلال الغرب لبلدان آسيا الكنفوشيوسية ( اليابان، الصين، كوريا) قد أيقظ شعوبها التي هي اليوم في طليعة البلدان ذات النمو العالمي. ونفس الاحتلال  وقعت للبلدان الإسلامية غير العربية في آسيا (اندونيسيا، ماليزيا، تركيا) و كانت لها نفس النتائج. لكن في أفغانستان و في البلدان العربية نتجت عنه فوضى دائمة و قاتلة (العراق، ليبيا، سوريا، اليمن). كتب الدكتور غوستاف لبون  (Gustave Le Bon)في كتابه “الإنسان و المجتمعات” L’homme et les sociétés  و الذي نشر سنة 1895، هذه الأسطر متنبئا : “لقد زرعنا الحرب والشقاق لدى هذه الأمم البعيدة وزعزعنا سباتهم الأزلي. و الآن جاء دورهم لزعزعة استقرارنا”.
هل أخفت أوروبا هوامش لاستيعاب الطلبات المفاجئة و الملحة للشغل، السكن و الأماكن البيداغوجية ؟ أكيد لا، و هي التي تحاول توزيع الحمل بين دولها الأعضاء الـ28 في حين أن اللاجئين لا يهتمون بكيفية تدبيرها للأمر ،فالوجهة التي تهمهم مجموعة دول بعينها فقط.
انقسم الرأي العام في الدول الأعضاء (عدد سكانها الإجمالي أكثر من 500 مليون) بين مشاعرهم الإنسانية من جهة و ضمائرهم تجاه وضعهم الإجتماعي و الإقتصادي الهش من أخرى: تظاهر البعض، و الذي يمثل الأغلبية إلى الآن، مطالبا بإستقبال المهاجرين، و لا يتوانى البعض الآخر،حليقي الرؤوس (skinheads) وأنصار اليمين المتطرف، ليسوا حاليا سوى أقلية، عن مهاجمتهم.كيف سيكون الوضع بعد بضعة سنوات؟ ستعيش الدول التي تهاجر إليها هذه الأمواج المحتمة و كأنه احتلال لأراضيهم، و لا يخفي بعض مسؤوليهم، كالوزير الأول الهنغاري، معارضتهم الشديدة للأمر. تم إنشاء أسوار من الإسمنت و أسلاك كهربائية شائكة، و تم وضع مدرعات في بعض النقاط الحدودية، كما تحرس غواصات حربية الشواطئ، و تم إعلان حالة الطوارئ كما هو الحال في مقدونيا، و يحاول كل بلد التملص من المشكل و تمريره لجيرانه…
إيجاد نماذج و أطر جديدة لتسيير المجتمع الدولي غير المنظم بقانون عالمي يُعد أكثر من ضرورة، لكن هذه النماذج ليست متوفرة إلى حد الآن. وعليه فإن ظاهرة الهجرة نحو أوروبا ليست في طريقها إلى الأفول، لكنها في ازدياد، ستتضاعف الهجرة غير المنظمة في السنوات و العشريات القادمة، مع إفقار واستنزاف البلدان التي لم تنج اقتصاديا خلال القرن الماضي، والإبقاء على الأنظمة الاستبدادية والإرهاب، والمياه التي ستغمر بلدانا بكاملها في طوفان مدمر كما هو الحال في قصة سيدنا نوح (عليه السلام).
صرّح رجل أعمال إسرائيلي يعيش في سان فرانسيسكو اسمه جازون بوزي قبل سنة في جريدة “الواشنطن بوست” بفكرة قدمها كحل للأزمة العالمية للمهاجرين، و هذه الفكرة تتمثل في إنشاء بلد جديد يمكن لهؤلاء السكان الذين يفرون من أقاليمهم، لسبب أو لأخر، من إنشاء “أمة المهاجرين “حيث سيعيشون في أمان، سيعملون كبقية الناس، حسب أقواله، وسكان هذه الدولة (أي أمة المهاجرين ) يستطيع أن يصل عدد  سكانها إلى 60 مليون شخص و هذا هو عدد هؤلاء النازحين في 2014 حسب أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة.
ربما استوحى هذه الفكرة من بلده الأصلي لكنه اختزل تجسيدها في أسلوب الإقتحام بالقوة كما هو حال إسرائيل التي أنشأت على حساب الفلسطينيين. و رجل الأعمال هذا فتح موقعا على الانترنيت حيث يعرض أربعة حالات و هي: الطلب من الدول المتقدمة ترك أجزاء من أراضيها الغير مستغلة لتثبيت السكان المبعدون، أو شراء جزيرة خالية من السكان، أو اختيار بلد من البلدان غير الكثيفة سكانيا، أو إنشاء جزيرة في وسط المحيط، و يعطي مثال ولاية كاليفورنيا التي يعيش 90 بالمائة من سكانها وهم أربعون مليون نسمة، في أقل من 10 بالمائة من مساحة الولاية. و هي بالضبط نفس نسبة التوزيع الموجودة في الجزائر. ولتمويل هذا المشروع، وجه نداء إلى الحكومات والمستثمرين الخواص للإسهام و المشاركة فيه.
ما رأيكم ؟ يجب أولا طلب آراء المهاجرين. فهم مهتمون بالبلدان الجاهزة و المهيأة والمتحضرة والغنية والسخية والتي تحترم حقوق الإنسان وتطبقها على كل البشر بدون تمييز، وليسوا مهتمين بأراضي عذراء، و لا حتى ببلد يتم إنشاؤه من العدم، أو إقليم بدون شعب، أو دولة تعرف مشاكل حادة استنادا إلى أي أفكار، أو نموذج تبنى عليها “أمة المهاجرين”، علما أن أكبر عدد من المهاجرين هم من المسلمين. يتوجب أيضا طرح السؤال للمهاجرين غير المسلمين. يجب أخذ رأي الجميع لمعرفة “رغبتهم في العيش المشترك”، وهل هم مستعدون لإنشاء هذه الدولة المثالية، وما هي القيم الأخلاقية والمؤسسات السياسية التي سيرسخونها في دستورها؟ أليس بسبب “عدم تطابق” الأنظمة الدينية والسياسية، هجر هؤلاء الناس أراضيهم؟ هل الهجرة كقاسم مشترك، تكفي كي يسود بينهم التعايش إلى أن يصبحوا مواطنين؟ إن مشروع جازون بوجي  Jason Buzi  غير واقعي وغير قابل للتنفيذ. إنه أصح أن يكون مخبرا كبيرا في الطبيعة، يتم فيه تجريب حلم ليس متاحا للبشر حاليا، ولكن يكون خصيصا لبرمجيات ورجال آليين.
هل نحن بصفتنا كجزائريين معنيون بظاهرة الهجرة الفوضوية ؟ نعم. وبكل أشكالها. فنحن بلد عبور للأفارقة نحو أوروبا، ووجهة لإخواننا الأفارقة والسوريين الذين لا نستطيع إغلاق أبوابنا في وجوههم. ونحن منذ زمن طويل بلد مُصدِر “للحراڤة” كنا منذ بداية القرن الماضي بلد مزود للمهاجرين خاصة نحو فرنسا، وهذا الإتجاه عرف طفرة خلال عشرية الإرهاب، وجاليتنا تحصي ما بين خمسة إلى سبعة ملايين شخص منتشرين عبر العالم. هذا بدون الأخذ بالتبعات التي قد تصيبنا في المستقبل نظرا لهشاشة اقتصادنا وسياستنا. إن الجزائريين ينتظرون ويسجلون ولن يطلبوا من الإتحاد الأوربي حينذاك أقل مما مُنح  للسوريين اليوم.
هل باستطاعتنا البقاء غدا، ونحن الذين كنا غائبين بالأمس، وألفنا العيش في حالة من الكسوف التاريخي، و في دور القرابين، ووقودا لحروب الإستعمار، ومساعدين على تدمير أنفسنا (الحرْكَة في حرب التحرير، الإرهابيون خلال سنوات التسعينيات)؟ نحن أيضا يمكن أن يتزعزع استقرارنا يوما ما، ونحن محاصرين من كل جانب ولدينا “حكومة قبائلية” في المنفى، وإخواننا الطوارق منتشرون في بلدان الساحل، و غرداية كانت إلى غاية عدة أشهر مضت حقلا للتجارب، ونحن نستعد للجوء مجددا للإستدانة الخارجية و الإسلاموية ما زالت تتوغل في المجتمع… مشكلات الغد هي المشكلات المطروحة اليوم على البلدان والشعوب، ومن بينهم نحن بالدرجة الأولى إذا تمادينا في غظ الطرف الآن.



مصير الأفكار الجديدة

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: عبد الحميد بن حسان
إنّ نصيب اللاّوعي (inconscient)  كبير جدا في كل أفعالنا، ونصيب  الوعي شيء ضئيل. ومادام نصيب من الأفكار القديمة يتمتع بالحياة والقوة التي لا يستهان بها، والأفكار الجديدة التي يفترض أن تأخذ مكان القديمة لا تزال في طور التشكل والنمو، مادام الأمر كذلك، فإنّ المُعاصرة تمثل دوما مرحلة انتقالية فيها كثير من الفوضى“( غوستاف لو بون “سيكولوجية الجماهير”- (Gustave Le Bon, « La psychologie des foules » 
إنّ مصير الأفكار الجديدة هو أنْ تُغيِّر العالم عن طريق تغيير الأفكار القديمة التي لم تَعُدْ تصلح ولم تَعُدْ قادرة على إنتاج حقائق اجتماعية إيجابية ومُحفِّزة، بل إنها قد تُوَلّد أفكارا إجرامية لدى البعض وأفكارا انتحارية لدى البعض الآخر. ونحن نرى بأم أعيننا أن هذه الحال تنطبق على الإسلام، إذ أنه لم يسجل لحسابه أي إنجاز علميّ ومعرفيّ منذ خمسة أو ستة قرون، وآلت به الحال إلى أن أصبح شعارا لنشر الموت وحجة للقتل والإجرام بغير طائل. من جهة يصبو الإسلام إلى أن لا يبقى مجرد دين فقط، لكنه من جهة أخرى عجز على أن يقدم نموذجا لنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي كامل  يتماشى و العصر.
و رغم ما يحدث في العالم الإسلامي فإنه لا مناص من ظهور أفكار جديدة وانتشارها، بل إنّ ما يحدث فيه هو الداعي إلى ظهور تلك الأفكار اليوم أكثر من أي وقت مضى. و فكرة الإصلاح جزء من هذا الأمل الذي يراودنا، ومع ذلك فهي ليست بالفكرة الجديدة إذ أن النبيّ (ص) نفسه كان ينظر فيها حتى قبل اختتام رسالته. ولم يُكتَبْ لهذه الفكرة أن ترى الوجود لأنها لم تجد الطريق الذي يؤدي إلى الهدف. فأولئك الذين نادوا بها خلال القرنين 19 و 20 كانوا يفهمونها كما فهمها ابن تيمية قبلهم بـ ستة قرون. أمّا الذين يتكلمون عنها اليوم فهم يميلون إلى نوع من اللائكية التي رأت النور رسميا في تركيا، وطُبِّقت بشكل غير رسميّ في كل من تونس والعراق وليبيا…إلخ، لكن بدون جدوى.
إنّ الإسلاموية والإرهاب هما سبب بقاء المسلمين في الفوضى الفكرية التي يتخبطون فيها. سيخرجون من هذا النفق متشرذمين تشرذما سياسيا وجغرافيا، وسيكون أمامهم أحد هذين الخيارين: فإمّا أن يتخلّوا عن دينهم ويتركوه بين يدي جنون الجهل والوحشية الذي سيؤدي به إلى الدمار الشامل، وإمّا أن يسلكوا سبيل الإصلاح كي يصبح الإسلام مؤهلا للتعايش مع مختلف الشعوب والحضارات والأديان والفلسفات والثقافات المتواجدة على الكرة الأرضية. وإذا اختاروا الإحتمال الثاني فإنهم سيشاركون في انتقال العالم إلى مرحلة الحضارة الكونية بدلا من أن يضمحلّوا ويسقطوا بأجسادهم وممتلكاتهم في الفوضى العارمة.
إنّ إصلاح الإسلام فكرة قديمة، إذ  أن الرسول (ص) نفسه تنبّأ أيامَ الوحي بأن الله سيرسل لأمة الإسلام على رأس كل قرن “مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ” إنه هنا يتحدث عن تجديد الإسلام بالفعل، وهذا أمر بعيد عمَّا ذهب إليه ابن تيمية عندما دعا إلى  “إصلاح الراعي والرعية “.
وعندما اختتم الوحي (نظريّا) بنزول الآية الكريمة: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا رُوِيَ عن الرسول ( ص) أنه قال لعمر هذه الكلمات التي تنطوي على لغز:” بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ “.
وقد اقترحْتُ هذا التفسير للحديث النبويّ السابق: بما أنّ الإسلام جاء في البداية كتجديد جذريّ للقيم الإنسانية، فإنّ عودته إلى صدارة التاريخ مرهونة بتجدّده. كيف يكون ذلك ؟ تلك هي المسألة التي نبحث عنها. إنّ عهد النبوّة والمعجزات قد ولّى، والإسلام اليوم يعيش انفجارا في خّمْسين بلدا عبر العالم، فلم يبق أمامنا غير خيارين: فإمّا أن تتبنّى البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي مشروع تجديد الإسلام، وإمّا أن تأتي المبادرة من دول العالم الأخرى بحمل تلك المنظمة على تحمّل مسؤولياتها.
ورغم أن فكرة تجديد الإسلام تستند إلى إقرار النبي (ص) فإنها كلّما ظهرت إلى الوجود غلب عليها الطابع الرجعي والنزعة المحافظة والغلوّ في الالتزام الحرفيّ، ذلك أن الجميع فَهِمَ من “العودة إلى المنبع” عودةً إلى الوراء، والحقّ أنّ الإصلاح والتجديد يتطلب المضي إلى الأمام والبحث في أغوار الإسلام غير المدروسة عمّا مِنْ شأنه أن يمثل مصدر إلهام، والتخفيف من وطأة العلم القديم على روح المسلم كي يتسنّى له أن يتنسّم هواء زمانه و يُثْلِج صدره بأفكار جديدة.
إنّ ما تتنعم به البشرية اليوم من امتيازات وأعاجيب الصّنع هو نتاج أفكار جديدة أتى بها أفراد في أزمنة محددة وأمكنة معينة، وهي أفكار لاقت إعراضا ورفضا، بل ومقاومة وحربا عند ظهورها، ثمّ صارت بالتدريج مقبولة نظرا لفائدتها و نجاعتها. ولا بدّ من الإنتباه إلى أنه من بين 80 مليارا من البشر عمروا الأرض منذ ظهور الحياة، ومن بين الستة ملايير التي تعيش على ظهرها حاليا، لم تسجل المعاجم ودوائر المعارف إلاّ 25000 من الخالدين في الذاكرة، يدخل ضمنهم حتى أولئك الذين تسببوا في الدمار والشقاء، كالديكتاتوريين والمجرمين والمتعصبين وكل الأرواح الشريرة الأخرى.
لولا الأفكار الجديدة، ولولا تجدد تصوّر الإنسان للوجود من فترة لأخرى، لما خرجنا من طور حياة الصيد وقطف الثمار البرّية، وفي أحسن الأحوال نكون اليوم في جوّ القرون الوسطى. وهكذا فإنّ الإسلام أصبح مصدرا للإنسداد الداخلي والسمعة الخارجية المشوهة بسبب غياب تجديد العلوم الدينية القديمة. إنّ هذا العلم الذي لم يأت ليجسّد الإسلام الأبدي، بل ليقدم تكييفا للقرآن مع الحياة البشرية، هذا العلم يبدو أنه قد وصل إلى نهايته.
لم يَعُدِ الإسلامُ إلاّ سجلاًّ لأفكار بلا روح، ولم يبق منه غيرُ “آثار و أطلال” حسب تصوير مالك بن نبي. صار عائقا في وجه التطور والنمو المعرفي والحرية والذكاء، صار يعرقل فعل الخير وقول الحق وفعله، وإنجاز الجمال وتذوّقه. وعن قريب سيظهر ديننا ـ وبسبب عدم تكييفه وعدم مسايرته للزمن ـ كخلاصة لكل ما هو خاطىء وقبيح وضار. إن المسلمين يعيشون في عصر العلوم الدقيقة بأفكار أبي هريرة. فأمامهم خياران: فإما الاضمحلال البطيء، لكنه أكيد، وإمّا ثورة ذهنية بالغة الصعوبة، لكنها تَعِدُ بمستقبل زاهر.
أينما وُجِدتْ جماعات بشرية حريصة على التقدم و الإنسجام الإجتماعي واحترام حقوق الإنسان، نجد أن الثقافة الاجتماعية وفن التعايش الجماعي والمعرفة العلمية هي مظاهر الحياة الشائعة والمدروسة في المؤسسات التعليمية، والمعممة على كافة أفراد المجتمع، وليس ثقافة الموت الدينية أو ثقافة عذاب القبر وكراهية الغير. ولم يتقدّم شعب بتعليم أولاده إتّباع الأجداد لكونهم صحابة شيفا(Shiva ) أو موسى (Moïse) أو كونفوشيوس(Confucius) أو بوذا  (Bouddha) أو المسيح (Jésus) ، أو أي عَلَمٍ آخر من أعلام التاريخ البشريّ، بتقديسهم وتقليد أفكارهم في الحاضر والمستقبل، و الإلتزام الحرفي بالتأويلات السطحية التي أعطوها لنصوص مقدسة منزلة أو نصوص من تأليف البشر منذ فجر التاريخ.
إنّ أكثر الكتب رواجا في الأسواق هي الكتب الدينية في البلدان الإسلامية لأنها تعفي الرجال والنساء من مهمة التفكير واتخاذ قرارات في حياتهم، وبالتالي فإنها تعفيهم من المسؤولية. إنهم يتعلمون منها لماذا وكيف يجبُ أنْ يُطاع الله والرسول وأولو الأمر والصحابة وأتباعهم وأتباع أتباعهم، وكيف ولماذا يجب أن يطاع “ورثة الأنبياء”، أي العلماء، وإمام المسجد وشيوخ الإيديولوجيا المشهود لهم، والدعاة المشهورون.
إنها كتب تُحدِّثهم عن الجنِّ، جيرانهم غير المرئيين، وعن تدخلهم وانغماسهم في حياتهم وأفعالهم وقراراتهم، وعن العقوبات الجسدية التي تنتظرهم إذا خالفوا الأوامر، ثُمَّ تُمْلِي عليهم ما يجب القيام به: الصلاة والتطبيق والتوبة من الأعمال السيئة والأفكار الخبيثة والإكثار من البكاء… و جزاء ذلك كله أن تُمنح لهم كل الأشياء التي حرمت عليهم في هذه الحياة الدنيا، وأن يُرزقوا بها في الآخرة بغير حساب.
إنّ الفرد المسلم الناتج عن هذه القولبة المكيفة، وعن غسيل المخ كهذا، مبرمج للإكتفاء بالإهتمام بفلاحه الشخصي في الدنيا والآخرة. لم يَحْظَ بتعلَم الروح الإجتماعية والحياة الجماعية والواجبات العامة والخير العمومي واحترام الآخرين مهما كانت مشاربهم، وكل ما تَعَلّمَهُ هو العبادات التي تُقَرِّبُ من الله والأفعال التي تأتي بـ “الحسنات”. إنّ الكتب التي تدعو إلى هذا النهج متوفرة بمختلف السبل، فإن افتقدنا الرغبة أو القدرة على قراءتها والإطّلاع على محتواها، فبإمكاننا الاطلاع على تعاليمها وتوجيهاتها مجانا في بيوتنا عبر قنوات التلفزة على أفواه أشخاص ذوي مظهر مُخيف، مفَوَّهين وجهَلَة.
كيف لنا أن نأمل إنتاج فرد عادي ومتوازن، أو مواطن مؤمن بفكرة الخير العمومي، أو نموذج بشري يعيش منسجما مع الآخرين، كيف لنا أن نأمل ذلك من تلك الثقافة المصطبغة بلون الموت، ومن هذا الإرهاب اللفظي والمعنوي والفكريّ والذهنيّ والجسدي و الإجتماعي والسياسيّ ؟
إنّ الإنسان الناتج عن تلك الثقافة يكون جاهلا باحترام تعدد المعتقدات، ويرى في الديانات الأخرى ضروبا من الإنحراف، رافضا لمفهوم تبادل الأفكار والمشاعر، وهو المفهوم الذي ينبني عليه التعايش السلميّ بين البلدان، وهو لا يؤمن بالقانون الدوليّ إلاّ في الحدود التي تضمن له مصلحته هو. إننا في هذه العُجالة التي وصفنا فيها كيف صُنِعَتْ تلك الرؤية الغريبة للعالم، رؤية متردية ومتقهقرة، جنونية ومنافقة، إننا بهذا نكون قد بيَّنَّا المجالات التي ينبغي أن يمسَّها الإصلاح.
كثيرة هي الأشياء التي ينبغي أن نعرفَها ونحن لا نعرفُها، وأعمارنا لا تكفي للإلمام بالمعارف الضرورية لفهم العالم والحقيقة التي نحن منغمسون فيها. فعلم الأعصاب مثلاً يفيدنا بأن المخ الذي لا يزن إلاّ 2% من أجسامنا، يخصص 20 % من الطاقة التي نستهلكها من أجل تشغيل المائة مليار من العُصَيْبَات التي تُشكِّله وملايين الملايير من المشابك العصبية الرابطة بين الخلايا العصبية. وإذا ما غابت الإثارة والاستثارة والتنافس، ولم تُطرح على المخِّ أية مشكلة تستدعي التفكير، فإن الذكاء ينطمس ويستكين للجمود والتبعية العقيمة والتقليد العقيم. وتُسمّى هذه الظاهرة بـ ( تأثير فلين ) L’effet Flynn، ويُقاس بدرجة جمود أو تقهقر معدل الذكاء QI. وتلك هي الأضرار التي يؤدّي إليها العلم القديم على مستوى المخ لدى المسلمين اليوم. إنه علم يجرّ إلى الجمود ويُنْتِج الفظاظة، والمخ يحيا بفضل مرونة مشابكه الرابطة بين الخلايا العصبية، ويزداد نشاطا كلما وفدت عليه معلومات وأفكار جديدة تستدعي المعالجة باستمرار.
وهناك علم آخر في طور التأسيس، هو علم الجينات التطوّري أو علم التخلُّق Epigénétique ( والعَالِمَةُ الجزائرية ماية عميّر  Maya Ameyarتشتغل بهذا الاختصاص، وقد خصصت لنشاطها صفحة على الفيس بوك) ، وهو علم يدرس تأثير المحيط في كيفية استجابة الجينات. كيف ذلك ؟  “إذا كان الحمض النووي ADN هو النص، فإن علم الجينات التطوري هو علامات التنقيط”. هذا ما يقوله علماء الوراثة. وإذا قصدنا التبسيط قلنا إنّ المخ الذي يعيش وسط أفكار معينة سيجد أن الجينات تتأثر بالمحيط الخارجي و بالأفكار الشائعة في المجتمع، سواء أكانت تلك الأفكار حبيسة الماضي أو تصبو إلى المستقبل.
وبناء على فكرة أن وظائف المخ تتراجع وتفقد مردودها في ظروف معينة، ينبغي أن ندرك أن العلم القديم تبذير لقدرة الذاكرة وللتقنيات المستعملة في الحفظ، وإهدار لمساحات التخزين على الذاكرة في المساحة المخصصة لذلك على مستوى المخ. إنّ العلم القديم يصبح مجرد مخزون معرفي أصابه التَّلَفُ ولم يَعُدْ صالحاً للاستعمال، وهو مجرد معلومات أكل الدهر عليها وشرب، لكنها لا تزال تشغل مكانا في الذاكرة كان يمكن أن يُخَصَّصَ لمعارف مفيدة وضرورية لتكيفنا مع الحياة المتطورة باستمرار. وربما هذا ما كان يلح عليه النبي (ص) كلما أشار إلى ضرورة العلم “النافع”.
و من جانب آخر يمكن معالجة ما تجب معرفته حول الدين بطريقة جديدة مُسايِرة ومرتبطة بشبكة المعرفة الحديثة التي تصبو دوما إلى المساعدة على خوض غمار الحياة والتصدّي للمستقبل. إذاً، فما يجب مراجعته هو كل ما يحتويه عقل المسلم اليوم من معلومات، وتنقيته من كل ما لم يعد صالحا، وتثمين ما هو مفيد. فما الفائدة من حفظ الأحاديث النبوية عن ظهر قلب، وكثير منها مدسوس، وما الفائدة من حفظ آلاف الأبيات الشعرية ومعرفة قصص الأزمنة الغابرة ؟
أصبحت المعلومات التي يزودنا بها العلم القديم بلا فائدة تُذكر، لأنّ بإمكان المسلم أن يؤدي جميع فرائض دينه دون أن يثقل كاهله بـعلم لا فائدة منه. إن المسلم اليوم متعلق بعلم متجه إلى الماضي ومتسمّر فيه، شأنه في ذلك شأن الذي يحاول أن يجلب الماء من بئر على وشك النضوب، فهو يرفع الدلو إليه بما فيه من ماء صالح وغير صالح، عذب ومالح، لذيذ ومُرَ، مُحْيي ومُميت.
إن الذكاء بحاجة إلى التنشيط بالأشياء الجديدة، وبالمعادلات متعددة الأطراف من أجل معالجتها، وبالأعاجيب الكونية أو المادية التي تستدعي الدراسة والتحليل، وبالظواهر المتعلقة بذواتنا و شفراتنا الوراثية، وبتاريخ الإنسان. إنّ العلم الحقيقي هو الذي يراجع نفسه باستمرار، وتلك هي أهم نقطة قوة فيه، أما العلم القديم فهو يدّعي أن الحقيقة متجسدة فيه، وتلك هي أهم نقطة ضعف فيه. إن بين أيدينا أشياء كثيرة تنتظر إنجازها في حياتنا، وقصارى ما يقترحه علينا العلم القديم أن نتمذهب ونتبع شيخا ونقدسه، أو نختار داعية نسير على حَدْوِهِ، ثمّ نحفظ عن ظهر قلب آلاف الصفحات.
لقد قام العلم بصياغة ما يسميه القرآن بـ”سُنَن الله” في معادلة، ثمَّ لخّصها في قوانين. إنها قوانين الله الثابتة وأساليب تسييره للكون ولحياتنا. إنّ الله هو الذي وضع للطبيعة قوانين تسير عليها، وجاء الإنسان ليكشف عنها ويحاكيها على مستواه من أجل خير البشرية. إن الله في خلقه للأحياء والجماد قد استعمل مواد متمثلة في جزيئات قاعدية و ذرات. والعلم لم يعُدْ يؤيِّد إنكار وجود الشعور والروح، بل أصبح يبحث عنهما في أصغر الأجزاء التي يمكن أن يصل إليها تجزيء الجسم المادي، وفي ملتقى ارتباط الجسم بالشعور. إن العلم صار يعرف أن هناك صلة بينهما، وأنّ الشعور يؤثر في المادة. وعلم الفيزياء الكميّة على وشك إثبات ذلك من خلال دراسة حركة الجزيئات القاعدية.
لقد قرأتُ يوما رواية تحت عنوان (صيغة الله) La formule de Dieu ، وتعجّبت بقدر ما استنكرت أن أجد وجهة نظر الديانات المسيحية واليهودية والهندوسية، والنظريات العلمية الحديثة حول الكون، حاضرة كلها في هذه الرواية، وغابت وجهة نظر الإسلام رغم أن الشخصية الرئيسية فيها عالمة فيزيائية مسلمة. ما السّرّ في تحيّز هذا الكاتب البرتغالي رغم أنه لا يوجد كتاب ديني يضاهي القرآن في التقاطعات الكثيرة مع العلم الحديث ؟ لقد عمد الكاتب إلى غض الطرْف عن نظرة الإسلام إلى الكون، واكتفى بعرض حياة المرأة الإيرانية.
إن العرب اليوم هم أكثر الشعوب تشبثاً بالماضي. أليست اليونان هي التي أتت للبشرية بالعلم والرياضيات والفلسفة والرياضة البدنية ؟ بلى، إنه كذلك، وأعلام الإغريق لا تزال آثارهم تُدرس في جامعات العالم بأسره. ورغم ذلك فإنّ الإغريق اليوم لا يحلُمون بماضيهم التليد. إن اليونان تتخبط حاليا في مآسٍ مزرية دون أن يضطرّها ذلك إلى إزعاج آلهة الأولمب بالدعاوى والشكاوى، ودون أن تركن إلى النواح على عقوق أوروبا تُجاه أمّها التي لولاها لبقيت أوروبا حقلا عاريا تسكنه كوكبات المتشردين. وكذلك الشأن بالنسبة للرومان والصين والمايا والآزتيك و الماغول. أمّا البربر ففيهم شيء من الميل إلى التعلق بالماضي مثل العرب، لكني أعتقد أن ذلك ليس طبعا فيهم، بل هو موقف ينافحون به عن أنفسهم في مواجهة العرب الذين لم يعودوا يحبونهم بسبب الأضرا ر الجسيمة التي جاءت مع التيار الإسلاموي.
ليس الإسلام هو الذي أوجد الحضارات التي ساعدته على الإزدهار والتطور العلمي والتقني عبر حقب التاريخ. فالآشوريون و الشاميون والمصريون والحيثيون والفرس والإغريق واليهود والآراميون والمسيحيون والهنود والصينيون، كلهم كانوا أهل حضارات سابقة للإسلام بآلاف السنين، وقد أنجزوا طفرات عجيبة في مختلف المجالات، وكان للإسلام أن استفاد من ذلك. وقد تمّ هذا بفضل استمالة أهل تلك الحضارات الذين وجدوا في الإسلام إطارا أخلاقيا وروحيا أكثر تحفيزا من معتقداتهم السابقة وطرق معيشتهم القديمة. لقد أراحهم الإسلام، وفي المقابل منحوه ذكاءهم واكتشافاتهم.
إنّ أهمّ ما يميّز الإسلام أنّه أيقظ مختلف الشعوب وحفّزها وقوّاها وزادها طاقةً، ووحّد بينها روحيّا وفكريّا وثقافيّا واقتصاديّا وسياسيّا. فقد كانت أرض الإسلام كالولايات المتحدة التي انضوت تحت رايتها ملايين البشر خلال القرنين 19 و 20. كانت دار الإسلام أرضا للتسامح الديني، ولحرية المبادرة، ولتكافؤ الفرص، ولروح الإبداع، والـتعايش في الاختلاف ( الإنصهار في بوتقة واحدة Melting Pot )، مع إخضاع ملايين المسلمين أنفسهم لمقتضيات ذلك التعايش.
وبظهور طبقة اجتماعية من رجال الدين الذين أصبحوا أداة في أيدي السلطة الجائرة، بدأ الإسلام يفقد مميزاته وأصبح الدين الإسلامي “أفيونا للشعوب” على حد تعبير كارل ماركس. وبدأ العلم القديم يأخذ مكان القرآن الكريم تدريجيا، وتحوّل القرآن من كتاب أبديّ إلى سجين مرتبط بظرف محدد تقادم عهده وتراكمت عليه أطنان من التأويلات التي تجاوزها الزمن، والتي ثبت خطؤها بفضل التطور، حتى أصبحت عرضة للسخرية لأنها مناقضة لمقاصد الخلق.
ونظرا لقصور الفكر الديني عن سبر أغوار المستقبل فإنه يدعو المسلمين السّذّج الذين هم بحاجة إلى رعاية ذهنية، يدعوهم إلى استلهام “السّلَف”، وهم الذين سبقونا إلى الوجود وعاشوا قبلنا منذ أربعة عشر قرنا. إنّ كل ما نسمعه في المساجد وقنوات التلفزة هو كلام عن السلف دون أن يحدث تغيير أو أن يتحرك شيء من مكانه أو يطرأ عليه تحسّن ملموس. الشيء الوحيد الذي يتغير مع كل خطاب هو وجه الخطيب. فلماذا نرضى بهذا الوضع ؟ وإلى متى ؟ أليس هذا ضربا من الجنون أو العبث الكوميدي الذي لا يقبل به إلاّ المتخلفون عقليّا ؟
بإمكاننا أن نُصنِّف “السلفية” ضمن أعراض مرض فقدان الإحساس بالاتجاهات. وهو مرض يؤدّي إلى الخلط بين الأمام والخلف، وبين الماضي والحاضر، وبين الدنيا والآخرة، وبين السماء والأرض، وبين الأحياء والأموات. وقد أتيح لهذا التيار أن يفرض نفسه في البلدان ذات الأنظمة الهشّة بقوة السلاح، إذ تمّ التنازل له عن تلك البلدان في إطار استراتيجية لا نعرف دوافعها، لكنها رغم ذلك حقيقة موجودة. و أمثلة ذلك ما حدث في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن. وفي حالات أخرى نجد السلفية مفروضة بالعنف الكلاميّ في بعض النواحي والأحياء و الفضاءات الإعلامية التي تتنازل عنها بعض الدول التي تهاب مواجهة السلفية. وأمثلة ذلك ما يحدث في باكستان ولبنان والجزائر ونيجيريا.
و لابد من الإشارة إلى أن المسلمين قضوا من الزمن في التدهور أو الاستعمار أكثر مما قضوا وهم أهل حضارة مستقلة. لقد مرّ على ظهور الإسلام 1437، وعلى الأصح 1449 سنة، والمسلمون اليوم لا يزالون يفكرون ويعيشون ويلبسون ويتكلمون مثلما كان يفعل المسلمون في بداية عصر الانحطاط. صحيح أنّ الساحة الدولية تغيرت، لكن الإنسان والروح لم يتغيّرا. المسلمون اليوم يُغّلِّبُون التجريد على التجسيد، والوعود على الإنجازات، والأبدية الإفتراضية على سيرورة التاريخ. هم في تبادلاتهم يعتمدون على قاعدة: شيئان موعودان خير من شيء واحد محقق.
وبما أن الوقت لا قيمة له عندهم، والماضي لا يختلف كثيرا عن الحاضر، فإن إرادة الإنسان عندنا مستمرة في الذوبان والتلاشي في إرادة الله. فلم يعد لتحسّب المستقبل والتخطيط و الإستشراف أية قيمة. وباستثناء التغيرات السطحية الناجمة عن التكنولوجيا الغربية ـ والتي لم تُؤدِّ إلى أي تغيير في البُنى الذهنية والثقافية ـ فهم لا يزالون يحلمون باسترجاع الأندلس والقدس و سمرقند، لكنهم لا يحلمون بغيرها، ولا بسبر أغوار المستقبل.
إن السلفيين لا يعرفون شيئا عن الثورة الزراعية ولا عن ثورة العصر الحجري أو ثورة القرن 18 أو القرن 20، لا شيء عن الثورة الصناعية خلال القرن 19 ولا الثورة الرقمية والعلوم الدقيقة في القرن 20. لقد هبطوا مثل الطائرة في عزّ القرن العشرين، ثُمَّ أقلعوا مباشرة بفضل البترول المنبجس من باطن أراضيهم، ووجدوا أنفسهم متربعين على ثروات طائلة دون أن يبذلوا أي جهد للحصول عليها. وعندما تحين الساعة، أي عند زوال هذه النعمة، سيعودون إلى رمالهم بدون عناء وبدون حسرة لأنهم شديدو الثقة في العناية الإلهية وهم راضون بحلوها ومُرِّها.
لم يسبق للمسلمين أن استُغِلُّوا كقوة مشتغلة عاملة، ولم يحدث لهم أن مرّوا على قالب التايلورية (نظرية الإدارة العلمية)، كما لم يذوقوا مرارة النضالات النقابية وصراع الطبقات، ولم يستفيدوا من التربية الإجتماعية التي تجعل منهم أفرادا يفيد بعضهم البعض الآخر. وفي كلمة واحدة: لم يتعلّموا قيمة الحياة البشرية. لم يسبق لهم أن حاولوا السيطرة على الطبيعة، ولم يضطروا إلى إكتشاف تقنيات جديدة في العمل من أجل تحسين المردود لأنهم يعيشون من لا شيء، ولا أمل لهم غير النظر إلى السماء.
إنّ البدويّ إنسان حرٌّ، حالم بما هو أعلى وبما هو أبعد من التاريخ، ومن أجل ذلك فهو لا يشترك في صنعه. وهو لا يأبه بتحدّيات الطبيعة، إذ ينظر إليها ثُمّ يُغيِّر طريقه ليتفاداها وليبحث عن الهدوء والسكينة في مكان آخر لا يُلزمه بالقيام بأيّ عمل. أما حالة طبقة الأوزون فهي آخر اهتماماته، وكذلك المشاكل المتعلقة بالبيئة وبالمجاعة التي تقضي على شعوب و شعوب. إنه يكتفي بمراقبة المرأة و التقاليد والأعراف، ويحرص على اللباس المطابق للقواعد، ويبحث عن الشيطان في كل التفاصيل… إنه لا يُبْدِع ولا يُصَنِّع، إذ يكفيه أن يُبادل و يُقايض ما عنده بما ليس عنده، وإن لم يوجد عنده شيء قنع بحليب الناقة. إنه مستغني عن كل الفنون والثقافات والموسيقى والسينما، فشعره البدويّ يغنيه عن كل ذلك.
إنه إنسان سيطرت على كل شغافه أوصاف الجنة الساحرة وأرعبه زفير الجحيم المخيف، والخوف من الجن إلى درجة غير معقولة، و الإفتتان الأسطوري بالمعجزات. وكل انشغالاته الجيوستراتيجية تنحصر في منافسة أمثاله وإخوانه في الدين على وجه الخصوص. وهم تجار البترول وتجار الدين.
إنني أعتقد أنّ تغيير المسلمين يقتضي تغيير العرب، وتغيير العرب يقتضي تغيير العلم القديم الذي يسيّرهم ويزوّدهم بتصوراته الذهنية. ولكي يتغير العلم القديم فلا بد من تفجير الطاقات الكامنة تحت الأرض حوله، وهدم السياج العالي الذي بناه هذا العلم، وذلك بتحطيم الطابوهات التي زرعها في الأرواح، ثمّ نضع أيدينا عليه من أجل إخضاعه للفحص والتحكيم.
ولن يتحقق هذا الحلم إلاّ بمشاركة جماهيرية فعلية، وبمشاركة الدول المؤمنة بالإصلاح الجذري للتصور الإسلامي للعالم من أجل إنقاذ البلدان الإسلامية من الإنهيار. أما المفكرون المؤمنون بهذه النظرة فدورهم هو إعطاء شرارة الإنطلاقة للعمل وذلك بحمل الدول على تبنّي الفكرة، كما بإمكانهم أن يشرفوا على العمل الميداني وذلك بمرافقة تنفيذ التدابير الإصلاحية، أمّا فرض الإصلاح فرضا شاملا فأمر غير محمود.
وإذا تمكنّا من تخطّي هذه العراقيل وتوفير الشروط القاعدية سيكون لزاما علينا أن نعود إلى الفترة السابقة لظهور العلم الديني، وهي الفترة التي تبدأ في القرن 3هـ، وقد تمتد إلى الفترة التي لم يُجمّعْ فيها القرآن بعْدُ فيما سُمِّيَ بمصحف حفصة ثُمَّ بمصحف عثمان بعد ذلك بخمس عشرة سنة، وهي العملية التي اتسمت بمخالفة الترتيب الذي نزل به القرآن الكريم.
إنّ العودة إلى الترتيب الزمني لنزول القرآن ستكون فرصة للإستلهام من كتابنا المقدس والتزود منه بالحيوية التي لا بد منها لبناء تصور إسلامي جديد للعالم وللحكمة من وجود الإنسان على الأرض، ولنظرة المسلمين إلى غيرهم، كما أن القرآن بهذا الترتيب الصحيح سيحرر الإسلام من التناقضات والمفارقات التي طالته منذ وفاة الرسول (ص).
لو أنك اشتريت منزلا أو ورثته، ولم تكن بين يديك شهادة مطابقة له، ولا تعرف متى وكيف تمّ بناؤه، وليست لديك فكرة عن مدة صلاحيته المتبقية، فمن حسن التدبير أن تتفحص أساسات هذا المنزل وبنيته لتفادي انهياره فوق رأسك. كذلك الإسلام، هو الآن بحاجة إلى شهادة مطابقة فعلا. و الله أعلم.




لأخلاق و الأمــــم

بقلم :نور الدين بوكروح

ترجمة : بوكروح وليد

  تَرَكَ الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي بيتاً صار منقوشًا في الذاكرة العربية و حفظتهُ أجيال منّا في المدرسة : ” إنَّمَا الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقيَت  فَإن هُمُ ذَهبَت أخلاقهم ذهبوا“. كلامٌ جميلٌ جدّا لكنه كباقي الشعر عُموما يتوجه إلى العواطف أكثر منه إلى العقل. فعندما نقارن هذا البيت بالواقع التاريخي نجد أنه، و إن حافظ على قوته العاطفية، فإنه ضيّع الكثير من حقيقته الفعلية. هكذا تسير الأمور عادة مع الثقافة العربية الإسلامية، فهي تَستَند قبل كلّ شيء على العواطف و المشاعر و السذاجة، و تَهدفُ إلى سحر القلوب قبل إقناع العقول، ما يجعل أحكامها و مُثُلَهَا سُرعانَ ما تغرقُ في مستنقع الواقع. و من ثَمَّ عندما ننظر من هذه الزاوية إلى بيت أمير الشعراء، فإنَّنَا نُدركُ أنه ليس نظريةً مُستَندةً إلى الواقع كما اعتقَدَت ذلك أجيالٌ كاملة، بل مُجرَّدَ بيت شعري جميل.

اختيار الكلمات في الشعر لا يعير اهتماما كبيرا إلى معناها الدقيق، بقدر ما يوليه إلى القافية و السجع و التناسق بينها لغرض تحقيق جمال القصيدة و نجاحها. بل يمكن للشاعر حتى استعمال الكلمات عكس معناها الحرفي لهذا الغرض، و هذا شيء طبيعي لأن الغاية من الشعر ليست بناء مفهوم أو نظرية ما و إنما مجردَ كلام جميل. إن لَم نَعرف ما قصده شوقي للأخلاق من تعريف دقيق، فإننا نعرف بالمقابل أن معناها يقتصر في الثقافة العربية الإسلامية على القيم ذات الطابع الديني. يمكن إذا أن نحاول انطلاقا من هذه النقطة جرد ما ينقص المسلمين في هذا السياق، لنَفهَم لماذا تَعجزُ قيَمُهُم عن تحقيق انطلاقة جديدة رغم أنها مكنتهم في السابق من التربع على عرش الحضارات.

لقد عبثت الأمم الغربية بأخلاقها و قَلَبَتها رأسا على عقب، حتى وصل بها الأمر إلى ترسيم الزواج المثلي و التَّفكك التام للعائلة، لكنها رغم ذلك لم “تذهب”، بل بقيت حاضرة أكثر من أي وقت مضى، و في أحسن حال من الذي كانت عليه في عهد توركيمادا Torquemada  أو سافونارولا Savonarole . و مع أن أخلاقها انحَلَّت و طابوهاتها انكسرت لكن الأمم لم تنهار، عكس ما هدَّد به بَيتُ أمير الشعراء الذي حسبناه صالحا لكل أُمَّة في كل زمان. و على عكس ذلك تماما، نجد مثالَ جماعة طالبان عندما استحوذت على السلطة في أفغانستان، حيث لم تَنشَغل خلال حُكمها بشيء غير “الأخلاق” لكن أُمَّتَها مع ذلك “ذَهبت” تَماما. هل يوجد منا من يعتقد أن طالبان سَوف تَرفَعُ أمّتها عاليا في سماء التطور لو عادت للسلطة في المستقبل؟ و ماذا عن “داعش «  التي هدمت و لا تَزالُ مَعَالمَ أَثريّةً تعود إلى مهد الإنسانية لأنّها لم تَرَ فيها سوى أصنام وثنية.

الخلاصة التي يمكن أن نتوصل إليها من هذه المقدمة هي أن اختصار “الأخلاق” في القيم و الشعائر الدينية يجعلها لا تضمن لأمَّة ما مكانةً في التاريخ، اللهم إذا اكتفت هذه الأمة بالحياة كما كانت في وقت سيدنا ابراهيم عليه السلام، أو أرادت أن تعيش كما يعيش رهبان التبت في قمم الهيملايا، أو أن تذهب لحكم “بوكو حرام”.

رأينا كيفَ يُمكنُ لأُمَّة أَن “تبقى” مع أن أخلاقها “ذهبت”، و رأينا أيضا الأمة التي ذهبت رغم أنها استَثمَرَت كلَّ شيء في أخلاقها، لكن هناك أيضا حالة ثالثة تَبقى فيها القيم الأخلاقية (بالمعنى الديني) و تَستَمرَّ دون أن تحتاج للتجسد على شكل أمة، و هو ما ينطبق على اليهود. فاليهود عاشوا تائهين بين حضارات التاريخ و العالم، مُشَتَّتينَ بين الأمم مثلما تَتَداوَلهُ أسطورة “اليهودي الهائم”  le Juif errant. حتما لم يريدوا ذلك، لكن هذا كانَ قَدَرَهُم ربما بسبب لعنة سُلّطَت عليهم لما عُرفوا به من قتل للأنبياء. و حتى يومنا هذا، هنالك أقلية منهم فقط تعيش في إسرائيل (5 ملايين) بينما يتوزع حوالي عشرون مليونا آخرين على مختلف أصقاع الأرض. إنها الحضارة الأقل تعدادا في التاريخ لكنها أيضا الأقوى، و التي تضم أكبر عدد من المشاهير في كل المجالات، و هي الأكثر تأثيرا في سياسات الدول التي يعيش فيها أبنائها رغم قلَّتهم؛ و كذلك التي حاز أبنائها على أكبر عدد من جوائز نوبل Nobel. يمكن أن نُسُجّلَ هنا نقطةً في رصيد بيت أحمد شوقي، بَيدَ أَنَّ اليهود لما أرادوا أن يأخذوا شكل أمة فقد فعلوا ذلك انطلاقا من قيم دينهم.

لكن ما هي هذه القيم؟ البكاء أمام حائط؟ السبت المقدس؟ القفطان الأسود و اللحية؟ ربما لكن ليس هذا فَحَسب. فقد تمكن اليهود من البقاء عبر التاريخ بفضل قدرتهم الفائقة على التأقلم مع جميع المناخات و الأجناس، و مع كل أشكال المجتمعات و الأنظمة السياسة و الأحداث، من حروب و ثورات و مذابح. لقد خرجوا دائما و في كل مرة في الصف الأول و في طليعة السباق، من جميع الاضطرابات و التغيرات التي شابت مسيرة التاريخ. بقائهم على قيد الحياة عبر الأزمنة و المحن لا يرجع إلى التمسك بقيم دينهم فقط، بل أيضا و خاصة إلى الذكاء و القيم الفكرية و التضامن و الفعالية و حب العمل و إتقانه و التفتح الفكري و القدرة على الإبداع… فكل يهودي من السفارديم أو من الإشكناز، يحمل  في ذاته و أَينَما وُجدَ هذه القيم العقلانية و الروح الكادحة، و ثقافة الفعالية، و القيم الاجتماعية الفكرية العصرية. هذا ما دَفَعَهُم، عندما أسسوا دولتهم فوق أرض الفلسطينيين في 1948، ألّا يَجعَلوا منها دولةً دينيةً تَضرُّعًا لربّهم، بل نظاما ديمقراطيا.

عندما ننظر إلى هذا الطاقم من القيم تتضح أمامنا الرؤيا الأولى عمّا ينقص المسلمين، كُلّ ما لا تَتَضَمَّنُهُ لائحة أخلاقهم و ما لا يَتَحَدَّثُ بشأنه علماء الدين : الوعي التاريخي، الروح الجماعية، الفعالية الاقتصادية و الاجتماعية، الانفتاح الفكري، القدرة على الإبداع، تجاوز الآفاق المعروفة، الميل لما هو أفضل، النظام السياسي الديمقراطي…

فَعُلَمَاءُ المسلمين فعلًا لا يُعطونَ قيمةً إلا لما هو دينيٌ محض، أو ما أُشيرَ إليه صراحة في آية أو حديث. كل ما يخرج عن ذلك، كلُّ ما لَم يَنتُج مباشرة عن تلك المصادر يُرفض ويُقصى لكونه خارجا عن التعاليم الإسلامية. بينما لا يجب أن تقتصر أخلاقُ أُمّة أو حضارة ما على قيم دينها فقط، فهي إن لَم تَضف إلى رأس مالها الأوَّلي (الدين) ما جاءَ به تطور البشرية من مساهمات تاريخية وأدوات فكرية و عَمَليَّة و علوم بشتى أنواعها و أشكال تنظيم عصرية، فأنها تحكم على نفسها بالفراغ و الهزال اللَّذَان سَيَنجُمُ عنهما الهلاك و الزوال لا محالة.

فالقيَمُ الأخلاقية سبقت القيَمَ الدّينية في الوجود، كما توجد كذلك حتى في الأمم التي لا دين لها. إذ لم توجد عبرَ التاريخ مجموعةٌ بشرية، سواء كانت مجتمعا أو قبيلة أو عصبة أو عشيرة، إلا و حملت مجموعة قيم معنوية و أخلاق تُلهمُ و تُوَجّهُ أفرادها، حتى و لو لم تأتيها من السماء. هذه الأخلاق، شفوية كانت أم مكتوبة، تحمل في طيها المبادئ التي تتبعها تلك المجموعة للتمييز بين الخير و الشر، و الإيثار و الأنانية، و السخاء و البخل، و الغفران و الانتقام، و التواضع و التكبر، و الفضائل و الرذائل، و الإفراط و الزهد، و الشجاعة و الجبن، و النظافة و الوسخ، و الحرية و الاضطهاد…

و إن لَم تُبد المجتمعات التقليدية الحاجة للارتقاء إلى أنظمة متطورة للحفاظ على نفسها، فهذا راجع إلى أنَّ الزمانَ و المحيطَ اللَّذان عاشت فيهما، و مستوى التطور الفكري الذي وصلت إليه، لم يسمحوا أو لم يتطلبوا منها ذلك. فالفضائلُ العَامَّة كانت تكفي للحفاظ على توازنات و متطلبات حياتها. قانون حمورابي Hammourabi  وضع أسس الحضارة البابلية؛ و قانون سولونSolon  نظم الحضارة الأثينية حتى أنجبت سقراط  Socrate و أفلاطون  Platonو أرسطو Aristote ؛ و كونفوشيوسConfucius  علَّم الصينيين احترام السلف والقوانين كأساس لتناسق أمتهم؛ و الحضارة الرومانية التي دامت سبع قرون (أي بقدر ما دامت الحضارة الإسلامية قبل انحطاطها) بُنيَت على روح روما… لكن وضع الأساس لا يكفي للبقاء طيلة عُمر الأُمَم الطويل، بل يجب بعد ذلك بناء الصَّرح الذي يعلو الأساس، ثم بعد ذلك إحاطته بالعناية والصيانة اللازمتين. فيصبح حينئذ من الضروري إدخال روابط جديدة و تقنيات تَشييد متطورة، و مراجعة دائمة لصلاحية مواد البناء، و مراقبة مطابقة البناء لمعايير الوقاية من الزلازل…

بعدما عاش العالم طيلة ألفيات في ضل القوانين الدينية وحدها، راهن ابتداءً من القرن الثامن عشر، و بالذات منذ الثورة الأمريكية، على الحرية في كل المجالات للوصول إلى السعادة والإبداع والعدل والتطور والنمو و الديمقراطية. فخاض بذلك مغامرة الحرية في الدين (حرية المعتقد)، و الفلسفة (حرية التعبير)، والاقتصاد (الليبرالية)، و السياسة (التعددية)، و الاجتماع (التَّنَوُع) و الصحافة… إلخ.

و قام لضَمان نجاح هذا الرهان بتطوير قيم أخلاقية جديدة مكملة للقيم التقليدية والدينية، بحيثُ يُمكن، إذا ما وصلت هذه الأخيرة إلى مرحلة الأزمة أو التعطل، للجديدة أَن تُبقي عليها مُتَّصلةً بقاطرة التطور و أن تُساعدها في الحفاظ على الحيوية اللازمة لبقائها. يُمكنُ أن نضع قائمةً لهذه الأخلاق الجديدة : القيم الإنسانية، الوطنية، الاجتماعية، المدنية، الديمقراطية، الاحترافية، العالمية… إلخ.

فأمم الغرب لم “تذهب” إذا بفضل التكامل الذي حصل بين قيمها التقليدية، والجديدة التي يمكن التفصيل فيها أكثر: احترام الحياة البشرية، السماح بتعدد المعتقدات، حرية الفكر و التفكير و الإبداع، الضمان الاجتماعي، الضرائب، العدالة المستقلة، حقوق الإنسان و المرأة و الطفل و الحيوان  و البيئة… و نجاحُ الغرب إذا يرجع لكونه تمكّن من المساواة بين الرفاه الأخلاقي و الرفاه الاقتصادي، و بين الآداب و البراعة. فأصبح مواطنوه بذلك مزدهرين محفزين سعداء منظمين منضبطين، تحركهم الروح الوطنية و احترام الآخر.

إذا أَرَدنا أو احتَجنا إلى غطاء إسلامي للقبول بهذا المنطق فَلَن نَجدَ أحسنَ ممّا وَرَدَ عن ابن تيمية في الموضوع حيث يقول : “حاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم “. و إذا أردنا التوسع في المعنى الذي قَصَدهُ شيخ الإسلام بكلمة “عادل”، فَيُمكنُ أَن نُحيلَ الكلمةَ إلى عَالم آخر يمكن وصفه بالمُحايد، و أقصد بذلك أنه سَبَقَ عَصرَ الجدال الذي بدأ منذ قرابة القرن بين الإسلام و الحداثة.

ففي بداية القرن التاسع عشر، قام الأبُ الروحي لمصر الحديثة، محمد علي، بإرسال مجموعة من ثلاثين طالبا مصريا في سفر تكويني لفرنسا، يُؤَطّرُهُم إمام من الأزهر هو الشيخ رفعت طهطاوي. و أَقام الوفد في فرنسا لخمس سنوات من 1826 إلى 1831، تَعَلَّمَ خلالها الشيخ الفرنسية و انكبَّ على دراسة أخلاق هذه الأمة الغربية. ثُمَّ كتب بعد عودته إلى مصر كتابا اسمه “ذهب باريس” جاء فيه ما يلي : “ما يسمونه عندهم و يَتَمَنَّونَهُ من الحرية هو ما نسميه عندنا العدالة و المساواة… المبدأ الثابت في الحياة الفرنسية هو البحث عن الجمال و ليس الأبهة و التفاخر بالغنى و الغرور… مثابرة الفرنسيين على تنظيف بيوتهم و ملابسهم شيء رائع…المسرح عندهم مدرسة عمومية يتعلم فيها العالم و الجاهل…”

ما نلاحظه ببالغ الانتباه في كلام الشيخ طهطاوي هو قوله أن كلمة “الحرية” عند الفرنسيين مُرادفةٌ للعدالة و المساواة عند المسلمين. يُمكنُ إذا أن نستنتجَ أن كلمة “عادل”، التي استعملها ابن تيمية في حديثه، تحمل نفس معنى “الحرية”. في هذه الجملة الصغيرة نجد فلسفةً تاريخيةً تَشرحُ لنا لماذا أمكن للحضارة الغربية – و يُمكنُ لأي حضارة أخرى ترتكز على العدل و المساواة – أن تدوم حتى لمَّا ذَهَبَت أخلاقها الدينية، بينما خَرجت الحضارة الإسلامية من التاريخ مع أنها لا تزال تحافظ عليها.

يمكن أن ندفع بالتفكير لأبعدَ من ذلك و نُذَكّرَ أن المقولة الآنفة تتحدث صراحة عن حاكم “مؤمن” و “كافر”. في ما معناه أَنَّ حاكما (أو دولةً) غير مؤمن (علمانيا أو ملحدا) يمكنهُ أن يَدومَ إذا بُنيَ حُكمهُ على العدل و الحرية و المساواة، و أنَّ حاكما مؤمنا (حتما حاكما أو دولةً إسلامية) لَن يُعَمّرَ طويلا إذا لم يَرتكز حُكمهُ على هذه الخصال.

عندما بحثت يوما في تفاصيل الدستور الأمريكي لضرورة عمل، وجدت نفسي أمام التشابه بين المبدأ المفروض في إعلان الإستقلال الأمريكي الذي منح الحق للمواطنين الأمريكيين في الثورة ضد الإستبداد، و المبدأ الذي فرضه أبو بكر الصديق عندما تأكد تعيينه كخليفة رسول الله  و الذي يقر نفس الحق. الفرق فقط هو في الصياغة، لكن المحتوى نفسه. وعلينا التأكيد هنا أن كلتا اللحظتين أي إعلان الإستقلال الأمريكي وخطاب تولي الخلافة كانتا فارقتين في تاريخ الأمتين لأنهما كانتا لحظتا تأسيسهما .

نقرأ في الفقرة الثالثة من إعلان الإستقلال :” تنصب الحكومات بين الرجال كي تكفل الحقوق، وسلطتها العادلة تنطلق من رضا المحكومين عنها، لكن متى ما أصبح الحكم مدمرا لهذا الهذف، للشعب الحق في تغييره أو إلغائه وتأسيس حكومة جديدة …. من حقه، بل ومن واجبه رفض مثل هذه الحكومة…” و لإعطاء المواطنين الأمريكيين الوسائل لتفعيل هذا المبدأ، شرع لهم التعديل الثاني للدستور الحق في إمتلاك و حمل السلاح. الأمريكيين لم يعرفوا محاولة فرض الإستبداد عليهم، وبالتالي الإنتفاض ضده. إنطلاقا من هذا المبدأ القديم بقيت حرية حمل السلاح بالرغم من المشاكل التي تطرحها في المجتمع الأمريكي من يوم إلى آخر.

بعد تعيينه كأول خليفة لرسول الله ، خطب سيدنا أبو بكر الصديق أمام من بايعوه قائلا:” أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة.” فقام له أحد الحاضرين و قال ” لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناه بسيوفنا“- (على إختلاف الروايات بين نسبة هذه الحادثة إلى سيدنا أبو بكر أو سيدنا عمر أو إنكارها كلية). أليست الفلسفة السياسية هي نفسها التي تأسس عليها النص الأمريكي و خطاب أول الخلفاء؟ والجواب الذي رد به البدوي ليتمم المبدأ المطروح من طرف أبو بكر، ألا يقابل التعديل الثاني الذي شرع للجوء إلى إستعمال السلاح  لمحاربة سلطة غير شرعية؟

لماذا سارت الأمور بشكل جيد لدى الأمريكيين وعكس ذلك لدى المسلمين؟ لأن ربع قرن بعد الإعلان عن هذا المبدأ، قام والي دمشق، معاوية بن أبي سفيان بالإنقلاب على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب، وأسس للتوريث في الحكم دون أن تثور الرعية ضده، فتفنن بعدها من خلفوه  جيلا بعد أخر. منذ ذلك الحين، دخلت الشعوب التي يجمعها البندير و يفرقها سيف الحجاج العصر الذي لم ينقطع من الإستبداد بكل تصريفاته : خليفة السلالة الحاكمة، المملكة،الرئاسة مدى الحياة، الجمهوريات المتوارثة…

صدر بتاريخ :11 مارس2012

رحلة في الثورة الإيرانية (1)

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة : فرحات بوزيان
إحتفلت إيران منذ أسابيع قلائل بعيدها الوطني أي ذكرى انتصار الثورة الإسلامية، لذا ارتأينا نقل شهادة حُررت منذ سبع و ثلاثين سنة عن هذه الثورة و من قلب الحدث في مقالات ثلاث: رحلة في الثورة الإيرانية، الثورة المحاصرة و الإسلام تحت المحك.
لم نكن نعتمد أنا وصديقي لدى انطلاقنا من مطار رووسي شارل ديغول سوى على عنوان غير مؤكد لوالديّ طالب إيراني عرفناه أياما فقط من قبل بواسطة طالب مناضل في باريس،و لأنه لم يكن يربط الجزائر بإيران أي خط جوي فكان الذهاب مروارا على فرنسا أمرا حتميا، وهنا كان ينبغي علينا استيفاء كل الشروط اللازمة لعرضها على وكالة السفر، بالنسبة للسفارة الإيرانية كان علينا، و نحن لا نمتلك سببا رسميا للحصول على الفيزا على اعتبار اننا نريد الذهاب بصفة شخصية، البحث عن حيلة غير متعبة كأن نقدم انفسنا كـ” باحثين في التاريخ المختص في العالم الاسلامي”،لان الحدود بالكاد فُتحت والثورة لم تنتصر في طهران إلا منذ خمسة عشر يوما.
من ليلة 28 من فيفري الى الفاتح مارس، ما كان منذ أسابيع مجرد رغبة غريبة أو حلما شبه مستحيل تحول إلى حقيقة : أقلعنا نحو طهران في طائرة عملاقة 747 ،و هي ترتفع عاليا في السماء،اخذنا نعلق انا وصديقي على الاحداث الاخيرة، و التي جمعناها من خلال سيل من معلومات تتدفق يوما بعد يوم منذ شهور عديدة عن عالم غامض، بحثنا عن تفسير لاحياء عهد المدينة من جديد،عن هذه الصاعقة التي تحاول أن تعيد القرن الحالي والفكر المعاصر إلى الوراء، تاركة إيّاهما في ذهول، فهل هي ” ميلاد امبراطورية محمد من جديد”؟ ام ” حكم القديسين الذي أعلنه كرومويلCromwell” الذي انتظره أوغست كونت من ” العالم المتفاعل “؟ أو أنه  معتقد ” الدولة الايديولوجية ” التي دعا إليها ابو الاعلى المودوي؟ ام هو ظهور ” خير أمة” و التي” تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر” كما بين القرآن الكريم ، حيث أي فرد فيها ملزم بأن يحارب المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك، كما ينص عليه الحديث، أضعف الإيمان؟
ككل منشغل بالقضية، كنا نبحث عن شرح معقول وموزون لهذا الزلزال، الأمر الذي لا تفصل فيه الاحداث السابقة، و لا ما تم احصاؤه، و لا ما سُجل ضمن قواعد علم الصراعات الداخلية (staseologie) كالتي تمت دراستها مثلا في كتاب ” الظواهر الثورية (les phénomènes révolutionnaires)” لجون باشلار Jean Baechler ، أو ” لقانون الثورات(la loi des révolutions )” لاندريه جوسان André Joussain ، أو قانون “وفاة الاب” حسب فرويد؟. هذا”الخميني” الحبر الذي يحيّيه خمسة وثلاثون مليون على تحدّيه الخالد واستشهاده المجيد ،خمس و ثلاثون مليون من النساء ،الاطفال ،العمال الكادحين، والطلبة بالبذلات العسكرية والجينز؟ لم يسبق ،و الحال كذلك،أن بدت كل من السياسة، الدول الكبرى، البترول، الإستشراق،، علم الخوارق… بالية، لا معنى لها وقد تجاوزها الزمن كما كان الحال في تلك الفترة.
” أنظروا، هذا ليس شعب جائع، إنها ثورة روحية ” يقول شاب بكل حماس وقوة في طهران إلى كلار بريار Claire Brière وبيار بلانشيه Pierre Blanchet ،صحفيا جريدة ” ليبيراسيون « Libération »”  ،واللذان كتبا ، بعد عودتهما من إيران حيث أقاما هناك خمسة أشهر كمراسلين للجريدة ،في كتابهم التقريري”ايران،الثورة باسم الله” الآتي:” الحدث بلا شك لا مثيل له في التاريخ،لقد استلزم قوة غير عادية وإرادة تخرج عن الإطار المألوف لأي فعل ثوري” ثم أضاف الصحفيان الفرنسيان “أن الإيرانيين وجدوها في الدين.
إذا قُدر لإيران ان تنهار، فكل الشرق الاوسط والقارة الهندية ستنهارمعه، الامر الذي سيجعل افريقيا مضطرة لأن تنسحب من العالم الحر وتغير موازين القوى” هذا ما استطاع ان يكتبه شاهينشاه Shahinshah منذ عشرية في مقدمة كتاب” إيران البهلويين” (L’Iran des Pahlavis )  المُهدى إلى جلالته .كان ذلك في امكانه، لكن آخر ملك لأكبر عائلة ملكية في العالم، ابن هذا الجندي الروسي يقول ، بعد أن اصبح امبراطورا في انقلاب قام به العسكر ” أنا ابن سيفي “، آخرالممثلين لستة وعشرين عائلة ملكية اغتصبت السلطة يفترض انها من اصل كهنوتي اي اخلاقية و رمزية، يخادع ، باسم توازن القوى وأمور أخرى كثيرة، كما هو حال طغاة كل العالم قديما وحديثا، ملوكا كانوا ام رؤساء،هؤلاء الذين يخادعون ويراوغون من دون ان يضعوا في حسبانهم هذه الموجات العالية غير المتوقعة من حين لآخر، والتي يسوقها التاريخ لدفة السفن كي تحملها في وجهة معينة، وفي الآية القرآنية يقول تعالى عن نفسه “.. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ”.
مفعمون بحماسة شديدة على اننا ماضون لشيء بنفس او أكثر أهمية مما حدث سنة 1789 أو 1917،أنستنا سمة الصدفة المميزة لهذا الامر الذي وصفناه من فرط اعجابنا بـ ” موعد مع التاريخ” . كنا نحدث انفسنا انها حقا الحقيقة،وليست تاريخا بعيدا عنا،وفي غيبتنا،التاريخ المُعلّب الذي عُبث به و الذي لم نعرفه إلا مؤخرا من خلال الكتب والافلام، بل التاريخ الذي يغير وجه العالم،على مراحل، يبيده ليولد من جديد، بشكل افضل أو أسوأ، التاريخ حيث يواجه الانسان الانسان منذ آلاف السنين في صراع لن نعرف له نهاية إلا في اليوم الذي تتفق فيه البشرية على معنى الخير والشر. لقد نسينا أننا لا نعرف احدا في هذا البلد، نجهل لغتهم وعاداتهم، وأنه قد تصيبنا رصاصة طائشة في طهران و كان كل ما نملكه اجمالا و لكل حاجاتنا سوى ما يعادل 700 دج. لكن كل هذا لم يكن يهمنا كثيرا!
تشير الساعة الى الثامنة والنصف حسب التوقيت المحلي عندما حطت بنا الطائرة في المطار الدولي بطهران، حوالي ثلاثين شخصا ببذلات نصفها عسكري ونصفها مدني، الاصبع على الزناد والبندقية موجهة في الهواء، و دزينة من رجال المليشيات مكلفون بأمن الطائرات، داخل المطار لا توجد الهيئات الرسمية النظامية: فبدل اعوان الشرطة والجمارك هناك مدنيون. لم يفتشونا او يطرحوا علينا أي سؤال. نظرة خاطفة على جوازات سفرنا الخضراء، مع ابتسامة على الشفاه لمن عرف أننا “جزائريون”، الدمغة العالمية على الجواز وها نحن في إيران. كل الاجراءات لم تتجاوز عشر دقائق.
خارج المطار، هناك جماهير غفيرة جاءت تنتظر دخول الإيرانيين الذي كانوا برفقتنا من الخارج، كانوا في غاية اللطف والهدوء، كلهم: نفس السمة المرتبة التي نراها عادة في كل المطارات، نفس المجموعات الصغيرة العائلية أو مجموعات الصداقة ، مشاكل الأمتعة نفسها، نفس الطوابير أمام شبابيك الصرف…، لا شيء يوحي أنك في مطار بلد يشهد ثورة من أروع الثورات التي عرفها التاريخ، لا شيء يوحي من خلال مظاهر هؤلاء الناس ان هناك شيئ غير عادي. لا مشاعر ولا غبطة ولا حيوية، لا شيء.
كان الجو مشمسا، بدت لنا السماء الآسيوية بزرقة شاحبة، على أيّة حال ليست بنفس السطوع كما هو الحال عندنا في الجزائر. على أبواب المطار، ينادي سائقوا سيارات الأجرة بغير زي رسمي،على الزبائن، يرحبون بك، تماما كسائقي سيارات الاجرة غير النظاميين لدينا، حاولنا مع كثيرين بينهم لعل ان يتعرف احدهم على العنوان المكتوب بحروف عربية، باللغة الفارسية، لكن بلا جدوى لأنهم لم يعرفوا العنوان،ثم صادفنا اخيرا شخصا ظن أنه بامكانه مساعدتنا،لكن لم يجد العنوان رغم ما أبداه من حسن نيّة ، وقد توقفنا عشرات المرات نسأل المارة. السياحة في طهران العاصمة كان لها أهميتها، لقد استفدنا لنتعرف على المظهر الخارجي للعاصمة ونواحيها. ونتأكد من ذلك، لكن بدأ الغضب  يشتد شيئا فشيئا: تسآلنا أين ذهبت الثورة؟ هل جمعت حقائبها و رحلت،كل شيء انتهى،وعادت الامور الى نصابها،وبهذه السرعة؟ لم نر بعد لا مدافع ولا حواجز، ولا أي اشارة من إشارات الحرب، هل نحن في أي مدينة من مدن العالم الكبرى؟
بنيت طهران على منخفض، بدون تخطيط هندسي، تبدوا البنايات قديمة جدا، لا روح ولا جاذبية فيها، الشوارع واسعة لكنها مثيرة للاشمئزاز، لا تعطي أي انطباع انها محل اهتمام من طرف خدمات البلدية، كان الماء متسخا وأسودا يسير على طول الرصيف المشوه أو المخرب، لكن كانت لدينا فكرة عن خدمات” البهلويين” .الازدحام في الشوارع الكبرى لا يصدق،عرقلة السير التي نراها في الجزائرفي ساعات الذروة ليست بشيء مقارنة مع هذا الجحيم الذي نراه هنا. ترى عند مفترق الطرق شباب بزي مدني اكثر منه عسكري مع صفارات وأيادي فارغة يحاولون تنظيم مرور سيل من السيارات والشاحنات والحافلات، دائما، ليست هناك ملامح الهيئة النظامية ،اذن لا دولة!
في الواقع، ما هي الدولة بالنسبة للمواطن العادي أو للاجنبي سوى هذه المجموعة من الرموز، هذا الحضور القوي الصارم  الإجباري ؟، ما هي الدولة سوى هذا العلم الذي يرفرف على بناية رسمية، هذا الشرطي في مركز مفترق الطرق، هذا الدركيّ عند مدخل المدينة أو ذلك الموزع الأنيق ؟ في هذا الفاتح من مارس 1979لا شيء من هذا كان موجودا في طهران، كما لو أن الدولة قد تمت تصفيتها حتى في أبسط مظاهرها! رغم ان الجو العام يوحي ان كل شيء يسير على ما يرام في الحياة العامة أو العادية، وهذا على الاقل ما تراه عين الاجنبي.
نعود هنا مؤقتا الى ثورتها وهمومها اليومية، ترى نشاطا كبيرا في الشوارع وخاصة شوارع العاصمة الآهلة بالسكان.” تشادور” المعروف يذكرنا بـ”الملاية” في الشرق الجزائري لكن بلا نقاب، المحلات مفتوحة والواجهات الزجاجية مزينة ، والسوق ممتليء عن آخره بالأسماك والخضر والفواكه ، لا تجمعات ولا استعراضات، إلا أن هناك آلاف من الشرائط و الرايات المعلقة والكتابات الحائطية.
لكن بالمقابل،ما يلفت الانتباه ويشد النظر،هو تجارة الكتب ووفرتها، جبال من كتب معروضة، حتى على الأرض وفوق الأرصفة، بين كل مائة متر وفي كل زاوية من الشارع… ما يدعو للاعتقاد انه كان ممنوعا وغير موجود من قبل ، كالثمرة المحرمة من بين ثمار كثيرة ، والأمر الذي لا يُختلف عليه:أن الشاه لا يسمح إلا بقراءة ما يريده هو، لقد اندهشنا ونحن نجد امام اعيننا كتاب “وجهة العالم الاسلامي” لمالك بن نبي رحمه الله مترجما الى الفارسية تحت عنوان ” مستقبل الاسلام”.
صادفنا حواجز من أكياس الرمل في بعض النقاط من المدينة ، كان من الصعب ان نتصور انه قد دارت حرب شوارع عنيفة هنا في طهران منذ خمسة عشر يوما، هذا المظهر غير مألوف،و لنتذكر حال شبيهة لغياب عناصر الامن عندما غرقت نيويورك في الظلام مدة 24 ساعة،كانت النتيجة أن سجلت ارتفاعا استثنائيا للجريمة. لم نفهم ما اعتقدناه دلالات عن بلد بلا سلطة إلا لاحقا: إعادة الاعتبار لمفهوم “السلطة” لم يختفي، بل ارتقى، لقد استبدلت المظاهر القانونية بالمظاهر الروحية، ونقلت آثارها إلى ميدان الروح، لقد أصبح واقعا روحيا، ظاهرة وعي، نظرية سقم الدولة وجدت لها ربما تجسيدا لفترة في ايران من جهة، ومن أخرى، نفهم ما كتبه رينيه غينون” الثورة الروحية والسلطة المؤقتة” .
انهكنا و سئمنا من البحث عن العنوان الذي لن نعثر عليه أبدا، فقررنا العودة إلى الفندق،وعلى اية حال، لم يبق لنا سوى الاتصال برقم الايراني علي مغتكد Ali Moghtakedالذي اعطاه لنا يوم التقينا في باريس. كان هدفنا واضحا: أن نتجنب بجميع الاشكال السقوط في روتين السياحة،البحث عن اكبر عدد ممكن من الاتصالات،لمس الحقائق،مراقبة الداخل… فلا يمكن ان نحلل روح ثورة في غرفة فندق، ولا ان نكتفي بمطالعة ما تكتبه الصحافة وتجميع المعلومات من بيانات فلان أو علان، هذا لا يكفي ،في الفندق لم يطلبوا منا وثائق ولا دفع مسبق، علي مغتكد الذي كان من المفترض ان يلتحق بايران أياما قبل وصولنا وصل أخيرا، و حدد لنا موعدا لليوم الموالي وحتى نكون في أمان أكبرالى ذلك، فقد حجزنا غرفتنا.
من المفترض اليوم ان يذهب الخميني ليقيم في مدينة قم( تُنطق “غوم” بالفارسية”) ، تابعنا عبر الاخبار المتلفزة على الساعة الثامنة والنصف تدخلا له بعد وصوله، عن شكل خطبة فقد كانت مختصرة- الخميني دائما دقيق في خطاباته- يتابع خطابه بنفس نبرة الصوت، فلا تغيير ولا صراخ، من حين لآخر يرفع ذراعه نحو الاعلى وليست هذه اشارة تبجح بالشجاعة ولا تحد كما هو مألوف عند الديماغوجيين والزعماء الجهلة ، لكن يفعل ذلك ليؤكد على معنى معين، بالنسبة لباقي الخطبة فقد استمعنا جيدا لكنا لم نفهم شيئا. على الساعة الحادية عشر سمعنا طلقات نار، ربما لم تصل الامور الى نهايتها بعد…
في اليوم الموالي وعلى الساعة العاشرة جاء السيد علي إلى الفندق بصحبة شخص آخر . وهو الحسين موسوي Hussein Mussawi ، مهندس في الميكانيك صاحب الثانية والثلاثين لقد أمضى ثلاث سنوات في فرنسا وهو الذي سنعتمد عليه كثيرا: فقد أنزلنا وسط عائلته. كان جد متواضع وكريم للغاية، هو الذي كان يقوم بترتيب الاتصالات مع الشخصيات التي نود زيارتها ويقود السيارة في تحركاتنا، وأعاننا في الترجمة عندما كنا نتواصل مع من لا يفهمون الاّ الفارسية، فهو يتكلم الفرنسية بشكل واضح ويفهم إلى حد ما العربية وإن كان يجد بعض الصعوبات عندما يتكلم او يجيب بلغتنا،يجب القول أن العربية هي ميزة العلماء عندهم.
بعد الترحيب و التعارف، طلبنا منهم أن يقودونا الى مكتب طبيب، لأنني أصبت عشية انطلاقنا بالتهاب حاد في الرئتين، و لأن احد اخوة علي يعمل طبيبا اقترح علينا ان نذهب إلى المستشفى حيث يعمل، في النهاية هي عيادة او مستوصف يحرسه شاب يرتدي بنطالونا يحمل شكل جلد الفهد وسترة عادية، كان لديه خنجرا في الجانب وسبحة باليد ، قدموا لنا الشاي( الذي هو عادة الايرانيين. فقد أسكرونا به)،حكى لنا كيف انتقل من عامل لدى سيتروين ليصبح حارس مستشفى .كان ذلك أيام الجحيم يوم كانت مخابرات السافاك SAVAK تجهز على الجرحى وهم في فترة النقاهة، مسجد الحي وجهّه لهذا المكان حتى يسهر على امثال هؤلاء.الزي الرسمي (و اخيرا صادفنا زيّا رسميّا موحدا!) الذي يرتادونه في المستشفى ازرق،كان العتاد قليلا أو تقريبا منعدما، لكن الممرضين كانوا نشيطين،مثابرين مرحين ، أخو علي قام بفحصي وحقني بالبنسيلين، ثم وصف لي الدواء، وبعدها مباشرة دعانا للغذاء عنده.
قبل قليل، عندما كنا عند السيد الثوري الذي اقترح علينا الشاي، لاحظنا أنا وعبد الرحمن غياب معالق صغيرة لنحرك بها السكر في الشاي، فشربنا الشاي من دون سكر ظنا منا أنهم نسوا المعالق، لكن عند أخ علي انفجرنا نحن الخمسة من الضحك: هم عندما رأونا نرتشف شايا بلا سكرمكرهين، ما اعتقدناه في المستشفى أنها مسألة نسيان كان في الحقيقة عادة ايرانية انهم يقومون بوضع قطع السكر في افواههم بدل ان تذوب في السائل. فلا حاجة للمعالق وكانت طرفة مضحكة.
سيغادر السيد علي العاصمة طهران ليذهب إلى مسقط رأسه، ومن الان سنبقى مع السيد حسين، وخلال ساعات من تعاملنا معه اعطانا انطباعا وكأننا نعرفه منذ زمن. كلما حاول احدنا أن يشكره او اشعره بإثقالنا عليه كان يستشهد دوما بالآية القرآنية ” إنما المؤمنون اخوة ” والله وحده يعلم كم أتعبناه، الاخوة الاسلامية في ايران ليست كلمة هكذا تلاك بالألسن، بل هي حقيقة متحركة، ومما أدهش حسين – بإعترافه هو- ان يعرف أننا أتينا من بلد بعيد وفي ظروف كهذه فقط لـ” لنرى هذا” .وفي الاخير، يحب ان نتذكرالإجلال الذي تتمتع به “ثورة المليون شهيد” لديهم، سيشرح لنا فيما بعد السيد مخالفة، الملحق الثقافي للبعثة الجزائرية هذا الامر من خلال امثلة بليغة، أما بالنسبة لنا، فعلامات هذا التقدير العظيم والمخلص ستظهر لنا حيثما ذهبنا وعلى كل مستويات اللقاءات،في أشكال جد مؤثرة، لم يكن علينا ان نظهر أوراقنا لأحد،ولم ترفض استقبالنا اي شخصية طلبنا لقاءها. كل الناس يسألوننا باهتمام واصرار عن بلدنا، انجازاته، اوضاعه السياسية…
وضعنا مع حسين برنامج زيارات واتصالات يتماشى حسب مدة الرحلة: نبدؤه بزيارة مساجد عديدة، جامعة طهران،مقر الاذاعة والتلفزيون، مركز العمليات والبحث للعملاء الجدد والقدامى للسافاك، مركز الشباب الذي تديره منظمة “مجاهدي خلق إيران”، وكذا رئاسة الاركان للمنظمة البهلوية السابقة، و”حسينية الارشاد” حيث كان ينشط الدكتور علي شريعتي قبل نفيه ثم اغتياله في لندن ، معهد العلوي حيث أقام أية الله الخميني مدة ، محل المقر العام لآية الله تاليغاني، مقر”صحيفة طهران” للمستقلين الذين انشأوا مجمعا للصحافة” et- Taleaãt” واخيرا المتجر العام المشهور. هذا في طهران. أما في مدينة قم، سنقوم بزيارة مسجد” الفايزية” و مقر ” دار التبليغ الاسلامي” و ” الفاطمية” والمقر العام لآية الله شريعة مداري، وبعض المكتبات الخاصة والعامة ومعاهد التعليم الاسلامي.
أما بخصوص اللقاءات فسنلتقي أساسا بـ:مسؤولي المساجد، “الملالي”، الطلبة والإطارات، مدير التلفزيون،مؤسس “الحزب الجمهوري الإسلامي”، السيد بهشتي،الفيلسوف جعفري،عضو اللجنة المركزية التي تدير شبكة المساجد،ثلاثة مسؤولين من “مجاهدي خلق”، وفي الأخير، عضو من الحكومة الحالية الذي سيصبح هو الممثل السامي لآية الله الخميني “السيد باني الصدر”. وللإشارة أيضا، في طهران، هناك مؤتمر حوار بين الأساتذة وطلبة معهد العلوي، ومؤتمر آخر للنساء في مسجد بضواحي جنوب طهران، وفي قم حيث سنبقى هناك ستة وثلاثين ساعة فقط ، سنتحاور خصوصا مع البروفيسور والكاتب كسروشاهي Khosrochahi الذي زار الجزائر مرات عديدة.
من خلال هذه المقابلات المتعددة واللقاءات غير المتوقعة التي عشناها خلال هذه الرحلة في الثورة الإيرانية، بقيت لنا ذكريات خالدة، لكن على الصعيد الإنساني ، الذكرى الخاصة التي سنحتفظ بها دوما  كانت مع الفيلسوف جعفري الذي ألف عشرات المجلدات عن جلال الدين الرومي، والذي استقبلنا في مكتبته الضخمة ولم يستطع أن يتمالك دموع الفرح أثناء مناقشة هادفة كنا نعلق فيها على نص لنيتشه حول الإسلام.
صدر المقال في: 02 جوان 1979


لثورة المحاصرة (2)

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة : فرحات بوزيان

لا تشبه المساجد في إيران ،من الناحية الهندسية، تلك الموجودة عندنا، باستثناء المساجد الكبرى التي نجدها في قم واصفهان، المسجد الإيراني بسيط للغاية بدون معالم هندسية، وقد يبدو حتى مغمورا. فقد يكون المسجد ، و في المدن خاصة ، أيّ شيء : هيكل، بناية غير مستغلة، منزل قديم أو قاعة متواضعة، الطريف في الأمر أنك تجد لوحات مكتوبة بالفارسية والانجليزية تدلك على المسجد، كتلك اللوحات الموجودة عندنا التي تدلك على مستشفى أو محطة السكك الحديدية. المسجد الذي سنزورنه هذه الامسية يسمى ” مسجد المحمدية ” بالضاحية الشمالية لطهران،يتألف من ثلاثة طوابق ، طابق تحت الارض وآخر أرضي  وثالث علوي، إنه ملجأ حقيقي!

الطابق العلوي مخصص للنساء، وما تحت الارض للأسلحة والتدريب العسكري، أما الطابق الأرضي للصلاة و…..المكاتب! يتوفر على كل شيء:هاتف ،آلة للكتابة، وطاولة، مقاعد ، مكتبة ومدفأة …باختصار، كل ما يلزم ” دائرة ” لمواجهة المشاكل في حالة ثورة، الناس في ذهاب وإياب لا ينقطع، كما في المقر العام  QG في حالة غليان . في الخارج، ترى جيب وسيارات سياحة متوقفة، انه موقف سيارات الصيدلية، حسين معروف هنا، لان هذا المسجد هو مسجد الحي الذي يسكن فيه.
منذ 12 من فيفري، التاريخ الذي بدأ فيه جيش الشاه يذوب كقطعة ثلج أمام الشمس، سقطت كل اعباء الحكومة المؤسسة بقوة على عاتق المسجد، قبل هذا التاريخ كان المسجد كـ” بلدية باريس” يسلح الشعب، ويهتم بقضايا المواطنين من جهة ويصفي العسكر والشرطة من جهة أخرى، يواجه مؤامرات القصر الملكي لبختيار Bakhtiar ؛ الذي يشبه تيرس نابليون أي (Thiers) النسخة الإيرانية ( غريب ! فهو بختيار، الجنرال بختيار تيمور الذي أسس السافاك سنة 1956)، لكن اذا كانت بلدية 1871 ” الباريسية” لم تدم إلا اثنين وسبعين يوما، فإن المسجد الإيراني سيطرد الشاه ويضرب مخابراته ويؤسس الجمهورية، من وجهة نظر المنطق الثوري والعدالة التاريخية، فالمسجد سينتقم للبلدية.
لقد تحقق النصر والآن يجب تعويض الدولة، تهدئة الوضع الناتج عن غياب مؤسسات “الطغيان”، استرجاع الاسلحة، استتباب الأمن، والحذر من الهجمات المضادة للسافاك التي قد تندلع مرة اخرى، تسوية الخلافات الحاصلة بين سكان الحي، ضمان أمن النقاط الحساسة في الدوائر …إلخ، هذه المهام أكبر من ان توكل إلى مسجد عادي، لكن الشبيبة الثورية تحملت بروح من الحزم والتضحية ما لا يتحمله الرجل الا عندما يكون المقدس لديه أهم من المصلحة ( شخصية كانت او جماعية). ” ماذا لو أن عشرات العيون تُحدق اليك، تخيل كم هو ذلك جدي ومتعب” الحكمة التي علمها كونفيشيوس لتلامذته الذين دربهم على خدمة الدولة، في إيران، الجدية هي أفضل شيء في الدنيا يتقاسمونه.
قادنا حسين إلى مخزن للأسلحة، مكان ضيق وطولي تحت الارض، المسؤول العسكري الذي أجاب على اسئلتنا يدعى محمود، و سيرافقنا، أظهر لنا الصواريخ العادية والآلية مركونة في حاملاتها ، موضحا لنا كل النماذج (الالمانية والامريكية والاسرائيلية) وشارحا لنا وظيفتها، بطاقة مع صورة واسم وعنوان المستخدم معلقة على كل سلاح، فتح لنا بعدها مخزنا حديديا حيث اخرج لنا قنابل يدوية شارحا لنا خصائصها. حاملوا الاسلحة “كما ترون” معروفون ومسجلون حسبما شرح لنا محمود، وقد تلقوا تدريبا، وكل واحد منه يحمل نسخة من كتاب ” أخلاقيات الفتح ” كتاب أخضر صغيرأخرجه لنا وقد اختصرت فيه الاوامر التي ينبغي مراعاتها. توزع الاسلحة كل مساء على الساعة السادسة  حيث تبدأ دوريات الحراسة والمراقبة، تتشكل مجموعات ثم ترسل إلى نقاط معينة في الدائرة وتستبدل كل ثلاث ساعات. لقد انتهت الزيارة، وأغلق محمود باب الترسانة بالمفتاح وخرج معنا إلى المكتب.
هناك، وجدنا أناسا يتناقشون وقد قاموا عند دخولنا (القيام في ايران ،اشارة احترام لكل واحد يصل أو يغادر ) ، ترحيب ثم تبادل للتحية، كان من بين الحضور، رجل كردي في الخمسينات يتكلم باشارات قوية ، ينظرهنا وهناك إلى مستمعيه كما لو أنه يريد ان يقنعهم بوجهة نظره الفيدرالية التي يدعوا إليها، يقول هذا الكردي كما ترجم لنا حسين: ” نريد إدارتنا، وشرطتنا الخاصة ولغتنا الخاصة، نريد استقلالا ذاتيا في إطار فيدرالي” .
ترك حسين الترجمة ودخل في حوار خاص مع الكردي بالفارسية، كل الجماعة تدخلت، نسونا نهائيا، أنا وعبد الرحمن لا حظنا بإعجاب، اندهشنا للسمت المتوازن البادي على المتدخلين ، وانخفاض النبرة ، والاخلاص الظاهرعلى كل واحد فيهم.كما ورد في القران بقوله تعالى ” وجادلهم بالتي هي احسن” وقوله تعالى” ولا يجرمنكم شنآن قوم على الاّ تعدلوا“ .الإيراني دوما يتكلم بحماسة وقناعة، وليس بالهوى والهيجان، الطريقة دوما هادئة، تدعوا إلى الصلح، متحضرة، لا سباب ولا شرارة حقد في النظرة- نلاحظ ذلك حتى في الشارع عندما تكون هناك مشاحنات بين السائقين- وحتى الخصوم السياسيين المتنافرين مثلا في الجامعة، حيث نرى امام أعيننا عناصر شيوعية تحمل صور ماركس ولينين من جهة والطلبة يحملون صور الشهداء من أخرى، شهداء الصراع الابدي مع “الطاغوت”.
وأثناء ذلك، وصل إمام المسجد أو” الملا” كما يُدعى، السيد. بن شريفي، رجل ملتحي في الأربعينات، ويرتدي عمامة و”عباءة ” سوداء،عانقنا،و أظهر سعادة كبيرة للقائنا عندما أخبروه أننا من الجزائر ولم يتوقف عن السؤال عن بلدنا.في اليوم الموالي، دعانا إلى تناول فطور الصباح عنده، كان  يساعد خمسة متعاونين، كل واحد منهم مكلف بمديرية ( العسكرية ،المالية، الإجتماعية….)، ويقوم بإدارة مسجد المحمدية، في كل مكان وجدنا نفس مخطط التنظيم ،المساجد هنا مسؤولة أمام اللجنة المركزية ،و هذه الاخيرة مسؤولة أمام مجلس الثورة الذي لم يُرد أيّ كان ان يقول لنا عنه أي شيء، حتى باني صدر والدكتور بهشتي الذي شككنا في انتمائه اليه.
في الضاحية الجنوبية حيث يوجد البازار، لو أردنا تخيل عدد من يجتمعون في نفس الفضاء،فهو أضعاف ما نراه في القصبة، شوارع لالير القديمة ، شارتر وروندون،سوسطارة وباب عزون، باب الواد، العقيبة والحراش، إذا كنت تعرف هذه الأماكن فقد زرت الاحياء الجنوبية لطهران، كلاهما لعب نفس الدور خلال الثورة الجزائرية والايرانية.هنا في الضاحية الجنوبية يتواجد مسجد حيث سنتناقش أولا مع بعض الاخوة ، ثم مع بعض العناصر النسوية، ومنهن هذه الفتاة الشابة التي سألتنا عن مساهمة المرأة في تحرير الجزائر  ثم قالت لنا ” لم نكن أبد بهذه الحرية ،الان فقط يسمح لنا آباؤنا بالخروج و يثقون فينا ” وقالت أخرى فجأة ” ماهي الوصايا التي تنصحوننا بها لتنتصر ثورتنا ؟”.
بعد المناقشات، اقترح علينا مسؤولي المسجد الذهاب لزيارة مركز يجتمعون فيه لملاحقة عناصر السافاك، يقع المركز بين محلات معهد رياضي يستعمل لأغراض خاصة، يحتوى هذا المعهد على معدات مهمة (مركز اتصال، هواتف  لاسلكية، أسلحة، سيارات…) وفرق شبه عسكرية عملياتية. السافاك يحاول دوما المحافظة على أسرار عملائه كما يشرح لنا احدهم، ومن هنا تأتي صعوبة التعرف عليهم، فقد وظف مابين 50 و 70 الف حيث لم نجد عنهم أيّة وثيقة :” لم نوقف، في المجمل، إلا بضعة عشرات، نحن نتحرك حسب الاستعلامات وشهادة أناس كانت لهم قضايا معهم، بعضهم لم يتم تجريدهم من السلاح، وآخرون انضموا إلى منظمات معادية للجمهورية الإسلامية “.
إذا كانت هناك أيّ سلطة في العالم الأكثر شعبوية فإنها في إيران ما بعد الشاه، ولم تكن لتكون أفضل و الأمور كلها خرجت من المسجد، قاطرة الثورة، مركز الحياة الجماعية، محل اللقاءات والنقد، ملجأ “المستضعفين في الارض”، مأوى المظلومين والمدارس الثورية للشعب، كما كان الحال في العهد المدني (مدينة الرسول ص) حيث اختارت “الامة” قادتها في المساجد، واتخذت القرارات التي تخرجها من الازمة، المسجد الايراني لعب نفس الدور في سيرورة الثورة ليحقق مطلب الدولة الاسلامية، هذا الدور سيعيد له مهمته الاساسية، وعلى العموم، فالمسجد أحيا الاسلام من جديد وطهر المسلمين من أدناسهم.
أوصى رسول الله معاذ بن جبل عندما استقبله كي يرسله كحاكم على اليمن بهذه الوصية ،والتي يجب على كل طاغية أن يتأملها ” اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ” هذا هو المطلب الاجتماعي عندما يكون مختوما بالبصمة المقدسة، عندما لا يكون هذفه الوحيد هو “السيطرة على الطبقة الكادحة”، عندما لا تكون كلمة السر فيه ” كل شيء من أجل البطن” (حكمة الكاتب الفرنسي رابيليه الشهيرة) ،و هو ليس ” صراع الطبقات” لكنه الأمواج البشرية التي ستجرف كل شيء. يبدو أنّ شاه إيران الذي قبع في الحكم سبعا وثلاثين سنة ، أساء فهم النصيحة النبوية أو جهل هذه الحقيقية الاجتماعية :من ذلك فقد صار هباء منثورا.

إنه الخميس بعد الظهر، وقد اختفت طهران تحت الثلج أربعين سنتيمترا، فقررت أنا وصاحبي أن نزور مدينة قم. رافقنا حسين إلى شوش، مكان مغادرة الحافلات إلى المدن الداخلية، فامتطينا الحافلة التي تنطلق على الساعة الخامسة والنصف، وبعد ساعتين ونصف وصلنا إلى قم، وجدناها مدينة جميلة وعامرة بالسكان، صاخبة تحيطها الانوار بها من كل مكان، كل الناس خارج منازلهم، ملامح الفرح تشع على كل الوجوه، و كأن المدينة في يوم عيد، يبث الدعاة عبر الاشرطة خطبا نارية، أناشيد دينية وآيات قرآنية تصل إلى كل انحاء المدينة عبر مكبرات الصوت غير المرئية، هنا ينبض قلب إيران،ومن هنا تخرج التوجيهات التي ترسم شيئا فشيئا مستقبل إيران الجديد، هنا محل أنظار كل العالم، قم ، المدينة المقدسة بين باقي المدن، لكنها أيضا بؤرة الثورات التي لا تخمد، نقطة انطلاق الحركات التي كانت تهز إيران من حين لآخر منذ عهد الشاه نصر الدين الذي حكم إيران من 1848 إلى 1896، هذا الذي قسم البلاد بأتم معنى الكلمة بين الانجليز والروس خارج كل الأطر القانونية والدستورية مقابل رشاوي وعمولات أنفقها في العواصم الاوروبية.
هنا، في مكان ما وفي إحدى المدارس يتواجد الخميني ” الرجل الذي زلزل الغرب”  كما لُقّب منذ أسبوعين على غلاف إحدى المجلات الفرنسية الأسبوعية. سيطرت صورته على عقولنا منذ شهور، فمن هو هذا الرجل، ما هي تركيبته الفكرية؟ وفي أي إطار نضع ما تتحدث به عنه الصحافة العالمية ؟

لقد أسدل الليل ستاره على مدينة قم، لا بد أن ندخل. ندخل ؟ أين؟ ، يا إلهي ! لقد ذهبنا إلى عشرات الفنادق، كلها ممتلئة عن آخرها، لا يوجد مكان فارغ حتى للقطط ! بالإضافة إلى أهل البلد الذين قصدوا المدينة من كل حدب فقد امتلأت بالأجانب والزوار والصحفيين، كيف لا فالخميني سيتكلم غدا.فكرنا أخيرا في المسجد، الملجأ الأسمى في الارض لمن لا مأوى لهم. لـ”أبناء السبيل” كما يصفهم القرأن والمسافرين والرحالة. ولأننا لا نعرف المدينة من الداخل، ارتأينا أنه من الحكمة تجنب السير العبثي فيها وفضلنا الاستعلامات العامة، وخلال السير على الرصيف تراءى لنا طيف يبدو من ملامحه أنه ” ملا” وليس هناك أفضل منه لإرشادنا، ناديناه من بعيد بالفارسية” أغا!” توقف الرجل واستدار و هو يراوح مكانه . حاولنا من خلال مزيج من العربية والانجليزية أن نفهمه آننا نبحث عن مسجد لنقضي الليلة هناك. ياللسعادة ! الرجل يتكلم العربية، ارتسمت على وجهه ابتسامة ترحيب ، ثم سألنا من نحن و من  أين أتينا ومنذ متى ونحن في قم ؟ أخبرناه أننا جزائريان وشرحنا له أننا وصلنا للتو من طهران.
” جزائريان “؟ رددها ثم قال لنا ” أنتم ضيوفي!” واضعا يديه على قلبه من شدة الإعجاب. لم نجد ما نقول، ردة فعل هذا الرجل تركتنا في حيرة من أمرنا، فنحن لا نعرفه لا من جهة آدم ولا من جهة حواء، كان بإمكانه بكل أريحية أن يبين لنا الاتجاه ثم يمضي في سبيله،و هو راض عن أداء واجبه المدني. أو كان بإمكانه على أحسن تقدير أن يقودنا بنفسه وكفى، لكن أبدا، لقد شاركنا عفويا مشكلتنا، وضع نفسه في مكاننا ، و لانه كان واثقا من مساعدتنا ،لم يتردد.
يشهد الله وحده ، كم شعرنا بالخجل من هذا الرجل، ليس لأننا وضعناه منذ دقائق في وضع لم يكن يتوقعه، بل لمجرد تخيل نفس الموقف لكن في الحالة العكسية ، لأننا أدركنا أنه لو كان مكاننا لتخلصنا منه بإرساله الى أية وجهة في هذا “العالم الحديث”.، لقد جعلنا نشعر بالحزن والشفقة من هذه الفكرة.الرجل المسكين ربما لا يعرف من الدنيا إلا بلده وتقاليده، لا زال يعيش تلك الاوقات المباركة من العهد النبوي، ربما هو يجهل أنه يمثل نوعا أخلاقيا شبه منقرض. اسم هذا التركي الاذربيجاني مهدي متوسلي، هذا الرجل الجميل الذي لا يمكن أن تحدد سنه، فقد يكون في الثلاثينات وقد يكون في الخمسينات، وهذا ناجم عن طريقة لباسه الجد الأنيقة و المميزة عن الآخرين، عباءة مفصلة ومحددة مع رداء أبيض، وعمامة ( لا علاقة لها بتلك الموجودة عندنا والتي يرتديها أجدادنا وتوضع على شكل دوائر، أما عندهم فيديرونها بشكل جذاب).
مهدي متوسلي ذو مشية هادئة وحركة سريعة وأنف يسند نظارات مستديرة ، يتكلم العربية بشكل احترافي و مفخم،عندما تحدثه عن أي موضوع مهما كان ، يعطيك انطباعا أنّه يتعلق بأمرمفزع أو خطير من خلال سمة الجدية البادية عليه و صوته الشجي أكثر من  الكلمات التي يتلفظ بها. اصطحبنا مهدي العزيز أولا إلى المطعم حيث تناولنا وجبة ” تشالو كباب” الدائمة لكن اللذيذة. ثم واصلنا الطريق نحو بيته حيث شرح لنا أمورا كثيرة، وخاصة فيما يتعلق بالألقاب:  “فالمُلة” يعادل عندنا إمام مسجد، أمّا لقب “حجة الإسلام” فيطلق على مؤلفي التفاسير،في حين لقب “آية الله” له مستويات عدة حسب التجربة والمعرفة؛ فهناك آية الله ” البسيط” ليس له أي سلطة خاصة، الذي يستقرعلى مستوى الإقليم، وآية الله ” المقلد” الذي له القدرة على شرح الأفكار و المؤلفات  ( مثل تاليغاني وشريعة ماداري والخوني،…و غيرهم). وآية الله ” المعظم ” الإمام الأعلى الذي يملك القدرة على الفصل في الأمور، أو يأمر بأشياء ذات أهمية وطنية. ثلاثة مقاييس تتحكم في تعيين آيات الله البسيط والمقلد من خلال استفتاء شعبي وهي أن يكون أكثر تقوى ،أكثر عدلا وأكثر تجربة.
وهكذا سيرى العالم ويتأكد أن السلطات التي يتمتع بها آيات الله لها أهمية قصوى ولا يمكن أن تقارن، يمكن لآية الله أن يدعوا الى قلب الحكم الذي يتبرأ منه كما فعل الخميني على مرأى كل العالم، أو أن يدعوا إلى مقاطعة  قرار اتخذ على أعلى مستوى كما فعل آية الله محمد حسن الشيرازي سنة 1891 عندما حرم التبغ ليجبر نصر الدين شاه على استغلال التبغ الإيراني، أو أن يجهض حركة وطنية في لحظة حرجة كما فعل كاشاني عندما حرم ماسداغ Mossadegh من تأييد شعبي.
يمكن ان نسجل هنا تأملات عن كيف كانت ستكون إيران اليوم لو أن الملالي ، مستودع القوة الروحية لإيران، الذين تعاقبوا على مر تاريخها ،تصرفوا بشكل مختلف عما فعلوه، لو أنهم وظفوا، عن دراية، السلطة الرهيبة التي كانوا يتمتعون بها.يمكن أن نتساءل هنا ، مع العلم أن السلطة كانت دوما في أيديهم في وجه الحكم المطلق والديكتاتورية ،عن الأحداث الكبرى التي كان يمكن في أي لحظة أن تقفز على الكل، فوق اعتباراتهم الشخصية وقيّمهم الأخلاقية والسياسية، وقد حدث مرتان خلال هذا القرن أن فشل الملالي في مهمتهم، الأولى عندما هدد آية الله كاشاني ماسداغ بالاغتيال من خلال أتباعه ” مجاهدي الاسلام” والحالة الثانية التي غاب فيها كل حس سياسي وانعدمت الثقة عند مجلس الملالي نفسه الأمر الذي هدد الجمهورية التي أهداها لهم رضا خان على طبق من ذهب، بعدما قام هذا الأخير بانقلاب ولوحظ عليه التردد والتأثر بتركيا أتاتورك ،أعلن قيام الجمهورية في 29 اكتوبر 1923 من خلال المجلس الوطني لتفانيه،بعد خمسة اشهر من هذا النداء،و في 21 مارس 1924 تحديدا ،عُيّن رئيسا للجمهورية . ملالي إيران انذاك الذين رفضوا تدنيس المقدسات، لم تعجبهم تصرفات اتاتورك الذي ألغى الخلافة، فخشوا من رضا خان أن يسير على نهجه ويجعل الدولة الفارسية ( سميت “ايران” سنة 1935) علمانية ،فحكموا على معنى عام من خلال فعل شخص، لم يفكروا وكان الخوف يتملكهم . لقد خلطوا بين حدث و سبب و الذي لا يمكن أن ينتج عنه وجوبا،  و بالرغم من قناعته الداخلية الرافضة للأمر إلا أن رضا خان اضطر لإبداء العكس ،وتراجع عن قراره في الفاتح من إبريل.، لم يكن ذلك مزحة ، وفي 12 من ديسمبر تُوج تحت لقب رضا شاه البهلوي، فلم يجعل إيران لائكية بل أسوأ من ذلك….
لقد استيقظنا في ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة 9 مارس 1357 حسب التقويم الشيعي، مهدي يعرف المؤسسة المدرسية التي سيلقي فيها الخميني خطابا بعد ساعات قليلة، يجب أن يقودنا إلى هناك بسرعة. محيط المعهد ممتلئ عن آخره.تلزمنا ساعة كاملة لنقطع مائة متر التي لازالت تفصلنا عن باب المؤسسة . كان مهدي مدهشا! لقد نجح في شق طريقه وسط هذه الجموع المتراصة من أجلنا لنصل إلى الابواب الممنوعة والمحروسة جدا،وهناك الأمر ليس مسألة جرأة بل مسألة أوراق لا نمتلكها. فمن المستحيل ، كما أخبرنا مهدي، أن يسمح لنا الدخول وسط الساحة حيث كل شيء محضر بعناية لاستقبال رجل قلعة نوفل (  Neauphle-le-Châteauالبلدية الفرنسية التي كان يقطن بها الخميني) فلا يقبل هناك إلا الصحفيون الموثوق بهم وأصحاب الأوسمة.
مهدي لا يفتر أبدا، صفة العالم تسمح له بأن يصر على طلب مراجعة المسؤولين و النجاح في الوصول لمبتغاه، المسؤول الذي تقدم لنا أمسك بيديه جوازات السفر، تفحصها ثم هز رأسه، استغل مهدي تردده وزاد من فصاحته بأن أوهمه أننا ” باحثون في التاريخ”   شارفت المهمة على نهايتها …..وفي الأخير انتصرنا. نريد أن نرى الرجل العظيم من أقرب مكان ممكن لنسجل ولو ملمحا من ملامح وجهه، هذا الفضل يعود إلى عبقرية مهدي، نحن أمام المنصة مباشرة، أما مهدي فقد بقى في الجانب الآخر من الحاجز..
تقرب منا مصور صحفي في الخامسة والعشرين تقريبا ليتعرف علينا، يجب علينا أن نعلمه أننا لن ندخل هذا المساء حتى الى طهران وأن نخبره ببرنامجنا، هذا الشاب يسمى أبشار تشاهارا لا يتكلم إلا الانجليزية وكان يعمل في معمل عائلي للمفروشات، طلبت منه الثورة كما طلبت من ملايين الشباب أمثاله ان يتركوا أعمالهم الأصلية ويتطوعوا لخدمتها. حاول أبشار أن يعرف رأينا كــ “سُنيين” عن معاوية وعن عليّ صهر و ابن عم الرسول ،والصراع الذي وقع بينهم بعد خمسة وعشرين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأجبنا هذا الشاب بالبيان الذي أعلن عنه الخميني :أنه ليس هناك فرق أساسي بين السنة والشيعة.
الشيعة هم فئة من المسلمين وقفوا مع علي في معركة صفين ضد معاوية المتمرد، كانت لهم ” الشرعية ” بالمعني السياسي والأخلاقي للكلمة، أما السنة فحرفيا تعني من يتبع سنة رسول الله، والشيعة أيضا يرجعون أوّلا إلى القدوة المتجسدة في النبي محمد، إذن الخلاف بين السنة و الشيعة ليس حول الأمور الجوهرية و تحديدا القرآن والسنة، لكنه انبثق من ظرف سياسي خاص، و هي مسألة صفين. لكن معاوية استعمل الحيلة من خلال التحكيم وكانت الكلمة الاخيرة له .ففضل الشيعة العمل في الخفاء ولم يقبلوا أبدا حكم الامير وقاتلوه كما قاتلوا اباه، ورفض الحسين بن علي مبايعة يزيد، سليل العائلة الاموية التي جعل فيها معاوية الحكم وراثيا وهو أمر يتناقض مع روح و رسالة الاسلام. حارب الحسين الامير يزيد لكن أهل الكوفة خانوه فسقط شهيدا في كربلاء في العاشر من محرم سنة 61 هـ. هذا التاريخ جد مهم للشيعة وخاصة الاثناعشرية، لأن الحسين الشهيد الخاص،الحسين المظلوم ،الحسين الورع و العادل ،كان قد تزوج إيرانية ،ابنة آخر ملك الساسانيين يزدجارد الثالث، وبهذا مزج المصير الايراني بالمصير الاسلامي، ومن هنا يأتي التمييز الكبير للحسين حتى أنه لا يُمثل في الصور ،بينما تجد صورة علي مرسومة بالطلاء والبوستيرات في كل مكان في ايران.
أبشار متفق معنا تماما، و عندما أعدنا في بيته في المساء نفس الموضوع مع أبيه، اتفق معنا بالكامل أيضا، انضم إلينا مصور من التلفزيون الإيراني يعرف الجزائر من خلال زيارة قام بها خلال مؤتمر حركة عدم الانحياز عام 1973 ، إنه يفاخر بجمال بلدنا إلى أبشار الحالم بـ ….
لقد انفصلنا عن بعضنا بسبب الموجات البشرية وراءنا والتي تدفقت فجأة كالفيضان الذي لا يتوانى عن حمل أي شيء ، لقد ظهر الخميني على المنصة ! الجحافل البشرية لم تعد تقوى على التماسك، تهتف باسم الزعيم، تحاول اختراق الحواجز والنظام العام، تقدمنا أكثر بحيث لا يفصل بيننا وبين الرجل إلا متر واحد، و هو الآن يرفع يده لتحية الجماهير الثائرة ، كنّا نمعن النظر فيه ، نغوص في أعماق نظرته، نراقب أدنى الحركات على وجهه كما لو أننا نريد استخراج السر من ملامح هذا الرجل الذي دوى إسمه في كل العالم، لقد دفعونا بقوة، كدنا نسقط، شعرنا بشدة الزحام لكن عيوننا لن تغادر الخميني، لكن عبثا،  الرجل واضح ، تقاسيم وجهه لا تتحرك قيد أنملة.

حركة التحية التي حيا بها الجماهير كان اجراءا شكليا بسيطا، لا يبتسم ولا يخطيء في النظر، بكل تأكيد، الخميني رجل مهمة وليس رجل سياسة. صرخ رجل ورائي، رجال الاسعاف يجرون في كل اتجاه، شرطة النظام ذابت وسط الجماهير.وفي الأخير جلس الخميني علي نفس المنصة المغطاة ببساط حتى يتم تعديل مكبرات الصوت لحضرته، ياله من قدر عظيم انتظر هذا الرجل، أن تلبي أصدق رغبات هؤلاء الخمسة والثلاثين مليون روح، أن تحقق طموحات أمة مقهورة مظلومة في الأغلال، أن يُحرر بلد بأهمية إيران من جوقة الديكتاتورية على يديه، بماذا كان يحدث نفسه ؟ تساءلنا كيف يكون شعوره اتجاه نظرة الجماهير إليه. لماذا ردة فعله لا تكون أكثر حماسة وأكثر تقديسا ؟

الخميني ليس من هذا النوع الرهيب الذي حاولت الصحافة العالمية إظهاره به. وجهه كله سكينة. وعيونه تتسم بالطيبة والطمأنينة في هذه الفترة الموسومة بالجفاء والجهل. وقف مجموعة من الأطفال بنظام، و هم يرتدون قمصانا بيضا وسراويل سودا وينشدون نشيدا تكرر فيه ” جمهورية إسلامية” أكثر من مرة ينظر إليهم الخميني نظرة حانية ويبتسم، هم الأمل، البذرة الفتية لإيران الجديدة، رمز البراءة والخير الممكن في هذا العالم، لقد هدأ هدير الجماهير. جلس الناس على أرض مبللة من جراء تساقط أمطار رقيقة لم تتوقف. ومن كان يهتم بذلك ؟
لقد خيم الصمت على المكان عندما شرع الخميني في الكلام، لقد تلا آية بصوت عذب وهاديء ثم دخل في الموضوع بنبرته المعتدلة، دققنا النظر في هذا الرجل الذي كان العدو اللدود للنظام الملكي، لم يتجرأ شخص قبله ولا آية الله ولا رئيس حركة أوحزب أن يتحدى الشاه ،كلهم كان يرى أن الحل هو في  التعاون معه، من خلال تحصيل بعض من الحريات و المطالبة بالحقوق النقابية والتوافق مع هذه الحركة السياسية أو تلك أو الطموح في جزء قليل من السلطة، كان بإمكان مسداغ أن يعلن قيام الجمهورية لكنه لم يرد فعل ذلك، الجبهة الوطنية لم تطالب أبدا بأكثر من تعديلات دستورية. أما السياسي” توده” فنحن نعرف ماذا قال عنه مؤخرا السيد “بزرقان”.
لم يكن الخميني خلال موت آية الله بوروجرد سنة 1961 إلاّ واحدا من الملالي الكثر آنذاك ،لكن يُنقل  عنه الموقف التالي والذي ذكره مؤلف كتاب ” إيران، الثورة باسم الله ” (Iran, la Révolution au nom de Dieu ) : ففي سنة 1953 عشية مغادرة الشاه بلاده للذهاب إلى إيطاليا ، قام بزيارة إلى آية الله بوروجرد في قم ليعرف رأيه، كان بوروجرد في حوار مع حوالي أربعين من الملالي في أحد المساجد عندما دخل عليهم الشاه فقاموا كلهم وانحنوا إليه باستثناء واحد من بينهم : وهو الخميني، ولما سئل عن ذلك قال :” هذا طاغية واحترامه ليس من الاسلام في شيء“.

في 1963 استولى الشاه على أراضي ” الحبوس” باسم ” الثورة البيضاء”، فانفجرت إضطرابات في كل من طهران ، قم ، مشهد وشيراز و كانت موضوع الساعة، وجه الخميني برقيتين شديدتي اللهجة للشاه نسخ الطلبة منها آلاف النسخ على شكل مناشير ووزعت على كامل التراب الايراني. أقام الخميني اجتماعا في مدينة قم جمع فيه مائة ألف شخص وهاجم الشاه بشدة علنا، لم يتأخر الرد، لقد حاصروا بيته وأوقفوه، صار الخميني على لسان كل إيراني،ضغط الشعب من أجل اطلاق سراحه، ليتم ذلك بعد ثلاثة اشهر.

في نهاية السنة نفسها، صادقت الحكومة الإمبراطورية على معاهدة تنص على أن الرعايا الامريكيين في حالة ارتكابهم جنحة أو جريمة لا تتم محاكمتهم أمام المحاكم الإيرانية، إنها اتفاقية استسلام. فكان رد فعل الخميني أمام هذا الخنوع بنفس الحدة والعنف.لذا تم هذه المرّة نفيه إلى تركيا ثم إلى العراق، لم يستطع الخميني العودة الى وطنه إلا بعد سقوط المملكة التي سيرها بنفسه من المنفى، هذه هي الظروف التي تم التصويت فيها عليه بالاستفتاء الشعبي، لقد عرّف الرأي العام منذ البداية الخميني أنه رجل التطلعات، رجل الإلتزام التام والصارم، والقائد المخلص والزاهد، لقد جعل منه آية الله العظمى ” المرجع والتقليد” وهو من سيحررهم من مملكة الطغيان التي دامت سبعة وعشرين قرنا.
كانت لحظات الوداع مؤلمة، أولا مع مهدي هذا الرجل الطيب والبسيط الذي لم يتردد السافاك، مع ذلك، في تعذيبه عندما أوقفوه في أحد مساجد تابريز سنة 1974 وهو يتحدث عن الخميني. ثم مع أبشار الذي يملؤه الإيمان بمستقبل الثورة، ومما زاد من إعجابنا به أنه بقى معنا حتى لحظة وصول الحافلة التي أقلتنا الى طهران. ما معنى ست وثلاثين ساعة في حياة أي كان؟ لأول وهلة تبدوا ولا شيء، لكن ستا وثلاثين ساعة في العهد النبوي فهي شيء آخر ،تُحسب بوحدات لا يُعرف لها إسم.

قم، الخميني، شريعة ماداري، مهدي ، أبشار… هذه الأسماء لن تبقى وراءنا إلا كمسرحية وأبطالها،و الذين يؤدون قطعة درامية تتسارع فيها الأحداث ولا ندري كيف ستنتهي، و بعيدا عن الواقع وعن السياق الإيراني، يمثل هؤلاء نموذج الرجل الملتزم الذي يحاول مجددا تجسيد مجتمع مثالي ، كما في “يوتوبيا” توماس مور،أو “المدينة الفاضلة ” للفارابي، أو أي مدينة مثالية أخرى. يقول كارل مارس في رسالة كتبها في سن 25 لارنولد روج : ” هذه الصيغة المثالية موجودة منذ القدم في الأحلام ولا ينقصها إلا أن توضع في إطار واضح لتجسيدها حقيقة. سنرى ساعتها أن الأمر لا يتعلق بإيقاف هذه الفكرة الماضية، و نصل بالتالي إلى أن الإنسانية لا تعالج أمرا جديدا بقدر ماهي تجسد هذا الأمر القديم بطريقة واعية “. هذا أمر حقيقي في كل الثورات وفي كامل التاريخ العالمي.

الى أية درجة يمكن أن يكون وعي الإيرانيين واضحا تجاه حلمهم حتى “يمتلكوه حقيقة ” ؟ بشكل أبسط ، ما هي حظوظهم و ومؤهلاتهم؟ وما هي مخاطرهم ومشاكلهم ؟ نعرف عادة مصير الثورات : مواصلة ” القدر المتوقف ” كما يقول بونواست ميشان، لكن ورغم كل شيء من يستطيع أن يحكم على ماذا ينتظر الثورة الإيرانية سلفا ؟ من يجازف بذلك؟ من يستطيع أن يقدم نبوءة واحدة ؟
دخلنا طهران و تفكيرنا فريسة لهذه الأسئلة الخطيرة ، وضعتنا الحافلة في مدينة سوس. تنزهنا قليلا قبل أن نتجه وسط المدينة. جعلنا الطريق نلاحظ الناس، نتوقف أمام الواجهة الزجاجية أو ذلك الكشك الذي يعرض عناوين الصحافة العالمية. ها هو الغلاف الكابوسي لمجلة ” التايم ” يشد انتباهنا بالعنوان المدهش:” إيران، الفوضى والنزوح “، الذي ضحكنا أنا وعبد الرحمن بسببه ضحكة بلا رغبة .

في حين نشرت جريدة ” لوموند” مقالا عنونته ” تفتيش دموي” ،حيث كتب إيريك رولو الذي حرره عن ” ناشطين إسلاميين” من ” لجنة الخميني التي لا نعرف عنها أي شيء بما فيها هوية أعضائها” قبل أن ينهي مقاله بإبداء سخطه قائلا ” لكن بأي دليل يمكن أن نبرر منع الشذوذ ؟” علمنا بعدها بيومين أن ايريك أخذ مقاله هذا من … نيويورك تايمز ، كما أخبرنا باني الصدر.
لقد وصلنا عند حسين، وقبل أن نجلس أخبرنا أن الدكتور بهشتي مؤسس “حزب الجمهورية الإسلامية”  ينتظرنا. إنها السابعة والنصف مساءا .قفزنا إلى سيارة صديقنا وهرعنا نحو منزل الزعيم، وأثناء الطريق أخبرنا حسين ، و هو راض عن انجازه، أنه نجح في أن يأخذ لنا موعدا مع باني صدر ومسؤولي ” مجاهدي خلق” لقد صفقنا بحرارة وانفعال، ثم بدأنا نقص عليه رحلتنا في قم.

صدر المقال في : 03 جوان 1979


لإسلام تحت المحك (3)

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة : فرحات بوزيان
استقبلنا الدكتور بهشتي Behechti ذو القامة الكبيرة والهيئة الوقورة، والذي لا يبدو انه تجاوز عامه الستين، بحرارة ووجه من خلالنا التحية إلى الجزائر الثورية،يتحدث لغة عربية ذات مستوى عال، إنه أحد آيات الله الذي ألف كتبا كثيرة،كما أنه يجيد الألمانية وقد ترجم كتبا كثيرة ذات طابع تاريخي من الألمانية إلى الفارسية ومن الفارسية إلى الألمانية.
سألنا عن الجزائر قبل أن يستعد لأسئلتنا الخاصة، لقد اختصر لنا المراحل الكبرى في تاريخ الثورة و الضاربة في قدم التاريخ الإيراني، تبدأ من معارضة معاوية وابنه يزيد اللذان اغتصبا السلطة ممن يستحقها،و منذ ذلك التاريخ والشيعي الإيراني يرى عدم شرعية أي سلطة غير منتخبة، والتي جسدها الطغاة والملوك عبر التاريخ الإيراني. هذا الذي ركز عليه الدكتور بهشتي، وهو موقف أساسي واستعداد مسبق للعقل الإيراني ، ومن دونه لا يمكن فهم أي شيء في الاحداث الجارية.
تميزت الفترة المعاصرة برفض البهلويين Pahlavis، هذا الرفض ظهر من خلال معركة في سنوات العشرينيات1920 والتي قادها ميرزا خان Mirza Khan الذي طالب بجمهورية غيلاند، أو معركة ماسداغ Mossadegh الذي أمم البترول سنة 1951، بالرغم من القمع الدموي الذي عانى منه الشعب الإيراني تباعا الا انه وقف ضد الاستغلال والاستبداد، معركته إذن قديمة، والأحداث التي شهد العالم  نقطة انطلاقها من خلال ” الثورة البيضاء” التي أطلقها الشاه سنة 1963، والتي لم تكن مجرد تمرد وانتقام ومظاهرات شعبية وتعذيب حتى فيفري الأخير.
يقول الدكتور بهشتي: “حزب الجمهورية الإسلامية” لم يتأسس إلا منذ ثلاثة أسابيع ( نحن في العاشر من مارس) وقد أحصينا إلى يومنا هذا حوالي 500.000  عضو، نصفهم تقريبا من منطقة طهران“.
وما الهدف من وجوده؟” تنظيم الحكم الاسلامي في إيران، المساعدة على تكوين صيغة سياسية  حسب معتقده،و ترجمة هذه الاخيرة إلى أفعال من خلال أعمال وطنية أو يومية، وضع كل الأعضاء الأكثر كفاءة على قدم المساواة، شيئا فشيئا، للتعبير عن رؤيتنا وسيادتنا الايديولوجية“،واصل الدكتور:” في السياسة كما في الاقتصاد، لن نضل أبدا في الأسس التي وضعها غيرنا، ولظروف غير ظروفنا. الفكر الإسلامي هو شكل لتصور خاص ، فهو ليس قضية جدلية، اقصد انه غير مؤسس على عداوة فكر اخر أو صراع مصالح، لكنه فكر اندماجي يمزج  الزماني والروحي.”
و في سؤال عن مستقبل العلاقة بين العلماء والسلطة التنفيذية صرح الدكتور بهشتي ” انتهي الأمر، من الآن لن يكون هناك مجال للتفكير بمنطق العداوة او الصراع ، العلماء سينظرون إلى السلطة التنفيذية كعملية  تحويل من دولة قديمة إلى دولة إسلامية حقيقية، والسلطة ستعتبر العلماء سلطة روحية تستمد منها شرعيتها” انتهت المقابلة حول التجربة الجزائرية على الساعة التاسعة ليلا ،والتي اكد لنا الزعيم الإيراني انه يتابعها باهتمام كبير.
بعد الرجوع إلى المنزل، عند السيد حسين،خضنا نحن الثلاثة في نقاش حاولنا من خلاله الوصول إلى نقطة معينة،ظننا أننا قد سمعنا ورأينا ما فيه الكفاية لنحاول وضع حوصلة أولية : منذ شهر فقط ، وفي بلد من أهم بلدان العالم يحتوي على احتياطي من النفط يقدر ب 60 مليار برميل ( احصائيات 1974) وعائدات البترول تقدر ب 24 مليار سنويا، خامس جيش في العالم، مركز جيوسياسي حيوي ، كل هذا سقط بين يدي الشعب بعد ثورة لم تكن لا من طبيعة  اقتصادية ولا روحية، على الصعيد العالمي ولّدت الثورة ذهولا ،لكن اعلنت إنذارا ايضا، فالغرب يخاف على مصالحه، وبعض البلدان تخاف على نسيجها العرقي ، والملوك يخافون على عروشهم، والطواغيت يخشون زوال مناعة الاجراءات التي يتكؤون عليها. والإيديولوجيات تخشى على براهينيها…. باختصار، انه الهلع.
يرى الملاحظون في العالم أن الأمور تعقدت بما فيه الكفاية وحان الوقت لعقاب الشعب الإيراني، أما الإسلام فكما نعرف، فغير مرحب به على الدوام، لكن ليس هناك شيء مكن القيام به. هذه ليست إيران 1953، هذا ليس ” old mossy””طحلبا قديما”  لم نفهم شيئا من الخطاب الذي يعتمده الخميني… ثم هذه القنابل النووية والذرية تبدو تافهة. إنه الهجوم السافر الأعمى الذي تستعمل فيه جميع الوسائل. الكل ينتظر ليرى بوضوح حتى يسدد الرمية، ردة الفعل تنتظم تدريجيا، لقد ظهر الهدف، لا بد من التصويب نحو الرأس، من الوصول إلى الافكار، لا بد من تحريك ” الكفاءات” من أحقر كذاب إلى أكبر متخصص ( من الشيعة والبهائيين والمزدكيين…الخ) لقد انطلقت حملت صحفية خارقة و خيالية، لا بد من القضاء على هذا النموذج الثوري، من تكوين فرق تسمى ” القوى الحاضرة les forces en présence ” لزرع الفتنة والبلبلة وأن الثورة قد فشلت والناس أمام طريق مسدود. تشويه، تفرقة، سخرية… الثورة مهاجمة من كل الجهات.
على المستوى الداخلي، أخوات وبنات وزوجات الأعضاء السابقين في السافاك يتحركون ، انها ” حرب تشادور” لقد نظموا مسيرة ووصفت جريدة لوموند«  Le Monde »  هذه القضية بأنها ” قضية وطنية ذات أهمية كبرى ” (عدد 13 مارس)، وقد قدرت جريدة ” الباريسي المحرر”« Parisien Libéré » عددهم بحوالي 50.000 شخص(!) (عدد 12 مارس).و استمتع هذا وذاك بتذكية الاحقاد و الضغائن و صب الزيت على النار، يومان بعدها، يعرض التلفزيون الإيراني حوارا بين نساء ضد الحجاب والسيد غوتبزده Ghaznavide ثم مع بني صدر Bani Sadr، حرية تعبير لم نر لها مثيلا من قبل ، لقد أعلن أية الله الخميني من مدينة قم أن ” نحن لا نخشى مما يمكن ان يقوله أيّ كان، والكل حر في أن يعبرعن أفكاره وآراءه كما يشاء“، و في رد وزير الاعلام السيد ناصر ميناتشي Nasser Minatchi على اسئلة الصحافة قال :” إن أساس وزارتي مرتكز على هذه الحرية… سيبقى استيراد المنشورات والجرائد الأجنبية حرا ليسمح للرأي العام بالاطلاع ثم الحكم عليها” وهذا ايضا لم يكن من قبل أبدا.
الصحافة الإيرانية لم تكن أبدا بهذه الحرية، والدليل أنها يمكن أن تتحدث عن ” رجل دين” وتوظف أجانب، كما هو الحال مع ” جريدة طهران ” حيث كان المدير فقط إيرانيا و قد كان يزود قرائه بالأخبار من خلال برقيات … وكالة الانباء الفرنسية. أي بلد كان سيسمح بهذا الوضع ؟ في إيران ما قبل الثورة لم يستطيعوا أن يقوموا حتى بما قام به نابليون لما كتب إلى وزيره ، فوشيه فيما أعتقد ، فيما تعلق بالصحافيين قائلا: “أخبرهم أنني لن أحاسبهم أبدا على الشر الذي سيقولونه، لكن على الخير القليل الذي قد يمتنعوا عن قوله” .
لكن ردة الفعل على المستوى الداخلي لم تكن هذه فقط، لم تبق في حدود مؤامرة صحافية، كما أخبرنا عم السيد حسين، شيخ كبير ، حكى لنا قصة حدثت أثناء غيابنا عن الحي،حادث؟ جريمة غير قابلة للتصنيف، لا انسانية: كانت عن مجموعة من الشباب الثوريين المكلفين بالحماية الليلية لأمن دائرة، وأثناء ذلك ، وضع اثنان من السامريين« samaritains »  سلة تحتوي على” غذاء” لم يكن هذا أمرا مفاجئا، بل يعد من الأخلاق وخاصة في هذه المرحلة، الامر الذي ولد الثقة لدى الشباب الثوريين، و أودى بحياة ثلاثة منهم و مزقهم اشلاءا لأن السلة كانت مفخخة من طرف الاعضاء السابقين للسافاك.
كان يومنا الموالي حافلا بالمواعيد، سيكون لنا موعد مع “مجاهدي خلق” على الساعة الثالثة بعد الظهر ، ثم مع الفيلسوف جعفري على الساعة الثامنة ليلا ، وبعدها على الساعة العاشرة مع بني صدر.
منظمة ” المجاهدين ” هي حركة شبه عسكرية تأسست بعد الإصرار على ضرورة المرور إلى العمل العسكري، هي في الأصل لم تكن إلا فرعا صغيرا في “حركة تحرير إيران” التي أسسها سنة 1963 السيد بزرقان Bazargan وتيليغاني Teleghaniبالخصوص، وانطلقت في العمل العسكري ابتداءا من سنة 1968 ، وعرف عنها عمليات عسكرية شجاعة ضد الحكم الديكتاتوري، لكن تم اختراقها من السافاك وفقدت سبعين من إطاراتها الأساسية، مقرها في مؤسسة البهلوية السابقة، في وسط طهران ، وهي ثكنة عسكرية حقيقية تحت حراسة مصفحة وشباب مسلحون. لقد فتشونا جيدا قبل أن يسمحوا لنا بالدخول. تتقدمنا فتاة تغطي رأسها ب ” حجاب ” وترتدي الجينز تحت عباءة طويلة، مشينا في متاهة أروقة حتى وصلنا إلى آخرها حيث دخلنا مكتبا وبقينا ننتظر حوالي نصف ساعة قبل أن يتم استقبالنا من طرف ثلاثة مسؤولين لم نتعرف على هويتهم، أحدهم كان يجيب على أسئلتنا والآخران يترجمان.
لكن، في الوقت الراهن، نحن من سيخضع لنيران أسئلة لم تترك لنا متنفسا :من أنتم؟ و ما هي صفتكم ؟ وكيف وصلتم الى هنا؟  و لأيّ غرض؟ و من حدثكم عنّا؟ بمن التقيتم قبلنا؟، هذا الوضع أحرجنا كثيرا، وفي الأخير وافقوا على أن يستمعوا لنا وأن يجيبوا على الاسئلة ولو بطريقة مراوغة. أنا وعبد الرحمن كما هي عادتنا قبل أي لقاء نحضر أسئلة جيدة وبشكل لائق، لكن بالنسبة لمحاورينا فالأسئلة دقيقة جدا وقد تفشي أسرارا، ولغرض وجيه أردنا أن نعرف: أصول هذه الحركة ،حصيلة عملها ،العوامل التي ساعدت السافاك على اختراق التنظيم، وما هو موقفهم من توده Toudeh ( الحزب الشيوعي الإيراني) و ” فدائيي خلق” (وهم ماركسيون متشددون ) وعلاقتهم بالإمام الخميني، وما هو مستقبلهم في الجمهورية الإسلامية ( حزب رسمي أم منظمة سرية ) وما هي أهدافهم بعد سقوط الشاه وعلاقاتهم الدولية… يجب أن نعترف أن حصاد المعلومات التي اعتقدنا أننا جمعناها كانت في الحقيقة ضعيفة، فالحذر والمراقبة التي تميز بها محاورونا تغلبت في النهاية. و في وقت متأخر من بعد الظهيرة ، تحتم علينا مغادرتهم من دون أن نعرف عنهم أكثر، لكن كانت خيبتنا كبيرة ساعات من بعد، بعد أن دخلنا مقر ” مجاهدي خلق ” أن هؤلاء يعملون من أجل مجتمع متساوي وبدون طبقات وأن خطابهم هو مزاوجة بين الإسلام والماركسية.
اليوم وبعد الإنتكاسة ، نتساءل، هل كانت هناك أشياء كثيرة يمكن أن نعرفها عن هؤلاء، على الأقل الاشياء المهمة.لقاؤنا مع الفيلسوف جعفري ( الذي ذكرناه من قبل ) والذي حاول أن يخفف من خيبة أملنا ، وأردنا أن نرد له الجميل بأن نذكره باللحظات الرائعة التي قضيناها معه.ثم اللقاء مع بني صدر ، بالرغم من الساعة المتأخرة ( كان اللقاء مبرمجا على الساعة الحادية عشر ليلا) كان هناك جمع كبير من الصحافيين،إيرانيون وأجانب يحيطون بواحد من أكبر المستشارين الذين يستمع إليهم الخميني، لقد أخبروه للتو بوصولنا فجاء مباشرة لمصافحتنا، نصف ساعة بعد ذلك كان عندنا. وهو يتحدث جيدا الفرنسية، فكان النقاش معه سهلا جدا، مع العلم أنه مسؤول العلاقات في عالم الشغل، سألناه عن مهمته فأجابنا: ” العمال لديهم مسؤولية بناء البلد، هم من ينبغي أن يبرهن عن كفاءة الإسلام في عالم اقتصادي معقد، واجبنا أن نعطيهم المعلومة ونشرح لهم الوضع لا أن نعدهم بشيء من الآمال الواهية،وفي الإسلام، وسائل الانتاج و سلطة القرار في يد العمال “.
عن سؤال حول مبادىء الاقتصاد التي ستُسير المجتمع الإسلامي، أجابنا بني صدر قائلا:”تأميم الفائدة أو عدم تأميمها لا معنى له، 80 ٪ من اقتصادنا في عهد الشاه كان يعتمد على الدولة، وهذا لا يمنع لا الاستغلال ولا الفساد. في مجتمع الغد الإيراني، لن يكون هناك إلغاء تأميم. الدولة ستساعد المؤسسات وتوجهها وتضمن لها توفير رأس المال ثم تسهر على استرجاعه ، لدينا مذهب اقتصادي دقيق، حتى وإن كانت النظريات لا تكفي، فإن المبدأ هو خلق إحساس بالعمل. هذا ما أحاول شرحه للعمال“.
وبخصوص الوضع النقدي لإيران قال بني صدر:” خمسة ملايير دولار، هو الدين الخارجي، وهذا عشر ما ينبغي أن يكون في بنك الشاه، فهل نوجه النداء له ليدفع الدين. بالنسبة إلينا، نحن لا نعترف بهذا الدين،الغلاف المالي للسنة المقبلة سيكون نصف الغلاف المالي للسنة الأخيرة تحت حكم الشاه وهو اثنا عشر مليار دولار، وهذا شيء كثير بالنسبة لاقتصادنا” سألناه عن الصحافة الإيرانية والأجنبية فقال: “الصحافة الوطنية كانت خاضعة منذ خمسين سنة للحكم البهلوي، أما بالنسبة لنا  لا مجال للتضييق على الصحافة، بل همنا خلق صحافة إسلامية حقيقية.في الخارج ،أموال الشاه هي البورجوازية الكبرى التي تمول الحملة المضادة للاسلام”.
و عن الوضع في البلد يقول لنا بني صدر:” منذ شهر، كان بالامكان الاستيلاء على السلطة بـ 1000 رجل،هؤلاء الذين يحاولون وضع العراقيل يعرفون ذلك،ولكن يعرفون أيضا عمق الحقيقة، إن الخميني أقوى من قادتهم حتى في حركاتهم، وهذا يعرفونه، حرب أهلية هنا غير ممكنة… ليس هناك” قوة” هناك جماهير وغبار، الكل والعدم، طبعا يمكن أن نخشى بعض الفتن،لكن هذه الفتن لن تضع الثورة في مأزق، لكن فتن نتأسف عليها “.
في منتصف الليل، فارقنا السيد بني صدر، ونحن عائدون أوقفنا حاجز أمني لشباب ثوريين، أظهر لهم  حسين أوراقنا ثم سمحوا لنا بالمرور، نحن قلقون، لماذا الأمور بهذا الشكل في العالم ؟ متى وعلى أي أساس سيكون هناك اجماع؟ في كتاب “الحرب الأهلية في فرنسا ” كتب ماركس ساخرا: ” في اية ثورة يتسلل بين جنبي ممثليها الحقيقيين، رجال من طينة أخرى، بعضهم يعيش على ذكريات ثورات مضت ، يحافظون على طقوسها، ولا يعدو آخرون ان يكونوا من النوع الثرثار ، بترديد نفس الخطب النمطية التافهة، اعتُبروا و كأنهم ثوارا حقيقيين ” و يضيف ماركس:” وهذا شر لا بد منه “، وهذا مما يدعو لشيء من الراحة لأنه نابع من  رجل خبرة و منظر الشيوعية.
منذ مدة، اقترح الخميني حوارا عاما ومتلفزا مع حزب توده ، هذا الاخير، منذ سقوط الشاه، يزايد من أجل خنق الاتجاه الثوري: طالب بأسبوع من خمسة أيام وثلاثين ساعة،وهدد بالإضراب، نشر البيان تلو الآخر .. وعلى العموم،كان يبدو أن القادم أكبر.صرخ الوزير الأول برزقان Bazarganإنها الخيانة، أخرج ماض هذا الحزب بأنه استمر في تنظيم جلساته في بلد اوروبي ( جلسة مكتملة يوم 16 مارس الاخير ) بينما إيران محررة.
لو بقي لينين حيا لكتب من جديد ” ماذا نفعل ” ليشجب ” الاقتصادوية” و ” العمالية” لحزب “توده”.
صحيح ان حزب “توده” لم يكن له على ممر الزمان مواقف مشرفة، أسس حزبه في جانفي 1924 ليقاوم إلى جانب الحلفاء تأثير والمصالح الالمانية في إيران، لكن كان يجب و منذ 1944 أن يبدأ اولى خصوماته مع الجناح الوطني، في هذه السنة، ألقى النائب ماسداغ  Mossadegh خطابا في المجلس يعارض فيه منح أي تراخيص بترولية في الاقاليم الشمالية الواقعة تحت التأثير الروسي.و في الثاني من ديسمبر وضع مشروع قانون للمصادقة عليه، يمنع أي حكومة من إعطاء أي تراخيص بترولية. لكن “توده” صوت ضد المشروع، وسيواجه نفس الصعوبات مع النواب عندما يصل إلى السلطة سنة 1951. كما يقال، فان الاقرب “موضوعيا” الى “توده” هو جناح ” الفدائيين” الذي فضل الآن أن يعمل في الخفاء، “اللائكيون الأحرار” يمثلون عائقا حقيقيا في هذا الاتجاه لأنهم إطارات كبرى في الدولة ( في عهد الشاه والخميني ) وفي الاعمال الحرة والتعليم العالي …الخ، لقد اتحدت هذه الجهات الثلاث لـ”مواجهة السلطة الاسلامية” كما قال م.ماتين دافتري M. Matine Daftari، هم ربما ليسوا سوى ” ثوريون من أجمل المعادن” و الذين هم “شر لا بد منه” كما اعتقد ماركس.
بعد أيام سنغادر الثورة الإيرانية، سنلتقي شخصيات أخرى، سنشاهد وضعا جديدا، سنتعلم أكثر عن الوضع الراهن، لكن الأهم ليس هذا، ليس أن تحكي بعناية فائقة أدق تفاصيل الرحلة، بل ما فعلناه كان من اجل معرفة الامور الاساسية من وراء هذه التفاصيل،الملاحظة والطرفة.الثورة الإيرانية الآن هي واقع فرض نفسه، وقد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه. لكن هذا ليس كل شيء: هل سيكون لها مستقبل ،و أقصد الامل في النجاح والازدهار ؟ هنا بيت القصيد.
على العموم، هي مشكلة الإسلام نفسه التي تطرح اليوم،مرة اخرى ها هو تحت محك المسلمين، هذا السؤال تطرحه جزء من البشرية التي اعتمدت الإسلام منذ أربعة عشر قرنا. والمتأمل يرى أن المشكلة نفسها هي أبعد من أن تطرح بشكل صحيح على المستوى الانساني، ما الذي يمكن ان يفسر أن هذه المملكة الغاشمة يمكن أن تدعي الإسلام بنفس الطريقة والاتزان ، وأن هذا الممسوخ المشوه الذي يعتقد نفسه ملكا و يحدثك عن الأصالة ؟ هل عشنا الإسلام حقيقة في واقعنا، أو دولة إسلامية منذ عهد صفين ؟ أو حتى في عهد النبي عندما نعلم أن ثلاثة من الخلفاء الاربعة تم اغتيالهم. هل يوجد فكر إسلامي كذلك الذي نتحدث عنه في النظام الماركسي أو الليبرالي؟ أين هذا النموذج ؟ وعند من ؟ ومتى ؟
قال الفيلسوف غوته Goethe: ” الانسان مرآة ربه tel homme ,tel Dieu” ،الله في التاريخ هو الصورة التي يجسدها المسلم للعالم. ولا بد أن نعترف انها صورة باهتة. غوته نفسه في مراسلة مع إكرمان Eckermann يقول: ” على الرغم من كل الأنظمة التي عندنا، فإننا ،على العموم، لن نستطيع ولا أحد يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه الإسلام” فما هذا المنطق اذن الذي يحكم على الافضل في ان لا يظهر في ملامح تاريخية إلا بشكل أسوأ ؟
نلاحظ هذا في الثورة الإيرانية، الإسلام لم يجد بعد صيغته العصرية، ليس لديه “طريقة توظيف” ، ليس هناك “وصفات” دولة قابلة للتطبيق، تجريبية ومنتجة، لا يوجد معتقد للدولة ، لم يفعل المسلمون شيئا ليعبروا عن الإسلام بشكل مؤسساتي، واضح وقوي. كما بيّن المفكر إقبال في كتابه” تجديد الفكر الديني في الاسلام” أن المسلم لم يعي أن الامرلا يتعلق فقط بكل ما هو عقائدي او لاهوتي، بل بما يجعل الإسلام عملي ووظيفي“، كما قال هنري ماسي ” حقيقة فاعلة” « une vérite travaillante»  “المسلم الاجتماعي” سيكافح طويلا من أجل هذه القضايا، لا يظهر هناك بصيص أمل، لم يبق إلا نطلق هذه الصرخة التي نادى بها كانت  Kant:” تجرأ على أن تحكم على نفسك “(Saper aude ! ).
قال تعالى: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “.(انتهى).
صدر المقال في: 04 جوان 1979

الثقافة الثيوقراطية و القنبلة الذرية

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: الحوسين شايب 
” إن العالم الحالي سينتهي، وسيأتي بعده عالم جديد، دون أن يكون للمسلم دورا فيه، ولا مدركا للعوامل والقوى التي تتدخل في مستقبله. هذا العالم يريد تحويل كل البلدان الإسلامية إلى ساحة معركة حتى لا يتحقق أي عمل صالح، و أيضا لتدمير كل ما وجد إلى الآن بحيث يصبح استعماره في المستقبل ممكنا. ولهذا يجب أن يستحوذ العالم الإسلامي على التكنولوجيا النووية، ويسخر الطاقة الذرية”. مالك بن نبي ” المشكلة اليهودية” (1951).
أثناء مقابلة بين أوباما و الوزير الأول الإسرائيلي بن يامين نتانياهو سنة 2012، أهدى هذا الأخير للرئيس الأمريكي قبل أن يفترقا هدية غير منتظرة ولكنها معبرة، إنها جزء من الكتاب المقدس، وهو كتاب أستير “Livre d’Esther ” على اسم امرأة يهودية من قبيلة بن يامين، والتي كانت في القرن الخامس قبل الميلاد زوجة لملك الفرس “أوسيريس”  Assuérus الذي لم يكن على علم بديانتها، والتي تمكنت من إنقاذ اليهود من هلاك مؤكد، وأثناء تسليمه للكتاب قال نتانياهو لأوباما ” هو الأخر (أي ملك الفرس) كان يريد إبادتنا.”وكأنه يتحدث عن إرهابي محل بحث منذ…..25 قرنا.
لا ندري من هو المقصود بالذات لأن وحسب كتاب أستير نفسه، فإنه الوزير الأول هامان Haman وليس الملك الذي ربما يكون هو مدبر هذا المقلب، والذي أعدم إثر تخطيطه لهذه الفكرة، وهذا بعدما كشفت أستير أمره إلى الملك أوسيريس، وتحت تأثير أستير أصدر الملك قانونا ينص على: ” السماح لليهود مهما كانت المدينة التي يقطنون فيها، بالتجمع والدفاع عن أنفسهم، وهذا بإبادة وقتل كل الجماعات المسلحة لفئة أو مقاطعة ما، التي يمكنها الإعتداء عليهم بما في ذلك الأطفال الصغار، النساء، والاستيلاء على ممتلكاتهم.”
و يسترسل كتاب أستير:” كثيرا من أعضاء الفئات الأخرى من سكان البلد ادعوا بأنهم يهود لشدة خوفهم منهم، وجاء دور اليهود للسيطرة على كل الذين يبغضونهم، كانوا يتجمعون في مدنهم، وكل مقاطعات الملك أسيريس، وهذا للتعاون  فيما بينهم ضد كل الذين يريدون إيذائهم. ولم يتجرأ أحد على مقاومتهم وهذا لخوف الفئات الأخرى منهم. زيادة على ذلك فإن زعماء المقاطعات بما فيهم المزربان (كلمة فارسية تعني حاكم الإقليم وتقابلها بالفرنسية كلمة: satrapes ( الحكام والموظفون كانوا ينتصرون لليهود…، وهؤلاء ضربوا أعناق الكل وأبادوهم، وكانوا يتصرفون كما يريدون مع الذين يبغضونهم….”
هذا في رد انتقامي لكل تهديد لم يصل إلى درجة التنفيذ تماما كما كان حال الملف النووي الإيراني. المؤرخون لم يجدوا أي رواية لهذا السرد الموصوف “بالقصة التاريخية” مع التاريخ المحقق للإمبراطورية الفارسية. لكن هذا ليس الأهم، المهم هو أن الإسرائيليون يؤمنون بهذه “الحادثة” ويطبقونها كفرض ديني. لا يجب النظر إلى هدية نتنياهو على أنها دعابة أو إثارة لكن هي مجرد دليل على عقيدة إيمانية وهي أن إسرائيل لا تنصت إلا إلى صوت تاريخها ولا تؤمن إلا بكتبها المقدسة سواء كانت مثبتة علميا وتاريخيا أو لا. و الامتثال  للقوانين الإنسانية وإلى القانون الدولي يأتي في المرتبة الثانية، وهذا بشرط أن تخدم مصلحتهم.
قصة أستير كانت أيضا بالإضافة إلى كونها الحدث الجديد،  و الخبر الساخن الذي جاء نتنياهو للخوض فيه مع الرئيس الأمريكي. وقبل أن يغادر البيت الأبيض صرح أمام وسائل الإعلام بأن “إسرائيل متحكمة في مصيرها.”
بعدها تنقل إلى اجتماع اللوبي الموالي لإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية، أشهر وأقوى منظمة AIPACالتي قال أمامها ” لقد منحنا الوقت للدبلوماسية وللعقوبات، ولا نستطيع الانتظار أكثر…”، و لا أدع أبدا شعبي يعيش تحت تهديد الإبادة” وتحدث في هذه المناسبة مردوخي، الرجل الذي بواسطة دهائه وضع أستير  في مجلس حريم أوسيريس، وأمنيته أن تصبح ملكة الفرس، وهو المشروع الذي تحقق، وفي نهاية القصة، يعلمنا كتاب أستير بأن “اليهودي مردوخي كان الرجل الثاني للملك أوسيريس، ولعب دورا مهما لصالح اليهود، وكان محترما من جملة إخوانه.” كان يبحث عن سعادة شعبه وساهم عبر آرائه في رفاهية بني جلدته.”
قولدا ماير Golda Meyer التي شغلت منصب الوزير الأول الإسرائيلي السابق، صرحت في سيرتها الذاتية عبر كتابها ” حياتي”، ذكرى لحادثة ظلت راسخة في ذهنها إثر محاضرة دولية حول اللاجئين اليهود في إيفيان ليبان Evian-les Bains(فرنسا) حيث كانت حاضرة خلال سنوات الثلاثينات، كانت صاخبة إثر تصرفات ممثلي الدول الغربية الذين تداولوا على المنصة ليعبروا عن تعاطفهم مع اليهود بدون مساعدتهم فعليا، وكانت ردة فعلها كالآتي ” بالنسبة لسؤال نكون أو لا نكون، فإن كل أمة يجب أن تأتي ببادرتها، اليهود لن يستطيعوا ولا يجب عليهم انتظار أي كان لبقائهم على قيد الحياة” هذه المرأة التي شغلت منصب الوزير الأول في مرحلة حرب أكتوبر 1973، كانت قاب قوسين أو أدنى من استعمال السلاح النووي ضد مصر وسوريا لقد لزم تدخل الرئيس الأمريكي نيكسون Nixon  بكل قوته لعدولها عن ذلك، وبدلا من ذلك مدها بجسر جوي لتموينها بالسلاح والذخيرة المرخصة دوليا  التي كانت تطلبها، وإمدادها كذلك بالصور الحية للأقمار الصناعية لساحة المعركة.
إنها نفس العقيدة التي طبقها مناحم بيقين Menahem Begin في سنة 1981 عندما أمر بتدمير المفاعل النووي العراقي المسمى أوسيراك (Osirak) وهي نفس العقيدة التي تدفع اليوم بن يامين نتنياهو، وهذه العقيدة  ليست إلا ترجمة للثقافة الدينية التي تحكم الفلسفة السياسية و الأستيراتيجية الدائمة لحياة إسرائيل. الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا لم يقصوا الخيار العسكري، كان لهم دور في كبح جماح الحرب لدى إسرائيل بحجة أن العقوبات تكفي لإضعاف النظام الإيراني، والذي سوف يجبر على التخلي عن طموحاته. وإذا لم يتأتى ذلك، يمكنهم مهاجمة إيران وقد استنفذت قواها، وأصبحت منعزلة عن العالم، كما حدث للعراق سنة 2003. ولقد استبعد هذا الخيار بعد حصول الإتفاق بين إيران ومجموعة 5+1، والذي ينص على تخلي النظام الإيراني عن برنامجه النووي، والذي لن يكون إلا مدنيا.
إسرائيل بدأت في السيطرة على الطاقة الذرية في سنوات الستينيات، وإيران بدأت بالاهتمام بالأمر في سنوات السبعينيات. الأولى بدأت في إنتاج وبسرية تامة المئات من القنابل الذرية، لكن الثانية أحدثت صخب غير مسبوق بالليل والنهار أمام العالم، وتحت نظر مصالح مخابرات العالم بأسره، وتحت وطأة فضول  كل سذج المعمورة، لم نتنج سوى 3% أو20 % من تخصيب اليورانيوم رغم أن مرجعيتهم دينية كذلك، يبدوا أن الحاخام وآية الله ليست لديهم نفس الفاعلية.
هل يعرف علماء الشيعة أو السنة كتاب أستير؟ إنني لا أظن ذلك لأنه لم يكن ليحدث للمسلمين ما حدث لهم منذ قرن وسيبقى واقعا مستقبلا. لم يكونوا قادرين منذ حقبة المعتزلة سوى في ابتكار القنابل البشرية، والمجازر الانتحارية، وبعبارة أخرى المقلاع ضد الطائرة الصغيرة بدون طيار المستعملة للتجسس. وعلماؤهم ليسوا خبراء إلا في معرفة الماضي والبحث عن الشيطان في كل التفاصيل.
إن إيران لم يكن لها لتربح هذه الحرب في حالة حدوثها، بالرغم من حقها المشروع  إلا بمطالبتها بقانون دولي ذو هندسة متغيرة والذي ليس في إمكانياتها. كان يجب على إيران اكتساب “حاخامات” في مكان علمائها “المتمتعون بالعصمة” وإذا أعلنت الحرب فإن الغرب كان سينقض عليها كرجل واحد، وخصوم إيران يمتلكون أنظمة للهجوم والدفاع في غاية التطور بالنسبة لما تمتلكه.إنهم ينتجونها بأنفسهم وحسب إرادتهم، ولديهم خلفهم من يسند و يعززوا قدرتهم الحربية، اقتصاد لا ينضب. وكما هو حال حربي الخليج إنهم يعرفون إلى من يبعثون الفاتورة حين انتهاء تنفيذ العمل.
في الحقيقة إن هذه الحرب قد تمت بشكل عمليات سرية قامت بها مصالح المخابرات لتلك الدول ضد مصالحهم المتبادلة، حدث سنة 2008 هجوم ضد النظام المعلوماتي للمنشآت النووية الإيرانية، وبواسطة فيروس مدمر مصمم من طرف الخبراء الإسرائيليين، وقل بمساعدة بعض الأمريكيين ويسمى هذا الفيروس ب”ستكسنات”  “Stuxnet كان له دور في اضطراب نظام الآلات الطاردة Centrifugeuses في معمل تخصيب اليورانيوم في ناتانز. وقد أثار تعطيل الآلاف منها، ويقال أن هذا الفيروس ذو درجة عالية من التصميم يخفي عناصر أخرى مبرمجة من أجل التفعيل مرة أخرى، وقد حدثت لذلك الكثير من الاغتيالات لعلماء إيرانيين، وكذلك إنفجار عند إطلاق صاروخ بعيد المدى المسمى شهاب في قاعدة عسكرية قرب طهران، والذي تسبب في وفاة عشرات العسكريين وعلى رأسهم الجنرال المكلف بنظام الصواريخ. وقد تمت إعادة برمجة الصاروخ من طرف الموساد. وكذلك الاغتيالات عبر السيارات المفخخة والتي حدثت منذ بضع سنوات في تايلاندا وجورجيا والهند ضد دبلوماسيين إسرائيليين بدون إحداث قتلى بين المجروحين في الحالات الأولى، ليست لدينا الأدلة بأن هذا العمل الإجرامي والاغتيالات كانت وراءه، لأن عملائها لم يتركوا أي أثر، لكن في الحالة الثانية فإن الإيرانيون قبض عليهم مباشرة.
لا نستطيع سوى أن نرى بأن حرب الظل لم تكن لصالح مصالح المخابرات الإيرانية وأن لو كانت إيران قوية بالأقوال فإن إسرائيل قوية بالأفعال.لا يكفي أن إسرائيل لا تعلن عن نواياها لكن في حالة ضرب مصالح إيران فإنها تنفي كما هو الحال حينما دمرت المنشآت النووية السورية سنة 2007. أفعال وتصرفات إسرائيل مباشرة كما هي عادتها وقادتها لا يصرحون بمشاريعهم للعلن في يوم السبت كما يفعل القادة الإيرانيون خلال صلاة الجمعة.
إن للحرب أوجه متعددة فمنها الوجه السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري ولم تهمل إسرائيل أي منها فعلى الصعيد السياسي فإنها تسعى منذ أمد بعيد إلى جر أغلب القوى السياسية الداخلية نحو الخيار العسكري وإعداد الرأي العام للحالة التي تنجر عليها.وعلى الصعيد الإعلامي فإنها جندت علاقاتها لمشروعية الخيار العسكري في أعين الرأي العالمي. وعلى الصعيد الدبلوماسي فإنها عملت على عزل إيران على الساحة الدولية وتجريمها من طرف منظمة الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وواصلت في المطالبة بإثقال وتضخيم العقوبات الاقتصادية وهذا بتفعيل لوبياتها بهدف خنق الاقتصاد الإيراني. تلك العقوبات التي أحدثت نتائج وخيمة على إيران حتى فقدت عملتها النقدية نصف قيمتها بالنسبة للعملات الأجنبية، وعرفت أسعار المواد الغذائية زيادة بنسبة 30%.
وعلى الصعيد التكنولوجي، فإن إسرائيل كانت تهيئ نفسها ومنذ مدة طويلة لمواجهة سريعة ومباغتة، وهذا بنزع العوائق التي تقف في طريها الواحدة تلوى الأخرى، وخاصة إبعاد الأهداف( 3000 كلم ذهابا و إيابا) وتوزيعها عبر التراب الإيراني. إن المهندسين الإسرائيليين قد جهزوا أسطولهم بمائة طائرة مخصصة لهذا الغرض، ولهذه الطائرات خزانات خارجية إضافية للزيادة من استقلاليتها في الجو. والقنابل التيرمونووية B 61 ذات الشدة الضعيفة، كانت مهيأة للاستعمال زيادة إلى القنابل الأمريكية GBU-28,31,39,97 التي وزنها 14 طن للواحدة والتي بإمكانها إختراق جدار من الإسمنت المسلح الذي يفوق سمكه  (60 متر؟). المخططات جاهزة لحجب وتدمير أنظمة الرادار والأسلحة المضادة للدفاع الجوي الإيراني قبل دخول القاذفة للمجال الجوي الإيراني، وتدمير أسطولها البحري.
الجيش الإسرائيلي يتدرب منذ أعوام على هذه المهمات، لكن كل الإجراءات قد إتخذت للحد إلى أقصى درجة من تبعيات رد فعل إيراني عن طريق الصواريخ أو أي هجوم قادم من جنوب لبنان أو من غزة. وعدد الخسائر البشرية المدنية الإسرائيلية قد حدد بأقل من 500 نسمة، وأدخلت ضمن المعطيات العامة في المخطط.. ولم يتسرب شيء حول الأهداف المحددة لكن الكل يفترض أن من بينها نوجد مصانع تخصيب اليورانيوم لناتاز و قم، ومركز الأبحاث النووية لأصفهان، ومفاعل بوشهر، وموقع بارشين. لإسرائيل هدف أساسي في نظرها ألا وهو عدم إزهاق أي روح مدنية إيرانية وهذا لتجنب إلتفاف الجماهير حول النظام الإيراني.
وإيران كانت على علم بكل هذا وكانت في حراك مع تهديد التدخلات “المؤلمة”، ولا تجهل إيران أنها محاطة من كل جهة بالوجود العسكري الأمريكي في شبه الجزيرة العربية وأفغانستان و بلدان أخرى من آسيا، وقواعد حلف الناتو بأوربا وتركيا، والقواعد الموجودة بفرنسا والإمارات العربية المتحدة…، الأمريكيون و حلفائهم متواجدون كذلك فوق وتحت البحار، ومستعدون في أي لحظة لإطلاق الصواريخ والقذائف. و إيران تهدد بجعل المعابر البحرية التي تراقبها غير قابلة للاستعمال، وتهدد كذلك باستهداف آبار النفط المتواجدة في المنطقة. ولكن قوات التحالف لن تسمح للإيرانيين بإلحاق الضرر بالمنشآت النفطية في المنطقة والتي قد تغرق الاقتصاد العالمي وتؤدي إلى قيامته في حال حدوثها، إنهم يأخذون بعين الإعتبار هذه الفرضية ونتائجها على اقتصادياتهم، لكن أمن إسرائيل يأتي قبل كل شيء.
في فرضية الحرب بين إيران وإسرائيل كان الفرس الشيعة هم الذين سيضربون، لكن المسلمون في عامتهم هم الذين سوف يذلون. لو اندلعت تلك الحرب لمست  كل الشعوب الإسلامية و أحرجت حكومتها. ولمسّتنا كجزء من العالم العربي الإسلامي، حتى ولو لم نكن شيعة وكنا سنة، حتى ولو لم نكن عربا وكنا بربر. إن قيادتنا ستقتصر على التنديد. لكن شعبنا سيتعاطف تلقائيا مع الإيرانيين وهذا لإسلامهم، والإسلاموية المحيطة بنا، وسياسة الكيل بمكيالين في العلاقات الدولية للقضية الفلسطينية و الإسلاموفوبيا.
كان هدف إسرائيل من ضرب إيران واضحا، لكن لم نفهم هدف إيران من التهديدات المتلاحقة التي وجهتها لإسرائيل. الفوائد التي قد تجنيها إسرائيل من تلك الحرب جليّة وهي تدمير القدرات النووية الإيرانية و تقويض قوتها على الصعيد الإقليمي كمنافس لها، لكننا لا نرى ما ستجنيه إيران. أما عن الرأي العام الدولي فإنه سيرى مرة أخرى البلدان الإسلامية أنها مثيرة للشغب، ومهزومة إثر أول مناوشة مع من هو (أصغر) منها، وهذا يذكرنا بأسطورة الضفدعة التي أرادت أن تكون أكبر من الثور.
لكن كل قواعد اللعبة في المنطقة تغيرت استراتيجيةً وفاعلين، فمن صراع اسرائيلي- ايراني الى صراع سعودي- ايراني او لنقل حرب سنية – شيعية ، فما هي أهدافها ؟ من سيقودها ؟ و من المستفيد منها؟
صدر المقال في: 22 أفريل 2012


سلال يخرج للعراء:يا الخاوة رانا فلسنا!

وليد أشرف
بعد حوالي 3 سنوات من ممارسة سياسة الهروب إلى الأمام وتغطية حقيقة الأزمة المالية، قرر الوزير الأول وحكومته “الخروج إلى العراء” والاعتراف بأن الحكومة غير قادرة على الاستمرار في ضمان “الرفاه المصطنع” وشراء السلم الاجتماعي بأموال النفط.
أستغل الوزير الأول زيارته الميدانية الأحد 29 ابريل، إلى ولاية المدية لمطالبة الجزائريين والجزائريات بـ”تأجيل المطالب الاجتماعية غير الضرورية”، كما أعترف بأن الحكومة غير قادرة على الاستمرار في تمويل انجاز المساكن، وأنها اضطرت إلى مراجعة قانون العمل لأن صندوق التقاعد كان على وشك الإفلاس، وأنها ستمول صندوق التقاعد عبر ضخ أموال صندوق الضمان الاجتماعي خلال العامين القادمين، أو ما يسمى بالتضامن بين الصناديق.
وتذكر الوزير الأول بعد أن أصبحت جميع المؤشرات في اللون الأحمر، وباتت الجزائر في وضع أقرب إلى العجز عن السداد، بأن الحكومة ترفض البيروقراطية والفساد، مضيفا:” أننا لا نرفض البيروقراطية والفساد لأسباب أخلاقية وقانونية فقط ، بل لأنها  أيضا عراقيل أمام النهضة الاقتصادية وذات أثر سلبي على أداء أجهزة الدولة وعلى الظروف المعيشية للمواطن”.
ودعا الوزير الأول عبد المالك سلال، إلى تضافر جهود الجميع في العائلة والمدرسة والعمل والإدارة والعدالة للقضاء على آفة البيروقراطية والفساد. مشيرا إلى أن الجزائريين “بحاجة إلى وعي جماعي بأننا في مركب واحد اسمه الجزائر لا يمكن أن تتحقق فيه رغبات الأفراد على حساب الحاجيات الضرورية”.
وعلى النقيض من استفاقة الضمير المتأخرة، حاولت الحكومة منذ 2014 إخفاء خطورة الوضع المالي عن الجزائريين، وتأجيل الاعتراف بخطورة الأوضاع والشروع في الاصلاح الجدي والهيكلي للاقتصاد وطرق النفاق العام الشره الذي لا مبرر له في كثير من القطاعات، وأختارت حكومة سلال طريق ربح الوقت، على أمل أن تعود أسعار النفط إلى مستويات أحسن، قبل أن يعترف الوزير الأول عبد المالك سلال، بأن عصر النفط الرخيص قد عاد وسيكون لسنوات طويلة.
إعتراف سلال وحكومته بأن النفط لن يرتفع غذا، جاء متأخرا جدا، لأن أمريكا ترامب لها حساباتها الإستراتيجية التي تتطلب أن يكون سعر سلاح النفط المستخدم ضد روسيا وإيران وبعض القوى “المارقة” في نظر أمريكا، رخيصا جدا من أجل تسريع استنزاف هذه الدول، ولأن أمريكا أيضا حققت استقلالها الطاقوي بفضل الغاز والنفط الصخري.
لقد اضاعت الحكومة حوالي 3 سنوات وكثير من الجهد والمال، قبل أن تقرر الخروج للشمس، وهي التي ترى إحتياطات الصرف تدوب مثل جبل الثلج تحت الشمس، وهي التي كانت تردد أنها – الاحتياطات – لن تنزل تحت 100 مليار دولار، على عكس تصريحات الحكومة السابقة التي كانت متمسكة بأن تبقي الاحتياطي فوق 100 مليار دولار إلى غاية 2019، كما أن الطريق نحو تخفيض عجز الموازنة لم تأتي بنتائج تحمد، فضلا عن استمرار توسع عجز ميزان المدفوعات.

حلول ترقيعية
في محاولة منها للملمة الأوضاع وإنقاذ ما يمكن، سارعت الحكومة وهي في حالة من التخبط، خلال الأيام الأخيرة إلى اقتراح بعد الحلول التوقيعية، ومنها تأجيل دفع مستحقات شركات الإنجاز الوطنية والأجنبية في قطاع البناء والأشغال العمومية والري، والتي ناهزت حوالي 1.5 مليار دولار، ما دفع بالأخيرة إلى التهديد بوقف عشرات المشاريع ومغادرة البلاد بالنسبة للأجنبية منها.
وأمرت الحكومة مصالح الضرائب والضمان الاجتماعي بتأجيل المطالبة بمستحقاتها على الشركات المتعثرة بفعل عدم تحصيل مستحقاتها هي الأخرى من الخزينة العمومية، ليدخل الكل في نفس الدوامة التي عاشتها البلاد عقب أزمة أسعار النفط العام 1986 والتي بدأت بهذه الكيفية وانتهت بوقف عشرات المشاريع لأزيد من 15 عاما وحل آلاف الشركات وتسريح حوالي 1 مليون عامل بداية من العام 1992.

احتياطي صرف وهمي
وتحت وطأة ضغوط عجز الموازنة لجأت حكومة سلال، إلى استهلاك “صندوق الأجيال” الذي كان يفترض الحفاظ عليه كحق معلوم للأجيال القادمة وهو صندوق ضبط الموارد، الذي تم تصفيته في العام 2017 وغلقه نهائيا بموجب قانون المالية 2017، بعد أن كان في مستويات قياسية ناهزت 7200 مليار دج في وقت من الأوقات.
ويعني غلق صندوق ضبط الموارد، أن جزء من احتياطي الصرف الذي تتحدث عنه الحكومة هو احتياطي وهمي وليس حقيقي، باعتبار أن الاحتياطي النقدي بالعملة الصعبة له مقابل من الدينارات الجزائرية التي كانت توجه إلى صندوق ضبط الموارد، ولكن هذه الدينارات تم استهلاكها كليا، بمعنى أن غطاء الدولارات التي دخلت إلى الجزائر ، تم استهلاكه بشكل كامل من قبل الحكومات المتعاقبة (دفع الديوان، تمويل المشاريع العمومية، دفاع… ) وهذه هي الحقيقية التي يصعب على الحكومة هضمها ولا يمكنها أيضا الاعتراف بها للمواطنين.

الحرب على الفساد متأخرة جدا
تذكرت الحكومة تحت وقع الصدمة النفطية وجفاف صندوق ضبط الموارد وتراجع رهيب في احتياطات الصرف وزيادة عجز الميزانية وتهديد التوقف عن السداد والعودة مرغمة إلى الاستدانة الخارجية والشروط المهينة للمؤسسات المالية الدولية، تذكرت الحكومة الحرب على الفساد والبيروقراطية.
يعرف الجميع بداية من الحكومة ذاتها، أن الحرب على الفساد في الجزائر مجرد كلام موجه للاستهلاك والهاء الرأي العام. وإلا كيف تفسر الحكومة أن بعد المشاريع تعرف تأخرا في الانجاز لـ10 سنوات كاملة بين الانطلاق والاستلام، وما يرافق ذلك من تقييم وإعادة تقييم عدة مرات لنفس المشروع الذي قد ينطلق بمليار دولار وينتهي بـ4 مليارات دولار، أي بزيادة قدرها 400%.
ثم هل تستطيع أن تكون الحكومة جادة في الحرب على الفساد وهي التي وقفت عاجزة عن وقف نهب جزء هام من احتياطي الصرف عن طريق تضخيم فواتير الاستيراد، واستيراد حاويات الحجارة من الصين مثلا، واستيراد المايونيز والكاتشوب بحجة الحرية الاقتصادية؟ وهل يمكن تصديق أن الحكومة تحارب الفساد وهي التي وقفت عاجزة عن حماية المال العام من النهب عن طريق قروض بنكية غير قابلة للسداد، حصل عليها البعض بملفات فارغة، وقاموا بتهريب المال إلى أوروبا واسيا وأمريكا اللاتينية؟ والاغرب من ذلك، هل يمكن تصديق الحكومة في قصية محاربة الفساد وهي تمنح مشاريع لرجال أعمال لا ينفدون حتى 25% منها، ولا يرد لهم طلب عندما يقولون هل من مزيد؟
لا يمكن لحكومة مثل هذه، أن تتحدث عن محاربة الفساد، وهي التي يقول الكثير من المراقبيين للشأن الاقتصادي، أنها وضعت قوانين تسمح بتسهيل الفساد والتشجيع عليه، من خلال القاعدة المعروفة 51/49، والتي أصبحت الحكومة تتدخل لتمد المستثمرين الأجانب بأسماء عائلات وأشخاص بعينهم للدخول في شراكات مع المستثمر الأجنبي لحسابات مشبوهة.
حكومة مثل هذه لا يمكن تصديقها، ولا يمكنها أن تعمل على تحويل الأزمة الحالية إلى فرص لللنهوض، أو بالأحرى لا يمكنها اقتراح حلول الخروج من الأزمة التي ستكون أعنف من أزمة 1986 في حال أستمر الحال هكذا، وعليه ستكون أحسن خدمة تقدمها هذه الحكومة للجزائريات والجزائريين، هي الاعتراف بالفشل وترك المجال للكفاءات الحقيقية للمشاركة في إنقاذ “باخرة الجزائر” من الغرق.



الأخلاق و الأمــــم

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة : بوكروح وليد
  تَرَكَ الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي بيتاً صار منقوشًا في الذاكرة العربية و حفظتهُ أجيال منّا في المدرسة : ” إنَّمَا الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقيَت  فَإن هُمُ ذَهبَت أخلاقهم ذهبوا“. كلامٌ جميلٌ جدّا لكنه كباقي الشعر عُموما يتوجه إلى العواطف أكثر منه إلى العقل. فعندما نقارن هذا البيت بالواقع التاريخي نجد أنه، و إن حافظ على قوته العاطفية، فإنه ضيّع الكثير من حقيقته الفعلية. هكذا تسير الأمور عادة مع الثقافة العربية الإسلامية، فهي تَستَند قبل كلّ شيء على العواطف و المشاعر و السذاجة، و تَهدفُ إلى سحر القلوب قبل إقناع العقول، ما يجعل أحكامها و مُثُلَهَا سُرعانَ ما تغرقُ في مستنقع الواقع. و من ثَمَّ عندما ننظر من هذه الزاوية إلى بيت أمير الشعراء، فإنَّنَا نُدركُ أنه ليس نظريةً مُستَندةً إلى الواقع كما اعتقَدَت ذلك أجيالٌ كاملة، بل مُجرَّدَ بيت شعري جميل.
اختيار الكلمات في الشعر لا يعير اهتماما كبيرا إلى معناها الدقيق، بقدر ما يوليه إلى القافية و السجع و التناسق بينها لغرض تحقيق جمال القصيدة و نجاحها. بل يمكن للشاعر حتى استعمال الكلمات عكس معناها الحرفي لهذا الغرض، و هذا شيء طبيعي لأن الغاية من الشعر ليست بناء مفهوم أو نظرية ما و إنما مجردَ كلام جميل. إن لَم نَعرف ما قصده شوقي للأخلاق من تعريف دقيق، فإننا نعرف بالمقابل أن معناها يقتصر في الثقافة العربية الإسلامية على القيم ذات الطابع الديني. يمكن إذا أن نحاول انطلاقا من هذه النقطة جرد ما ينقص المسلمين في هذا السياق، لنَفهَم لماذا تَعجزُ قيَمُهُم عن تحقيق انطلاقة جديدة رغم أنها مكنتهم في السابق من التربع على عرش الحضارات.
لقد عبثت الأمم الغربية بأخلاقها و قَلَبَتها رأسا على عقب، حتى وصل بها الأمر إلى ترسيم الزواج المثلي و التَّفكك التام للعائلة، لكنها رغم ذلك لم “تذهب”، بل بقيت حاضرة أكثر من أي وقت مضى، و في أحسن حال من الذي كانت عليه في عهد توركيمادا Torquemada  أو سافونارولا Savonarole . و مع أن أخلاقها انحَلَّت و طابوهاتها انكسرت لكن الأمم لم تنهار، عكس ما هدَّد به بَيتُ أمير الشعراء الذي حسبناه صالحا لكل أُمَّة في كل زمان. و على عكس ذلك تماما، نجد مثالَ جماعة طالبان عندما استحوذت على السلطة في أفغانستان، حيث لم تَنشَغل خلال حُكمها بشيء غير “الأخلاق” لكن أُمَّتَها مع ذلك “ذَهبت” تَماما. هل يوجد منا من يعتقد أن طالبان سَوف تَرفَعُ أمّتها عاليا في سماء التطور لو عادت للسلطة في المستقبل؟ و ماذا عن “داعش «  التي هدمت و لا تَزالُ مَعَالمَ أَثريّةً تعود إلى مهد الإنسانية لأنّها لم تَرَ فيها سوى أصنام وثنية.
الخلاصة التي يمكن أن نتوصل إليها من هذه المقدمة هي أن اختصار “الأخلاق” في القيم و الشعائر الدينية يجعلها لا تضمن لأمَّة ما مكانةً في التاريخ، اللهم إذا اكتفت هذه الأمة بالحياة كما كانت في وقت سيدنا ابراهيم عليه السلام، أو أرادت أن تعيش كما يعيش رهبان التبت في قمم الهيملايا، أو أن تذهب لحكم “بوكو حرام”.
رأينا كيفَ يُمكنُ لأُمَّة أَن “تبقى” مع أن أخلاقها “ذهبت”، و رأينا أيضا الأمة التي ذهبت رغم أنها استَثمَرَت كلَّ شيء في أخلاقها، لكن هناك أيضا حالة ثالثة تَبقى فيها القيم الأخلاقية (بالمعنى الديني) و تَستَمرَّ دون أن تحتاج للتجسد على شكل أمة، و هو ما ينطبق على اليهود. فاليهود عاشوا تائهين بين حضارات التاريخ و العالم، مُشَتَّتينَ بين الأمم مثلما تَتَداوَلهُ أسطورة “اليهودي الهائم”  le Juif errant. حتما لم يريدوا ذلك، لكن هذا كانَ قَدَرَهُم ربما بسبب لعنة سُلّطَت عليهم لما عُرفوا به من قتل للأنبياء. و حتى يومنا هذا، هنالك أقلية منهم فقط تعيش في إسرائيل (5 ملايين) بينما يتوزع حوالي عشرون مليونا آخرين على مختلف أصقاع الأرض. إنها الحضارة الأقل تعدادا في التاريخ لكنها أيضا الأقوى، و التي تضم أكبر عدد من المشاهير في كل المجالات، و هي الأكثر تأثيرا في سياسات الدول التي يعيش فيها أبنائها رغم قلَّتهم؛ و كذلك التي حاز أبنائها على أكبر عدد من جوائز نوبل Nobel. يمكن أن نُسُجّلَ هنا نقطةً في رصيد بيت أحمد شوقي، بَيدَ أَنَّ اليهود لما أرادوا أن يأخذوا شكل أمة فقد فعلوا ذلك انطلاقا من قيم دينهم.
لكن ما هي هذه القيم؟ البكاء أمام حائط؟ السبت المقدس؟ القفطان الأسود و اللحية؟ ربما لكن ليس هذا فَحَسب. فقد تمكن اليهود من البقاء عبر التاريخ بفضل قدرتهم الفائقة على التأقلم مع جميع المناخات و الأجناس، و مع كل أشكال المجتمعات و الأنظمة السياسة و الأحداث، من حروب و ثورات و مذابح. لقدخرجوا دائما و في كل مرة في الصف الأول و في طليعة السباق، من جميع الاضطرابات و التغيرات التي شابت مسيرة التاريخ. بقائهم على قيد الحياة عبر الأزمنة و المحن لا يرجع إلى التمسك بقيم دينهم فقط، بل أيضا و خاصة إلى الذكاء و القيم الفكرية و التضامن و الفعالية و حب العمل و إتقانه و التفتح الفكري و القدرة على الإبداع… فكل يهودي من السفارديم أو من الإشكناز، يحمل  في ذاته و أَينَما وُجدَ هذه القيم العقلانية و الروح الكادحة، و ثقافة الفعالية، و القيم الاجتماعية الفكرية العصرية. هذا ما دَفَعَهُم، عندما أسسوا دولتهم فوق أرض الفلسطينيين في 1948، ألّا يَجعَلوا منها دولةً دينيةً تَضرُّعًا لربّهم، بل نظاما ديمقراطيا.
عندما ننظر إلى هذا الطاقم من القيم تتضح أمامنا الرؤيا الأولى عمّا ينقص المسلمين، كُلّ ما لا تَتَضَمَّنُهُ لائحة أخلاقهم و ما لا يَتَحَدَّثُ بشأنه علماء الدين : الوعي التاريخي، الروح الجماعية، الفعالية الاقتصادية و الاجتماعية، الانفتاح الفكري، القدرة على الإبداع، تجاوز الآفاق المعروفة، الميل لما هو أفضل، النظام السياسي الديمقراطي…
فَعُلَمَاءُ المسلمين فعلًا لا يُعطونَ قيمةً إلا لما هو دينيٌ محض، أو ما أُشيرَ إليه صراحة في آية أو حديث. كل ما يخرج عن ذلك، كلُّ ما لَم يَنتُج مباشرة عن تلك المصادر يُرفض ويُقصى لكونه خارجا عن التعاليم الإسلامية. بينما لا يجب أن تقتصر أخلاقُ أُمّة أو حضارة ما على قيم دينها فقط، فهي إن لَم تَضف إلى رأس مالها الأوَّلي (الدين) ما جاءَ به تطور البشرية من مساهمات تاريخية وأدوات فكرية و عَمَليَّة و علوم بشتى أنواعها و أشكال تنظيم عصرية، فأنها تحكم على نفسها بالفراغ و الهزال اللَّذَان سَيَنجُمُ عنهما الهلاك و الزوال لا محالة.
فالقيَمُ الأخلاقية سبقت القيَمَ الدّينية في الوجود، كما توجد كذلك حتى في الأمم التي لا دين لها. إذ لم توجد عبرَ التاريخ مجموعةٌ بشرية، سواء كانت مجتمعا أو قبيلة أو عصبة أو عشيرة، إلا و حملت مجموعة قيم معنوية و أخلاق تُلهمُ و تُوَجّهُ أفرادها، حتى و لو لم تأتيها من السماء. هذه الأخلاق، شفوية كانت أم مكتوبة، تحمل في طيها المبادئ التي تتبعها تلك المجموعة للتمييز بين الخير و الشر، و الإيثار و الأنانية، و السخاء و البخل، و الغفران و الانتقام، و التواضع و التكبر، و الفضائل و الرذائل، و الإفراط و الزهد، و الشجاعة و الجبن، و النظافة و الوسخ، و الحرية و الاضطهاد…
و إن لَم تُبد المجتمعات التقليدية الحاجة للارتقاء إلى أنظمة متطورة للحفاظ على نفسها، فهذا راجع إلى أنَّ الزمانَ و المحيطَ اللَّذان عاشت فيهما، و مستوى التطور الفكري الذي وصلت إليه، لم يسمحوا أو لم يتطلبوا منها ذلك. فالفضائلُ العَامَّة كانت تكفي للحفاظ على توازنات و متطلبات حياتها. قانون حمورابي Hammourabi  وضع أسس الحضارة البابلية؛ و قانون سولونSolon  نظم الحضارة الأثينية حتى أنجبت سقراط  Socrate و أفلاطون  Platonو أرسطو Aristote ؛ و كونفوشيوسConfucius  علَّم الصينيين احترام السلف والقوانين كأساس لتناسق أمتهم؛ و الحضارة الرومانية التي دامت سبع قرون (أي بقدر ما دامت الحضارة الإسلامية قبل انحطاطها) بُنيَت على روح روما… لكن وضع الأساس لا يكفي للبقاء طيلة عُمر الأُمَم الطويل، بل يجب بعد ذلك بناء الصَّرح الذي يعلو الأساس، ثم بعد ذلك إحاطته بالعناية والصيانة اللازمتين. فيصبح حينئذ من الضروري إدخال روابط جديدة و تقنيات تَشييد متطورة، و مراجعة دائمة لصلاحية مواد البناء، و مراقبة مطابقة البناء لمعايير الوقاية من الزلازل…
بعدما عاش العالم طيلة ألفيات في ضل القوانين الدينية وحدها، راهن ابتداءً من القرن الثامن عشر، و بالذات منذ الثورة الأمريكية، على الحرية في كل المجالات للوصول إلى السعادة والإبداع والعدل والتطور والنمو و الديمقراطية. فخاض بذلك مغامرة الحرية في الدين (حرية المعتقد)، و الفلسفة (حرية التعبير)، والاقتصاد (الليبرالية)، و السياسة (التعددية)، و الاجتماع (التَّنَوُع) و الصحافة… إلخ.
و قام لضَمان نجاح هذا الرهان بتطوير قيم أخلاقية جديدة مكملة للقيم التقليدية والدينية، بحيثُ يُمكن، إذا ما وصلت هذه الأخيرة إلى مرحلة الأزمة أو التعطل، للجديدة أَن تُبقي عليها مُتَّصلةً بقاطرة التطور و أن تُساعدها في الحفاظ على الحيوية اللازمة لبقائها. يُمكنُ أن نضع قائمةً لهذه الأخلاق الجديدة : القيم الإنسانية، الوطنية، الاجتماعية، المدنية، الديمقراطية، الاحترافية، العالمية… إلخ.
فأمم الغرب لم “تذهب” إذا بفضل التكامل الذي حصل بين قيمها التقليدية، والجديدة التي يمكن التفصيل فيها أكثر: احترام الحياة البشرية، السماح بتعدد المعتقدات، حرية الفكر و التفكير و الإبداع، الضمان الاجتماعي، الضرائب، العدالة المستقلة، حقوق الإنسان و المرأة و الطفل و الحيوان  و البيئة… و نجاحُ الغرب إذا يرجع لكونه تمكّن من المساواة بين الرفاه الأخلاقي و الرفاه الاقتصادي، و بين الآداب والبراعة. فأصبح مواطنوه بذلك مزدهرين محفزين سعداء منظمين منضبطين، تحركهم الروح الوطنية و احترام الآخر.
إذا أَرَدنا أو احتَجنا إلى غطاء إسلامي للقبول بهذا المنطق فَلَن نَجدَ أحسنَ ممّا وَرَدَ عن ابن تيمية في الموضوع حيث يقول : “حاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم “. و إذا أردنا التوسع في المعنى الذي قَصَدهُ شيخ الإسلام بكلمة “عادل”، فَيُمكنُ أَن نُحيلَ الكلمةَ إلى عَالم آخر يمكن وصفه بالمُحايد، و أقصد بذلك أنه سَبَقَ عَصرَ الجدال الذي بدأ منذ قرابة القرن بين الإسلام و الحداثة.
ففي بداية القرن التاسع عشر، قام الأبُ الروحي لمصر الحديثة، محمد علي، بإرسال مجموعة من ثلاثين طالبا مصريا في سفر تكويني لفرنسا، يُؤَطّرُهُم إمام من الأزهر هو الشيخ رفعت طهطاوي. و أَقام الوفد في فرنسا لخمس سنوات من 1826 إلى 1831، تَعَلَّمَ خلالها الشيخ الفرنسية و انكبَّ على دراسة أخلاق هذه الأمة الغربية. ثُمَّ كتب بعد عودته إلى مصر كتابا اسمه “ذهب باريس” جاء فيه ما يلي : “ما يسمونه عندهم و يَتَمَنَّونَهُ من الحرية هو ما نسميه عندنا العدالة و المساواة… المبدأ الثابت في الحياة الفرنسية هو البحث عن الجمال و ليس الأبهة و التفاخر بالغنى و الغرور… مثابرة الفرنسيين على تنظيف بيوتهم و ملابسهم شيء رائع…المسرح عندهم مدرسة عمومية يتعلم فيها العالم و الجاهل…”
ما نلاحظه ببالغ الانتباه في كلام الشيخ طهطاوي هو قوله أن كلمة “الحرية” عند الفرنسيين مُرادفةٌ للعدالة و المساواة عند المسلمين. يُمكنُ إذا أن نستنتجَ أن كلمة “عادل”، التي استعملها ابن تيمية في حديثه، تحمل نفس معنى “الحرية”. في هذه الجملة الصغيرة نجد فلسفةً تاريخيةً تَشرحُ لنا لماذا أمكن للحضارة الغربية – و يُمكنُ لأي حضارة أخرى ترتكز على العدل و المساواة – أن تدوم حتى لمَّا ذَهَبَت أخلاقها الدينية، بينما خَرجت الحضارة الإسلامية من التاريخ مع أنها لا تزال تحافظ عليها.
يمكن أن ندفع بالتفكير لأبعدَ من ذلك و نُذَكّرَ أن المقولة الآنفة تتحدث صراحة عن حاكم “مؤمن” و “كافر”. في ما معناه أَنَّ حاكما (أو دولةً) غير مؤمن (علمانيا أو ملحدا) يمكنهُ أن يَدومَ إذا بُنيَ حُكمهُ على العدل و الحرية و المساواة، و أنَّ حاكما مؤمنا (حتما حاكما أو دولةً إسلامية) لَن يُعَمّرَ طويلا إذا لم يَرتكز حُكمهُ على هذه الخصال.
عندما بحثت يوما في تفاصيل الدستور الأمريكي لضرورة عمل، وجدت نفسي أمام التشابه بين المبدأ المفروض في إعلان الاستقلال الأمريكي الذي منح الحق للمواطنين الأمريكيين في الثورة ضد الاستبداد، و المبدأ الذي فرضه أبو بكر الصديق عندما تأكد تعيينه كخليفة رسول الله  و الذي يقر نفس الحق. الفرق فقط هو في الصياغة، لكن المحتوى نفسه. وعلينا التأكيد هنا أن كلتا اللحظتين أي إعلان الإستقلال الأمريكي وخطاب تولي الخلافة كانتا فارقتين في تاريخ الأمتين لأنهما كانتا لحظتا تأسيسهما .
نقرأ في الفقرة الثالثة من إعلان الاستقلال :” تنصب الحكومات بين الرجال كي تكفل الحقوق، وسلطتها العادلة تنطلق من رضا المحكومين عنها، لكن متى ما أصبح الحكم مدمرا لهذا الهدف، للشعب الحق في تغييره أو إلغائه وتأسيس حكومة جديدة …. من حقه، بل ومن واجبه رفض مثل هذه الحكومة…” و لإعطاء المواطنين الأمريكيين الوسائل لتفعيل هذا المبدأ، شرع لهم التعديل الثاني للدستور الحق في امتلاك و حمل السلاح. الأمريكيين لم يعرفوا محاولة فرض الاستبداد عليهم، وبالتالي الانتفاض ضده. انطلاقا من هذا المبدأ القديم بقيت حرية حمل السلاح بالرغم من المشاكل التي تطرحها في المجتمع الأمريكي من يوم إلى آخر.
بعد تعيينه كأول خليفة لرسول الله ، خطب سيدنا أبو بكر الصديق أمام من بايعوه قائلا:” أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة.” فقام له أحد الحاضرين و قال ” لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناه بسيوفنا“- (على اختلاف الروايات بين نسبة هذه الحادثة إلى سيدنا أبو بكر أو سيدنا عمر أو إنكارها كلية). أليست الفلسفة السياسية هي نفسها التي تأسس عليها النص الأمريكي و خطاب أول الخلفاء؟ والجواب الذي رد به البدوي ليتمم المبدأ المطروح من طرف أبو بكر، ألا يقابل التعديل الثاني الذي شرع للجوء إلى استعمال السلاح  لمحاربة سلطة غير شرعية؟
لماذا سارت الأمور بشكل جيد لدى الأمريكيين وعكس ذلك لدى المسلمين؟ لأن ربع قرن بعد الإعلان عن هذا المبدأ، قام والي دمشق، معاوية بن أبي سفيان بالانقلاب على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب، وأسس للتوريث في الحكم دون أن تثور الرعية ضده، فتفنن بعدها من خلفوه  جيلا بعد أخر. منذ ذلك الحين، دخلت الشعوب التي يجمعها البندير ويفرقها سيف الحجاج العصر الذي لم ينقطع من الاستبداد بكل تصريفاته : خليفة السلالة الحاكمة، المملكة، الرئاسة مدى الحياة، الجمهوريات المتوارثة…
صدر بتاريخ :11 مارس 2012

الإيمان يحرك الجبال ؟

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة : بوكروح وليد
يُطلعُنَا إنجيلَا ماثيو و مارك، على عبارة مجازية وَرَدَت عن المسيح عليه السلام في مناسبتين على الأقل؛ كما نجدها بصيغة أو بأُخرى في جميع الثقافات البشرية التي عرف تاريخها فكرًا دينيًا : ” الإيمان يحرك الجبال! “. و توجد ذاتُ الاستعارة أيضا في عُمق الثقافة الصينية، عَبرَ أساطيرَ مثل “جَبَل يو غونغ ” و غيرها. من جهته يَنسُبُ الأدبُ الغربي عبارةَ أخرى مشابهة إلى رسولنا الكريم (صلى الله عليه و سلم) : “إذا لم يأتي الجبلُ لمحمد فَعَلى محمد أن يذهبَ إلى الجبل“.
نعم، في الأساطير و الحكايات يُمكنُ للإيمان فعلا أن يُحَرّكَ الجبال. الإسلامَ ،الذي وُلدَ بين جبال مكة ثم ترعرع في المدينة المنوّرة، تَمَكَّنَ في ظرف قصير من توسيع حدوده الأولى لتَبلُغَ جبال سيناء و زغرس و تورس و الأطلس المغربي و جرجرة و البرانس و حائط الصين و القوقاز و كلمنجارو إلخ. فعلا لم يذهب الرسول (صلى الله عليه و سلم) إلى كل هذه الجبال في حياته، لكنها أَتَتَ إليه بعد مماته حينَ اعتنقَ أهلُها الدّينَ الذي جاءَ به.
و لم يكتفي الإسلام بتحريك الجبال فَحَسب، بل حملَ العالَمَ على ظهره و مشى به لمسافة طويلة، طيلة سبعة قرون من الزمن. حتّى جاءَ اليومٌ الذي تَمَلَّكَهُ فيه التعبُ من كل هذا الوقت و الجهد، فَخَلَدَ إلى السبات و استسلمَ لنوم “أهل الكهف”، أو بالأحرى لنَوم مَن يُقابلون هؤلاء في أساطير المسيحية: “نيَّام أفسس السبعة” ( Les sept dormants d’Ephèse)، الذين ناموا تحت حكم الإغريق و استيقظوا تحت الرومان، حاسبين أنهم لم يلبثوا سوى ليلة واحدة.
هذه القصص الدينية تُعَبّرُ على أحسن وجه عّما يقع للإسلاميين في عصرنا. يَحسَبونَ أن جفونهم لم تغمض للحظة بينما الحقيقة أنهم دخلوا منذ عهد ابن خلدون في غيبوبة عميقة لم يُفيقوا منها إلا في أَوج القَرن العشرين. و حين تفتحت أعينهم بعد السبات الطويل لم يَجدوا إلا ذكريات “الليلة السابقة”، و آخرَ ما عَرَفَتهُ و تَوَقَّفَت عندَهُ عقولُهم، فاندهشوا عندما لم يجدوا  أبا الحسن الأشعري أو ابن تيمية في الواقع الذي استيقظوا فيه. نظروا من حولهم و لم يتعرفوا على العالم الذي يحيط بهم و الذي تَشَكَّلَ في غيابهم و دونهم، عندما كانوا يغطون في النوم. عالَمٌ اكتشفوا أنَّهُم لا يمتلكون شفرةَ الدخول إليه و لا الإرشادات التي يمكن أن تَدُلَّهُم على كيفية تشغيله. عالم لا يُدركون أسرار تكوينه، و لا يفقَهونَ كيفَ رُكّبَ و لا كيف يعمل. و من ثَمَّ، و أمام المأزق الذي وصلوا إليه، استنتج الإسلاميون أن هذا العالمَ الجديد ليس سوى بدعة من صنع الشيطان، فقالوا لأنفسهم أنَّ الحذر و الأمان يقتضيان العودةُ إلى الكهف الذي ناموا فيه.
هذا هو منبعُ سوء التفاهم الذي أدَّى إلى انفصال الإسلام عن باقي العالم المعاصر. برنارد لويس،Bernard Lewis  المفكر الأمريكي الذي لا يمكن أن نشتبه فيه بمساندة الإسلام، و الذي ألهمت أفكارُهُ (مع سامويل هانتينغتونSamuel Huntington ) فريقَ المحافظين الجُدُد الذين قادوا الولايات المتحدة تحت إدارة بوش الإبن؛ كَتَبَ سنةَ 2002 في كتابه ” الإسلام، الغرب و الحداثة” ما يلي: ” ساندَ الواقع طيلة قرون النظرةَ التي حملها المسلمون للعالم و لأنفسهم. كان الإسلام يمثل أكبر قوة عسكرية في العالم، و كانت جيوشه تغزو في الوقت نفسه أوربا و إفريقيا و الصين. كذلك كان أكبرَ قوة اقتصادية حيث يُسَيطرُ على تجارة عدد كبير من المنتجات، بفضل شبكات واسعة في أوربا و آسيا و أفريقيا. كما كانَ يفتخرُ في ميدان الفنون و العلوم بمستوى لم تبلغه أي حضارة أخرى من ذي قبل. ثم انقلبت عليه الموازين فجأة… و لم يشعر المسلمون ببروز النهضة الأوروبية و الإصلاح البروتستنتي و الثورة التكنولوجية، فَمَرَّت عليهم هذه الأحداث مرور الكرام دون أن ينتبهوا لذلك. ثم أبرزت المواجهةُ العسكرية حقيقةَ اختلال التوازن الجديد القوى: فحسمَ الإبداعُ و الحركيةُ الأوربيتين المعركةَ بينَ المعسكرين”.
ثم ذاتَ يوم من القرن التاسع عشر، جاءَ فيلسوف المذهب الحيوي الألماني نيتشه (Nietzsche) ، متأبطا كتابه “المسيح الدجال”، ليُعلنَ أَنَّ “الأيمانَ لا يُحرّكُ الجبال، بل يضع جبالا أينما لا توجد” (الجبال هنا بمعنى الصعاب أو الحواجز العقلية). ما أراده نيتشه بقوله هذا هو إنكارُ ما جاء به المسيحُ من تعاليم : “ضعوا ثقتكم بالرب فإني في الحقيقة أقول لكم : لو قال أحدٌ لهذا الجبل تنحّ و الق بنفسك في البحر، و لو لم يشك بحدوث ذلك في قلبه، لرأى الجبل يفعلُ كما أراد “.
و جاءت بعد ذلك المواثيق البابوية (اتفاقياتٌ حَدَّدَت العلاقات بين الفاتيكان و الدول الأوروبية Concordats). و وَصَلَ الوقت الذي يُفُصلَ فيه الدين عن الدولة، فحَرَمَ الكنيسةَ من الحصول على رخصة وضع الجبال على الأراضي المسيحية، مجبرا إياها  على التقاعد منذ ذلك الحين، حيث لم نَعُد نراها أو نسمع بها في غير المناسبات الدينية أو الأعمال الخيرية.  و حلَّت محلّها دولةٌ معاصرةٌ تَزَوَّدَت بمُعدّات ردم ضخمة أصبحت تُسقطُ بها الجبالَ دونَ الحاجة إلى الإيمان، لكن في نفس الوقت دون الحاجة لاقتلاعه من قُلوب و مُمارسات الناس. كُلُّ ما في الأمر أنها أَلحَقَت به منابعَ جديدة و مصادر إضافية للقوة الاجتماعية : حرية الاختيار، الطموح للسعادة، حرية الفكر، الإبداع و العقلانية، روح المنافسة، المعرفة العلمية، النظام الاجتماعي، التطور التكنولوجي.
أَمام وسائل الرفع و النقل الجديدة هذه لَم تَعُد هنالك حاجةٌ إلى معجزات الإيمان لتحريك الجبال، كما لم يَعُد هنالك دورٌ ليَلعَبَهُ الكهنةُ أو الأنبياء. فمُعظم القوى التي كانت تُنسَبُ في السابق للإله وَحدَهُ، تَمكَّنت مَخابر الإنسان اليومَ من صياغتها: التجول في الفضاء الكوني، سبر أعماق أصغر الكائنات، الخوض في ما لا نرى، التواصل بسرعة الضوء، خلق الحياة… و هكذا مَكَّنَ نظامُ القيم الجديد من تحفيز المجتمعات الإنسانية و إحلال السلام فيها، بينما كان السابقُ يَكبَحُ طاقاتها و ازدهارها بسبب الحروب الدينية و الحواجز الفكرية التي وضعها و شَجَّعَها رجالُ الدين. لم يَعُد الغَربُ يَأمُرُ بالمعروف فقط بل صار يُحَقّقُهُ على أرض الواقع، بتواضع و يوما بعد يوم، عبر التطور الذي يصل إليه في المجال تلو الآخر، و الحلول التي يبتكرها للمشكلة تلو الأخرى.
و ما هو المعروف في الحقيقة؟  إنه التعليم، التربية، الرقي الاجتماعي، الصحة العمومية، أمن الأشخاص و الأملاك، تساوي الجميع أمام القانون و الضرائب، حرية التعبير و الإبداع… إنه ببساطة كلُّ ما نادت و صَبَت إليه جميع الأديان على مرّ التاريخ، لكن بتعبير مختلف. اليَومَ عُوّضَ قانون القصاص بالعين بالعدالة الحديثة، و أُلغيت العقوباتُ الجسدية، و لم يعد في وسع القوي أن يسحق الضعيف، أو الغني أن يستعبدَ الفقير، أو الحاكم أن يَستَبّدَ المحكوم. أما العبودية فَحدّث و لا حرج، لقد اختفت للأبد. بتعبير آخر، أصبح كُلُّ ما طَمَحَت إليه الديانات دون أن تتمكن من الوصول إليه، حقيقةً معاشةً نراها في العالم المتقدم.
إن لم يَعُد كلامُ نيتشه ينطبقُ اليوم على المسيحية، فإنه يَقَعُ على مقاس الإسلاموية المعاصرة تماما. فَقَد تَمَكَّنَت هذه الأخيرة في أقل من عشريتين، من وضع عدد هائل من الجبال حيثما لم يكن هناك مرتفع واحد. فقد وضعت مثلا بين غزة و رام الله جبلا، و رَفَعَت آخرا بين جنوب لبنان الذي يحكمه حزب الله، و باقيه الذي تتقاسمهُ ثمانية عشرة طائفةً يعترفُ بها الدستور، و ثالثا بين سودان الترابي و البشير في الشمال، و جنوبه المسيحي، ثم آخرا بينَ المجاهدين و الطالبان في أفغانستان.
بل استيقظت الإسلامويةُ بشهية فرعونية لتشييد الجبال. ففي الجزائر مثلاً وَضَعَت بالأمس القريب جبلًا من الأشلاء، بينها و بين المسلمين غير الإسلاميين. و اليوم يَصلُ إلى آذاننا من ليبيا دَويُّ آلات البناء، الذي يعطي نظرةً عن وتيرة أشغال تشييد الجبال الجارية فيها، و عن النشاط المستَمرّ للورشات هناك. كما تَقبَعُ مخططاتُ مشاريع أُخرى  على طاولتها في انتظار بداية الأشغال: الصومال، العراق، سوريا، اليمن، نيجيريا، باكستان…
يُشَيّدُ الإسلاميون المعاصرون الجبال هنا و هناك لحماية “الشريعة لاند”، التي يزرعونها كما كُنَّا نَحن الجزائريون في وقت ما، نَزرَعُ القُرى الاشتراكية. لكن “شريعة لاند” التي أسستها حركة حماس في غزة مثلا، لم تُقمها للرَّد على الدولة التي وَعَدَ بها “بالفور” اليهودَ في 1917، بل لعَزل نفسها عن الفلسطينيين غير الإسلاميين، الذين يتمركزون بالجهة المقابلة لها، في “فتح لاند”. هذه كانت طريقتها لحل المشكل الذي أدّى إلى خمسة حروب عربية إسرائيلية، كما كانت السبب في اختفاء الملف الفلسطيني من أجندة السياسة الدولية.
الإسلاموية لم تَعُد تُضاعفُ مساحات أرضها مثلما كان الإسلامُ يفعل في السابق، فهي اليوم تضيّعُ الأراضى من الأمم التي تنشأ فيها. الجبل الوحيد الذي فكرت يومًا في خلعه هو ذاك الذي كانت تقف فيه تماثيل بوذا في أفغانستان و التي انهال عليها الطالبان بالمدفعية الثقيلة، لأنهم اعتقدوا أن هذا هو كلُّ ما بقي لهم  ليفعلوه حتى يكتملَ رضا الله عنهم. من بقي يَذكُرُ في وقتنا هذا أن أفغانستان كانت في يوم ما مملكةً مسالمةً و مستقرة؟
إذا كان الإسلام قد وَسَّعَ من أُفُق المسلمين في زمن ازدهاره فإن الإسلاموية عادت لتضيقها. فالإسلام انفَتَحَ أمام الفرس و قدامى المصريين و البربر و السلافيين  (Slaves) و الهنود و الأتراك و المغول و الأفريقيين و الأوروبيين. أما الإسلاموية فتقوقعت حول نفسها و انغلقت عليها، و فرقت بين الشعوب في البلدان التي ظَهَرَت فيها. الإسلام طَوَّرَ شتَّى العلوم الدقيقة و الإنسانية و الطبيعية، بينما لا تعترف الإسلاموية إلّا بالعلم الديني.
و الإسلامُ طوَّر الفن و الهندسة و الموسيقى كما لم تفعل أي حضارة أخرى قبله، و ذلك بشهادة برنارد لويس نفسه، أما الإسلاموية فحرَّمَت كل صغيرة و كبيرة: السينما و المسرح، الموسيقى، الحدائق العامة… أنها تُريدُ منا أن نجلس على الأرض، و نأكل بأصابعنا، و ننظف أسناننا بالسواك، و أن لا نلبس غير العباءات و النعال، ربما لنتخلص من عناء تلميع الحذاء كل صباح. هذه هي “جاهلية القرن العشرين” الحقيقية، عكس ما أرادَهُ تعبير سيد قطب عندما استعمل هذه العبارة.
كَتَبَ ابن خلدون (1332-1406) في عهده صفحات رائعة عن مسار خروج العالم الإسلامي من الحضارة، لكن للأسف، لم يتمكن أحدٌ من معاصريه من فهم ما كان يكتبه. فقد كان هؤلاء وقتها يغطون في سبات “أهل الكهف” العميق، و تَوَجَّبَ انتظار القرن التاسع عشر ليَكتشفَ الغربُ عمله، ثم منتصف القرن العشرين ليَبدأَ مفكرو المسلمين في الاهتمام به. لقد كان الرّجُلُ آخرَ العُقول العظيمة التي عرفتها الحضارة الإسلامية، و الشاهدَ الأخير الذي حَظَرَ متَحَسّرًا دُخولَها في عصر الانحطاط.
في الشعر العربي يقال: “يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله به عدوه“. يمكن أن نسقط هذا القول على الإسلاموية المعاصرة التي تفعل بالمسلمين ما لا يفعله ألدُّ أعدائهم : دَفعُ العالم أجمع ليتحالف ضدهم،  بَعثُ الفتنة بين الأخ و أخيه، تقسيم الأمم و الشعوب، تجهيل العقول، تقليص البصيرة، طرد العقلانية من الحياة الخاصة و العامة.
الذين تابعوا أولى خطوات التيار الإسلامي الذي فاز بالانتخابات في تونس و مصر بعد ثورات الربيع العربي، يتذكرون كيف خصَّصَ المجلسُ التأسيسي التونسي الجديد جلساته الأولى لمناقشة نظامه الداخلي، و كيف استهلَّ عَمَلَهُ بإدخال مواد جديدة فيه تخص رفع الجلسات في أوقات الصلاة، و الأماكن المخصصة لها. و ربما يتذكرون أيضا اللقطة المذهلة التي تخللت إحدى جلسات المجلس المصري المنتخب حين وقف أحد النواب، مرتديا بذلةً و ربطة عنق، ملتحيا بلحية بيضاء و علامة السجود تتوسط جبينه، و وَضَعَ كفّهُ على أذنه ليقيم الأذان، مقلدا بلالا يَومَ أَذَّنَ لدخول المسلمين إلى مكة. لم ينفع تدخل الرئيس ليذكره بعدم لياقة مبادرته الورعة، إذ لم يبالي بلالُ القرن الواحد و العشرين به إطلاقا، و واصل تَخَالُهُ يُعلنُ الشروقَ الجديد للإسلام في مصر.
كذلك تفاجئ العالم برئيس المجلس الانتقالي يُعلنُ في أوّل خطاب بعد تحرير ليبيا، العودةَ إلى تعدد الزوجات، كما لو كان هذا هو كلُّ ما حاربَ و قُتلَ من أجله آلافُ من سقطوا في المعركة. و كما لو لم يَنتَظر مَن لم تَقتُلهم الثورة إلا هذه المكافئة. لن يُمكنَ أَبَدًا للإسلام أو المسلمين التَّقَدُّمُ بالإسلاموية بسبب هذه العقليات بالذات. عقلياتٌ سيَثقُلُ حَمَلَتُها على مستقبل شعوبهم ثقلَ الجبال على الظهور.
يقول ميثاق الإخوان المسلمين، الذي وضعه حسن البنا تحت عنوان “عقيدتنا”، في بنده الخامس : ” أعتقد أن من واجب المسلم إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه.و أن راية الإسلام يجب أن تسود البشر. و أن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام، وأتعهد بان أجاهد في سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت، وأضحى في سبيلها بكل ما أملك “.
” تَسودَ البشر، تُربّي العالَم…” فقط ؟! هذا يشبه الخرافات المرضية التي عودنا أحمدي نجاد إطلاقَها حين  كان يتوعد إسرائيل بمحوها من الخارطة. إسرائيل التي كانت في الوقت ذاته، و رغم إنكارها ذلك، تحوز على مئات القنابل النووية منذ السبعينيات، و تَشُنُّ صامتةً الهجمات الإلكترونية القاتلة على برامجه النووية، و تغتالُ علماء الذرة الذين يطورونها في عقر داره بطهران، و تستعد لضرب منشئاته في كل لحظة في حال ما قررت ذلك.
هذا ما وَعَدَ به في الماضي عبد الناصر و صدام أيضا، أمامَ قُطعان الجماهير الحاشدة قَبل أن يذوقا الذل و الهوان و الهزيمة، الأَوَّلُ في حرب 1967 و الثاني عند سقوط العراق بعد حرب الخليج. هذا و يَجدُرُ التذكير هنا أن صدام لم يكن حتى يمتلكُ أسلحةَ الدمار الشامل التي كان يُهَدّدُ بها إسرائيل. غريبةٌ هي مُيولُ حكام العرب و المسلمين هذه، و التي تجعلهم يبوحون لعدوهم بما يَنوُون فعله، و يتوعدونه بما لا يستطيعون تنفيذه. تحسبهم يَعمَلونَ ضدَّ مصالحهم حَين يستفزُّون العالم أجمع، و يدفعونه ليَتَّحدَ ضدهم و يُلحقَ بهم شر الهزائم. هل سبق و أن سمع أَحَدُنا قائدا إسرائيليا يعلنُ نواياهُ الحربية في مهرجانات شعبية؟ لا، فاليهود لا يتكلمون و إنما ينفذون، بينما جماعتنا يُعلنون و يَصرُخون دون أن يفعلوا شيءً. افهموا لماذا!
صدر بتاريخ :18 مارس 2012



كان يا ما كان …

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة : بوكروح وليد
كان يا ما كان في قديم الزمان، و سالف العصر و الأوان، حضارتان، إحداهما من الشرق، هرمةٌ تَتَقوَّضُ تحتَ أثقال قُرون من الزمان، و أخرى من الغرب يانعةُ الشباب في أَوج القوة و العنفوان. التَقَت في القرن الرابع عشر الغريمتان، وجها لوجه و التاريخ ثالثُهما حَكَمٌ يُهَيّئُ لكلَيهما الامتحان. ينظرُ للأولى التي رافقته طويلا على مرّ الزمان؛ ثم يقول لها بحسرة و أسف: “الوداع” و يُديرُ ظهرهُ ليَتَمَعَّنُ في الثَّانية التي لم يعرفها من ذي قبل. يتأمل فيها، و بابتسامة عريضة يرحبُ بها و يقول: “أهلا و سهلا”. لكن الريبةُ تَتَمَلَّكُ التاريَخ فجأة عندما يتذكر ما اعتاد عليه منذ قديم الأزمان: أَنَّ الشمسَ تطلعُ من الشرق و تنصرف إلى الغرب. فيتردَّدُ قليلا و يُفَكّرُ: أليس في هذا اختلالٌ لقانون الأكوان؟ لكنه سرعان ما يعود إلى رشده، و يتذكرُ أنَّ دورهُ لا يعدو الشهادة و تدوين ما تصنعه يد الإنسان. ثم مَن يكترثُ من أين تأتي و أين تذهب الشمس؟ أليس الأَهَمُّ أن تَستَمرَّ في بَسط نورها على البلدان؟
هكذا تَرَكَت الحضارةُ الإسلاميةُ  عهدَ الحداثة الذي لم تَعُد لها فيه ناقةٌ و لا جملٌ، و عادت أدراجها حزينةً مجعدةَ الوَجه كئيبةً الملامح، إلى القرون الوسطى وغابر الأزمان؛ بينما نَفَضَت الغربيّةُ غُبارَ قُرون التخلف عن ثيابها، لتضعَ قدميها مرحةً لعوبًا في عصر الحداثة الذي كُتبَ لها أن تحقق فيه أشياءً عظيمة. ” وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس…”:  لقد أنذرنا بذلك و خبّرنا القرآن.
عندما  نتفحّصُ حالَ العالم الإسلامي في وقتنا هذا، ندركُ من الوهلة الأولى أنَّ الإسلام فشل، ما عدا استثناءات نادرة، في ترقية الإنسان المسلم إلى مستوى التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والمؤسساتي و العسكري و الاقتصادي الذي بلغتهُ الحضارات الأخرى. كدنا نفقدُ فيه الأملَ منذ قرون و نَيأسُ منه إلى الأبد، لَو لَم تُوجَد في الماضي مساهماتهُ الهائلة في تطور العلوم والفنون و شتّى الاختراعات التقنية والفكر؛ و لَو لم نُدرك الوثبةُ العملاقة التي سمحَ للبشرية بتحقيقها منذُ لحظة ظهوره حتى القرن الرابع عشر و مقدمة ابن خلدون؛ و لَو لَم نَتَذَكَّر أنَّهُ لم يَكُن دائما على هذا الحال من الهوان.
لكن المشكل في الحقيقة لا يكمن فيه هو و إنّما في الدعائم الاجتماعية التي حملته. فالإسلام لم يأت ببشرية جديدة عند مجيئه، ولا نَزَلَ على إنسان جديد خرجَ لتَوّه من بين أيدي الخالق، بل ركب قطارَ الإنسانية وهو يَسير، فَنَزَلَ عند شعوب كانت تَحملُ ذهنيات و عقائد، و أنماطَ حياة، و صراعات مصالح، و أحقاد قبلية، و نزاعات متوارثة سبقتهُ و تواصلت بَعدَ قُدومه. إنهُ لَم يَخلُق الإنسانَ المسلمَ من العدم، بل أَمسكَ بالإنسان العربي، القريشي، الفارسي، الأمازيغي، التركي، البشتوني، المغولي؛ فصَبَغَهُ باللَّون الأخضر ثم ألقى به في حلبة التاريخ. و الشعوبُ التي حلَّ عندها الإسلامُ قد “تَأَسلَمَت” (إن صح القول)  لكن سطحيا فقط، إذ هي احتفظت في أعماق ذاتها بأنظمتها الفكرية و تركيبتها النفسية و جيناتها المتوارثة؛ و التي ما انفَكَّت أن تَغَلَّبَت في أول فرصة على الروح الجديدة التي جاء بها، مُعيدَةً بذلك إيّاها إلى أنماط حياتها و تفكيرها القديمة.
لَقَد غَلَّفَ الإسلام عقلياتهم في السطح لكنه لم يحولها في العمق، حيث رأينا كيف كانت هي التي أَقلَمَتهُ في ما بعد، و حاكَتهُ على مقاس ميولها الطبيعية جاعلةً منه شيعيا في إيران، و وهابيا في الخليج، وشعوذةً في المغرب وإفريقيا، وطالبانيا في أفغانستان،  و “تَأَسلُماً” سياسيا و إرهابيا هنا و هناك. الإسلام في الأصل تصورٌ للوجود و نظامُ قيم عُرضَا على الإنسان منذ أربع عشر قرنا مضت، صَنَعَت منهُ أجيالُ المسلمينَ الأُولى حضارةً بينما جعلت التي تلتها منه انحطاطا. ومن الممكن أن نستعرضَ هنا لماذا غرق الإسلام في الاستبداد و الظلامية، و لماذا لم يتمكن من تشغيل مُحَرّكاته من جديد منذ أكثر من قرن رغم تعدد المحاولات في سبيل ذلك.
في السنوات الأولى ولحسن الحظ، لم يؤثر الانقلاب الذي ارتكبه معاوية في حق السلطة الشرعية الممثلة في علي (رضي الله عنه) على ديناميكية الفتوحات الإسلامية. فتمكن الإسلام من الانتشار سريعا في الأرض بين شعوب عريقةُ التَّحَضُّر، و التَقَطَ المشعلَ من فكر العصر القديم بعدَ سقوط الدولة الأموية، ليُوَسّعَ التصورَ البشريَ للكون ويحققَ التقدمَ والاكتشافات في جميع الميادين العلمية والتقنية والفنية: من 750 إلى 1250م.، سلسلةٌ متواصلةٌ منقطعة النظير من العلماء الحقيقيين، والعقول النيرة والمخترعين.
العقلُ المسلمُ كانَ يعملُ وقتها في جو من رُقيّ الفكر حيث الإنسانُ حُرٌّ ليَبحثُ ويَتحرَّي وينتقدُ و يتأملُ دون قيد، والمفكرُ يسعى لاكتشاف أسرار الطبيعة والحياة ويستنبطُ منها مختلف الاختراعات و التقنيات. كما كان التسامح و التعايش السلمي بين المسلمين و المسيحيين و اليهود على أَوجه، حيث كان علماء الأديان الثلاثة يشتغلون سواسيةً في ” بيت الحكمة” التي أنشأت في بغداد عام 840م.، والتي عَرَفَت في 870 عربيًا مسيحيا (حنين ابن اسحق) على رأسها. تلك هي الفترةُ التي يُصطلحُ عليها بالعصر الذهبي، و الذي عاش خلاله العدد الأكبر من العلماء (العلميين) و العقول الفذة، والذين يُمكنُ أن نذكرَ من بينهم :
الخوارزمي  781)إلى 850)، أب الجبر والحساب اللذان لولاهما ما وُجدَ العَالَمُ الحديث و المعلوماتية و الانترنت؛ بنو موسى (الإخوة محمد و احمد و الحسن في القرن التاسع) الذين قاسوا محيط الأرض، واخترعوا أول الآليات، و وطوروا نظام الصمام المخروطي الذي يُطَبَّقُ مبدأه اليوم في صناعة الطائرات النفاثة وآلات الغسيل؛ عباس ابن فرناس (810 إلى 887) الذي صنع أول آلة للطيران كان بإمكانها أن تُدَشّنَ علم الطيران الحديث لو واصلَ من جاءوا بَعدَهُ عَمَلَهُ، و ابتكر ساعةً “الميقات” المائية، وكان أول من وضع تقنيات التعامل مع الكريستال، وصنع عدة أدوات لمراقبة النجوم ؛ الرازي (865– 923)؛ الطبيب وعالم الكيمياء الذي اكتشف حمض الكبريت، و وضع مبدأ المراقبة الطبية و النفسية، و أنشأ أول مستشفىً عامّ، أبو القاسم الزهراوي (936 –1013) مؤسس الجراحة؛ ابن الهيثم (965– 1040) مؤسس الفيزياء التجريبية وعلم البصريات الحديثة؛ البيروني (973– 1048) أول من حسب قطر الأرض و اكتشف أنها تدور حول نفسها والذي كان يمكن لأعماله لو توبعت أن تؤدي إلى الفيزياء الفلكية؛ الجزري (1136– 1206) الذي اخترع الذراع المحرك و عمود الحدبات و العمود المرفقي و العجلة الهيدروليكية و دورة مياه المراحيض والأبواب الآلية الخ، و فَصَّلَ كيفية صناعتها و عملها هي و أشياء أخرى عديدة في كتاب ” الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل ” ؛ حسن الرماح (توفي في 1295) أب علم القذيفة وأول من صمم وجرب الطوربيد، مؤلف كتاب عظيم (الفروسية والمكائد الحربية) حول الآلات الحربية يصف فيه أول صاروخ في التاريخ. هذا و لا ننسى العباقرة الآخرين من نفس العهد، من الذين انضَمَّت أسمائهم إلى التراث الفكري العالمي خالدةً فيه : الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، ابن طفيل و آخرينَ يُعَدُّونَ بالعشرات.
ثم فجأةً لم يَعُد هناكَ مُفكّرونَ ولا علماء، ولا عقول مبدعة ولا مخترعون ولا فلاسفة. هكذا، كما لو سقط يَومًا من السماء حاجزٌ ضخمٌ أصابَ عقولَ المسلمين بالعُقم إلى الأبد. و ما وَقَعَ في الحقيقة قَريبٌ فعلا و إلى حدّ كبير من ذلك، إذ ظهر في نهاية القرن العاشر تيارٌ فكريٌ جديد، أسّسهُ شخص كان في السابق ينتمي لتيار المعتزلة هو أبو الحسن الأشعري (873– 935)، ثم انقلب على حاله و أخذ يُهاجمُ فكرهم من جميع النواحي. و دَعَّمَهُ بعد ذلك أبو حامد الغزالي (1058- 1111) الذي قسَّم العلم إلى ديني و دنيوي، ثم فصَلَ أحدَهُما عن الآخر وراح يهاجم الفلاسفة واصفا إياهم بالزندقة والكفر.
ازدادَ نفوذ هذا التيار المناهض للاجتهاد و العقلانية والحرية تدريجيا، إلى أن قضى على فكر المعتزلة النَّير نهائيا. وأَثَّرَ التياران الأشعري والغزالي على المدارس الدينية السُّنية الأربعة حتى أصبحت تعتبر أفكارهما هي المألوفة والمُدَرَّسَة فيها. و هكذا بعد السابقة الخطيرة التي تركها معاوية للإسلام في الميدان السياسي، جاءت الضربة القاضية التي دَمَّرَت فيه الفكر والإبداع. فرُسمَت بذلك الحدودُ الجديدة يومَ أُغلقَت أبوابُ الاجتهاد، و تباطأت الديناميكية الاجتماعية، و تضائلَ الإبداع العلمي والتقني الذي مَيَّزَ القرونَ الأولى حتى توقّفا تماما. وهكذا بَعدَ أن تَوَقَّفَ الأول، تَعَطَّلَ المحركُ الثاني و الأخير لطائرة الإسلام، فلم تلبث أن هبطت إلى الأرض و لم تعد إلى الطيران بعد ذلك أبدا.
التصور التقليدي الذي فرض نفسه في القرون الموالية صار يَحُثُّ على الخضوع للسلف و لتفسيره، لكن ليس السلفَ العقلانيَّ العلميّ النَّير الذي يُمثلهُ فكر المعتزلة، بل ذاك الذي أغلق أبواب التفكير والتطور و أوقف التقدم. فَلَم يَعُد يَجبُ التأملُ في القرآن وتفسيره بل فقط تطبيقه حرفيا، طبقا للفهم الذي وضعه علماء الدين، حتى لو لم تكن أفكارهم صالحة، وحتى لو لم يتعلق الأمر إلا بشؤون المجتمع وتنظيمه فقط، و ليس بأمور تمس بالعقيدة.
انتزع الفكر التقليديُ الحَرفيُّ من المسلمين الحريةَ التي أعطاهم رسولُ الله (صلى الله عليه و سلم) حين قال : “أنتم أعلم بأمور دنياكم” (رواه مسلم)؛ وفتح الباب أمام حصاد وفير من الصوفيين و الزهاد، و من آيات الله عند الشيعة، و من العلماء في المشرق، ومن الملا عند الأفغان، و من شيوخ الشارع في الجزائر. كما سلّم ذات الفكر في الميدان السياسي بالقضاء و القدر، فأوجب السمع و الطاعة لولي الأمر دون السماح بالسؤال عن الطريقة التي وصل بها إلى منصبه. ولَم نَسمع بعدَ ذلك بالمخترعين أو الفلاسفة، فَقَد حلَّ محلَّهُم آلاف “الدُّعاة” الذين لا يفكرون ولا يكتبون، مكتفين بالوعظ  في المساجد والشوارع و شاشات التلفزيون.
الإسلاموية المعاصرة هي وريثة هذا التيار الذي ساندَ وأضفى الشرعيةَ على انقلاب معاوية، ثم قَمَعَ الفكر الحر والعلمي الذي كان عند المعتزلة. و قبل أن تُمَثّلَ تقهقُرا بالنسبة للعَالَم الحديث، فهي تُمَثّلُ أولاً و قبل كل شيء تقهقرا بالنسبة للإسلام نفسه، حيث تحمل في طياتها قيمَ الانحطاط وليس قيمَ الإسلام الأصلي المتفتح النير. يمكن لنا طبعا أن نَتَوَهَّمَ فيها الإسلامَ لأنها تَستعرضُ مظاهرهُ و تستظهر شعائرهُ، لكنها في الحقيقة فارغة لا تَحملُ في جَوفها شيئا من عوامل الحياة أو التطور. فهي مثلا تَـحتَلُّ السلطةَ في دول الخليج أو إيران أو السودان منذ عشرات السنين، إلا أنه لم يظهر في هذه البلدان لا علماء و لا مخترعون و لا عقول مبتكرة و منتجة.
لماذا لم تصبح جامعة الأزهر أو جامعة القَرَويّين، الموجودتان منذ زُهاء ألف سنة، “داراً للحكمة” مثل تلك التي كانت توجد في بغداد؟ لأن روح هذه الأخيرة و عقلها اختفيا من الوجود. فمثل هذه الجامعات تكتفي اليومَ بالتحفيظ عن ظهر قلب لكُتُب انتهت صلاحية ما تحتويه منذ زمن طويل. حتى أصبحت رزنامتها العلمية تشير إلى العام1437، لكن من التأريخ الميلادي و ليس الهجري. و لغَّمَ تفكير العلماء هذا طُرُقَ الاقتراب من الإسلام، و لفَّ مُحيطَهُ بالأسلاك الشائكة، و سَدَّ كل المنافذ التي تدخل إليه و تخرج منه ؛ فهم يسيطرون على المذاهب، والجامعات الإسلامية وبرامج تعليم المواد الدينية، و هيئات الفتوى و تفسير القرآن، وأئمة المساجد و التلفزيون. هم فقط من يخول إليهم الاجتهادُ الذي أغلقوا أبوابهُ منذ ألف عام و لم يعد بمقدور أحد أن يُعيدَ فتحها. حتى العلماء الذين حاولوا التغيير مثل عبد الرحمان الكواكبي، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق ومحمد الغزالي، لم يفلحوا في فرض رؤاهم الإصلاحية.
لو قارننا بين عدد المُؤلَّفات التي كُتبَت في اتجاه الجمود طيلةَ قرون من تاريخ الإسلام، وتلك التي كُتبت في اتجاه التغيير، لكانت النسبة 1 لكُلّ 10.000، أو أقل. و هذا ليس بالشيء الغريب، فَتحطيم استبداد الدُّوَل والسّاسة أسهلُ بكثير من التعرض لاستبداد العلماء. هؤلاء ليسو فقط أعداءً طبيعيين للتغيير، بَل لَن يُمكنَ لَهُم أَن يُغيّروا في شيء حتى لَو أرادوا ذلك و سَعَوا إليه. لأن كُلَّ تعليمهم و جميع كفاءاتهم متخصصة تحديدا في اللاتغيير. لقد تَكَوَّنوا في ذلك و من أجل ذلك، وهم حراس “التقاليد” و حُفَّاظُ الماضي. مصالحهم تقتضي أَن يبقى الحال على ما هو عليه، لأن في ذلك دوامُ نفوذهم و ازدهارُ حرفَتهم. يَحفَظون آلاف الصفحات عن ظهر قلب، و يَحسَبونَ أنَّ في ذلك أعلى درجات التَّمَكُّن والاقتدار في علم الدين، بينما هو ليس إلا مضيعةً للوقت والجهد. فأين هي الحاجةُ إلى استهلاك الملايين من الخلايا الذهنية لحفظ آلاف الصفحات من معلومات يُمكنُ الوصول إليها في ثوان على الإنترنت؟
في القرن الثاني الهجري، كان عَرَبُ و مُسلمُو “بيت الحكمة” ببغداد يَعكفون على جمع كل ما أنتجه العقل البشري من كتب و مؤلفات في العلم والفلسفة والدين من اليونان والهند والفرس والبلدان المسيحية؛ لترجمته إلى العربية. أما اليوم، فدولة اليونان الصغيرة، بحوالي 11 مليونا من السكان، تُتَرجمُ إلى لغتها كل سنة أكثر مما يُتَرجمهُ العَالَمُ العربي بـ 400 مليون من سكانه. أمّا إسبانيا فتُترجمُ بدورها سنويا بقَدرَ ما تَرجَمَهُ العربُ خلال الألف سنة الأخيرة. و ما عسانا نقول عن الغرب الذي اخترع خلال الخمسين سنة الماضية أكثرَ مما اخترعت جميع الحضارات البشرية (بما فيها حضارته) منذ خمسة آلاف سنة. إذا ما استثنينا احتمال حدوث كارثة طبيعية عظمى تَقضي على البشرية خلال القرنين المقبلين، فإنه سوف يتمكن خلالهما من خلق الحياة، و التغلب على المرض، و السفر في الفضاء بسرعة تقارب سرعة الضوء، و الوصول أو حتى الاستقرار والعيش على كواكب أخرى.
ما يمكن أن نصل إليه بعد هذا التذكير المقتضب و المُرَكَّز للتاريخ السياسي و الفكري للإسلام، هو المحصلة الآتية: كلما رجعنا في التاريخ و اقتربنا من المنبع الأولي للإسلام اكتشفنا الجوهر الديمقراطي و العقلاني له. و كلما ابتعدنا عن المصدر القرآني و سيرة الرسول (صلى الله عليه و سلم) اقتربنا من الانحطاط. و لو لم تتمكن الظلامية من قطع الطريق أمام مسيرة النور القرآني، لَكانَ في وسع العلوم والتكنولوجيا، وعلوم الاجتماع والسياسة وحقوق الإنسان أن تتقدم بألفيةً كاملة عمّا هي عليه اليوم، ولكانت الحضارة الإسلامية في زمننا هذا تقودُ العالم و ربما الكون. لكن حدثَ ما حدث، وكانَ ما كان… في قديم الزمان !
صدر المقال بتاريخ:25 مارس 2012



 الإنسانُ مرآةُ رَبّه !

بقلم :نور الدين بوكروح

ترجمة : بوكروح وليد

 مع احترامنا للكتابات المقدسة المسيحية، إلا أَنَّه من الصعب التصديقُ بما جاء فيها بأَنَّ الإنسانَ خُلقَ على صورة الله. فالإنسان في غالب الأحيان أسوءُ من أَن يُمكنَهُ الادعاء بكونه يعكسُ صورة الخالق. وخلافًا لاعتقاد كهذا، نَجدُ آخَرًا يَفتَرضُ أنَّ الإنسان هو الذي يُعطي صورةً عن الإله الذي يعبُده. و الفيلسوف الألماني غوته Goethe، و هو صاحب الفكرة الثانية ، لخَّصها ضمن عبارة من بضع كلمات لكنها تحمل دلالة قوية: “مثلما يكون الإنسان، يكون الإله” « Tel homme, tel Dieu ». حكمٌ منصفٌ لا يضرُّ بطرف و لا بالآخر.

و فعلا يُمكنُ أن تؤدي الفكرة الأولى إلى مُماثَلَةً بين البشر و الذات الإلهية تكون في أغلب الأحيان خاطئة، بينما في الثانية يتحمل الإنسان وحده مسؤولية الصورة التي يعكسها عن إلهه، و مدى تأثيرها على التعريف الذي قد يعطيه الغير عبرها لربّه. و بهذا تُصبحُ الصورةُ التي يعطيها نسبيَّةً، تتناسب مع طبيعته التي يُمكنُ أن يَصدُرَ منها الأحسن أو الأسوأ. و بالتالي فعندما تكون هذه الصورة سيئة فهي لن تُلزمَ الإله، و لن تَمسَّ بالفكرة التي يُمكن أن تُأخذَ عنه.

غيرُ اليهود لا يَرَونَ الربَّ في وجه كل يهودي، لكنهم يؤسسون فكرةً عنه من خلال ما يَرَونَهُ في تصرفات اليهود. كما لا يرى أحدٌ المسيحَ في كل مسيحي، لكنه يَحكمُ عليه من خلال تصرفات الكنيسة. و كذلك لا يرى غَيرُ المسلمينَ الله في كل مسلم، لكنهم يُشَكّلونَ فكرة عنه من عبر ما يلاحظونه في شخص المسلم، شيعيا كان أم سنيا. فالحقيقة هي أن التصور الذي يُؤَسّسُهُ الناس لا يكون عن الله بل عن الدين فقط، و هو يَنتُج مباشرةً عن الصورةً التي يعكسها عنه أتباعه. كما يقول المثل: “قل لي من تصاحب أقُل لك من تكون”.

لو سألنا مواطنا غَربيًّا نصادفه اليومَ في الشارع عن رأيه في ما يُميّزُ المسلمَ أو يُعَرّفُه، فإنه سيجيب بتردُّد : النقاب، الأكل الحلال، أو آخر مجزرة ارتكبها “داعش”. و لو سألناه بعد ذلك عمّن هو أشهرُ مسلم سمعَ عنهُ فسَيَرُدُّ حتمًا و تلقائيًا: أسامة بن لادن. و إذا كان هذا الشخص فرنسيا فسيمكنه أن يضيف : محمد مراح أو الإخوة كواشي. هذا هو الرابط الفكري الذي يُقَدّمهُ الإسلاميون اليومَ للعالَم بينهم و بين الإسلام. صورةٌ لا تعكس حقيقةَ الله، و لا الرسول (صلى الله عليه و سلم) و لا أغلبية المسلمين. لقد أعطى محمد عبده في وقته الحقَّ للفيلسوف الألماني غوته دون أن يعرف مقولته، عندما كتب في “رسالة التوحيد” عن واقع المسلمين، الذي “أصبح يعمل ضد مصالحهم “. فالإسلاموية إذا لا تَمُتُّ بصلة إلى الله أو الإسلام، و لا حتى إلى الإنسان الذي تَقتُلُهُ باسم تَصَوُّر خاطئ للإله.

الانحطاط هو عكسٌ للقيم و قلبٌ للأشياء، يُمكن له أَن يؤثر على معناها الحقيقي عندما يُغيّرُ زاوية النظر إليها. فعندما نفهم ما جاء به الإسلام حقيقةً، أي من خلال القرآن، ندرك أن الديانات نُزّلت على البشر في مراحل معينة من مسار تطورهم، لتساعد على تنظيم حياتهم الأخلاقية و الاجتماعية و المادية. لكن عندما نفهمه بالمقلوب، أي بوجهة نظر مشايخ الإسلام، نجد أن الدين قد سُلّطَ على الناس لأن يعبدوا الله في انتظار أن يرجعوا إليه، دون أن يفعلوا شيئا آخر بما أنَّ النفط الذي تَزخرُ به أرضُ الإسلام يَسمَحُ بذلك.

أمّا عندما ننظر للإسلام برؤيا صحيحة، أي عبر ما جاء عن الرسول (صلى الله عليه و سلم)، نُدركُ أن هذا الأخير ما هو إلا مُبَلّغٌ للرسالة، و أنه لم يكن أبدا واسطة بين الله و البشر، و أيضاً أَنَّ الله لم يكلف أحدا بهذا الدور. لكن عندما ننظر للإسلام بالمقلوب، أي حسب تعاليم الإسلاموية، نجد أنها تُخول لعُلمائَها الحكم على إيمان الناس أو كفرهم، و قبولهم في الإسلام أو إقصائهم منه، و في بعض الأحيان حتى حياتهم أو موتهم.

قلب الموازين هذا يُلاحَظُ عند المسلمين في حالات عديدة. عند الشيعة مثلاً، حين يُلَقّبونَ المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “بالإمام المعصوم”، بينما لم يُشرَّف حتى رسولُ الله بهذا الوصف. هل يمكن للإنسان أن يُعصَمَ من الخطأ بمجرد أن جمعًا من الأئمة اتَّفَقَ أن يُسَمّيه “آية الله المعظم”؟ كيف يمكن لإنسان عاقل و حكيم أن يتحمل وزرا كهذا أمام الأُمّة، أو يقبل مسؤوليةً كهذه أمام التاريخ و الله ؟

أما عند السُّنَّة، فجميعنا يَتَذَكَّرُ كيف ظهر الشيخ القرضاوي على قناة الجزيرة في بداية الثورة الليبية، ليفتي بإهدار دم القذافي و جواز قتله. من يكون القرضاوي حتى يصدر مثل هذا الحكم؟ هل هو خليفة على المسلمين أو محكمة قائمة لوحده ؟ بالطبع لا فما هو إلا عالم، و إن أصبحَ اليومَ يُلَقَّبُ “بالعلامة” منذُ أَن صاَرت صفةُ العالم تُعتَبَرُ أصغرَ من مقامه. لاحظنا أيضًا كيف أستبدل العلّامةُ منذ بضع سنوات في إطلالاته المتلفزة، تَحيَّةَ الإسلام المألوفة “السلام عليكم” ، ليُعَوّضها بعبارة “حيَّاكم الله” الغامضة، كما لو كان خارجا لتوه من مقابلة مع الله جاءنا منها بالوحي.

و في نفس سياق الغرائب دائما، وصفَ زعيمُ حزب الله، حسن نصر الله، قَصفَ جيشه لبارجة إسرائيلية (دون أَن يُغرقَها) خلال الحرب التي خاضها ضد إسرائيل في 2006، بأنّهُ نصرٌ من عند الله. كان بوسعنا أن نسأله: ” هل تعتقد يا سماحة الشيخ، أن الله كان ليَكتَفي بنصر ضئيل كهذا لو دخل في الحرب فعلا؟” كذلك أعتادَ مقاومو حركة حماس في غزة أن يُشَبّهوا إطلاقَهم للقذائف على إسرائيل بالهجماتً الإلهية. هل يعني هذا أن اللهَ يُخطأُ التصويبَ إلى هذا الحد، بما أن صواريخَهم قليلا ما تصيب هدفها ؟ لماذا نُقحمُ الله في كل شيء و في أَيّ شيء، عَوضَ أَن نُقَدّمَ أفعالنا، جيدةً كانت أم سيئة، على ما هي فعلاً أي مسؤوليتنا وحدنا؟ لماذا نلقي عليه بنتائج ضعفنا و أخطائنا و جهلنا في شتى الميادين؟

يحدث هذا كُلُّهُ في الوقت الذي يعكفُ فيه الغربيون كُلَّ يوم على اختراع مختلف التكنولوجيات و تحقيق شتى الاكتشافات، التي يضعونها بانتظام في متناول و خدمة البشرية جمعاء و بأرخص الأثمان. و عندما يبلُغُ أحد هذه الاكتشافات في الطب أو الفيزياء أو علم الفلك، درجةَ البساطة التي تَسمَحُ بوصولَهُ إلى آذان علماء و مشايخ الإسلام، لا يلبث أن يَظهَرَ أَحَدُهُم من برجه ليُعلنَ لمليار المسلمين (الأُميين بنسبة 70% حسب دراسات الأمم المتحدة)، و يُبَشّرَهُم بأنَّ ذكرَ هذا الاكتشاف وَرَدَ في الآية الفلانية من القرآن، و التي يُسارعُ إلى سَردها بكل ما أُوتيَ من اكتفاء و غرور.

و غالبا ما يخرُّ في نهاية وَعضه متَعَجّبًا من قُوَّة الخالق الجبارة، مُهَنئُا نَفسَهُ لما وَضَعَ اللهُ فيها من علم، دون أن يُفسرَ لنا لماذا لم يَكُن هو الذي توَصَّلَ إلى هذا الاكتشاف قبل الكفار، أو لماذا لم يُخبر الأُمَّةَ قبله بأن هذه الآية سَتُمَكّنُ من هذا الاكتشاف، و دون أن يوضح لنا لماذا لم يكتب المسلمون أو يخترعوا شيءً يذكر منذ ابن خلدون.

إنَّهُ لا يرى ذلك من شأنه، فَعلمُهُ هو يقتصر على المراقبة الدقيقة لحركة عقارب الميزان الذي يقيس به الحلال و الحرام، في وقت يَنكَبُّ فيه اليهود و المسيحيون و الهندوس و البوذيون و الشنتويون و الملحدون كُلَّ يوم، على تطوير علمهم و تحسين تربيتهم و كفاءاتهم في كل المجالات، و تحقيق رفاهيتهم و بالتالي رفاهيتنا أيضا. كيف يمكن وصفُ شخص كهذا، ينتظرُ أن يقوم غيره بالعمل، ليأتي هو و يُبَسّطَهُ و يَحُطَّ منه، ثُمَّ ينفي عنهم العبقرية، و يقلب ميزان الجدارة و الاستحقاق بحجة أن كونه مسلما يَجعَلُهُ تلقائيا أحسنَ و أفضلَ منهم؟

نجد في الثقافة الفرنسية القديمة حكمةً مناسبةً تَصفُ الجاهل الذي يريد أن يُعَلّمَ من هو أَعلمُ منه: “Gros Jean en remontre à son curé”. و ابن خلدون كتب في وقته حول هؤلاء الصوفيين الذين كانت تعج بهم أرض الإسلام: ” يتشبثون بالماضي و ينسون أن الكمال لا يورث“. كذلك كان محمد عبده يلقب هؤلاء “بأهل الجمود“، أمَّا مالك بن نبي فأهداهم فقرة من كتابه “وجهة الإسلام” Vocation de l’islam  جاء فيها : ” و هكذا غرق نظام المُثُل الإسلامية المفعمُ بالحياة و الحركية، في الغرور و أكثر من ذلك، في اكتفاء الوَرع بذاته حين يَخالُ نَفسَهُ يَبلُغُ الكمال لمَّا يصلي خمس مرات في اليوم، دون أن يَسعى إلى إصلاح نفسه أو تحسين حاله… نعم لقد بلغ الغاية و الكمال فعلاً و دون رجعة، فهو كاملٌ و مُطلقٌ مثل الموت و مثل الفراغ. رضا الذات الكئيب هذا الذي استفحل في أرض الإسلام، حَرَّفَ جميع الآليات النفسية التي تُؤَسّسُ لتطور الفرد و المجتمع، و شَوَّهَها. و هكذا برزت كائناتٌ متحجرة في الرداءة، و في نقص ما بعده نقص، و أَصبحت النخبةَ الأخلاقيةَ لمجتمعات لم تَلد الحقيقة فيها إلّا العدمية ”

لم تُولَد هذه التشويهات من الإسلام بل من جنون العظمة، و المُيول المَرَضيَّة التي يحملها بعض البشر للتسلط الفكري. ميولٌ بلغت من القوة و الجبروت ما يجعلها تطالب بإحاطتها بالقداسة و تغطيتها بالإلوهية، حتى يكتمل رضاها. و اللُّغة العربية مثلا تَزخَرُ بالغَرائب التي تدلُّ على هذا الجانب. يَكفي أن نَتَمَعَّنَ في مصطلح “رب العائلة” الذي يشير إلى الأب، أو مصطلح “رب العمل”. مثلُ هذه المزايدات تجعلنا نتساءل كيف يتصور الإنسان نفسه إذاً عندما يتبوّأ مناصب الحاكم في السلطة أو الأمير في الجبل؟ حتما لن تكفي الكلمات لوصفه. ألا يشيرُ هذا إلى ضرب مَرَضيّ قديم من نزعة التأليه الذاتي؟ و نحن الجزائريون من أكثر الشعوب تعرضا لهذا الانحراف، يكفي أن نُنصت إلى جزائريَّين يتعاركان في الشارع، أو لما يَصدُرُ عن أفواهنا عندما نَغضَب: أليس الله من يحظى بحصة الأسد من الشتائم و الكلام البذيء؟

في القرون الوسطى كان للمسيحية أيضا “علمائها”. و كانت أضواء الكنيسة الخافتة وحدها من يخول له إنارة عالم غربي غارق في الظلمات. قبل أن يأتي وقت الفلاسفة و المصلحين و العلماء و المخترعين، الذين رأت فيهم الكنيسة وقتها علامات لظهور المسيح الدجال، يحاول تحطيم الإيمان المسيحي و بعث الفساد فيه. فاضطَهَدَت و عَذَّبَت و لاحَقَت و اغتالت العديد منهم، لمجرد أنهم حاولوا التوغل في مسالك الرب الغامضة. لكن الأمر انتهى بها، مع مضي الوقت و تقدم العقل و العلم، إلى أن غيرت رأيها و راجعت أخطائها و لو بعد فوات الأوان. فالفاتيكان لم يُعد الاعتبار لغاليليو مثلا إلّا في 1992، قُرابة أربع قرون بعد حُكم محاكم التفتيش عليه في 1633.

أما عند المسلمين فحدث العكس. فما أن ظَهَرَ عندهم الإسلام حتى أَشعلَ أضواءَ العقل و العلم و أَنارَ العالمَ أجمعَ بها. لكن بعد مضي بضعة قرون، تشكلت طبقةٌ من رجال الدين في ضل الاستبداد السياسي الذي تَمَكَّنَ منهُ، فراحوا يعملون جاهدين لإطفاء هذه الأضواء واحدا تلو الآخر، بحجة أنها تضر بطهارة الإيمان أو تَمسُّ بعظمة الخالق. فاختصروا الإسلام في القضاء و القدر و في الممارسة الشعائرية، و مَحَوا واحدًا تلوَ الآخر كل آثار الحركية الفكرية و العلمية فيه. سَدُّوا جميع المنافذ التي يمكن أن توصل عبره إلى المستقبل، ثُمَّ صادروا في نهاية الأمر حتى صفة العلم و انتزعوها من العلماء الحقيقيين ليستحوذ عليها الشيوخ و الدعاة.

اذهبوا إلى غوغل و اكتبوا “علماء الإسلام”. سوف تصادفون في النتائج اسم الشيخ الألباني، “بحرُ العلوم” الذي يتذكرُ الفلسطينيونَ جيدا إحدى فتاواهُ، و التي دَعَتهُم إلى ضرورة الرحيل عن أرضهم لأنها أصبحت “دارا للكفر”. وعالمٌ آخر: ابن باز، أو “شيخ الإسلام” كما يلقب، نَفى في حياته دائريةَ الأرض التي بَرهنَ عليها البيروني ستة قرون قبل غاليليو. كما نفى أيضا أن يكون الأمريكان قد وصلوا إلى القمر لأن الإنسان “لو كان يستطيع الوصول إلى القمر لأخبرنا بذلك الرسول (صلى الله عليه و سلَّم) ” على حد قوله.

حاولوا أن تغيروا علماءً مثل هؤلاء، و حاولوا أن تغيروا الأيديولوجية الوهابية التي تُغذّي الإسلاموية السنية، ثم حاولوا  بعد هذا أن تغيروا العالم الإسلامي. يمكن أن نراهن أن الألباني أو ابن باز لم يكونا من سيُخَفّضُ من عقاب غاليليو و لو بعد أربع قرون، بل لو وقعَ بينَ أيديهما لتابعاه إلى يوم الدين. عندما مات الباز في 1999 اعتُبرَت وفاتُه خسارة لن ينهض بعدها الإسلام، و رأى فيها الكثيرُ علامةً من علامات قرب الساعة.

بقدرما هو معقولٌ و مفهومٌ و عادي أَن نَمُرَّ من الظلمات إلى النور، بقدرما هو غيرُ معقول و غير مفهوم و غير عادي تَركُ النور و التَّوَجُّهُ نحو الظلمات. الحالة الأولى، حالة المسيحية، تُمَثّلُ تقدما و تحسنا و نموا؛ بينما الثانية، حالة الإسلام، ما هي إلا تقهقرٌ و انحطاط. فقد انتقلنا من الانفتاح إلى الانغلاق، و من الاجتهاد إلى التقليد، و من الفكر الحر الخلاق المبدع الناقد، إلى الفكر التقليدي الممتثل و المتسلط..  هذا الانحراف كَلَّفَ العالمَ الإسلاميَّ تباعًا الانحطاطَ فالتخلفَ فالاستعمارَ فالاسلامويةَ فالإرهاب فعداءَ المسلمين (islamophobie)، و لا ندري ما يخبأه له في المستقبل.

الفلسفة هي ارتقاء الأشياء البسيطة في الحياة إلى المرتبة التي تكشف فيها عن طبيعتها الفكرية السامية. و على عكس ذلك، فالإسلاموية هي انهيار الأشياء الإلهية إلى أدنى دَرَجَة من الاستخفاف و التفاهة، و تقزيم الفكرة الروحية السامية إلى مستوى عبادة المظاهر. إنها المرضيةُ مختبئةٌ في القداسة، و الجهلُ متنكرًا في العلم… إنها مرضٌ عقليٌ و فكريٌ و نفسيٌ لا اسم له، و تفكيرٌ أحاديٌ مُتَحجّر، لم يكتفي بفرض الانحطاط فحسب، بل سوف يُديمُهُ إلى الأبد..

أب الحَرفيّة و السلفية و الوهابية في الإسلام، ابن حنبل، أقفلَ على المسلمين مبكرا في حكاية البيضة و الدجاجة عندما حذرهم من الخوض في مسألة لم يسبقهم إليها أحد العلماء. لو أخذنا قولَهُ هذا مَحَلَّ الجدّ أو حاولنا تطبيقه، كيفَ يُمكنُ أن نجدَ حلّا لمسألة تظهرُ في وقتنا هذا بما أن السلف يجب أن يكون سبقنا إليها؟. ماذا لو لم تظهر تلك المسألة إلا أمس أو اليوم صباحا؟ و ماذا عن المسائل التي تبقى تطرح نفسها منذ قرون، مثل مسألة التطور، دون أن يتمكنَ العلماء و المشايخ من إيجاد حل لها؟ هذا الجبلُ الذي رفعه ابن حنبل سَبَقَ جبالا أخرى وضعها المئات من العلماء بعده، حواجزً لا يمكن للتطور أن يجتازها. هكذا أُغلقَ و كُمّمَ و حُنّطَ الفكرُ الإسلامي مثلما تُحَنَّطُ المومياء عند الفراعنة.

صدر المقال بتاريخ:01 أفريل
2012

لماذا لم تكن جمعية العلماء حركة إسلاموية؟

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة : بوكروح وليد
كان يوجد في الجزائر المستعمرة تعدديةٌ سياسية و حياةٌ انتخابية. و كان من بين التنظيمات السياسية الفاعلة آنذاك عنصر إسلامي ينشط في قلب الحركة الوطنية التي تشكلت لمحاربة الاستعمار هو جمعية العلماء المسلمين. و ظلّت الجمعية تطالب طيلة عشريات من الزمن بتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة على الإسلام، ليتسنى لها هي التكفل به، و هو ما نجحت فيه فعلا بتمكنها من تطويق البلاد بشبكة من مئات مدارس التعليم الحر. حاول العلماء بذلك الاستفادة من نظام العلمانية الذي كانت الجزائر تعيش تحته و تحقيق المصلحة منه، جامعينَ بين مهمَّتهم السياسية، و مهامهم الأخرى الاجتماعية و التربوية، و حتى التفكير في المستقبل و استشراف ذلك اليوم الذي ستستعيد فيه الجزائر سيادتها.
و كما لو كان ابن باديس يتنبأ بالاستعمال الذي يمكنُ أن يطال الدين من قبل الساسة، فأنه اختار لجريدته “المنتقد” في 1924هذا الشعار: “الحقيقة فوق الجميع، الوطن قبل كل شيء”. هل يمكن أن نجد في عالم اليوم جريدة إسلامية واحدة ترفع شعارا كهذا؟
و كما لو كان يتصوّر أيضا ما سيؤول إليه المستقبل الذي تعيشه الجزائر اليوم منذ أن تسلطت عليها إسلاموية الشعوذة، كَتَبَ ابن باديس في ” البيان المذهبي لجمعية العلماء” عام 1937 مايلي: ” إنّ الإسلام يُبَجّلُ و يكرّمُ العقل، كما يدعونا لأن نُحَكّمَ التفكير في كل ما نُقدم عليه في حياتنا… الإسلام ينشر عقيدته بالحجة و البرهان و الإقناع و ليس بالحيلة أو الإكراه… نظامه السياسي ديمقراطيُ الجوهر في أجزاء كبيرة منه، كما لا يعترف بالحكم المطلق لأحد حتى لو كان أعدل الناس”
هذا و كان نظام “المدرسة” الذي أقامته جمعية العلماء يَتّبعُ نفس المواد التي يتلقاها التلاميذ في المدارس الفرنسية، إضافةً إلى اللغة العربية و الدروس الدينية. أنا أشهد على ذلك بيد أني كنت خلال الخمسينات تلميذا في واحدة منها كانت تقع في الأبيار و تدعى “مدرسة التهذيب”. أذكر أيضا أنَّ مديرها كان شخصية ذات هيبة و وقار كبيرين، لكني للأسف لم أعد أذكر غير لقبه العائلي: السيد فضلاء.
الاختلاط في المدرسة كان طبيعيا فأنا مثلا كنت أزاول الدراسة فيها رفقة أخواتي البنات. المعلّمون كانوا يلبسون ما تسمح به إمكانياتهم المادية، أما المدير فكان دائما قمةً في الأناقة، لا تفارقه البذلة و ربطة العنق أبدا. لم يكن أحد يرتدي أو يسمع عن “القميص” أو الطاقية (حمراء كانت أم بيضاء)، كما لم تكن هنالك لا لحية و لا نعل و لا “بليغة” في الأرجل. كذلك لم يكن أحد يعرف الحجاب أو النقاب، و لا “اللباس الأفغاني” أو الجلباب. الكبيرات فقط من النسوة هنَّ من كُنَّ يلبسن الحايك عندما يخرجن و ليس الفتيات. أما في المناطق الداخلية فحدث و لا حرج، لم يكن أحد يسمع به .
كان الجزائريون يعيشون منفصلين عن الأوربيين بعيدين عنهم، في عالم خاص بهم يعيشون فيه حسب تقاليدهم المحلية و عاداتهم الدينية. و في هذا المجتمع الفقير الخالي من الفوارق الاجتماعية لكن المتضامن و الأخوي، كان العلماءُ و الأئمةُ و الحجيج يتبوءون مكانةً رفيعةً و مرموقة و يَحضَونَ باحترام كبير. كان المجتمع ينظر إليهم كمرشدين أخلاقيين له، دون أن يحاولوا استغلال ذلك لإخضاعه لوصايتهم أو لينصبوا أنفسهم قادةً روحيين عليه. لم يحاول العلماء قط فرض دور المرشد على الشعب، لكنه أعطاهم الهيبة و الاحترام الذي استحقوه لما تميزوا به من تفتح العقل و الروح، و لما كانوا يضربونه من المثل للناس بتصرفاتهم أولا قبل الحديث عن غيرهم.
كذلك كان في المدن أماكن للفسوق خاصة في القصبة العليا و السفلى، و كانت هنالك محلات لبيع الخمور كما أنّ الكيف كان يباع خلسة على الأرصفة. و إن كانت هذه النشاطات موجودة فذلك لأن الطلب عليها كان موجودا أيضا من قبَل جزأ من الجزائريين المسلمين ( فالأوربيون كانوا يعيشون في عالم خاص بهم). و كان الأئمة و عقلاء الحي ينصحون مرتادي تلك الأماكن و يعظونهم، خاصة عند اقتراب شهر رمضان أو الأعياد الدينية، كما كان السكان أيضا ينهرونهم و يوبخونهم عندما ينتهكون العادات و التقاليد في الأماكن العامة. لكن رغم ذلك كان الجميع يشفق على مصيرهم أكثر مما يلوموهم، و لم يكن أحد يتسرع في تكفيرهم بسبب عيوبهم، أو يلجأ بسهولة إلى الصراخ أو اللعن أو التهديد، حتى و إن كانوا من معاقري الخمر أو الفساد، أو من المسلمين الذين “تفرنسوا” كلية.
كانت يسودُ المجتمعَ تسامحٌ طبيعيٌ كريمٌ و بشوش، دون أن يتخطى الحدود ليصبح تغاض أو تساهلاً. بالعكس، فالمجتمع كان يميل إلى مساعدة المنحرفين و إغاثتهم و ليس إلى الحكم عليهم و إدانتهم، دون أن يحتاج إلى دولة أو لأموال النفط لفعل ذلك، بل كان يتصرف تلقائيا و طبيعيا. الكل كانت له الحرية في اختيار طريقة حياته مستقيمةً كانت أم منحرفة، لكن شرطَ احترام القواعد الاجتماعية العامة و عدم التعدي عليها. يمكن أن نُكَوّنَ نظرة عن ذلك الجو عندما نقرأ “لبيك” لمالك بن نبي أو “ما يدين به النهار لليل” لياسمينة خضرا.
الأخلاق و الحكمة و الرأفة كانت سمات أغلبية المجتمع و كان هنالك الكثير من الروح في العلاقات الإنسانية. سواء كان المرء تقيا أم فاسدا، كان يجب عليه الالتزام بالأعراف و العادات و السلوكيات العامة و عدم الخروج عنها فقط. لم يكن يخطر ببال أحد أن يعترض طريق آخر ليحثه على ارتياد المسجد، ليعظه في ما تَعَلَّقَ بلباسه أو لباس أخته أو زوجته، أو ليسأله عمّا إذا كان يصوم.
و جو التسامح كان يتسع حتى للأوربيين و اليهود. فقد كان يسود بين الطوائف الثلاثة في المدن الكبيرة نوع من التنافس على الظهور في أحسن صورة، خاصةً من جانب المسلمين، الذين لكونهم الطائفة الأكثر حرمانا على المستويين الاقتصادي و السياسي، كانوا يحرصون أشد الحرص على الظهور بوجه لائق، ربما كنوع من التصدي للأحكام المسبقة التي يتعرضون لها عادةً، أو لمحاولات تصنيفهم في خانة “التعصب” و “التخلف”. قلة الوسائل و الفقر لم يمنعانهم من لبس أجمل حُلّة و تلميع أحذيتهم في يوم العطلة الأسبوعية قبل الخروج للنزهة أو للعب الدومين و الروندة. من في وقتنا هذا يلبس بذلة يوم الجمعة؟ كم منّا يحرصُ على وجود فرشاة تلميع الحذاء أو “السيراج” في بيته دائما ؟ لقد تخلصنا من هذا العناء حتى قبل ظهور “القميص” و “البلغة”.
في 5 أوت 1934 اندلعت مواجهات عنيفة في قسنطينة بين الجزائريين و اليهود، بدأت عندما قام يهودي بالتبول على جدار أحد المساجد و هو في حالة سكر، ثم توسعت إلى مدن أخرى و لم تنته إلا بعد مقتل عشرين شخصا من الطرفين. جمعيةُ العلماء بذلت آنذاك كل ما في وسعها من جهد لإيقاف تلك المواجهات، و مالك بن نبي الذي كان موجودا في تبسة وقتها تركَ لنا في مذكراته شهادته عنها: “لقد مَنَعنا من أن تتعرض الأقلية اليهودية في تبسة لأي مكروه. حتى أننا نظمنا حراسة تحت شرفة يهودي يدعى مالوري و الذي كنا نعتقد أنه أكثر من يمكن أن يستهدفه فعل انتقامي. إمام المدينة كان رائعا حين رافق حتى باب بيته ليطمئنه، يهوديا هاجمه أحد المخربين… أما الشيخ بن باديس فقد تميز بشجاعة و كرامة عظيمتين طوال استمرار الأحداث.” أي شيخ أو شخصية عربية أو مسلمة يمكنه اليوم أن يتصدي بجسده لمكروه يصيب مسيحيين مصريين أو عراقيين مثلا؟ أما اليهود فلا داعي حتى للسؤال.
تفسير هذه الفوارق بين الأمس و اليوم بسيط: ففي ذلك الوقت كان الإسلام، لكن الإسلاموية لم تكن. كنا كلنا مسلمين دون أن يكون أحد إسلامويا. الإيمان كان لكن بهجة الحياة أيضا كانت. و لو قارنَّا مع الرعب و الهلع الذي حلَّ علينا مع قدوم الإسلاموية فإن ذلك الزمان كان بمثابة العصر الذهبي، الذي يُمكنُ أن لا تعيشه البلادُ مرة أخرى أبدا. نفس الشيء كان في تونس و المغرب و ليبيا و مصر أيضا، و هو ما يمكن للأفلام القديمة أن تشهد عليه.
لقد أدخلت الإسلاموية في مجتمعنا الريبة و الشك، و أفقدت المعاملاتَ الاجتماعيةَ إنسانيتها و جعلتها ثانوية تسبقها في الأولوية المعاملاتُ مع الإله. لقد أدخلت على حياتنا البشاعة والكراهية و القتل، و خلقت في وسطنا العدو الحميم، العدو الخفيّ الذي يندسُّ في قلب العائلة و الحي و مكان العمل، و يتخفى في المدن و القرى. الأضرار التي ألحقتها الإسلاموية بالإسلام و بالجزائريين كانت أفدحَ ممّا ألحقهُ الاستعمار بهما. فهو لم يفلح خلال قرابة قرن و نصف من المحاولة في تقسيم الجزائريين و دفعهم إلى الاقتتال، بينما نجحت هي في ذلك خلال سنوات معدودات فقط.
فَهي قسّمتهم فكريا و سياسيا إلى معسكرين: المسلمون العاديونَ الموجودونَ منذ غابر الأزمان من جهة، و الأسلاميون حديثو النشأة من جهة أخرى. فأصبحَ من الأشقاء مَن تحولوا إلى أعداء، و من العائلات من تشتتت، و من الجيران من صاروا يرتابون من بعضهم، و من الأحياء ما فقدت السكينة و روح التضامن بين أبنائها. و طبعا كانت أيضا السبب المباشر و غير المباشر في وقوع مئات الآلاف من القتلى، و هو ما يعادل حصيلة حرب حقيقية و كبيرة سوف تبقى آثارها لوقت طويل.
ذلك أن العدو الحميم أشد ضراوة من العدو الخارجي، فالأجنبي يمكنه الذهاب أو العودة من حيث أتى لكن أين يمكن لابن البلد أو الأخ أو الجار أن يذهب؟ الأشياء كانت واضحة، و خطوط التماس معروفة و ظاهرة و بديهية عندما كانت مشاكلنا مع الاستعمار، فقد كان الطرفان داخل إطار دورهما الطبيعي. كلٌّ منهما كان يعرف كيف عليه أن يتصرف حين يقوم النزاع، كما كان يجب على المشكل أن ينتهي إلى الحل بطريقة أو بأخرى. فسبع سنوات فقط كانت كافية ليعود المحتل من حيث جاء. أما اليوم، و بعد ثلاثة و عشرين سنة من القتل لا يزال الإرهاب الإسلاموي يحصد الأرواح، و يمكنه أن يستمر في المستقبل لمائة عام مثلما دامت الحروب الدينية التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى.
الإسلام المغاربي كان في الماضي القريب متفتحا، متسامحا، متحضرا و مسالما، حتى جاءت الإسلاموية المتشددة، التي استوردت من مصر و باكستان و أفغانستان ابتداء من سبعينيات القرن الماضي. و من بين جميع البلدان العربية و الإسلامية، دفعنا نحن الجزائريون أبهظ الأثمان على الإطلاق لهذه الإيديولوجية التي أدى اختلاطها بالشعبوية و العدمية المحليتين، لخلق تيار إسلامي رخيص المستوى، جاهل، حقود و عنيف. المصري سيد قطب و الباكستاني المودودي كانا المنظّرين الأساسيين لهذه الإيديولوجية، و اليوم نجد البلدين اللذين ينتميان إليهما يشرفان على الفناء، بفعل التأثير المباشر الذي مارسته أفكارهما. إنه أثر البومرنغ الذي يعود إلى من رماه، أو ما يسميه مالك بن نبي: “انتقام الأفكار المخدوعة”.
ابن باديس كان واحدا من الشخصيات النادرة التي ساندت مشروع إنهاء الخلافة العثمانية في 1924، و كتبَ عشية إعلان ذلك القرار ما يلي: ” يوم ينهي الأتراك الخلافة العثمانية فإنهم لن يلغوا الخلافة بمعناها الإسلامي بل سيغيرون نظام حكم خاص بهم فقط. ما فعلوه هو التخلص من رمز كان خال للمحتوى لكنه منبع لفتنة كبيرة بين المسلمين… أسطورة الخلافة لن تتحول إلى حقيقة و سينتهي الأمر بالمسلمين بأن يتقبلوا هذه الحقيقة” (Cf. « Penseurs maghrébins contemporains », Horizons maghrébins, Ed. Cérès, Tunis, 1997)
وَضَعَ الشيخُ بهذا نفسه في موقع المعارض للمواقف التي اتخذها رشيد رضا و جامعة الأزهر الإسلامية الذين ظلوا متمسكين بفكرة العودة إلى الخلافة الإسلامية. و كذلك ساندَ “علي عبد الرازق” أيضا لمّا تعرضَ إلى قصف فكري شديد من طرف علماء مصر حين أصدر كتابه المعروف ” أصول الحكم في الإسلام” سنة1925، و كان هذا الغليان الفكري و السياسي ما بين(1924-1928) هو الذي أدى إلى نشأة “جماعة التبليغ” في الهند و “حركة الإخوان المسلمين” في مصر، و بذلك الإسلاموية المعاصرة.
لم يكن ابن باديس يتصور إمكانية تجسد الخلافة الإسلامية إلا عبر هيكل جامع يُمثلُ فيه السنة و الشيعة على حد سواء، و لا يهتم إلا بالمسائل العقائدية و الأخلاقية. أما الوظائف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية فعليها أن تبقى من اختصاص الدولة. و قد كتب في هذا السياق ما يلي: “لا يحق لأحد أن يستحوذ على إدارة شؤون الأمة دون أن تكلفه هي بذلك صراحة”.
النظرة التي بلورها علمائنا الأفاضل عن العالم بين سنوات العشرينيات و الخمسينيات، كانت متقدمة جدا عمّا يَحثُّ عليه أكثر علماء اليوم تفتحا و اعتدالا. و نكتشف ذلك عندما نتأمل في الوضعية التي آل إليها العالم العربي في وقتنا الراهن: لقد كانوا على صواب و على حق. من هو رجل الدين الذي يمكنه اليوم أن يتجرأ على اقتراح تقاسم الخلافة مع الشيعة؟

صدر المقال بتاريخ:19 فيفري 2012

ماكرون ومسعود بن عقون

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة 
إنه المقال الرابع الذي أكتبه خلال أكثر من شهر حول فرنسا. واهتمامي ليس بالأمر الغريب لأن العالم كله اهتم بالانتخابات الفرنسية، كما اهتم به جمهور عريض من الجزائريين الذين يعنيهم ما يحدث في فرنسا أكثر من غيرهم ربما لأنهم يعلمون أنه بشكل أو بآخر، وفي وقت ما، سيؤثر ذلك على حياتهم بسبب العلاقات بين البلدين، وهي الخصوصية التي جعلت إيمانويل ماكرون (Emmanuel Macron) يشدد على زيارة الجزائر خلال حملته الانتخابية.
بالفعل، لا يخفى على أحد أنه زيادة على ثقل المسائل التاريخية العالقة، يعيش عدة ملايين من الجزائريين في فرنسا التي تعد أيضا من بين أول شركائنا الاقتصاديين. ونترقب في الأيام القادمة زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر حيث يعلم الجميع أن قصر الإليزيه بيده مفتاح الحل الدبلوماسي لقضية الصحراء الغربية التي، إن حلت، فإنها ستساهم في إرساء علاقة مهدأة بين البلدين بما أنها من بين أكبر المشاكل بينهما.
وربما لسنا متعودين، عدا بعض المقالات والتعليقات الصحفية التي تهتم بالمواضيع التي لها صلة بالجزائر خاصة، لسنا متعودين على أن يكتب جزائري حول فرنسا ويدلي برأيه في شؤونها الداخلية، بل العكس هو ما تعودنا عليه شمال وجنوب البحر المتوسط.
وعلي القول أنني لم أختر مواضيعي من باب الاهتمام الفكري فقط، بل أضطر كل صباح، وأنا أستيقظ مثل عامة البشر، إلى توجيه نظري إلى ما وراء الحدود، لما يحدثه في نفسي من اشمئزاز وتقزز المشهد  “السياسي” الذي لا يطاق منذ العهدة الرابعة التي فرضت على الجزائر مصيرا حتميا، مصيرا رهيبا، حيث يزج بها عنوة وقوة كل يوم أكثر في العصر الحجري وخارج العالم المعاصر، ولو تمكنوا، لرموا بها خارج الكرة الأرضية لإبعادها في الفضاء وعزلها عن عالم الأحياء.
ومع ذلك، فإن الأحداث تساءلنا يوميا، وفي بعض الأحيان تأتي لنا على غفلة بما أن الجزائريين والفرنسيين تفاجئوا بولوج زائرين غير متوقعين في حياتهم المؤسساتية: إيمانويل ماكرون كرئيس لفرنسا وعمره 39 سنة، ومسعود بن عقون وزيرا في الحكومة الجزائرية، وعمره 37 سنة. كل الجزائريين تقريبا يعلمون من هو ماكرون، لكن لا أحد في فرنسا يسمع بمسعود بن عقون، ولن يسمع به مهما طال الزمن، مع أنه تقلد منصب وزير السياحة والصناعة التقليدية مدة يومين وتنحى من غير سابق إنذار ولا تفسير، وكما يقول المثل الجيجلي “هاو هاو مكانش”. ربما كان ينقص السيد بوتفليقة أن يمدنا بآخر جوهرة من عنقود العبث والتفاهة، كهدية في شهر رمضان الكريم.
ماذا يجمع الرجلين يا ترى؟ لا شيء. ومن غير اللائق طبعا مقارنتهما ببعضهما، لكن قد ينفعنا مقارنة الواقع الذي ولد الأول وأفرز الثاني. فالرجلان نتيجة طبيعية في كلا البلدين وما يستحقانه. فالأول نابع عن محيط تحكم فيه قوة الاستحقاق والجدية، والثاني خرج من أدران الرداءة التي عششت عندنا.
تفرض فرنسا على من يريد الوصول إلى أعلى مسؤوليات الدولة والمجالس المنتخبة أن يمر عبر معايير الشفافية والكفاءة والحياء، و في الجزائر، فإن “المعايير” مختلفة حيث تهيمن الجهوية والخرف والعبودية والقابلية للرشوة والترشي. أما الأولى، فإنها معايير القوة والهيمنة التي قد تؤدي أحيانا إلى استعمار بلدان أخرى، أما الثانية، فإنها عاهات تحكم على حاملها السقوط في “القابلية للاستعمار”. وهو ما عاشه البلدان في الماضي، بصفة منطقية.
ينصحنا جان ديلافونتان  (Jean de la Fontaine)التعلم ممن هو أصغر منا، لكن من الأحسن أن نتعلم ممن هو أكبر منا عندما يكون حاملا لتجربة أكبر ومشهود لها في فن بناء مجتمع وضمير اجتماعي ودولة، الخ… ولنعد لموضوعنا : ماذا يمكن أن نتعلمه من وصول ماكرون على رأس الدولة الفرنسية؟ وماذا يمكن أن يتعلمه الفرنسيون من دخول مسعود بن عقون الحكومة الجزائرية؟ نحن، الكثير، هم، لا شيء. هل يسمح لنا أن نحلم بماكرون جزائري؟ وهل يمكن أن تستيقظ فرنسا يوما ما على وقع خبر قدوم شبيه بوتفليقة على رأس دولتهم؟ والجواب على السؤالين هو بديهي ونهائي وسهل : لا، أبدا.
ومع الألم الذي يقبض أنفاسنا، والحشمة التي تلهب جبيننا، فنحاول فهم سبب ذلك والإقرار بأن الفرق بين البلدين يكمن في المسار التاريخي للشعبين وثقافتهما الاجتماعية، وفي الوعي بالمواطنة المرتفع لديهم والمنعدم لدينا، وفي الفرق بين مستوى النخب الفكرية والسياسية والإعلامية لديهم ولدينا، ولأن “سلف” ماكرون هو مونتسكيو وجد مسعود بن عقون هو جحا، ورمز فرنسا هو الديك ونحن نعيش في بلد “معزة ولو طارت”، وللمقارنة بقية…
إنها نظرة إعجاب تلك التي حملها العالم لفرنسا وهي تخرج من لدنها، مثل الساحر من قبعته، رئيسا شابا لا يتعدى 39 سنة من عمره، برهن في خطواته الأولى أنه مصنوع من معدن القادة بعد أن عانت فرنسا من عقد مرهق  بسبب هيجان ساركوزي  (Sarkozy) وخمود هولوند (Hollande) الذين نجحا في إمداد الفكاهيين بمادة ثرية لإضحاك الجماهير على حساب صورة فرنسا. والكل في فرنسا كان واعيا بشدة الانحدار الذي نال منهم، فكتبوا في الموضوع طولا وعرضا مثل آخر كتاب صدر قبل بضعة أيام حول حوصلة رئاسة هولاند تحت عنوان “رئيس الوقت الضائع”. خمس سنوات. نحن ضيعنا ثمانية عشر سنة، فقط مع بوتفليقة.
ولو كان لدينا فكر جزائري، ماذا عساه أن يقول عن كل شخص استحوذ من غير حق على  على منصب رئيس الدولة واغتصبه؟ علينا الاعتراف لرؤسائنا “بتواضعهم” حيث تباهوا بصفة واحدة، وهي أنهم “مجاهدين”، والتي يحق لنا الشك فيها لبعضهم. ومهما كان من أمر، فإنهم مسؤولون أمام التاريخ عن الإفلاس المادي والمعنوي للبلاد.
وكأن فرنسا، بعد قضاء جيل الجنرال ديغول  (De Gaulle)– بومبيدو (Pompidou)، جيسكار دي ستانغ (Giscard d’Estaing)، ميتران (Mitterand) وشيراك Chirac))، وكأنها لم تعد قادرة على إنجاب رؤساء ممن تجد فيهم سمات القدوة والقيادة اللائقة بالمنصب. وإذ هي يئست من ذلك، توجهت لأول من كانت تبدو عليه تلك العلامات، أو بعضها، مثل فرانسوا فيلون (François Fillon) قبل “القضايا” المتسربه حوله وبعده حولت أنظارها إلى ماكرون المحظوظ. فانتخبته، ورد لها الجميل في بضعة أيام بأن أعاد لها كرامتها وعزتها فقط عبر طريقة مشيه الأنيقة والواثقة، ومصافحته الحيوية، ونظرته الحاذقة وخطابه الصريح، وهي كلها تنم عن قوة الإرادة التي تدفعه. لم يكن هو من ظهر في لباس الشاب المبتدئ خلال لقاء مجموعة السبع بل بوتين (Poutine) وترامب (Trump) هما من بدا كذلك. كم سهل أن نفرض الإعجاب عندما نملك الهيأة اللائقة بالمنصب….
وإن كان هذا يبدو من الشكليات والجماليات، إلا أنها كانت هي الأشياء،على بساطتها، التي كانت تنقص بشدة لاستعادة الفخر الفرنسي الضائع منذ عشر سنوات. أما الباقي، أي سبب انتخاب ماركون وماذا سيعمل وهو في منصبه هذا، فالوقت كفيل بأن يعلمنا عما سيفعله حيث فشل سابقوه منذ السبعينات عند نهاية “سنوات المجد” الثلاثين، حيث انقلبت الأمور وانحدر الاقتصاد، فازدادت البطالة، وانكمشت مداخيل التجارة الخارجية والصناديق العمومية مثل الضمان الاجتماعي، بينما انفجرت المديونية العمومية. وهو الموضوع الذي سنعود إليه بعد الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، أو بالأحرى بعد سنة. فالحائط ينتظر البناء الماهر ماكرون، وهو ابن البلد الذي شاعت فيه مقولة شعبية :”نعرف البناء من جودة الحائط”.
وعلى العكس، لا ينظر العالم إلينا نظرة إعجاب ولا حتى نظرة إشفاق، هذا إذا كان لديه سببا للنظر من جهتنا، مثلما فعلت منظمة الأمم المتحدة خلال العشرية السوداء وهي تتساءل حول إمكانية وضع بلدنا تحت الوصاية لعدم كفاءة الدولة على حماية سكانها من المجازر الجماعية. ولو نظر العالم إلينا اليوم، ستكون حتما نظرة احتقار لما يراه من عدم قدرتنا على وقف سقوطنا اللا محدود في هاوية الرذيلة والبهدلة والإخفاق والشيطانية. وليته نظر إلينا تلك النظرة، ليته لم يتجاهلنا ويتركنا في حالتنا المزدرية، ربما كنا لا نحتمل ثقلها وحاولنا النهوض في آخر محاولة لتخليص حلمنا الوطني من موت مبرمج. إننا مررنا من احتلال أجنبي توسعي إلى حالة إذلال وطني مكثف.
انتخب الفرنسيون رئيسا شابا طامعين الخروج من السيئ إلى الأحسن، أما نحن فالاتجاه الوحيد هو نحو الأسفل، والسقوط من السيئ إلى الأسوأ، ولا نملك من أفق سوى ذلك الذي نرى فيه أشباح جحا من سلال وأويحي وسعداني وشكيب خليل ومسعود بن عقون الصغير وحتى خلف أحد المارشالات الموسمين….
ومهما كان من أمر، ومهما صغرنا في أعين الآخرين ومهما عظمنا في أعيننا نحن، فإن العالم لا يريد تعلم أي شيء منا، ومن “عبقريتنا”، ومن “تقاليدنا” السياسية. نحن فقط نرى أنه فيه ما نتعلم من أسلافنا، وهو ما فعله مسعود بن عقون، المناضل الوفي للقضية الوطنية (كما فهمها من أسلافه هو)، فبدأ الترحال من جهة إلى أخرى حسب ما تمليه له “شعيراته” التي يستدل بها في المستنقع السياسي. ومن الأكيد أن توقفه عند السيد بن فليس قبل أن ينصب خيمته عند السيد بن يونس هو ما أدخله الجحيم عندما ظن أنه قد بلغ جنة النظام. بالفعل، من الأكيد أنه تم اكتشاف تلك “المرحلة” من مسيرته السياسية وهو ما جلب له الصاعقة لأننا لم نعهد في عهد بوتفليقة أن نحرم مناضلا وفيا بسبب غياب الشهادات أو الكفاءات أو النزاهة، بل بالعكس. لكن المسكين بن عقون مسعود نقصه أن يعلم شيئا مهما: الوقوف بخيمته في ديار بن فليس، مهما قصرت المدة، جريمة لا تغتفر في أعين بوتفليقة، إنها مثل من اقترف الشرك في أرضنا الطيبة الشديدة التدين.
وفي الحقيقة، أنا أشفق على السيد بن عقون مسعود، وهو الجزائري الأصيل الذي ترعرع في كنف العادات والممارسات التي سادت في الجزائر منذ الاستقلال واستفحلت منذ عودة السيد بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999، بعد أن ساد على البلاد دون انقطاع منذ 1957 إلى 1983. أنا حقيقة أسانده في محنته وأندد بالكيل بمكيالين الذي أطاح به إلى الحضيض في اللحظة التي ظن فيها أنه “بلغ العلا”. ويمكنني حتى أن أرافع من أجله، حيث أنه :
  • هل يعاب عليه أنه لم يعمل ولا تعرف له مهنة قبل أن يصبح وزيرا؟ العديد من وزراء الحكومات المتعاقبة في عهد بوتفليقة أو سابقيه لم يشتغلوا أبدا في حياتهم أو كانوا في مناصب ثانوية.
  • هل نشك في صحة شهاداته؟ أولا، هل الشهادات تصنع روحا وطنية أكبر؟ لا لأن الكثير ممن ظهرت أسماءهم في فضائح تمس بسمعة الجزائر واقتصادها في عهد بوتفليقة يملكون ما يكفي من الشهادات العليا. وثانيا، لو كان الأمر يعاب، ما هو الفرق بين بن عقون وسعداني الذي لم يملك شهادة موثوقة ولا “ماضيا” مهنيا، دون الحديث عن اتهامات تحويل المال العام. لكن، كل هذا لم يمنعه من أن يترأس لجان مساندة المترشح بوتفليقة، وبعدها أن يترأس رئيس المجلس الشعبي الوطني وأن يكون أمين عام حزب جبهة التحرير “المجيد”.
  • يقال أن لديه سوابق عدلية؟ ماذا نقول عن العديد من الوزراء الذين انتموا إلى حكومات السيد بوتفليقة أو ما زالوا والذين علمنا أنهم شاركوا في عمليات تحويل وتم استدعائهم في المحاكم الوطنية والأجنبية، ولم يكن ذلك سببا في تنحيتهم؟ بل بالعكس تم “غسلهم” وتنظيفهم ومنحهم مناصب أعلى…
  • إذن، ماذا فعله هذا الشاب الواعد الذي كان يتبع خطوات إخوانه الأكبر منه سنا خطوة خطوة؟ هل فعل أكثر من شكيب خليل الذي من أجله تم تفكيك جهاز المخابرات، أو أكثر من كل من هم متربصين في الخفاء لأخذ مكان بوتفليقة والقيام بأسوأ ما فعله؟ إنه من حق السيد بن عقون أن يصرخ في وجوههم كلهم : “شفتوني غير آنا يا جبناء؟ جيتكم ساهل يا حقارين؟ شكون فيكوم إلي ما كلاش يا حسادين؟…”
صدقوا تجربتي  وما رأيته وسمعته من هذه “الزريعة” : والله ما كان السيد بن عقون ليكون أسوأ من العديد من المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين ما زالوا في مناصبهم أو في التقاعد أو في مربع الشهداء في العالية. إنه يمثل ملايين الجزائريين الذين يرون أنفسهم في السلطة، لولا الحياة “الغدارة” “الخداعة”. إنهم ملايين يمكنهم كلهم أن يصبحوا وزراء ونواب ووزراء أولين ورؤساء حتى، خاصة عندما يتذكرون أسماء من حكموهم من رؤساء وأول الوزراء وآخرهم. وإذ هم واثقون بأنهم أحسن ممن هم في السلطة اليوم، فإنهم يذمون القدر والطبيعة الذين جعلا على طريقهم العقبات الكثيرة وضاقت نفوسهم من طول حياة “النظام”، ومن حكم “المسنين” و الخلود في الدنيا….
إذن، ماذا ينقص للسيد مسعود بن عقون لكي يأخذ مكانة الخليفة بدل من رآهم في نفس المنصب؟  لا ينقصه سوى كونه “مجاهدا”، وهم كانوا ثلاثين ألفا في الاستقلال وهم اليوم مليونين مسجلين لدى مصالح وزارة المجاهدين ويتقاضون منحتهم. الشهادات؟ لقد تطرقنا للموضوع. العمر؟ كان بومدين أصغر منه بعدة سنوات عندما قام بانقلابه العسكري، وكان السيد بوتفليقة أصغر منه ب11 سنة عندما أصبح وزيرا. السيرة المهنية؟ كانت تلك هي المرجعية المهنية الأولى والوحيدة والأخيرة لبومدين كما لبوتفليقة.
والحق الحق، ماذا كان سيغير في الحكومة أو مصير الجزائر أن يظهر مسعود بن عقون، أو آخر مثله، أو حتى آخرون؟ وهو على رأس الدولة مدة أربع عهدات والقادمة منها، يكون السيد بوتفليقة، مثل القط الأسطوري، قد عاش سبعة أعمار وقضى على أعمار أولئك الذين كانوا ينتظرون عند الباب لأخذ مكانه، والذين يحسبون أنهم لديهم الخصال اللازمة لذلك، مثلهم مثل مسعود بن عقون الذي لا يدري أن سبب ويلاته لا تكمن قي “الخلق العام”، بل في حيلة شيطانية يجب أن يعرفها قبل أن تنتابه فكرة التقدم إلى الرئاسيات عندما سيصل إلى العمر القانوني، أي عن قريب، وما ثلاث سنوات في حياة من يناديه القدر؟ وفي انتظار ذلك المصير الموعود للجزائر المسكينة، أطالب بالحكم العادل تجاه كل مسعود بن عقون، قد حط رحاله في هذه الحياة أو ما زال في بطن أمه، إنه خير “خلف” لخير “سلف”….

من أين جاء الإسلاميون؟

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة : بوكروح وليد
حاولت في كتاب نشرته سنة 1997: “الجزائر بين السيئ و الأسوأ” (دار القصبة للنشر) أَن أُبين كَونَ الإسلاموية الجزائرية أيديولوجيةً شعبويةً تَعودُ جذورُها إلى أعماق تاريخنا البعيد. و أن أثرها على نفوس الجزائريين و ذهنياتهم كان أقوى و أعمق من المكتسبات السياسية و السوسيولوجية و الاقتصادية و الثقافية الأخرى التي تكتلت فيها على مر العصور، عبر الإحتكاك مع العالم المتحضر قبل و بعد الإستقلال.
فعندما نتصفح تاريخ المنطقة نَجدُ أن رجال الدين هم من تصدَّرَ في أغلب الأحيان طليعةَ الحركات الثورية التي تشكلت للتصدي للاستعمار الأجنبي، أو انتفضت ضد الاستبداد الذاتي بأشكاله. و نلاحظ أيضا أنه غالبا ما تسلل وسط هؤلاء “علماءٌ” جهلة و مشعوذون متعطشون للسلطة، متشبعون بروح الانتقام الاجتماعي و تصفية الحسابات. يدركون جيدا السذاجة التي يتميز بها شعبهم، و ميوله للعاطفية، و إذعانه اللامشروط لمقدساته. يعرفون بالغريزة كيف يجب أن يخاطبوه عن عذاب القبر و جهنم و الآخرة ليتحكموا في روحه، و كيف يستعملون النبرة المناسبة لتخويفه و تجنيده. كذلك يحرصون أيما حرص على التلاعب بالمظاهر، لأنهم يعرفون جيدا أن التقدم إلى الجمهور بمظهر الشيخ المتواضع، رث الهندام بالي الثياب، بالعباءة و اللحية و البلغة أقرب إلى نفسيته و أَفيَدُ لهم من التقدم إليه في صورة عقلانية.
و عرف المغرب العربي طوال تاريخه سلسلةً طويلةً من “الدعاة”، الذين يظهرون فجأة من العدم، ليخطبوا في الناس بعنف و يرافعوا ضد استتباب الظلم و تفشي الفساد و الانحلال الأخلاقي و ترك الدين، و يحثوهم على “الرجوع إلى الأصل”. ثم ينقضون على الدولة التي يدعون الجماهير لإسقاطها و إقامة “الدولة الإسلامية” التي ستحكم وفقا للتشريع الإسلامي، و ستعرف كيف تفرض العدل و المساواة. لكن ما أن تسقط تلك الدولة حتى يسارعون بإقامة سلالة حاكمة جديدة تدوم لبعض الوقت، و سرعان ما ينتفض ضدها “شيخ” أو “مهدي” آخر و يواجهها بنفس الحجج، و هكذا دواليك عبر التاريخ.
قبل اثني عشر قرنا جاء “ميسرة”، و هو حمال ماء من الخوارج، ليحشد جيشا شعبيا هاجم به أول خلافة عربية قامت في المغرب العربي (الأغالبة)، ثم ينصب نفسه خليفة بعد الانتصار عليها. ثم جاء داعية آخر، أبو عبد الله، و هو شيعي إسماعيلي جلبه من الحجاز بعض حجيج كتامة ضمن متاع سفرهم ليعلّمهم “الإسلام الحقيقي”، و أقام خلافة الفاطميين على أنقاض مملكة الرستميين.
بعد ذلك كان الدور للميزابي أبي يزيد الملقّب “بصاحب الحمار”، في إعلان الجهاد ضد دولة الفاطميين. و قد كتب عنه ابن حماد، و هو مؤرخ عاش في تلك الحقبة، ما يلي: “عندما بدأ يدعوا الناس إلى التمرد كان يحمل عصا لا تفارق يده و لم يكن يلبس غير الصوف الخشن، لا يملك في الدنيا متاعا غير لقب الشيخ الذي يتقلده. أما في ما بعد فلم يعد يلبس إلا القطيفة و الحرير، و لا يمتطي إلا الخيول الأصيلة… شَجَّعَت القسوة التي عرف بها أتباعهُ من البربر لأن يذبحوا دون هوادة أو شفقة كلَّ من وقعَ تحت رحمتهم” (محفوظ قداش: جزائر القرون الوسطى)
ثم أتى ابن تومرت مؤسسُ خلافة الموحدين، الذي استورد من المشرق الأفكارَ الأشعريةَ التي بقت إلى اليوم تغذي الخطاب الإسلاموي. فنسب لنفسه صفة “المهدي” في 1121م و بدأ في الدعوة لإسقاط دولة المرابطين التي كانت تهيمن على المغرب العربي. كان ابن تومرت يعرف بفتواه بأن: “طاعة المهدي من طاعة الله”، و أن القتل جزاءُ كل من خرج عنها و كذلك جزاء تارك الصلاة. هو أيضا من منعَ اختلاط النساء و الرجال في الشارع، و كان أحيانا يضرب المخالفين لذلك بنفسه.
لقد عُرفَ أسلافُنا الأمازيغ منذ قديم الزمان بسرعة تأثر نفسيتهم بالأفكار المتشددة و المعارضة للثراء و الرخاء و الترف. و هذا ما جعل منهم طرفا فاعلا عبر التاريخ في جميع حركات التمرد و الانشقاقات الدينية التي عرفتها المنطقة منذ قرون ( السيركنسليون و الدوناتيين في عهد الرومان، الشيعة و الخوارج في الإسلام…). و ذلك ما دفعهم لإتباع الإمام ابن رستم و الإمام يعقوب و الإمام عبيد الله و الشيخ أبو يزيد.. الخ.
ضف إلى ذلك أن رجال الدين هم الذين قادوا أيضا الحركات الثورية التي انتفضت ضد الاستعمار في المغرب العربي: عمر المختار في ليبيا؛ الأمير عبد القادر، بومعزة، بوبغلة، الشيخ الحداد، المقراني و بوعمامة في الجزائر.
لهذا السبب سعى زعماء الحركةُ الوطنية التي تشكلت في القرن العشرين لمواجهة الاستعمار، لأن يحلّوا محلّ الشيوخ في المخيلة الشعبية، و حرصوا على إحاطة شخصياتهم بنفس المظاهر و الحماس اللذان يتمتع بهما هؤلاء ليضمنوا تجاوب الشعب معهم. يقال أن بعض العائلات لا زالت تحتفظ ببعض الشعرات من لحية مصالي حاج إلى يومنا هذا، و تحافظ عليها مثل التحف القيمة و تعتبرها مصدرا للبركة.
عندما استعادت الجزائر السيادة على مصيرها في 1962 لم تكن تحوز في جعبتها غير فكرة واحدة هي الوطنية. و قد تمكنت هذه الفكرة من شد حبل الشعب و جعله يلتحم حولها منذ الثلاثينيات إلى غاية الاستقلال، و شكلت مصدرا كافيا لتحفيزه و إيصاله إلى التحرر من هيمنة الاستعمار. لكن الوطنية ليست منبعا فكريا دائما، فمع الإخفاقات و خيبة الأمل و التجاوزات المتكررة و المتراكمة بعد الاستقلال، ارتخى الحبل و تلاشى الشعور الوطني حتى لم يعد يربط الشعبَ بدولته المستقلة.
فما كان الشعب ينتظره بعد الاستقلال هو القليل من الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و احترام شخصيته. كان يعتقد أن حكامه الذين ظلوا ينتسبون في خطابهم إلى الثورة العظيمة، أشخاصٌ شجعان و نزهاء يحرصون على خدمة البلد الذي حرروه، حتى اكتشف مع مضي الوقت و تعاقب الأحداث و الفضائح أن أغلبهم لم يكونوا سوى مستبدين عديمي الكفاءة مصابين بجنون العظمة و النرجسية، و لا تهمهم غير مصالحهم الفردية فقط. فبدأت خيبة الأمل تحط رحالها بدئا من السبعينيات، و انقشعت أوهام الشعب الذي صار يتوق صراحةً إلى أشياء أخرى مختلفة عن الاشتراكية و الثورة الزراعية اللتان فُرضتا عليه، فأخذ يبحث عن جديد يعيدُ تحفيزَهُ و يمكّنُهُ من وضع نظام اجتماعي و أخلاقي أكثر عدلا في البلاد. هذه هي السنوات هي التي شهدت بداية ظهور الإسلاموية في الجزائر، و التي خرجت بذلك من نفسيتنا القديمة لتدخلَ في واقعنا السياسي.
و شهدَ بروزُ التيار الإسلامي السياسي نهايةَ الثمانينيات، عهد الرجوع إلى إتباع “الدعاة” و الشيوخ و الأمراء كما جرت العادة منذ قرون، ثم وصلَ إلى النتيجة الحتمية التي لا مفر منها، و هي الدعوة للتمرد على دولة “الطاغوت” و إسقاطها، و إقامة الدولة الإسلامية على أنقاضها. حاولوا أن تتذكروا ما كانت عليه ساحتنا السياسية قبل عشرين سنة، و تأملوا جيدا في الشخصيات التي كانت تُكَوّنها: كم من “ميسرة” أو من “ذي الحمار” ستستعيد ذاكرتكم؟ عشرة، عشرون؟ لاحظوا جيدا و احذروا أن تغركم البذلة الإيطالية و ربطة العنق عند بعضهم، فتلك مجرد ملابس عمل، و ثياب تمويه.
كان أغلب الجزائريين إبّان الاستعمار أميين، و لم تكن الوسائل التي جندتها جمعية العلماء المسلمين كافية لتربية كافة المجتمع. من جهة أخرى كانت السلطات الاستعمارية تحرصُ على تشجيع الشعوذة و تمويلها. لكن المجهودات التي بذلتها الجزائر المستقلة أيضا لتعليم المجتمع (تعليمه و ليس تربيته) لم تتمكن بدورها من تغيير الوضع تغييرا جذريا. فما أن جاءت أوّلُ انتخابات حرة و نزيهة في 1990 (البلديات) حتى استحوذ الإسلاميون على الحصة الكبرى من نتائجها. و كذلك كانت الأمور في تونس، أين لم يصدق أحد كيف كَنَسَت أوّلُ انتخابات حرة نُظّمَت على عَجَل بُعَيدَ ثورة 2011، مسيرةَ ستين عاما من التربية و التعليم قادها بورقيبة ثم بن علي بعده. لقد أخطأ التونسيون عندما ألقوا باللوم على قطر لتمويلها المفترض لحزب النهضة، أو لوجود تلاعب في تنظيم الاقتراع، فهذه التفسيرات أتت فقط من هول الصدمة التي أحدثتها في نفوسهم النتائج. الضربة لم تأت من الخارج بل من الداخل، من الأعماق التي لم تُستَكشَف داخلَ شخصية الشعب التونسي. و ما الذي يمكن قولُهُ عن مصر التي ذهبت فيها 85 بالمائة من الأصوات (ما عدا الأقباط) ليس فقط للإخوان بل لكل ما تلون بالأخضر.
يجب أن ندرك أن الهوس بالإسلاموية لم يلد من رحم ثورات الربيع العربي و أنه أَقدَمُ منها بكثير. كما يجب أن يثير التكرارُ المستمر لنفس الظواهر على مر التاريخ، انتباهنا. لا يمكن أن تغاضي عنه أو نجتنب التفكير و التأمل فيه، و هذا العدد الكبير من الأحداث المتشابهة لا يمكن أن يكون وليد الصدف، بل لابد من وجود ميكانيزما فاعلة وراء تكرار تجاربَ مماثلة، في حقب زمنية مختلفة، و من بلد عربي-مسلم لآخر.
في الماضي كان يوجد كيان سوسيولوجي اسمه “الإنسان المسلم” بمجده و بانحطاطه على وجه سواء. لكن هذا الكيان انقسم في بداية القرن العشرين إلى نصفين، أحدهما “مسلم تقليدي” (مثل بن باديس و الإبراهيمي) و آخر “مسلم عصري” (مثل فرحات عباس أو مالك بن نبي).
فتصور النهضة كان قد انشطر بين مناصرين للإصلاح يدعون للعودة إلى القيم الأخلاقية و الدينية، و آخرين يميلون إلى الاقتداء بالغرب لاستدراك ما طال الأمة من التخلف. لكن الطرفين رغم ذلك لم يدخلا في الصراع لكن كانا متكاملين. كانا يتعايشان و يتعاونان مثلما رأيناه في زمن المؤتمر الإسلامي الجزائري في 1936، عندما اتحد العلماء و الليبراليون و الشيوعيون و الوطنيون لتبني قضية موحدة هي مواجهة الاستعمار.
لكن بعد نصف قرن من ذلك، و مع تفشي أفكار المودودي و سيد قطب، لم يعد المسلم التقليدي و العصري إخوةً و لا حتى أبناء بلد. أصبحا يشبهان زوجين فَرَّقَ بينَهُما نزاعٌ أتى من خارج البيت، فلجئا إلى الطلاق بسبب استحالة بقاء الانسجام بين ذهنيتيهما بعد دخول العامل الخارجي، ثم انتهيا أخيرا إلى عداوة لدودة. المشكل الكبير هو أنهما لا زالا يقيمان بنفس البيت الذي لا يمكنُ لأحدهما التنازلُ عنه للآخر أو الرحيل عنه. و مع تفاقم الخلافات و تصعيدها و تراكمها، و التباعد التدريجي الذي طال وجهات النظر، انكسرَ الاحترامُ المتبادلُ بينهما و تولَّدَ عنه التطرف في المواقف، فأصبح الأول “إسلامويا” و الثاني “لائكيا”.
أما “المسلم” العادي المسكين، فقد وجد نفسه وسطهما لا يدري إن كان إسلامويا أم علمانيا. يرفض أن ينقسم إلى نصفين لأنه لا يزال يشعر بأنه فيه من كلى الصفتين جزئا، و أنه لا يريد أن يكون إسلامويا فقط و لا عصريا فقط. هذا ما كنا عليه نحن الجزائريون حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، و إن كنا نميل أكثر نحوَ المسلم العصري في فترة شبابنا، ثم نميلُ نحوَ المسلم التقليدي في كبرنا. لكن الكلمتين لم تكونا موجودتين بعد في قاموسنا، و لم نكن نتجاذب و نتمزق مثلما نفعلُ اليوم، لم نكن حتى نتساءل عمّا يناسبنا بين النموذجين، لأننا ببساطة كنا كلنا مثل بعض.
الفوارق لم تكن صارخة في اللباس و الكلام و النظرات و التصرفات. كل واحد فينا كان على شاكلته، و كل شيء كان على ما يرام تقريبا إلى أن فاز الإسلاميون بانتخابات 1990، و صنعوا من الجزائر “بلدية إسلامية” كبيرة، لم يعد المسلم العصري يشعر داخلها أنه في وطنه في جميع ربوعها، بينما صار المسلم الإسلاموي يحس بأنه ليس في وطنه بقدر ما يريد أو يطمح. لم نعد من حينها شعبا واحدا بل أصبحنا معسكرين مختلفتين.
في الوقت ذاته لم تتوقف الطبيعة عن إنجاز وظيفتها العادية ببسط التصحر على أرضنا، تقضم يَدُها المزيد منه كل يوم وسطَ صمت و لامبالاة الجميع. لكن تصحّرًا أخر أشد خطرا كان يطول النفس الجزائرية، هو التصحر الروحي و الأخلاقي. و إن كنا نعرف أن ثقافتنا إنما تتجسد و تعزز و تتقوى بالتراكم، فإننا اليوم نمضي قدما في طريق إلغاء ما كانت عليه حياتنا و شخصيتنا و عاداتنا و تقاليدنا العائلية و الاجتماعية منذ الأبد. كنا شعبا واحدا و أصبحنا مجتمعين متناقضين، نشبه في ذلك ما كان عليه البيض و السود في أمريكا حتى ستينيات القرن الماضي. الآن يجب أن نعلم أيضا أن الطائفية لما تصل إلى أقصى حدودها تصبح لا ترضى بحسن الجوار و الاختلاط طويلا، و سرعان ما تسعى إلى الفراق.
الإسلام الذي نحبه و نؤمن به هو الذي يزدهرُ تاريخهُ بالمئات من أمثلة التسامح و الطيبة و العفو التي ضربها الرسول طوال حياته و رسالته. إنه دين “دار الحكمة” و علمائها الحقيقيين الذين ترجموا أعظم ما أنتجته الحضارة الإغريقية من الأفكار. و دين المعتزلة، و ابن سينا، و ابن طفيل و ابن رشد و ابن خلدون و غيرهم. هو الإسلام الذي برز في تاريخه أعظمُ القادة العسكريين في زمنهم، و الذين جمعوا بين فنون الحرب و الشجاعة، وبين الثقافة و الشهامة و الإيثار. مثل عمر بن عبد العزيز الذي تخلى طواعية عن السلطة التي وصلت إليه بالوراثة، أو الكردي صلاح الدين الأيوبي الذي أرسل طبيبه ليعالج عدوه الملك ريتشارد قلب الأسد، و لم يترك من ثروة عند وفاته غير الكفن الذي دفن فيه. هو دينُ الأمير عبد القادر و الكواكبي و محمد إقبال و علي عبد الرازق و بن باديس و مالك بن نبي… و دين محمد عبده الذي خاطب علماءَ الأزهر يوماً قائلا: “من لا يُتقن واحدةً من لغات العلم الأوربي على الأقل، لا يستحق أن نلقبه بالعالم”. هذا هو الإسلام الذي ربّانا عليه آباءنا و أجدادنا و أسلافنا قبلهم، و الذي عشنا به طيلة قرون في التآخي و الفرحة و التسامح، رغم اختراقه من الشعوذة التي ظلت تعيش متطفلة عليه. أَيُّ إنسان و أيُّ شعب يمكنه ألا يحب هذا الإسلام؟
صدر بتاريخ: 4 مارس 2012

الإسلاموية والشعوذة

بقلم :نور الدين بوكروح
ترجمة :ساعي عــايدة
في القرن الثامن عشر، نطق الكيميائي الفرنسي الكبير لافوازييه (Lavoisier) بمقولته الشهيرة :” في الطبيعة لا شيء يفقد، ولا شيء يخلق، بل كل شيء يتحول“. وفي عالم الأفكار أيضا تسري الأمور بنفس الشكل تقريبا حيث أن الأفكار لا تزول بل يوجد منها ما يتحول ليتكيف مع ضرورات الحياة، فيصبح حافزا فمؤسسات تحافظ على القيم، خدمة لسعادة البشر والانسجام بينهم. كما يوجد منها ما يعمل على عرقلة تلك السعادة وذلك الانسجام وإن على المدى البعيد. تبقى خامدة في أعماق الدهنيات ودهاليزها، متربصة فرصة تراجع العقلانية وضعف الإجراءات الوقائية كي تستعيد نشاطها، مثلها في ذلك مثل الفيروسات التي تتكيف بحثا عن ظروف ملائمة لتبقى حية وتستأنف مهمتها المؤذية، بمجرد توفر البيئة المناسبة.
لم تزل الشعوذة، عكس ما كنا نعتقد، وذلك رغم الجهود التي بدلتها جمعية العلماء الجزائريين لاستئصالها من المجتمع على مدى نصف قرن. وها هي تعود بسرعة مذهلة وبسهولة عجيبة مند العشريات الأخيرة، حيث نراها تترعرع بشكل مختلف في كنف الأسلاموية، وكأننا عدنا لنعيش من جديد زمن ازدهارها في وطننا مثلما كان عليه الحال بين القرن الخامس عشر ميلادي و1930، سنة احتفال الاستعمار بمئوية وجوده في الجزائر.
إن بلدنا الذي خاض حربا تحريرية عظيمة واستعاد سيادته مقابل تضحيات جسام، وأنفق ألف مليار دولار منذ الاستقلال ليتطور، بحيث خصص الجزء الأكبر منه لتربية وتكوين ” الجزائري العصري” وجد نفسه بالنهاية قد عاد إلى أكثر العصور ظلامية منذ انحطاط العالم الإسلامي وحقبة الاستعمار الذي اتخذ من الشعوذة مساعدا متطوعا له.
ثبت لنا أن ما اعتبرناه يوما مكاسب أكيدة لا رجعة فيها، لم تكن سوى جهودا عقيمة وحرثا في البحر. قامت الشعوذة بقفزة عمودية مدهشة أوصلتها إلى سدة الحكم في البلاد، في حين كانت قفزة وريثها المتبلد، الإسلام السياسي، أفقية وضخمة أيضا مس تأثيره شريحة واسعة من المجتمع. فهو ليس فقط وريث الشعوذة بل نسخة عنها أيضا، وأسوأ منها مستعملا في ذلك وسائل اليوم من تكنولوجيات وأسلحة…
هما اليوم اثنان، كيانان فيروسيان، يقبضان كفكي كماشة على المجتمع الجزائري، ويعملان على تعقيمه نهائيا ويصبح بذاته طالبان أو “داعش”. يجب أن نعيد بناء كل شيء يوما، لكن إذا صمدت الجزائر وفلتت من مصير رهيب سقط فيه الصومال وأفغانستان و ليبيا وسوريا و العراق، والخيار واسع كما نرى، وهو أمر غير مستبعد ولا مستحيل. خاصة إذا جف بترولنا قبل الأوان وهو الأمر الذي ليس بالمستبعد أيضا.
الفرق الوحيد بين الإسلاموية  الحالية والشعوذة القديمة هو أن هذه الأخيرة لم تكن دموية، لم تقتل الناس واكتفت منهم بشل عقولهم واغتيال كل عقلانية فيهم، في حين يحبذ الأول أن يجمع بينهما ما أستطاع إلى ذلك سبيلا. فتكاتف الاثنان ونجحا في إحياء جمهور متعطش لكل ما هو مقدس، من القاعدة إلى القمة، شعبا وحكاما، لكي يمررا رسالتهما المشبوهة وخطابهما المبهم. لقد استعاد رواد هذه الظاهرة المناخ السحري الملائم لتسويق حيلهم وخداعهم، فضلا عن إحياءهم ممارسات تفننوا من خلالها في العبث بآلام الناس ومعاناتهم كما كان الأمر قبل ظهور الطب العمومي.
في عهد الإمام عبد الحميد بن باديس، كانت تقف فئات عريضة من الشعب فاغرة فاها أمام كل من يحكي لها خرافة ما، تؤمن بالمعجزات وتتبع كالأنعام مواكب المشعوذين. كانت تبجل كل من يلقب بـ”سيدي” أو “مولاي” أو “شيخ” وتعتبره مالكا بركات يدرها على من يصدقه. كان هؤلاء المخدرين يشربون كلامهم كالماء المبارك ويجمعون شعرات لحاهم إذا كانت لديهم كالحرز يتبركون بها أيضا. إنه الجمهور الذي وصفه بن باديس بـ”الشعب الذي يجمعه الطبل و يفرقه العصا“. كان شعبا يهوى”البخور” و”الجاوي”، و”الطلبة” الذين يداوون الأرواح والأبدان، والحكاواتي الذي يدخل في نشوة بإيقاع شيطاني من البندير، وملاعبي الثعابين الذين كنت، وأنا صغير، أذهب لمشاهدتهم في ساحة “أيالة الجزائر” (ساحة الشهداء حاليا).
انتشروا في كل مكان، في المدن، والأحياء والقرى، منهم الأبيض والأسود، والمنافق المتملق أو النذل المريب، يرتدون “برنوسا” أو “قندورة”، ويستعرضون أمام الحشود المبتهجة أو المنبهرة الطبول والبنادير و”القرقابو” والكثير من الأشياء يعزى لها تأثيرا سحريا وحاميا والموروثة من الحقبة العثمانية أو تلك التي جلبت من “تومبوكتو”  (Tombouctou)الأسطورية.
يعتقد مالك بن نبي أن الحضارة الإسلامية انحرفت عن مسارها في السنة 37هجرية وهي سنة المواجهة بين معاوية وعلي. فبالنسبة له، انتهت “مرحلة الروح” حينها لتحل محلها “مرحلة العقل” والتي استمرت إلى حقبة ابن خلدون ثم إلى “مرحلة الانحطاط” التي توفي هو قبل تمامها. أراد مالك بن ني من كل هذا أن يقول أن الحضارة الإسلامية لم تقم لها قائمة منذ ذاك لتقع، ألفية من بعد، في قبضة الشعوذة. حالها في ذلك حال الطائرة التي فقدت خطة سيرها عند الإقلاع، فتهوى بمن فيها من علو آلاف الأميال.
يقترح بن نبي علينا مثالا ملموسا إذ يقول:” إن الجهد الفكري، بمعنى الجهد الذي يخلق أفكارا، تم التأسيس له من أولى تعاليم الإسلام بهذا الحديث“إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فأجتهد ثم أخطأ فله أجر”.ها هو النموذج الحي عن توجيه جهود الأجيال الأولى للإسلام إلى تحرير العقول والتي أثرت بذلك على التراث الإنساني في مجال الفكر النظري الصرف كما في مجال العلوم التطبيقية. لكن، قرون بعد ذلك، غيرت المجتمعات الإسلامية سلوكها تماما تجاه الفكر والاجتهاد. بل في حقيقة الأمر، نجد أنها عكست المبدأ واتخذت طريقا مشت فيه الأجيال الأخيرة إلى يومنا هذا – والمبدأ يتعلق بالقرآن-:” تفسيره خطأ و خطؤه كفر“.
يواصل بن نبي قائلا:”هذا المبدأ يعتبر حائلا حقيقيا أعاق كل جهد فكري وشله في العالم الإسلامي خاصة وأن المدارس الفكرية كانت تبني اجتهادها وتفكيرها من منطلق قرآني، كمدرسة المعتزلة التي أغنت كثيرا الفكر الإسلامي. المدرسة الإصلاحية بدورها منذ رائدها الأول محمد عبده وعت نوعا ما أن العقل المسلم قد غاص في وحل من الجمود. لكن لإخراجه  منه  كان يجب منحه دافعا روحانيا قويا، كما فعل مارتن لوثر(Martin Luther) و جان كالفين (Jean Calvin) في أوروبا، أو إخضاعه لثورة فكرية كالتي قام بها رينيه ديكارت(René Descartes) ، بمعنى أن تعطيه بشكل أو بأخر وثبة إبداعية للأفكار. لم تعرف المدرسة الإصلاحية كيف تحدث تلك الثورة و لا ذلك الإصلاح، لأنها سقطت بدورها في الوحل وهي تصرخ منه “أن العالم الإسلامي يغرق !
لا يزال العقل المسلم يدور في حلقة مفرغة، سجين جاذبية جعلته يلتف حول نجم ميت يحمل اسم “الانحطاط”. فالشعوذة والإسلاموية كلاهما ينحدر مباشرة من الموقف “الفكري” المبني على المبدأ المذكور أنفا، ويتجلى في منهج فكري ونموذج المجتمع الذي يقترحانه. فكم ردد علماء المشرق هذا الأخير على مسامعنا مرارا وتكرارا ” تفسيره خطأ و خطؤه كفر”؟
تعتقد الإسلاموية أن الإسلام هو كيان واحد منذ ظهوره. لكن إذا كان الإسلام واحدا لما تعددت الإسلاموية؟ لماذا توجد العديد من الأحزاب في الجزائر وباقي البلدان الإسلامية إذا كانت الحقيقة التي يدعون امتلاكها واحدة؟ لماذا تعددت أيضا الحركات الإرهابية بل وتصارعت فيما بينها في كثير من الأحيان؟ هل الاختلاف حقا في البرامج أم في حامليها؟ وكلنا يعلم أنه لا وجود لما يسمى ببرنامج إسلاموي وسوف نعود لاحقا للموضوع.
لقد فقدت قضية الشعب الفلسطيني مكانتها في نفوس الشعوب التي كانت تساندها منذ أن انقسم الشعب الفلسطيني بين مسلمين إسلامويين ومسلمين وفقط (دون أن ننسى المسيحيين). لقد انشقت إلى دولتين قبل حتى أن ترى الدولة الفلسطينية الحقيقية النور. تحت ذريعة “المقاومة”، جزأتها الإسلاموية إلى فرعين متعاديين، الأول مقره غزة والثاني رام الله، تحت مراقبة السلطات الإسرائيلية طبعا. فمن كان يحلم في إسرائيل بهذا السيناريو وبهذه الهدية؟ فأدار العالم بظهره للقضية، فسمح ذلك للحكومة الصهيونية باستغلال الوضع لمزيد من الانتهاكات والاستيلاء على الأراضي حتى يصل اليوم الذي لن تكون هناك دولة اسمها فلسطين على الخريطة. وتبقى الإسلاموية تحوم فوق مياه نهر الأردن أو على البحر المتوسط كروح القدس حسب الروايات الإنجيلية.
لماذا المسلمون الحساسون جدا لكلمة “سلف”، والتي أنتجت “السلفية”، اتبعوا مبدأ معاوية وتركوا مبدأ أبي بكر؟ ببساطة، لأن العلماء والفقهاء أخفوا المبدأ “الديمقراطي” خوفا من العصا أو كمجاملة لها، مقابل منحهم حق جمع الجماهير حول دروسهم وفتاويهم. كما شرعوا في تغيير وتحويل المعاني والتفاسير كما فعلوا مثلا مع مقولة ” طاعة ولي الأمر من طاعة الله” أبلغ مثال. لقد فعلوا بالقرآن والأحاديث الشريفة ما فعله المستبدون بدساتيرهم.
الجميع يعرف الحجة التي يسوق لها أجيال من “العلماء” والمفكرين المسلمين: يمكننا أن نتطور دون أن نغير شيئا في ثقافتنا وشخصيتنا، وأفضل نموذج يتشدقون به هو اليابان. غير أن يابانيا مختصا في شؤون العالم العربي قدم شرحا عن اليابانيين أفحم به هذا البرهان اللامع. هو الياباني المعرب والسفير “نابواكي نوتوهارا” والذي قضى أربعين سنة من عمره في شبه الجزيرة العربية وترجم العديد من الكتب من العربية إلى اليابانية. ومن الكتب التي قام بنشرها منذ بضع سنوات، كتاب عنوانه “العرب من وجهة نظر اليابانيين” حيث كتب قائلا:
في كل مرة يلتقي فيها العرب في مؤتمر علمي ويذكر اسم اليابان، يقارن المشاركون التجديد الياباني بالتجديد العربي كما يتمنونه. إنهم يؤكدون على أن اليابان نجح في الانتقال إلى عصر جديد مع المحافظة على ثقافته.كما لو أنهم يبحثون عن حجج أو يبررون لأنفسهم بالقول: “يمكننا ولوج عصر الحداثة والعولمة والإنتاج دون التخلي عن ميراثنا الاجتماعي وبالمحافظة على النموذج السياسي التقليدي، والمعايير السلوكية التي لا مكان لها في عالم اليوم”. و إذا وضحنا لهم أن اليابانيين دخلوا العصر الحديث  لأنهم في الحقيقة ابتعدوا عن النموذج السياسي والسلوك الاجتماعي الذي تعودوا عليه وأنهم تبنوا أفكارا جديدة، يندهش بعض العرب ويرفضون حتى قبول هذه الحقائق… في اليابان، كل يوم يحمل معه حصيلته من الإحداث الجديدة، في الوقت الذي يجتر فيه العربي تاريخه ويعيد بناء وقائع ماض بعيد…”.
صدر المقال بتاريخ 26 فيفري 2012:

ربيع عربي على الطريقة الفرنسية

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
ذكرنا ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة في الحياة السياسية الفرنسية بأجواء “الربيع العربي” وشممنا رائحته. خاصة وأن أحد الفاعلين في هذه الانتخابات التي كانت حافلة بالأحداث غير المتوقعة، جان لوك ميلونشون (Jean-Luc Mélenchon)، استعمل مفهوم “الترحيلية” الذي استقاه بدوره من المقولة المشهورة “ارحل !” التي صرخ بها التونسيون في وجه بن علي في ديسمبر 2010 لطرده من السلطة. وعندما نعلم أن السيد ميلونشون ولد وترعرع في المغرب قبل ذهابه إلى فرنسا، نفهم من أين لديه تلك “الفانطازية” الشمال-افريقية. غير أن “الربيع العربي” الفرنسي يختلف من “الربيع العربي” التونسي في مقدماته ونهاياته.
وإذ هي تعبت وملت من طبقتها السياسية التي تحكمها منذ الجمهورية الثالثة بحكم التداول على السلطة ,إلى أن أصبحت عقيمة ووخيمة –حيث أصبح اليمين تميل إلى الدولة المعجزة، واليسار يؤمن بالليبرالية-، فإنها “رحلتهما” الإثنين، ليس بثورة في الشارع لكن بالتصويت. وبدون أن تسيل قطرة دم واحدة، طرد الشعب الفرنسي من حياته “الأفيال” و”القدامى” مهما كان تيارهم السياسي.
كم كانت المفاجأة كبيرة وعارمة في تونس سنة 2012 عندما فاز الحزب الإسلاموي”النهضة” بالانتخابات التشريعية من أجل تشكيل برلمان تأسيسي. وهي نفس الظاهرة التي حدثت في مصر بضعة أشهر من بعد. فانطفأت أضواء “الربيع العربي” وغبرت نسماته وعم ضباب ” الشتاء الإسلاموي” وبرده حسب تعليقات الصحافة الدولية. لقد مات آلاف الأشخاص في البلدين من أجل الوصول بهما إلى نتيجة مفارقة: قامت الشعوب العربية بثورة وانتخابات ديمقراطية لإرساء أنظمة دينية. وقد حدث ذلك أيضا في تاريخ فرنسا، مع بعض الاختلافات الجزئية.
يلوح المحللون والصحفيون منذ سنوات بخطر وصول التيار اليميني المتطرف إلى السلطة وأوقدوا هاجسه بين الأوساط الشعبية. إلا أن الشعب، بعد أن سحب البساط من تحت أرجل المرشحين الأكثر شهرة في البلاد من ساركوزي وهولاند وجوبي وفالس وفيون(Sarkozy, Hollande, Juppé, Valls, Fillon)وأبقى في الانتخابات الرئاسية على أكثر المرشحين مصداقية وهم المرشحين “الجدد” والمتجددين على الدوام، مارين لوبان وجون لوك ميلونشون في الطرف اليميني والطرف اليساري، وبينهما “مولود جديد” نزل من السماء يطالب بمكانه الذي ما فتئ أن تركه اليمين واليسار والوسط التقليديون.
أما من جهتها لقد فضلت تونس الفتية أن تبحث الحل في ماضيها في شخص الباجي قايد السبسي صاحب 88 سنة والذي عرف عنه مواقفه المبدئية في عهد كل من بورقيبة وبن علي إذ ابتعد عن الاثنين عندما تأكد أن هدفهما ليس الديمقراطية بل الرئاسة مدى الحياة. فتخلى عن الحياة السياسية إلى أن نادته الثورة إلى الساحة والواجب الوطني من جديد، نوعا ما كما فعلت فرنسا عندما استنجدت بالمارشال بيتان (Pétain) سنة 1940 لتخليصها من العدوان الألماني، لكنه بدل ذلك، قيد يديها وسلمها “عميلة” لمن غزاها.
لكننا لا نقارن الباجي قايد السبسي بالمارشال العجوز بل برجل آخر، الوجه الآخر لفرنسا، الجنرال ديغول (général De Gaulle) الذي دخل التاريخ عبر “نداء 18 جوان” لفرنسا لكي تقاوم الغزو الألماني. وهو ما فعله قايد السبسي من خلال “نداء تونس” لمواجهة الإسلاموية وذكر بلاده بأهداف “ثورة الياسمين”، أي الديمقراطية. وحول نداءه إلى حزب يحمل نفس الاسم، سمح له بالفوز بالانتخابات التشريعية ثم الرئاسية سنة 2014، مما أعاد استقرارها أخيرا لتونس.
بتاريخ السابع ماي 2017، اختارت فرنسا العجوز (مع نسبة امتناع غير مستهان بها) أن تنتخب “المولود الجديد” الذي فرض نفسه عليها. وإذ هي استسلمت له في الرئاسيات، لم تر إلا أن “تكمل” في استسلامها وتمنحه مفاتيح المجلس الشعبي لكي يحكم بارتياح تام، وهو ما فعلته بالفعل منذ الدور الأول من التشريعيات. واليوم، 18 جوان، ستؤكد نتائج الدور الثاني، الأكثر بقليل أو أقل بقليل، ما أسفر عنه الدور الأول من فوز باهر لحركة إيمانويل ماكرون. وكأنه غمز من الحظ، فإن تاريخ 18 جوان مرتبط في ذاكرة الفرنسيين بنداء الجنرال ديغول الذي يدعى أيضا بـ”رجل 18 جوان”، وبالخلاص من بهدلة التواطؤ مع المحتل الألماني. هل سيأتي يوم في المستقبل، سيكنى فيه ماكرون ب »رجل 18 جوان” على طريقته الخاصة، أي المصلح-المنقذ؟
لم يصل الجنرال ديغول إلى سدة الحكم إلا بعد أن هطلت الكوارث والحروب الواحدة تلو  الأخرى : احتلت ألمانيا فرنسا، ودخلت في حرب عالمية أودت بحياة 60 مليون شخص، وعاش عزلة دامت 13 سنة إلى أن اندلعت الثورة الجزائرية التي كادت أن تتحول إلى حرب أهلية. ولم يطل البقاء في الحكم إذ استقال بعد عهدة ونصف، بعد احتجاجات ماي 1968.
وكل من خلفوه في السلطة كانوا من بين وزرائه من بومبيدو إلى جيسكار ديستانغ (Pompidou, Giscard d’Estaing, Chirac) إلى شيراك، ومن بعدهم خرج ساركوزي من فريق شيراك وهولاند من قبعة ميتران (Mitterrand)  الذي كان المنافس الأزلي للجنرال. وعندما عاشت فشل الجيل الثاني، مرت فرنسا إلى الجيل الثالث من خلال شخص شاب لا يعرف له أصل سياسي، ليس من اليمين وليس من اليسار وليس من الوسط، لكنه يجمعها كلها بأطيافها بـ360 درجة. هل هو المصباح السحري الذي ستجد بفضله فرنسا ما تسعى إليه منذ عقود؟
يقول أحد الفكاهيين الفرنسيين في أحد الأفلام أن “الزواج هو السبب الرئيس للطلاق“. ففي حالة الجنرال ديغول، كان الزواج مع فرنسا مهلهلا ومشحونا بسوء التفاهم منذ البداية. فكان حتما سيفضي للطلاق المبرح وكأن القدر التراجيدي للرجل (بالمعنى الإغريقي) كان يحتم عليه ألا يأتي إلى الميدان السياسي إلى في “ظل” حرب عالمية ثم حرب استعمارية وأن يتركه نهائيا تحت ضغط انتفاضة. وكأنه لم يولد ليعيش في الحاضر والواقع، بل فقط في هول التاريخ وصمت البانتيون(Panthéon) (ضريح من تكن لهم الأمة اعترافا وامتنانا). عندما كان على قيد الحياة، وسعته قريته الصغيرة (كولومبي ليدوإغليز (Colombay Les Deux Eglises. لكن عندما غاب عن الدنيا، وكأن فرنسا كلها لم تكفي لتسع ذاكرته، فراحت تسمي باسمه كل فج وكل طريق، وكل شارع، في كل مدن فرنسا. فكان ذلك البطل الذي لم يتقبل منه شعبه في حياته كل تلك الصرامة وتلك الاستقامة والعقلانية أيضا. لكن احتفظ له بالجميل من بعد رحيله إلى درجة لا تضاهى.
وعلى العكس تماما، أتى السيد ماكرون وكأن الأقدار الخيرة تحمله منذ ولادته على جناح السرعة لتفتح أمامه كل الأبواب الموصدة، وكأنها تسبق خطاه لكيلا تذبل بسمته. فوضعته  في المكان والوقت المناسبين لكي يصل إلى قمة الدولة، وهو اليوم أصغر قائد – ما عدا العهد الملكي طبعا. وها هو يستعمل عبارات ملكية مثل “سيد الساعة الكبرى” (le Maître des horloges) أو “رئيسا جوبيتريا” (président jupitérien) دون أن تهتز شعرة في الفرنسيين، بينما لو لفظ بها الجنرال ديغول لقامت القيامة وخرج القوم إلى الشارع في مظاهرات، قانطا ومنددا “بالميول الديكتاتورية” للجنرال.
بعد فوزه في الدور الأول بنسبة 24 بالمائة من الأصوات، كتبت مقالا بعنوان “فوز مصرفي”. وبعد ذلك كان يجب عليه أن »يستلف « ضعف أصواته الخاصة للفوز بالكرسي الرئاسي، تحدثنا عن ضرورة أن يكون السيد ماكرون موهوب بموهبة أصحاب البنوك وكان منهم، فحول ما استلفه إلى رصيد شخصي. وهذا ما يسمح لنا بأن نقول أنه بالتأكيد يمثل الحظ بعينه.
إن هذا الرجل محظوظ جدا. لقد عمل في بنك روتشيلد كما فعل قبله الرئيس بومبيدو الذي شغل منصب مدير عام البنك المشهور. لكن الفرق بينهما أن بومبيدو لم يسقط من البنك مباشرة على كرسي الرئاسة بل كان رفيق درب للجنرال ديغول ووريث رؤيته وهيئاته وحتى الأشخاص الذين كانوا في باخرة الديغولية. أما حزب ماكرون، فإنه لم ير النور بعد حيث لم يعقد مؤتمره التأسيسي إلى اليوم، ولكنه ومع ذلك، فإنه يستعد لفتح خزانته لكي يملأها بعشرات ملايين اليورو من المال العام بعد فوزه الكاسح في الانتخابات التشريعية. في الجزائر، نملك مقولة شعبية تقول “من لحيته بخر لو“، وهو ما يعني أيهام الآخرين بأنهم سيتم إغناؤهم بينما لا يعد الأمر سوى أن يسترجعوا ما أخد منهم دون أن يستفيقوا للأمر.
إلا أن الشعب الفرنسي “معوَل” على إزالة آخر عقبة من طريق ماكرون بعد أن تعب من فشل ساركوزي وهولاند و فاض كيله وغيضه من قضية فيون وهكذا لم يبق أمامه سوى مرشحين قليلي الحظ في الفوز وهما ممثلي التيار اليمين المتطرف من جهة واليسار المتطرف من الجهة الأخرى، وكان واثقا من أنه سينقصهما صوتا أو فلسا أو منتخبا لكي يفوزوا، وفي حقيقة الأمر أن فرنسا ليست مستعدة، وهي تعيش ما تعيشه، في وضع مصيرها بين يدي التطرف، مهما كان. لكن، ربما، بعد ماكرون….
كانت لدى مارين لوبان (Marine Le Pen)  فرصة كبيرة في النقاش بين الدورين للقضاء نهائيا على ما تبقى من الشكوك والظنون حول حزبها والتخلص من موروث أبيها المخيف للجماهير وتقمص بدلة رئيسة الدولة. لقد استطاعت قبل هذه المرحلة أن تخلع عن حزبها الصورة “الشيطانية” العالقة به وعصرنة خطابه السياسي وتسييره وحتى طاقمه، مما أدى بها إلى النجاح في استقطاب كم كبير من المنتخبين. وفي ذلك النقاش، كان يجب عليها أن “تصمد” ساعتين فقط لكي يستمر السحر، وإيهام الجمهور بأنها بلغت سن الرشد السياسي وبأنها تتحكم في أعصابها و في أدنى المعارف الاقتصادية، خاصة بعد أن قطعت الصلة مع أبيها. لكنها لم تصمد.
وتفاجأ الجميع بأن رأى أمام أعينه شخصا فظا، عنيدا وعدوانيا. وهي “لا خبر” عن الصورة التي كانت تبدو بها لمنتخبيها وفرنسا جمعاء: مرشحة لا تملك برنامجا ولا نظرة للمستقبل، لا تفهم شيئا في الاقتصاد. وكأنها كلها تحولت إلى مخالب وأنياب، لتعظ وتخدش منافسها. ولا نعرف من ذاك المختص في دائرتها من نصحها بالاتكال على “السلاطة”. فأطلقت لسانها تهاجم ماكرون، وتتفنن في الضربات المباشرة والإيحاءات والغمز واللمز من غير دليل تقدمه، ونسيت أن تحدث الناس عن مشروعها وإقناعهم. ولو اكتفى ماكرون بالنظر إليها من دون جواب طيلة الساعتين لكان الفائز. ولو كان في مكانه أي مرشح آخر في مكانه لفاز أيضا، ولو بصوت واحد.
وعلى الصعيد الخارجي، شاءت الصدف أن يجد Macron أكبر قادة العالم أنفسهم في وضعيات حرجة حيث دخل الرئيس الأمريكي في دوامة بضعة أيام فقط بعد تقلده السلطة وهو يعيش في خطر التنحية، ونال الضعف من أوربا من جراء “البريكزت”والإرهاب، وطرد بوتين (Poutine)  من مجموعة الثمانية، وتيريزا ماي (Térésa May)  تفوز بفوز جد محتشم في الانتخابات التشريعية الأخيرة….
عندما سيأتي لزيارة الجزائر، وعندما سيظهر إلى جانب بوتفليقة في الصورة، سيفوز الفرنسيون وسيخذل الجزائريون وينالهم الإحباط من روع ما سيشاهدون: بلد عجوز يحكمها رجل شاب و بلد فتي يحكمه رجل هرم مقعد. الأول يعيش نشوة الشباب وكله أمل في الحياة مع كبر سنه لا لسبب إلى لأن رئيس شاب يحكمه، والثاني، جاء للحياة لكي يدفن في ريعان شبابه لأن “القديم” تغلب وكبت نفس الحياة فيه ويحضر له الكارثة من لحظة إلى أخرى.
الآن وقد غير “ربيع عربي” وجه السياسة الفرنسية، ماذا سيحدث يا ترى؟ في سنة 1848، كان الفرنسيون هم أول من انقلبوا على الملكية للمرة الألف في خضم “ربيع الشعوب”، ومنها نالت العدوى كامل أوربا. لكن بعد أربع سنوات فقط، عاد “نابليون الصغير” (Napoléon le petit)كما سماه فيكتور هيجو (Victor Hugo) لإرساء الإمبراطورية الثانية. تماما كما في تونس عندما أفضت الثورة إلى الحكم الديني.
ولنعد لما سيفعله ماكرون ولإمكانية نجاحه حيث فشل من سبقوه من جيسكار ديستانغ إلى هولاند. فإنه عليه أن يدخل الإصلاحات التي وعد بها و أولها أن يجعل الدولة تنفق أقل مما تدخل في خزينتها، وأن يدني من نسبة البطالة من نسبة 10 بالمائة إلى نسبة 5 بالمائة والتقرب أكثر إلى نسب لا تعد فيه البطالة خطرا، وأن يجعل التوازن قائما بين الصادرات والواردات، وأن يدني من خدمات الديون إلى مستوى معقول ومقبول بينما هي اليوم تضاهي ميزانية وزارة الدفاع، وتقليص حجم المديونية إلى ثلثي الدخل القومي مثل ما هو الحال في ألمانيا بينما هو اليوم يلامس 100 بالمائة منه….
قد نطرح سؤالا بسيطا : ما منع هذه الإصلاحات أن تنجز خلال نصف قرن من المحاولات والإخفاقات؟ هل هي الميزات الشخصية؟ أم عمر المسئولين السياسيين؟ هل يكمن الأمر في قلة جرأتهم؟ هل هو غياب حزب سياسي أوأغلبية برلمانية لمساندتهم؟ لم تكن الحكومات المتعاقبة منذ 1974 من نفس التوجه السياسي لكن لا أحد استطاع وقف انهيار الاقتصاد وفقدانه تنافسيته وهروب المستثمرين وتفاقم الديون.
لا، لا شيء من هذا كله. فالتفسير والشرح والسبب والمذنب هو ما تحمله الثقافة الفرنسية من شعبوية ومظاهرات متتالية من أجل كل شيء ولا شيء، رغبة في المحافظة على “المكتسبات” مهما كان الثمن الجماعي، والتكتل حول المكتسبات القطاعية ولواضطرالأمر إلى سد الشوارع وقطع الطرقات والحركة… لكن، هل تكفي بعض الجماليات الأسلوبية والشطحات السياسية لفتق ما تحجر منذ قرون في المنظومة الذهنية والثقافية؟
عندما كان الأمر يتعلق بشق عباب البحر وهو وحيد في مركبه، كان ماكرون ينجح ويتقدم، لكن الآن لم يعد وحيدا، والمركب ليس ملكه وحده بل صعد فيه خمس وستون مليون من الملأ والأرواح، كلها تتوق للحفاظ على مكاسبهم الاجتماعية ونمط حياتهم الذي يفوق قدراتهم الوطنية. هل سيساعده كونه رئيسا لإنقاذ فرنسا من الغرق؟ من الظلم أن نرد كل ما يحدث له إلى “البركة” والأقدار الخيرة، لكن ها هو قد حان الوقت لكي يبرهن أنه جاء للقيام بالإصلاحات وليس فقط لإرضاء نزعة شخصية في المغامرة. والأمور الحاسمة ستبدأ غدا….

 

أيها الزمن ! أيتها الأخلاق!

كُتب هذا المقال في بداية السبعينيات، حيث سادت الأيديولوجية ” التقدمية ” (الاشتراكية الماركسية)، ينقد الكاتب فيه سلوكات مشينة صدرت عن بعض مُتبني هذه الإيديولوجية في شهر رمضان، و في مكان يفترض أنه صرح لتخريج النخب، ليختم نقده بتساؤل حول الإصلاح الأخلاقي و الثورة الثقافية في الجامعة، هذه الأخيرة التي لم ير أن حاجتها تقتصر فقط على إصلاح التعليم العالي .
بقلم:نور الدين بوكروح
ترجمة: ساعي عايــــدة
أريد أن أقص عليكم اليوم حكاية عن شيء من قلة التهذيب، تصرفات حيوانية فضة حدثت في مكان طريف، وأقول طريف لأنه من غير المتوقع أن يعيش هكذا أحداث على اعتبار أن الآمال تُعقد عليه، والنخب تتخرج منه.
اشتهر الشعب الجزائري بإيمانه و بارتباطه الوثيق بالإسلام.لكن هذه السمعة قد يُطعن فيها نتيجة التصرفات السيئة لبعض “الشجعان” في الحرم الجامعي.
في أول يوم من أيام شهر رمضان و في قاعة من قاعات المحاضرات، حضر حوالي ثلاثين طالبا و طالبة الدرس الذي يقدمه أستاذ إسباني، و إذا بصوت فرقعة عود ثقاب يكسر الصمت و قد أطلق صاحبه أول نفس سيجارة مشتعلة بكل فخر ثم وضع علبة السجائر على الطاولة بشكل جد طبيعي.لم يحدث شيء، و استمر الدرس في نفس جو ما قبل الواقعة، لا ملاحظة مُعنًّفة، و لا نظرة ناقدة رغم غرابة الأمر. في موقف مشابه، كان للسيدة، التي كررت نفس التصرف، كل ما يدعوها لتكون مرتاحة البال، فلابد من القول بأن التحرر في نظرها ليست كلمة بلا معنى.
في مدرسة (عليا!)، دخل مدرس شاب بطريقة ملفتة، استهل أول دروسه و السيجارة بين شفتيه.لم يكن طبعا المدخن الوحيد بين الطلبة و الأساتذة (حتى من غير الجزائريين)، لكنه الوحيد الذي يدخن أثناء الدرس.تجرأ أحدهم على أن يبدي له، بلطف و رغم صعوبة الموقف، ملاحظة أن هذا الأمر غير لائق، فقوبلت ملاحظته بغضب شديد و سيل من المواعظ و الخطابات حول الحرية الشخصية.
في موقف آخر، أوسع أحد الطلبة حاجب مدرج الكلية ضربا، بعد مشادة بينهما عندما ترجى العامل مخالفه كي يذهب بعيدا عن القاعة لأخذ سيجارته، و الذي رفض رغم وجود اللافتة “ممنوع التدخين”.كان رب العائلة المسكين نحيفا لبؤسه، فهذا كل ما تركته له السنون التي أمضاها في الكدح.
يقترب شهر رمضان من نهايته، لم يعاني في أي مكان ما عاناه في الجامعة، وليست نيتنا هنا هي عزل هذا المكان الثقافي الراقي، لكن لا يمكننا السكوت على هذه التصرفات، دون المطالبة بمساواة كاملة بين المعتقدات، علينا أن نتمسك بحقوقنا خاصة في أن نُحترم.
التقدميون أو بالأحرى” ذوو الذهون”- بالعودة للكلمة في اللغة الفرنسية« pro-graissistes » – فقط هم من يسمنون بإراداتهم في فترة ” الجوع” هذه، يمكننا التنازل في حدود، بالقول أن هذا حقهم. لكن عليهم فعله في الخفاء بعيدا عن الأعين كأبسط واجب عليهم، (هذا في حالة كون ما يفعلونه ناتج عن بعض المعتقدات السامية لديهم لا مجرد استفزاز)، فهل هذا المطلب خارج حقا عن حدود قدراتهم؟
أنا لست صرحا للتقوى و الورع، و الأمر لا يمسني بشكل خاص، كما أني لا أثور و أتأثر من عدم، لقد عشت أشهر رمضان عديدة ورأيت كل ما رآه الجميع: الدين لا يضيّق على أحد، فالفرائض الدينية لها عقوبات واضحة لمخالفيها في الإسلام، و كلّ حرٌّ في أفعاله، و ليس على أيّ كان أن يفرض وجهة نظره على الغير.لقد علمتني أشياء أخرى كنت قد نسيتها، لكن ذاكرتي احتفظت بجملة أعزو إليها فضائل عظيمة إذا جُعل منها قاعدة للسلوك:” أن تكلّف و تلزم نفسك بنفسك هي أولى الأشياء التي علينا تعلمها” هي عبارة بسيطة، أساسية و أشير عمدا إلى كونها للفيلسوف المادي ديديروت Diderot، لكن، كما يبدو في أيامنا هذه ،أنه ليس من المستحسن مطالبة الناس بالتضييق على النفس (في معناها المعنوي) لأنه سيطلع علينا أكيد من سيسمنا بألقاب كـ”المكبوت” أو “المختل”.
سيداتي سادتي أنتم متهمون بعدم الاحترام و بالسلوك الحيواني الصارخ، أنا لا ألومكم على عدم الالتزام بفعل ما يفعله الجميع، لكن ألا تتفقون معي أنه ليس لأنكم لا تؤمنون، تمنحون لأنفسكم حرية إهانة الآخرين بالمظهر الوقح الذي تعلنونه؟ هذا غير لائق.هناك ألف أسلوب ليثبت الشخص نفسه، ليبين أنه فريد و مستقل. يمكنني أن اقسم سيدتي لو أن أحد المتعصبين تجرأ و تدخل فيما لا يعنيه، لكنت وجدت في موقفه، وأنت المتغطرسة صاحبة المكانة المحترمة، مادة دسمة لفضيحة مدوية، و الفرصة لتظهري له ” خضوعه لممارسات ناتجة عن الجهل”.
ألم تكوني و الحالة تلك في قمة السعادة، و أنت تضعينه في موقف مخجل و تعطينه درسا قاسيا؟ المفروض أن يكون الواحد منا تعيسا، لأنه لم ينبه النفس بالقدر الكافي و يكبحها عن اللهث خلف هذا السلوك الوضيع. لم يكن الأستاذ ليجرأ على التدخين لو كان الحضور مسيحيين صائمين، كان سيتمالك نفسه، و لم لا كان يمكن له أن يشاركهم الصيام ليظهر تفهمه، من يعرف…
أشعر بالخجل من أجلكم، مع إدراكي أنكم و بتواجدكم في الجامعة فأنتم تودون تشريف هذا الحرم.
أيضا من المناظر التي نراها دائما، منظر بعض الشركاء المعتمدين الذين يشكلون جزءا من الأسوار و الديكور الطبيعي لمدخل الحرم الجامعي.هم هناك دائما مستلقون في الشمس، فكل من يدخل لن يفوته مشهد الخمسة عشر “مفكر”، والذين يتوسدون الرصيف طولا وعرضا أو على جنوبهم خائفين من السقوط في النسيان و التجاهل. أما أبسط  التفاصيل مع نهاية هذا الشهر الحبيب، الذي استجاب لحاجات الجميع، لمن يود الظهور و استعراض حريته ، و لمن يرغب في ممارسة عبادته على حد سواء، أنّه يجعلنا نتساءل هل إصلاح التعليم العالي هو الحاجة الوحيدة في الجامعة : شخصيا أفكر في الإصلاح الأخلاقي، و الثورة الثقافية، من سيتولى إدخالهما إليها ؟
جريدة “المجاهد” 9 نوفمبر 1971

الإسلام والمسلمون

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة : فرحات بوزيان
شيء ما في طريقه إلى تغيير جذري في العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، من سنة 1857 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، شغلت فكرة ” النهضة” الضمير الإسلامي إلى درجة الهوس، حركة عظيمة و جارفة لاستعادة الهوية الإسلامية والتي همشها الاستعمار بأدواته الاجتماعية والثقافية والسياسية. وإن كانت هذه الكلمة ( النهضة) قد اختفت في أيامنا، فلأن تلك الحركة العابرة لم تكن في مجملها سوى ردة فعل، انتفاضة للكرامة التاريخية تلاشت بمجرد اختفاء السبب الذي أدى إلى اندلاعها وهو السيطرة الغربية.
هذه المرحلة مرت وانتهت، والمطلب الإسلامي تغير حتى من حيث المحتوى، مرورا من الاعتراف بالهوية والحضارة إلى مطلب أن يكون الإسلام ” منهاج حياة ” (way of life ) حيث يطرح ضمنيا إشكالية النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يستمد مبادئه من الإسلام، هذا التحول جاء نتيجة ملازمة لضعف وعدم تأثير الايديولوجيات اللائكية ( الرأسمالية، الشيوعية، القومية… ) التي كانت تعتبر كفرا، وجاء أيضا لرد الاعتبار للمكانة الخاصة والدور الفعلي للإسلام في العالم بفضل تنامي الوعي بالطاقات البشرية، الطبيعية والروحية التي يزخر بها العالم الإسلامي .
من المؤكد أن الحلم بتأسيس مجتمع إسلامي قريب من النموذج النبوي لم يغادر يوما وجدان المسلمين حيثما كانت أوطانهم ومهما كانت تقلبات التاريخ. لكن هذا الانجذاب كان دوما مصحوبا بالشعور بالضعف أمام تعقد و تشابك المشاكل. شعرت الجماهير الإسلامية على تنوعها أن إعادة بناء الدولة الإسلامية كما كانت في عهد الرسول والتي استمرت لثلاثين سنة خلال حكم الخلفاء الأربع ما هي إلا ضرب من الخيال، ولقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث المشهور ” ستكون الخلافة بعدي ثلاثين سنة ثم سيكون ملكا عضوضا “، و بالفعل، ففي سنة 661 م خرج بعثي إسمه معاوية بن أبي سفيان، كان قد دخل في الإسلام خمسة أشهر فقط قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ( 632 م ) وقام بانقلاب أدخل به  الحكم الملكي في التاريخ الإسلامي، وتوالى من بعده الأمراء فحرفوا كلية مسيرة الحضارة الإسلامية التي أصبحت موسومة مذ ذاك  بجراح معركة صفين. اليوم ترى هذه الجماهير أيضا أن توحيد أو إدماج العالم الإسلامي في الإطار الفلسفي والسياسي العالمي صار مجرد وهم .
لكن هل لنا أن نتساءل و لنا الحق في ذلك، إن كان ينبغي علينا من أجل تأسيس نظام سياسي واجتماعي مشروع أن ننتج نفس النمط الذي كان في المدينة المشرفة ؟ بالتأكيد لا! والقرآن نفسه يؤكد هذا المعنى في قوله تعالى : “وأمرهم شورى بينهم..”، مما يعني أن الإسلام لا يفرض أية صيغة حصرية لنظام سياسي واجتماعي، المهم هو أن المؤسسات التي يضعها المسلمون تكون في خدمتهم، وأن تركز على “الأمر بالمعروف”، هذا الواجب الذي ذكر به القرآن الكريم ثماني مرات، وأن تولية الحكم تتم حسب قواعد الديمقراطية المؤسسة على الاقتراع العام ومبدأ الكفاءة… إلخ.
إذا كان ينبغي علينا أن نلخص حدود التحكيم السياسي الحر في عبارة واحدة، فلن نجد أفضل مما وصّى به عمر بن الخطاب قاضي الكوفة: “والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا “. مبدأ أن يتحمل الإنسان كامل المسؤولية موجود في القرآن الكريم وعلى أساسه ينبغي أن يكون المسلمون، سياسيا، أحرارا في اختيار الحكم الذي يناسبهم أو تغييره، لكن هذا الأمر على مر التاريخ قُدر وطُبق بشكل متباين، خاصة في الاتجاه السيء، وهذا ما جعل أحد الملهمين يقول في اشمئزاز :” عدل بلا دين أفضل للكون من طغيان أمير كاهن”، وهذا ما يشرح لنا أن الأنظمة الديكتاتورية في العالم الإسلامي تتعايش مع أنظمة عادلة إلى حد ما، لا يشغلها الإسلام كثيرا، وأسوأ هذه الأنظمة يستدل بالآية الكريمة ” والفتنة أكبر من القتل.. “ ليُشرعن وجوده.
منذ عقد من الزمن، طور الحقد الغربي ضد الإسلام خطابا عبر وسائل الإعلام يحذر فيه السلطات من ظاهرة ” الأصولية “.بالرغم من أننا لا نعرف بالضبط تاريخ هذا المصطلح، لكن فيما يخص تطبيقه بالنسبة للإسلام نعتقد أن لويس ماسينيون  كان من الأوائل الذين استعملوا هذا المصطلح سنة 1929 في الجزء الأول من كتابه  “” opéra minora عندما يشير إلى ” أعضاء الثيوقراطية المطلقة العتيقة “ .ماسينيون هذه الشخصية المشهورة الذي يُعرف بـ” المسيحي ذي التفكير العربي والمتنكر في الزي العربي” تلميذ وصديق الأب دو فوكولت de Foucault والذي لا يقل شهرة عنه، مستشرق معروف، يتقن العربية ومولع بالحلاج، عضو مجمع اللغة العربية بمصر…
المهم أن ماسينيون كان أيضا مداح الاستعمار الفرنسي في الجزائر، كتب في نفس الكتاب : ” يجب علينا أن نفهم كل العالم الإسلامي حتى تحيا فرنسا… بالنسبة لفرنسا، هذا مشكل اجتماعي داخلي في النسيج الوطني، كيف ندمج حقيقة المسلمين الوطنين الجزائريين في المحفل الوطني ( يقصد بالوطن فرنسا )، و علاوة على ذلك، هذا وحده ما سيضمن مستقبل المستعمرين من العرق الفرنسي الذي لا يمثل في الجزائر سوى 18٪ من مجموع السكان…” لا ندري إذا غير ماسينيون رأيه فيما بعد حول” فائدة ” الاستشراق، لكن على كل حال، هذا المثال يوضح لنا الدوافع الحقيقية للمستشارين الغربيين في ميدان الإسلام السياسي.
الغرب يريد بكل الوسائل مكانا يأخذ فيه قراراته التي تُهندس العالم، مكانا حيث يعقد ويحل كل القضايا الاقتصادية وكذا الروحية. لقد استثمر كل شيء في اللائكية والإلحاد ولم يتصور الأنظمة السياسية للآخرين إلا كنسخة مما اقترحه وشكله مفكروه وعلماء ساسته من توماس هوبز إلى لينين، بمعنى الأنظمة التي تكون مقبولة لديهم. تمر البلدان الإسلامية كلها بأزمة هوية برزت من رغبتها في فهم تجربتها المعاشة، طموحاتها السياسية وكينونتها التاريخية كتأكيد وليس كنفي لهذه القوة أو تلك الثقافة، تُلاحظ تجاوزات ومبالغات هنا وهناك، وتُرتجل تحليلات سواء كردة فعل ضد مفاسد حقيقية أو تناقضات غير مقبولة، أو أحيانا لاقتراح رؤية إسلامية مقتضبة بلا نتائج من خلال وقائع وأفعال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. و يصل الأمر أحيانا إلى الخلط بين العنف غير المشروع والمعنى المقدس للجهاد في تعصب و غلو مبالغ فيه لا ينسجم أبدا مع روح الإسلام.
ذهبنا للقاء فانسان مونتاي Vincent Monteil مستشرق سابق اعتنق الإسلام، بمناسبة إنهائه لكتاب مهم ” الملف السري حول إسرائيل Dossier secret sur Israël ” فأطلعنا على رسالة بعثها إليه الجنرال ديغول منذ خمسة عشر سنة يقول فيها:” كل شيء يعتمد على العالم الإسلامي، ومشكلة المشاكل هي مصير الإسلام…” فكرة ديغول هذه تعكس القلق الغربي المهووس بفكرة أن الإسلام يحمل فكرا قاتلا بينما الحقيقة أنه أخلاق تجسدت في شعب كريم متسامح، أخوي ومضياف، متفتح على جميع الثقافات والحقائق، شعب أهانه الغرب واحتقره باسم الحضارة الديكارتية القوية (civilisation cartésienne).
لا تُطرح “الأصولية« intégrisme »  اليوم في العالم الإسلامي كبديل، لكنها تُترجم خللا ما نتج عن فشل الأنظمة السياسية المستمدة من الغرب، إنها تنقل الكثير من الجهل، وتركز فقط على خصومات حول مسائل جزئية شكلية، وتأخذ بعين الاعتبار تناقصات تمسكت بها سياسات مرفوضة بالإجماع من طرف الإسلام ، بدل التفكير في مشاكل حيث الحل يكمن في وجود فكر تتصالح فيه الفعالية مع الاصالة،لا يزال غائب تماما عن العالم الإسلامي . الجزائر بانتسابها للإسلام ليست بحاجة البتة أن تبرهن، باستمرار، وتساهم بعبقريتها الخاصة في ولادة فكر ينتج لنا ” المسلم الممارس لواجباته الدينية (pratiquant )” و ” المسلم العملي (pratique )” ويجعل من الإسلام ” حقيقة فاعلة” بعيدا عن كل مزايدات عبثية وكل تفاهة  التبشيرprosélytisme التي تخفي وراءها أغراضا خسيسة.
صدر المقال في: 12 ديسمبر 1985

 

العالم العربي: استيقاظ طال انتظاره

بقلم: نور الدين بوكـــروح
ترجمة: عبد الحميد بن حسان  
” إن الحرية ليست هي التي تنزل إلى الشعب، بل الشعب هو الذي يجب عليه أن يصعد إليها “(حكمة).

إنّ الاستيقاظ الذي نقصده لا ينطبق على موجة الثورات التي انهالت على العالم العربي منذ 2011 أكثر مما ينطبق على كون تلك الثورات تسير في منطق التاريخ على ما يظهر. أقول “على ما يظهر” لأن الجزائري عندما يتحمس صار يخاف من الخيبة التي تلي ذلك التّحمّس: فقد كانت الجزائر تعتقد أنها سائرة نحو الأحسن سنة 1988، وإذا بها تجد نفسها وجها لوجه مع أسوإ الحالات.
لكنْ، يجب أنْ نتساءل في البدء عن حقيقة تلك الثورات. أهي مؤامرة خارجية أو ذات علاقة بحركة (القاعدة) كما يدّعي الحُكّام العرب الذين استهْدفتْهم؟ أهي نوبة مفاجئة دفعت بشعوب معروفة بهدوئها إلى إحداث بلبلة في بلدانها؟ لقد مرّ على تلك الثورات ما يكفي من الوقت كي نؤكّد أنّ هذه الانتفاضات الشبيهة بهزات زلزالية لا يُعقَلُ أنْ تكون بفعل مؤامرة محبوكة، وأنّ الدوافع الانتحارية لا يمكن أن تكون لها هذه القدرة على الانتشار من شعب إلى آخر. إنّ هذه العدوى لا يمكن أن تكون إلاّ بسبب نفاد الصّبر أمام تجاوزات الاستبداد، وإنّ انتشارها لم يكن إلاّ في محيط ثقافيّ واحد عزمتْ شعوبه على استرجاع سيادتها.
لقد جاء هذا الانفجار البركاني إيذانا بيقظة متأخرة لدى العرب في عالمٍ حدث فيه تغيير كبير خلال العشريات الأخيرة. فالتغييرات التي طرأتْ على كلٍّ من الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا والمناخ، وكذا الإعلام وعالم الأفكار، هذه التغييرات كانت عميقة جدا، لكنها لم تُحْدِث أيّ إخلال في استقرارها المتجذر عبر القرون. و الشاهد على ذلك أنّ السنوات التي تلتْ انهيار جدار برلين قد شهدتْ انتقال الدول التي كانت ترزح تحت نير أنظمة استبدادية إلى مرحلة الديمقراطية. وهي آخذةٌ منذ ذلك في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي كي تلحق بركب البلدان المتقدّمة.
أمّا البلدان العربية التي عانت فيها الشعوب من الاستبداد والظلم والفقر بقدر ما عانت تلك الشعوب الأوروبية، إنْ لمْ نقلْ أكثر، فإنّ جُلّ التفكير مُنْصبٌّ على الأمل في قيام دولة إسلامية وهمية، وهي ـ أي الشعوب العربية ـ يبدو أنها مُصِرّة على البقاء على هامش القيم العالمية، وهي عاقدة عزمها على السير في اتجاه مُعاكس لمسيرة التاريخ العالمي. وكان يُنْظَرُ إليها بنظرة اشمئزاز لخنوعها وبقائها بعيدا عن النماذج الدولية، حتى بادر الشعب التونسي بنسف هذه الصورة الخاطئة والمُخزية. وفجأةً سرتْ حُمّى الحُلم الديمقراطي من المحيط إلى الخليج.
كانت الثورة التونسية سببا في إثارة الشعب المصري، وكانت ثورة مصر سببا في تشجّع شعوب أخرى في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وهكذا امتلأتْ أعيننا في ظرف أسابيع قليلة بما لم تمتلىء به طيلة قرون، بمشاهد لم نكن أبداً نأمل أن نراها في حياتنا. وكانت الشعوب العربية متشككة في هذه الثورات في البداية، لكنها بعد أن تابعت الأحداث عبر قنوات التلفزيون الفضائية التي يعود لها فضل كبير في نجاح الثورات، بدأتْ تؤمن بإمكانية التغيير لمن أراد ذلك.
هبّتْ رياح الحرية من الاتجاه الذي لم يكن أحد يتوقعه. جاءت من قرية من قرى تونس النائية، ولم تكن بفعل حزب سياسي أو نقابة أو مجموعة من المثقفين، بل جاءت من إقدام شرطية على صفع تاجر جوّال بريء من كل نوايا سياسية. و بمقتضى نظرية الفراشة الشهيرة، والتي مفادها أن حركة جناحي فراشة في بقعة من العالم قد تتسبب في إعصار ينطلق من بقعة بعيدة عنها بعدا كبيرا. كذلك أدى ردّ فعل محمد البوعزيزي إلى إشعال فتيل العالم العربي وإحراق عدد من المستبدّين.
وممّا قرأتُه في الآونة الأخيرة مقولة للرئيس بورقيبة يقول فيها: ” بحفنة من الأفراد أنْشأتُ شعباً من المواطنين“. وبالفعل فإنّ ذلك الشعب الذي حظي بنظام تربوي جيد والذي صار هو أكثر الشعوب  العربية حداثةً، هو نفسه الذي نجح في أول ثورة ديمقراطية في العالم العربي وجرّ في إثْرِه كثيرا من تلك الشعوب. لقد حُلّت المشكلة في ظرف ثلاثة أسابيع. صحيح أن هناك أحداث نهب وتخريب، وهي أحداث لا يمكن تفاديها في خضمّ الغضب الجماهيري، لكنّ التظاهرات سرعان ما اتّخذت شكل ثورة سياسية حقيقية. فلم يعُد هناك كلام عن الخبز وغلاء المعيشة، بل كل الحديث صار يدور حول الكرامة والحرّية والديمقراطية ومحاسبة الديكتاتور.
وكانت الخريطة الفكرية في العالم العربي الإسلامي إلى ذلك الحين تتميّز بكونها عبارة عن كُتلٍ صغيرة من الضمير الحداثي وبإزائها بحار ومحيطات من الضمير الرّديم. ولهذا اختار ثلاثة مثقفين من لبنان هذا العنوان:” قرن كامل ذهب هباءً منثورا” لبحث قاموا به حول أسباب فشل النهضة العربية في شتى المجالات. وهو عنوان يُلخّص الوضع أيّما تلخيصٍ. غير أنّ تلك الملاحظة لا تزيد إلاّ من درجة المفاجأة التي حدثت بها أحداث بداية سنة 2011. فكيف يمكن تفسير تلك الأحداث؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا النضج المفاجىء الذي انتاب شعوبا طال استسلامها وخضوعها؟
لقد انتقلت هذه الشعوب تباعاً، وبدون سابق إشعار، إلى طور التفكير، حسبما تدلّ عليه الشعارات والتصريحات التي قرأناها على اللافتات. كانت تلك الشعارات واحدة في كل مكان، مثل: ((الشعب يريد…)). لمْ يُركّز المتظاهرون مطالبهم حول” الأشياء “، مثل التشغيل أو رفع الأجور، أو برامج التنمية، كما كان يظن الرؤساء المخلوعون ( بن علي، مبارك والقذافي) إلى آخر لحظة، بل ركزوها على إنهاء النظام الذي كان يحكمهم. وبتعبير آخر كانت المطالب تدور حول “الأفكار” لم تطالب الجماهير بديمقراطية “عربية ” صرفة، ولا بديمقراطية ” مسؤولة “، بل بالنظام الديمقراطي الذي يمكن وصفه في فقرة موجزة: دستور يُكرّس الفصل بين السلطات، استقلالية العدالة، المساواة أمام القانون، حرية المعتقد وحرية التعبير، انتخابات حُرّة وآليات رقابة فعالة من أجل الحدّ من ظاهرة الفساد وردعها.
إنها ثورة العقل ! وهذا أمر لم يُتَحْ لنا أنْ نراه منذ نزول القرآن الكريم في البلدان الإسلامية، كما يسمح لنا بالقول إنّ الشعوب العربية قد ارتقتْ أخيرا إلى المرحلة السياسية وإلى مرحلة الأفكار من عمرها. و في هذا المستوى قد يكون من المفيد أن نَذْكُر حقيقة مهمّة: فهذه الشعوب التي ثارت في أوطانها ليست هي شعوب الأمس. إنّ أسماءها لم تتغيّرْ، ولكن ملمحها الجسدي والفكري قد تغيّر تغيّراً كبيراً. وكانت الطليعة التي أشعلت فتيل النار تنتمي إلى أجيال انبثقت من تلك الشعوب نفسها، لكنها نشأتْ بأفكار ساعدت على تشكيلها تكنولوجيات الإعلام والقنوات الفضائية.
إنّ الجميع متفق على الدور الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في التجنيد، وإنّ الشبكة العنكبوتية قد منحتْ لتلك الأجيال أساليب تبادل معلومات سمحت بتهيئة الأرضية لحركة منسّقة، وسمحت في آن واحد بتحويل تلك ” الحفنة من الأفراد ” إلى عناصر متواصلة ومُشكِّلة لمجتمع، وتحويل الشارع إلى رأيٍ عام، وتحويل السكان إلى شعوب. وكان توينبيToynbee قد قال منذ نصف قرن:”  إنّ المجتمع هو حاصل الروابط بين الأفراد، وتلك الروابط تنشأ عندما يتقاطع الأفراد في حقول نشاطهم، ويسمح ذلك التقاطع بجمع تلك الحقول المشتتة في مجال موحّد نطلق عليه اسم مجتمع. فالمجتمع هو الشبكة الكاملة المُكوِّنة للروابط بين الكائنات البشرية. وبناءً على ذلك فإنّ مُكوّنات المجتمع ليست هي الكائنات البشرية، بل هي الروابط الموجودة بينها .
لقد تمكّن الشعبان التونسي والمصري في ظرف أسابيع قليلة من القفز إلى حظيرة القرن الواحد والعشرين، والْتَحَقَا بالشعوب الراقية التي تؤمن بحقوق الإنسان، وخرجا من حظيرة الأغنام التي لا تثغو إلاّ لتحية زعيم، ولا تصيح إلاّ لتحتفل بانتصاراتها في كرة القدم، ولا تتذمّر إلاّ إذا بدرت من أحد الكتاب المغمورين أو الرسامين الكاريكاتوريين الفوضويين أعمال فيها ” مساس بالإسلام “. إنها فعلاً نهاية مرحلة، و نهاية عقلية، ونهاية نموذج اجتماعي.
إن الفكرة القائلة بأن السيادة للشعب استغرقت أربعة عشر قرنا كي ترى النور في عالمنا العربي الإسلامي، ويبدو أن جيلنا هو الذي حظي بأن يُعاصر هذا الفجر الجديد. وإذا نظرنا إلى تاريخنا وجدنا أنه باستثناء عمر بن عبد العزيز، الذي كان ينوي التنازل عن الحكم الوراثي غير الشرعي، لا يوجد أيّ حاكم آخر مارس النقد الذاتي أو تنازل عن العرش لغيره. وهو لا يغادر الكرسي إلاّ مقتولا أو فاراّ من مزاحمة ديكتاتور آخر. والعالم العربي لم يعرف نموذجا مثل نموذج نلسن منديلا Nelson Mandela الذي حظي باحترام العالم كلّه لبُعد نظره وتعفّفه. غير أننا في الجزائر يجب ألاّ ننسى تنازل الرئيس اليامين زروال عن السلطة قبل نهاية عهدته سنة 1999.
إنّ الشبيبة التي رأينا نشاطها في هذه الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، كانت في مواجهة أنظمة حكم مؤسسة على أفكارٍ أَكَلَ الدهرُ عليها وشرب. فالصراع كان بين ثقافتين. ولا عجب في أنّ الرؤساء الثلاثة المخلوعين صرحوا بنفس الأشياء لأن ثقافتهم السياسية هي التي كانت تتكلم. فقد صرح بن علي ومبارك بأنهما منحا نصف قرن أو أكثر من عمرهما لبلديهما، بينما راح القذافي يصيح قائلاً إنّ ليبيا لم تكن شيئا مذكورا قبله وسوف تنقرض بعده. لم يكن يخطر ببال هؤلاء الرؤساء بأن مصدر سلطتهم هو الشعب، وأنّ الشعب هو صاحب العمل الذي يشتغلون فيه، وأنه قد وظّفهم لمدة طالت أكثر من اللزوم ودفع لهم الثمن باهظا، لكن النتائج في المقابل كانت هزيلة. كانت تلك الشعوب متذمّرة فعلاً، فقد راحت تحتج كمن سُلِب منه حقه الطبيعي أو اعتُدِي على ملكيته الشخصية.
إنّ فكرة أنّ الشعب هو مصدر السلطة لم يكن لها أي مكان في ثقافة أولئك الحكام. ومع أنهم كانوا يرون بأم أعينهم كيف تقوم الشعوب الأخرى باختيار حكامها عن طريق الانتخاب، ثمّ كيف تثور ضدهم وتخلعهم إذا لم يوظفوا السلطة أحسن توظيف، مع ذلك لم يكن يخطر ببالهم أن الشعوب العربية هي بدورها عبارة عن مواطنين أسياد في أوطانهم مثل الشعوب الأخرى. إن أولئك الحكام يعتبرون شعوبهم مثل الدمى التي تحرّكها أيدي خارجية، أو مثل المقيمين على أرضه، مثل المغتربين في أوروبا.
لم يكن أولئك الحكام إلاّ من المصابين بجنون العظمة، معظمهم في مستوى ثقافي ضعيف، وبعضهم من المصابين بأمراض عقلية، لكنهم جميعا من اللّصوص الذين حكموا حسب هواهم، واستصغروا شعوبهم من أجل إبقائها في مرحلة ” الأشياء “، وأوهموا الغرب بأنهم القائمون على شؤون السلام والأمن في الشرق الأوسط، وأنهم حماة الوطن ضد الإسلاموية، وحراس الحدود في وجه الهجرة الجماعية. لكن و للأسف ساعدتهم الأقدار إذ جعلت تحت تصرّف معظمهم موارد ضخمة من مداخيل المحروقات التي كانت تُغْنيهم عن عمل شعوبهم وعن مداخيل الجباية، بل وحتى عن انتخاب الشعب لهم.
إنّ الفضل في سقوط أنظمة ـ وسَتَتْبَعُها بالتأكيد أنظمة أخرى ـ يعود إلى أن الأجيال الجديدة قد انتبهت إلى أنها كانت مخدوعة بخطاب خرافي ووهمي يدعو إلى  ” مكافحة الاستعمار والأمبريالية والصهيونية”، وهو خطاب ” البعث العربي” و ” وحدة الوطن العربي ” و ” وحدة المغرب العربي “، والتنمية اعتمادا على ” نموذج مختلف ” عن النموذج الغربي، و ” مكافحة الإرهاب”… وواضح أن أولئك الحُكّام الديماغوجيين لم يحرروا فلسطين، ولا حققوا الوحدة العربية أو المغاربية، ولا قاموا بتنمية بلدانهم، ولا تغلّبوا على الإرهاب، كانوا على نقيض ذلك تماما.
إنّ التغيير الذي طال انتظارُه والذي كان يُتوقع أن يأتي من داخل السلطة، أو من الجيش، أو من الأحزاب السياسية أو من النخبة المثقفة، هذا التغيير لم يأتِ، ولذلك تمّ تبنّيه من طرف المواطنين أنفسهم، وفي ظروف غامضة وغير متوقعة، إذ يبقى أن كل تلك الثورات لم تكن منتظرة. فقد تمّ إسقاط الرؤساء الذين طالت مدّة حكمهم على رأس “جمهوريات”، بينما تعيش البلدان ذات الأنظمة الملكية كالبحرين، الأردن، المغرب و عمان، أجواء المطالبة بأنظمة حكم ملكية دستورية، وبعبارة أخرى تحويل السلطة من المَلِك إلى برلمان منتخب.
هكذا تخلّصت الشعوب العربية من عالم ” الأشياء “، وذلك باحتقارها للاستجابة المادية لثورتها، وتجاوزت مرحلة تقديس الأشخاص بتحطيم فكرة المهدي المنتظر والاستخفاف بالحلّ العسكري ورفض وصاية ” رجال الدين “. فمحمد البرادعي الذي عاد إلى القاهرة غداة المظاهرات الأولى، والذي كان يرى فيه البعض ذلك المهدي المنتظر، وهو بدوره جاء ليجعل مقامه الشخصي المحترم في خدمة ثورة الشباب الذين، من جهتهم، تجاهلوا هذا الرجل صاحب جائزة نوبل للسلام الذي أصيب بالحجارة يوم الاستفتاء حول دستور مصر الجديد.
ولم يفقد الشباب نَفَسَهُمْ حتى بعد سقوط المستبدّين، وراحوا يُلِحّون على تحقيق مطالبهم في كل من تونس ومصر متسببين في سقوط الحكومات الانتقالية تباعاً. كان يُتوقّع أن يعود المتظاهرون إلى بيوتهم بعد سقوط المستبدّين وهم يشعرون أنهم قد حققوا هدفهم، ويتفرّقوا فرحين ومرتاحين للنتيجة التي تحققت. لكن، يا لهول المفاجأة ! لقد بقوا مُجنّدين ويقظين لمراقبة التحقيق التام لأهداف مسيرتهم، أي: تغيير النظام، وليس مجرد تنحية الديكتاتور.
هكذا، فإنّ تلك الشعوب العربية التي كانت في عداد الموتى، وكانت تتعرض لسخرية الشعوب الأخرى، بل إنها هي نفسها كانت تهزأ من نفسها، أصبحت اليوم تعطي للعالم أروع الدروس في البطولة والتفاني والروح الوطنية والتضامن والتنظيم الذكي، بل وحتى إضفاء جو المرح على كل ذلك. ولم يكن وراء عودة الوعي هذه أية نخبة في الداخل، فقد صارت الشعوب نفسها هي النخبة، وراحت تبرهن على عبقريتها بشعارات وبيانات وإعلانات آنية ومشاهد متلفزة كان لها بالغ التأثير علينا.
إنني، شخصيا، أجد في هذه الثورات لأول مرة معنى لمفهوم ” الوحدة العربية “. لقد لمستُ تلك الوحدة في ذلك التشابه الجسمي والمعنوي بين تلك الشعوب المكافحة في سبيل افتكاك حريتها، كما لمستها في وحدة التفكير والكلام، وفي وحدة مرجعياتهم. الفرق الوحيد الذي يمكن أن نلحظه من بلد إلى آخر هو ما يتعلّق باللهجة المحلّيّة أو الزي والثياب. والمستبدّون أنفسهم هم الذين دفعونا إلى مَقْتِ مفهوم الوحدة لأنهم لم يكونوا يريدون أن يحققوا منها ما قد يحدّ من حق الموت والحياة على شعوبهم. سيصير هذا المفهوم ممكنا في المستقبل لأن الشعوب ستتمكن من بنائه من خلال المؤسسات التمثيلية التي سيتم إيجادها والتي ستشرع في بناء وحدة عربية على منوال تلك الوحدة القائمة بين بلدان أوروبا. وإنني أراهن على أن أولئك الجزائريين أو غيرهم من الذين كانوا يكرهون أن يُقال لهم إنهم عرب، قد أحسوا في أعماقهم بمناسبة هذه الثورات بنوع من الاعتزاز بما يحدث.
لكنّ المستبدّين لم يكونوا إلاّ بمثابة الأشجار التي تُخفي وراءها غابة. لقد أدت بهم نرجسيتهم غير المحدودة وأنانيتهم التي تجاوزت كلّ تصوّر إلى طمس كلّ أثر لقيمة شعوبهم وعظمتها، وأفحمونا بعشريات طوال من مشاهد يَنْدَى لها الجبين وتكشف عن نزقهم وجهلهم، إنها مشاهد رؤوسهم وشعورهم المصبوغة ومشاهد مسرحية لا حصر لها. عملوا على إذكاء نار الفتنة بيننا، فجعلوا من بعضنا عدواًّ للبعض الآخر، أو معارضا له، لأننا كنا نحتكم جميعا إلى معايير الديكتاتور ليُصدر كلٌّ منّا أحكامه السلبية على الآخر. وبعد السقوط الفظيع الذي وقع للأشجار الحاجبة للرؤية، امتدّ أمام أعيننا مشهد غابة جميلة فيها ملايين الأشجار والشُّجيرات التي تطفح عسلاً، غابة ساحرة، مشاهد عجيبة للشهامة ونماذج كثيرة للتضامن والأصالة.
لكن، ماذا ستجني الشعوب من الثورات التي حققتها؟ المؤكّد أنّ الشعوب التي لم يكن لها بترول قبل الثورة لن ترى بترولاً يخرج من باطن الأرض بعدها، وأنّ مَنْ كان يعيش في فقر مُدقعٍ لن يرى حاله تتحسن بين عشيةٍ وضحاها، أمّا البطالون فلن تتاح لهم فرص عمل في القريب العاجل، وأكثرُ مِنْ ذلك كله فإن الذين قاموا بالثورة لن يصلوا جميعا إلى سدّة الحكم… لكنهم ربحوا شيئا أهمّ من هذا كله: لقد أصبحوا يحسّون بالكرامة، وأصبحت الأواصر بينهم أقوى، وصاروا يعتزّون ببلدهم ودولتهم، كما أصبحوا يَحْظَوْن بالاحترام في العالم أحسن من ذي قبل. ستتاح لهم فرص التعبير عن آرائهم بواسطة الاقتراع، وهذا ما شاهدناه في القاهرة منذ مدة وجيزة، كما سيكون تمثيلهم من طرف نواب من اختيارهم، وستكون عندهم عدالة يثقون بها، كما سيحافظون على حقهم في التعبير عن تذمّرهم إذا ما لم يتحقق شيء من ذلك، سيتظاهرون دون أن يخشوا أن يُزجّ بهم في السجن أو أنّ يُقتلوا. وفيما عدا ذلك من الأمور لم يبق عليهم إلاّ أن يتّبعوا الطريق التي رسمتها بلدان مرّت على النظام الديكتاتوري وخرجت منه بوجه جديد، مثل: إسبانيا، كوريا الجنوبية، والبرازيل، وهذا للتمثيل لا للحصر.
في وقتٍ مضى كان الشعب الجزائري يحظى بصورة ممتازة في محافل البلدان العربية، وذلك بفضل الثورة التحريرية التي خاضها ونال بها إعجاب العالم. كان يُطلق على شعبنا لقب ” شعب المليون “، مليون شهيد وليس مليون برميل من البترول بطبيعة الحال. وبعد ذلك بدأ نجمه بالأفول. إنّ تونس التي انطلقت منها ثورة استعادة كرامة الإنسان العربي والتي ستكون لها تداعيات على العلاقات الدولية في السنوات المقبلة، هذا البلد الصغير تُقدّر صادراته خارج المحروقات بعشر مرات ما تصدّره الجزائر خارج المحروقات. وكانت تونس سبّاقة إلى حمل السلاح قبلنا في وجه الاستعمار الفرنسي. لكن هناك مجالاً هزمنا فيه التونسيين، وميداناً تفوقنا فيه عليهم، إنها ” الرئاسة مدى الحياة “.
وبالفعل، فقد كان زعيم الحركة الوطنية الجزائرية مصالي الحاج، يُطالب بتزكية شاملة من حزبه منذ اثنتي عشرة سنة قبل الاستقلال. وكان يطالب كذلك بأن يكون له ” حق الفيتو “. ومن نتائج ذلك دخول الحركة الوطنية في أزمة كانت سببا في تأخير تفجير ثورة التحرير بأربع سنوات، كما دفعت بمناضلي حزب مصالي إلى الدخول في حرب ضد إخوانهم، وهي الحرب التي لم تتوقف إلاّ بتحقيق الاستقلال. هذا في الوقت الذي كان فيه التونسيون قد بادروا بحمل السلاح في وجه المستعمر، ونالوا استقلالهم ست سنوات قبلنا. ولم تخطر ببال الرئيس بورقيبة فكرة الرئاسة مدى الحياة إلاّ حوالى سنة 1975. لكن الفرق بينه وبين مصالي، أنه، أي بورقيبة، ترك وراءه شعبا من المواطنين، بينما لم يترك مصالي وراءه إلاّ زرافات من أشباه الزعماء.

نشر في جريدة ” لوسوار دالجيري” بتاريخ: 23 مارس 2011

ليست هناك تعليقات: